وارتقينا في الصناعة فأصبح عندنا بعض المصانع، وكان الاستعمار يحظر علينا إنشاء المصانع كما نحظر نحن بيع الحشيش أو سائر المخدرات.
وارتقينا في شئون وطنية مختلفة، ولكن أجمل الأنواع في هذا الارتقاء هو انتقال المرأة المصرية من الأسلوب الشرقي في العيش إلى الأسلوب الغربي، وهذا الارتقاء قد استتبع تغيرات عديدة في العلاقات الاجتماعية، فأصبحت كلمة «الحب» من الكلمات المحترمة التي لا يخجل منها الشاب أو الفتاة.
واقتحمت المرأة الميادين المختلفة في النشاط المصري، ومن أجمل اقتحاماتها هذه أنها طرقت أبواب الصحف التي فتحت لها مع الترحيب والتقدير.
وإني أعود بالذاكرة الآن إلى أول امرأة مصرية كتبت في الصحف، فأذكر «باحثة البادية» التي كانت تكتب حوالي 1910 في الجريدة حين كان يرأس تحريرها الأستاذ أحمد لطفي السيد، وكانت تكتب بأسلوب عربي متين، ولم يكن هذا عجيبا، إذا هي ابنة اللغوي المشهور حفني ناصف، ولكنها كانت تكتب وكأنها تنظر إلى قلمها فإنها كانت زوجة لأحد الوجهاء من العرب في الفيوم، ولكن إقدامها على الظهور بقلمها في صحيفة يومية كان بدعة تبعث على اليقظة والنهوض على الرغم من دعوتها إلى المحافظة على التقاليد.
ولكن جاءت في عقبها الآنسة مي، وهي فتاة فلسطينية أو سورية (قبل التجزئة الوطنية التي ابتدعها الاستعمار الإنجليزي) قد نشأت في بيئة مسيحية وتعلمت في مدراس غربية؛ ولذلك عندما أقدمت على الكتابة في الصحف لم تجد العائق السيكولوجي الذي كانت تجده باحثة البادية، وكانت مع ذلك على معرفة باللغتين الفرنسية والإنجليزية وتعمق لآدابهما، فكانت مقالاتها في الأدب والاجتماع والحياة عامة ظاهرة جديدة في الصحافة، بل كانت حياتها الحرة بصالونها الأدبي في القاهرة ظاهرة اجتماعية كبيرة القيمة، وكانت تدعو إلى الحياة العصرية مع اعترافات هنا وهناك تجري على سن قلمها في مديح الشرق، ولم يكن هذا المديح سوى الضريبة التي كانت تؤديها للرجعيين والمحافظين حتى لا يناصبوها العداء ويكرهوها على ترك الصحافة.
وقد جرأت مي الكثيرات من الكاتبات المصريات واللبنانيات على الكتابة في الصحف؛ وذلك أنها أجادت، وتناولت الموضوعات المختلفة، ولقيت احتراما، فهيأت الميدان لغيرها من بنات جنسها اللائي أقبلن على الكتابة في الصحف وهن لا يخشين لوما أو عيبا.
ثم خف عنا - عقب نهضة 1919 - كابوس الاستعمار، وإن لم يزل. فعدنا ننشئ المدارس الابتدائية والثانوية للبنات بعد أن كان الإنجليز قد أقفلوها عقب الاحتلال في 1882، بل أنشأنا الجامعة و«زحلقنا» الفتاة المصرية إليها خلسة من وراء ظهور المحافظين والرجعيين، وما هي إلا سنوات حتى كان عندنا ألف من الفتيات في المدارس الثانوية ثم مئات منهن في الجامعة، وما زالت هذه المئات في التكاثر حتى أصبح عندنا منهن في 1956 نحو ستة آلاف طالبة في ثلاث جامعات.
وقد ضنت الحكومات على خريجات الجامعة بوظائفها الا مع الشح، ولكن الأعمال الحرة رحبت بهن. وكانت الصحف في مقدمة المرحبات بهن.
ووجدت الفتيات المتعلمات إغراء كبيرا في الصحف، وخاصة عندما ظهرت المجلات المصورة التي عنيت بتصوير الأخبار والنابغات السينمائيات، بل حين أسرفت في هذا التصوير حتى فتنت به عقول الشبان والفتيات معا، فكان الإقبال على القراءة أولا ثم الإقبال على الكتابة ثانيا، وأصبحت كل فتاة تحس شيئا من الاستعداد الصحفي تؤلف القصة أو المقال وتجرب قلمها في النقد أو الوصف.
وأحب أن أشير هنا إلى أن اختلاط المرأة بالرجل كثيرا ما يرفع من أخلاق الجنس الخشن من حيث الارتفاع بالحديث إلى الكلمات المهذبة؛ ذلك أننا نحن الرجال، حين تغيب عنا المرأة، نترخص في استعمال الكلمات الغليظة ولا نبالي النكتة النابية، ولكننا نحذر ذلك عندما نجد معنا امرأة.
نامعلوم صفحہ