ومراد لم يبلغ السن القانونية. - ماذا تفعل في العمودية يا مراد؟ أنت بعد لم تبلغ السن. - وحتى إذا بلغتها إنما مسألة العمودية هذه لا أفكر فيها على الإطلاق. - هل جننت؟ - لا تغضب أنا لم أبلغ السن القانونية، وحين أبلغها يفرجها الذي لا تغفل له عين. - ليكن، هل فكرت فيمن يكون عمدة من دار طلبة؟ - هل سعادة النائب فكر؟ - ربما ولكني أحب أن أسمع منك. - ما رأيك في مدني طلبة. - مدني ابن الحاج إسماعيل. - شاب ذكي وفاهم وعلى قدر من التعليم المطلوب وبلغ السن. - ألا تخشى أن يكون كثيرون من كبار العائلة طامعين فيها؟ - هم يحبونه جميعا ولن يرضى أحد منهم أن يرد لك رأيا وأنت كبيرهم وزعيمهم، وشرفتهم بما لم يشرفهم به أحد من عائلتهم في حياة العائلة من جدهم الكبير إلى يومنا هذا. - ولكني لا أريد أن أغضبهم. - وهل جئنا بعمدة من خارج العائلة؟ - ولكني مع ذلك لا أحب أن أغضبهم. - أقول لك أنا سأمر على كبار العائلة وأعرض على كل منهم الأمر، على أن الشباب يجب أن يأخذ حظه وأن العمودية هم وإنفاق، ومسألة الإنفاق هذه مهمة جدا عندهم جميعا فليس في العائلة - والحمد لله - كريم إلا أنت، وسأقول إن دوار العمدة لا بد أن يظل مفتوحا ليلا ونهارا ليستقبل ضيوف البلدة وموظفي المديرية و... و ... اترك الشيوخ علي أنا. - اتفقنا، إذا قبلوا نتوكل على الله. - سيقبلون وبخاصة مدني يعتبر من أغنياء الأسرة، فقد ورث كما تعلم أباه وأمه التي كانت غنية هي الأخرى. - على بركة الله. •••
وصدق حدس مراد ووجد أغلب الكبار في العائلة زاهدين في العمودية. فقد كانوا تعودوا على نوع خاص من المعيشة يصعب عليهم أن يغيروه في سنهم المتقدمة هذه، ومن كان طامعا في العمودية أقنعه مراد بمنطقه هذا الذي قدمه بين يدي أبيه. •••
قصد مراد إلى بيت مدني وكان قد تحرى أن يكون ترشيحه له عند أبيه سرا مكتوما عنه، كما حرص ألا يذكر اسمه لواحد من شيوخ الأسرة الذين كلمهم، وإنما كان يطلق حديثه مع محدثه، وكأنه لا يجد في الأسرة صالحا للعمودية إلا هو، وينتظر أثر هذا منه ويميل معه في الحديث، وينفره من العمودية في لهجة الحريص على ماله وصحته وينبئه أنه إذا رفض العمودية: سنتعب كثيرا حتى نجد العمدة المناسب. ولكن وما له نتعب نحن وترتاح أنت.
وهكذا لم يظهر اسم مدني في الأفق على الإطلاق، ومن يتصور أن يتولى العمودية شاب أكمل السن منذ شهور ولا يتولاها الكبار المتصدرون لمجالس القرية واجتماعاتها.
قال مراد لمدني: كم تدفع لتصبح عمدة؟
وقفز مدني عن كرسيه: ماذا تقول؟ - ما سمعت. - وهل يعقل هذا؟ - كم تدفع؟ - كم تريد؟ - ألف جنيه. - ألف جنيه! - ألف جنيه. - ادفع. - هات. - الآن. - في بيتك أكثر من هذا. - من سيأخذها؟ - أنا. - أنت؟! حسبت أن الحاج دياب هو ... - الحاج دياب لا يعرف عن الألف جنيه شيئا. - يا أخي خف بعض الشيء، إنني سرك ونجيك وحبيبك. - ولهذا لم أقل ثلاثة آلاف. - لك حق. - هات. - الفلوس في الداخل، لحظات وتكون في يدك. •••
وأصبح مدني طلبة عمدة للميمونة.
9
كانت هذه الوزارة هي الأخيرة لحزب الوفد، وهي التي ألغى فيها النحاس باشا المعاهدة، وكان ساسة مصر جميعا يعلمون أن إلغاءها خراب مؤكد لمصر، ولكنهم مع ذلك لم يستطيعوا أن يعالنوا برأيهم هذا، فإلغاء المعاهدة في ظاهره عمل وطني لا بد أن تؤيده الأحزاب الأخرى، بل لقد أيده أيضا الساسة الكبار البعيدون عن الأحزاب، ولكنهم جميعا، وبلا استثناء، كانوا واثقين أنه سيؤدي بمصر إلى أوخم العواقب.
كانت مقاومة المصريين للإنجليز على أشدها، حتى لقد فجر الإنجليز فجورا لا مثيل له في تاريخهم بمصر إلا في حادثة دنشواي، وقد تمثل أبشع ما تمثل في حصارهم لمركز شرطة الإسماعيلية الأمر الذي اضطر وزير الداخلية فؤاد سراج الدين باشا أن يأمر بأن يقاوم المصريون الذين كانوا من الوطنية في أعلى معانيها، وأجلى صورها حين نفذوا الأمر وجادوا بأرواحهم في سبيل مصر.
نامعلوم صفحہ