وهكذا استقر مراد بالقرية، وكان زميله نديم قد أصبح في السنة الثانية من كلية الحقوق بجامعة فؤاد، ولكن هذا الفارق في الدراسة لم يقطع ما بين الصديقين من رابطة وثيقة، ولم يؤثر في شيء على رعاية فكري باشا لمراد.
حتى لقد طلب الباشا من مراد أن يدعو أباه للغداء معه. فرجال السياسة ثروتهم تتكون من الناس قبل المال.
ورحب الحاج دياب بهذه الدعوة، مع صداقته لعمر المفتي عضو النواب الحر الدستوري عن الدائرة، ولكن معرفة فكري باشا أعظم نفعا.
وهكذا عرف مراد معالي فكري باشا، بل إنه لم يكتف بهذا، بل دعاه إلى الغداء بالميمونة مركز الزقازيق، وقبل الباشا الدعوة.
وحين لباها وجد العمدة قد أقام على شرف الباشا حفلا حافلا، فالمظاهرات تستقبل الباشا قبل ظاهر القرية بعديد من الكيلومترات، والقرى المجاورة تجامل العمدة والباشا جميعا بالتجمهر أمام قريتهم والهتاف لمعالي الباشا.
وكان دياب من العمد الأذكياء فدعا عمد البلاد التي يمر عليها الباشا أولا ليظهر أمامهم أنه يستطيع أن يدعو الباشاوات إلى بيته، ولأنه يعلم كل العلم أن الباشا يحب أن يتعرف إلى هؤلاء العمد ليكونوا أو يكون كثير منهم - على الأقل - من أنصار الحزب عند الانتخابات.
وطبعا انطلقت الأعيرة النارية إلى عنان السماء فما كان العمد جميعا سواء الداعي أو المدعوون ينظرون إلى السماء في هذه الساعات، بل كانت نظراتهم وآمالهم جميعا أرضية مغرقة في الأرضية.
وبعد الغداء أعلن الحاج دياب أنه منذ اليوم وفدي متحمس، ولن يترك الوفد مهما تكن الضغوط عليه، ولم يكن عجيبا أن يقول زميله عمدة النمايرة أنه أيضا يعلن انضمامه إلى الوفد، وكان الحاج دهشان النمر عمدة النمايرة من كبار العمد ومن كبار الأعيان أيضا، وكانت بلدته أكبر البلاد عددا في المنطقة.
وهكذا لم يكن عجيبا أيضا أن يعلن جميع العمد انضمامهم إلى الوفد. ومهما يكن شأن هذه المظاهرة فكل هؤلاء العمد كانوا على أتم استعداد للانضمام للأحزاب الأخرى حين تتولى الحكم، ولكن لا بأس بالمجاملة ما دامت لن تصيبهم في مناصبهم أو أموالهم أي إصابة مهما تكن هينة، بل هي إلى النفع أقرب، وكان كل منهم يعرف عن نفسه وعن الآخرين أنهم على أتم الاستعداد للانضمام للأحرار الدستوريين أو السعديين إذا كانوا في حضرة أي وزير من أي من الحزبين.
ولم يكن فكري باشا يغبى هذا، بل كان يعرفه كل المعرفة فهو سياسي مخضرم.
نامعلوم صفحہ