لو أراد الله بك خيرا أيها القلب المسكين لما جعل شقاءك يربى فيك تربية كما تربى أنت في الإنسان، وكما يربى الإنسان في الحياة؛ فالحب، والرحمة، والشفقة، والصداقة، وكل المعاني التي هي روابط الإنسانية في اشتباكها، هذه كلها هي وسائل مسرتك في حالة، وهي بأعيانها أسباب عذابك في حالة أخرى!
جذور استسر بها الغيب،
17
وفي أيدينا فروعها، وأوراقها، وثمراتها: تلك هي شجرة الحياة، فلنا حلوها ومرها، وما يفيء من ظلها، وما ينحسر، ونشذب
18
منهما؛ فتنمو وتزيد، ونغير من أشكالها، ونلوي أو نكسر من فروعها ما شئنا، ونترك من ثمرها ما ينضج إلى أن ينضج، أو نتناوله فجا لا يساغ ولا يطعم، أما أن نجعل مرها حلوا، أو نرسل المادة الحلوة بأيدينا في جذور الفروع المرة التي لا تؤتي ثمرها إلا عللا، ومصائب ونكبات وموتا - فهذا ما لا سبيل إليه، ولا يغني فيه غناء، ولا تبلغ من حيلة، إلا إذا استطعنا أن نطفئ الفرع الأحمر من النار؛ فيتحول في أيدينا إلى شيء آخر غير الفرع الأسود من الفحم!
تأتي النعمة فتدني الأقدار من يدك فرع الثمر الحلو، وأنت لا ترى جذره، ولا تملكه، ثم تتحول فإذا يدك على فرع الثمر المر، وأنت كذلك لا ترى ولا تملك؛ ألا فاعلم أن الإيمان هو الثقة بأن الفرعين كليهما يصلانك بالله، فالحلو فرع عبادته بالحمد والشكر، وهو الأحلى عندك حين تذوقه بالحس. والمر فرع عبادته بالصبر والرضا، وهو الأحلى حين تذوقه بالروح!
القلب الإنساني ميدان تقتتل فيه القوى الأرضية والسماوية، فلا بد في النصر والخذلان جميعا من الدم يذهب كله أو بعضه، والجراح تبرأ أو لا تبرأ، والآلام تنسى أو لا تنسى ...
لا بد؛ لا بد؛ لا بد! •••
وجاءت حافلة السجن فركبها السجين، ومضت تجرها البغال طائعة منقادة، كما تنقاد إذا هي جرت مركبة ملك، وذهبت وما تحفل بشيء من الدنيا، وسياستها، وآدابها، وأحكامها ما تحفل بهذا السوط الدقيق المسلط على ظهورها ... أما أهل الرجل فتهالكوا وراء العربة؛ فالشاب يخطف في عدوه منكرا؛ كأن قربه منها يوصل بعض أنفاس الحرية إلى أخيه، والنسوة يهتلكن في جريهن، وكلما أبعدت الحافلة علا صراخهن ليبلغ السجين منهن شيء ما، أما الطفلان وجدتهما فوقفوا من الضعف كأنما وقفت قلوبهم، ولكن نظرات الجدة ارتمت إلى العربة، فلما غابت عنها ارتمت إلى السماء!
نامعلوم صفحہ