على الجملة ما من قربة، أوطاعة، أو عمل صالح مأثور عن الأنبياء والأولياء والصالحين إلا عمل به، واتخذه في أوراده، وشيء من عبادات الملائكة - عليهم السلام - وتسبيحاتهم، وأذكارهم، دخل عليه رجل يوما من إخوانه فعظمه، وقال: علي لهذا منة، أهدى إلي فضل صلاة أربع ركعات قبل العصر فأنا أسميها صلاة فلان فأدعو له فيها، وأما إخلاصه في طاعة الله (فهي)(1) ظاهرة، وزهده في الدنيا والآخرة أورثه الإخلاص الخاص، كما قال رحمه الله تعالى(2): لو لم يخلق الله جنة ولا نارا أليس يحق له أن يعبد، بلى وعزتة وجلاله. أملى علي يوما(قال)(3): من أقبل على الدنيا أحرقته نيرانها من الحرص والشغل والغفلة وغير ذلك. فصار رمادا، ومن أقبل على الآخرة أحرقته نار الخوف فصار سبيكة ينتفع بها، ومن أقبل على الله أحرقته نار التوحيد ونار المحبة فصار جوهرة نفيسة لا قيمة لها، وقال: أظنه (رواه) (4): خبرا: ((إن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وقوما عبدوه رغبة فتلك عبادة التجار، وقوما عبدوه تعظيما لجلاله وتقديسا لذاته فتلك عبادة الأحرار))(5)، وقال له بعض إخوانه: إن صلاة الجماعة فيها الفضل كما تحقق عظيم، فجوب عليه جوابا مختصرا: وأيا عندك أفضل الوقوف مع العبيد أو مع الملك؟ فندم ذلك المتكلم، وقال لي يوما: اكتب هذه الكلمات في مختصرك (تذكرة أولي الألباب)(6): ما أتاك من الدنيا فلا تفرح به، وما فاتك(منها) (7) فلا تحزن عليه، واجعل همك لما بعد الموت(8) ، هذه الكلمات لعلي عليه السلام، فقال الفقيه رحمه الله تعالى(1) هذه التي بعدها تريد، وأملى علي يوما(من ورقة) (2) (من خط) (3) يده المباركة، قال: المخلص العارف أن يكون (غذاه) (4) ذكر الله، ورأس ماله اليقين بالله، ومطيته الهيبة من الله، ولباسه تقوى الله، وتحريكه التفويض لأمر الله، وعزمه التسليم إلى الله، ومهنته التعظيم لله، فهو محبوس في سجن الرهبة، مقيد بالحياء، متنعم بالمناجاة، قد أمرضه الشوق، (وأشغفه) (5) الحب، له ورع لا يشوبه طمع، ويقين لا يشوبه طلب، وانتباه لا تشوبه غفلة، وذكر لا يشوبه نسيان، وعزم لا يشوبه عجز، وعلم لا يشوبه جهل، ودعاء لا تشوبه فترة، فعليك بهذه الطريقة فالزمها، وأقبل عليها بقولك، وفعلك، وسرك، وجهرك، وسمعك، وبصرك، فإن الخير والبركة بحذافيرها لمن سلك هذه الطريقة، فمن صبر عليها أربعين يوما اتقد في قلبه مصباح النور، وانفتح له عينان في قلبه يبصر بهما إلى أحوال الدنيا وأحوال الآخرة وعلوم الملأ الأعلى، تم كلامه رحمه الله تعالى (6) ورضي عنه وأرضاه، وكان في ابتداء أمره يخفي أوراده وأقواله وأفعاله، فلما عرف المولى، وأنس بجلال الله، واستغنى به (عما سواه) (7)، كان ظاهره وباطنه كشيء واحد لمقصود واحد، لمعبود واحد، لمالك واحد، لرازق واحد، لمنعم واحد، على مأدبة واحدة، في مملكة واحدة، لمعز واحد، لمذل واحد، لموفق واحد، وهو لكل شيء واحد، فرأى ما لم ير، وسمع ما لم يسمع، ولله القائل:
قلوبهم في روض حكمته تجري
ما في صدور القوم من خالص السر
وأنفسهم مجموعة الهم والفكر
بحيث يرون الغيب بالغيب كالجهر
لدعوتهم تهمي السحائب بالقطر
(وأغناهم طرا عن القصد للغير) (8) فأنوارهم (تربو) (1) على الأنجم الزهر ... وإن لربي صفوة من عبيده
صفحہ 133