والعظيم الذي تنافق له، ولا ينكر عليك، ولا يردك، ثم لا يرضاك، ولا ترضيه إلا على هذا النحو، هو في رأيي رجل خرافي من المعبودات الأولى يحتاج إلى نبي يمحوه، فإن لم يكن نبي فرجل حكيم يكشف للناس عن وجه الخرافة فيه، فإن لم يكن فذو عزيمة يصول به، أو يستطيل عليه، فإن لم يكن فذو دين وتقوى، يريه وجه السماء من دينه وزهده، فإن لم يكن فذو علم يقنعه أنه كان ترابا، وسيكون عظاما ورفاتا ... فإن خلا قومه من كل أولئك فقد
زين لهم الشيطان أعمالهم ، وقد رفع الله عنهم يده؛ فلا يبالي في أي وجه هلكوا! •••
أما إنه لا ينافق إلا الخبيث الذي يحاول أن يقتحم النفوس، وهي غافلة عن أبوابها ومنافذها، فنفاقه من التلصص، وإلا الضعيف الذي يريد أن يقوى بضعفه، فهو يحتال على أن يأخذ القوي من أضعف مكان فيه، ونفاقه من المكر والخداع، وإلا الغاصب الذي يطمع أن يكون الشيء له وليس له، ونفاقه من الظلم، وإلا القوي متى أراد أن يسوق بقوته مساق الضعف لينال بها من غير أن يؤذي، فنفاقه من الكبرياء، والخامسة أن روعة الحب في عاشق تنافق لروعة الحسن في معشوق!
وكذلك لا يرضى عن النفاق، ولا يقره إلا جاهل اكتفى من العلم قبل أن يعلم ما هو العلم، أو مستكبر عميت نفسه عما حولها، وعما فوقها، أو غبي يعرف عقله في وهمه، ووهمه في عقله، ولا يعرف عقول الناس، أو ذو سلطان دنت محنته، وأظلت ملكه النقمة؛ فهي تسلك إليه سبلا مختلفة، منها فساد الناس، ومنها النفاق، والخامسة أن يمتلئ نظر الجميلة رضا وسحرا حين يمتلئ فم المحب نفاقا في هواها!
وأنت فكيف اعتبرت النفاق رأيته كذبا وخداعا، ثم مكرا ومصانعة في الحق؛ فإن هو فشا في طائفة من الناس ألفيتهم في الجملة كأنما تعاهدوا بينهم على ألا يصدقوا، ولا ينصحوا، ولا يأنفوا، ولا يقاربوا الحق؛ فإذا كثر هذا السواد في شعب رأيته، ولا يحسن من الحياة إلا الأسباب الذي يقتل بها نفسه إن كان قويا، ولا يهتدي لغير طرق الفقر إن كان غنيا، ولا ينفع إلا أعداءه إن كان شعبا ذكيا، ولا يعمل إلا على السخرة لغيره إن كان عاملا فتيا! •••
وكل منافق وصاحبه الذي ينافق له، رجلان لا يفهم أحدهما الآخر، أو تكون بلادة الحس قد بلغت من أحدهما أن يتظاهر بأنه لا يفهم، وبلغت الغلظة من صاحبه أن يظهر كأنه غير مفهوم، وكلاهما غطاء مكفأ على حقيقته، ولكن الحقائق المغطاة بأغطية الكذب موضوعة أبدا على نار تتقد من عزائم المصلحين، ونفوس الحكماء، وقلوب الأحرار، فلا تزال تغلي كلما طال بها العهد حتى تنفجر من أغطيتها، فإذا الزور قد طاح به ما انكفأ عليه، وكان ذلك من سنة الله في إصلاح الناس، وكان من سنة الله كذلك أن تجد الناس ينافقون جميعا، إلا مصلحا، أو حكيما، أو رجلا حر النفس!
هوامش
الفصل السادس
الصغيران
والآن أرى السحاب رقيقا مهلهلا كأنه في سرقة من حرير أحمر،
نامعلوم صفحہ