إن كل إنسان متمدن يحيا في مجتمع متمدن، يجب أن يشتبك في شئون هذا المجتمع، والصحفي أولى الناس بهذا الاشتباك، وأنا هنا أنظر إلى أخلاقه قبل أن أنظر إلى حرفته؛ إذ هو قد ينجح النجاح المالي إذا بقي متفرجا محايدا لحوادث بلاده والعالم، ولكنه لن ينجح النجاح الإنساني، النجاح الشريف الذي يجب أن يهدف اليه كل صحفي، إلا إذا اشترك مع مجتمعه في كفاح للخير والشرف والإنسانية والعدل والاستقلال.
وبعد هذه الكلمات العامة عن الصحفي «كما يجب أن يكون» نحتاج إلى كلمات خاصة تمس الحرفة مسا خاصا.
ومع أنه يمكن أن يكون هناك تعليم خاص لتخريج الصحفي فإني لا أتمالك الإحساس بأن الصحافة هواية قبل كل شيء، وقد ترجع في جذورها المختبئة إلى ما يسمى في السيكولوجية «العرض» أو في التعبير المألوف «حب الظهور»، وقل أن يخلو صبي أو شاب من ذلك؛ ولهذا كثيرا ما نجد الإغراء قويا بين الشبان للكتابة في الصحف فيما بين سن العشرين وسن الثلاثين فيرسلون بمقالاتهم أو قصصهم إلى الصحف فإذا صادفوا نجاحا احترفوا الصحافة، أو هم يكفون بعد أن يتحققوا أن كفاءتهم لا تعينهم على ذلك.
الصحافة - كالشعر والأدب والفن - هواية، ولكن الهاوي يحتاج إلى التربية والتعليم حتى يمهر ويحذق، ويحتاج إلى ظروف مؤاتية أيضا في الجمهور أو البيئة، وإني لأجد - من اختباراتي الماضية التي تزيد على نصف قرن - أن خير ما يؤهل للصحافة الراقية في بلادنا وسائر الأقطار العربية إتقان لغة أجنبية على الأقل، ولغتين خير من لغة؛ وذلك أن الاتصال بلغتين أجنبيتين، مثل الفرنسية والإنجليزية، أو الألمانية والروسية، يصل بين الصحفي العربي وبين التمدن العصري، كما يتيح له الرحلة كل سنة أو سنتين إلى أقطار أجنبية ينتفع بزيارتها ودارسة مؤسساتها وتجديداتها، ومن الغرور الكاذب أن نزعم أننا - نحن الصحفيين المصريين مثلا - في «اكتفاء ذاتي» لا نحتاج إلى اللغات والآداب الأوروبية أو الأمريكية؛ فإن حاجتنا إلى هذه اللغات لا تقل في الصحافة الراقية عن حاجتنا في الطعام للغذاء الصحي.
وكما نحتاج إلى اللغات الأجنبية ندرسها بإتقان، نحتاج أيضا إلى زيارة الأمم الأجنبية وإلى الإقامة شهورا أو سنوات في باريس وبرلين ولندن ونيويورك وموسكو؛ كي نتعمق البواعث والحوافز في السياسة والاجتماع والاقتصاد والارتقاء؛ ذلك لأن الاستعمار والاستبداد كلاهما قد أخرنا عن اللحاق بموكب الحضارة العصرية، فنحن في حاجة لا تنقطع عن استملاء هذه الحضارة من الأمم المتمدنة المتقدمة، وأسوأ ما تعانيه الصحافة المصرية في وقتنا من حيث تفاهة موضوعاتها وأخبارها يعود في النهاية إلى أن المحرر أو المخبر لم يدرس لغة غربية.
وأعني أنه لم يدرسها دراسة الإتقان، ولا أعني أنه لم يعرفها، فإن المعرفة قد تكون رطانة لا تغني.
ثم يجب أن يكون للصحفي - كما للأديب والفنان والشاعر - كفاح، وبكلمة أخرى يجب ألا يكون متفرجا متسليا بالكتابة وبالدنيا، وقد رأينا في مصر في الخمسين سنة الماضية عشرات من الصحف والصحفيين المتفرجين المتسلين الذين كانوا ينشدون «النجاح» بالإحجام عن التورط في مشكلاتنا السياسية والاقتصادية، فلا ينتقدون وزيرا ولا يبرزون فضيحة دارية، ولا يعارضون خطة استعمارية أو استبدادية، بل رأينا كتابا مدحوا جميع الأحزاب، وأثنوا على السادة العظماء، من فاروق إلى الأذناب، بقصائد ومقالات.
يجب على الصحفي الشريف أن يشتبك، وألا يبالي أن يؤدي به هذا الاشتباك إلى التورط في الحبس، وأن يقع في الاضطهاد؛ إذ عليه أن يتحمل كل ذلك باعتباره جزءا من حرفته، بل من شرف حرفته، وأن ينهض في وجه الظلم والفساد ولو أدى هذا إلى إفلاسه ودماره.
ذلك أن لكل حرفة مقتضياتها التي يقتضيها الشرف، شرف الحرفة. فإذا وفد وباء كالكوليرا أو الطاعون على مصر فإننا ننتظر من الأطباء أن يهرعوا إلى مكان العدوى ويكافحوا هذا الوباء، حتى مع يقيننا ويقينهم بأن الموت يمكن أن يكون جزاء خدمتهم وإسعافهم للمرضى، ولا يمكن أن نقر طبيبا على الفرار من الكفاح أو الوقوف موقف المحايد المتفرج.
كذلك الشأن في الصحافة، فإذا واجه الصحفي ظلما أو فسادا أو استعمارا فإن عله أن يكافح، حتى ولو وثق بأن كفاحه قد ينتهي بدماره وسجنه وإفلاسه؛ لأن شرف الحرفة يقتضي ذلك.
نامعلوم صفحہ