واطمأن أبو بكر حين ودع هذه الجيوش جميعا ورأى نصر الله منه قريبا، وكيف لا يطمئن وفي هذه الجيوش زهرة المسلمين مهاجريهم والأنصار، وفيها ما يزيد على ألف من أصحاب رسول الله الذين سمعوا له وجاهدوا معه، وفيها أهل بدر الذين قال فيهم رسول الله يناجي ربه: «اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد.» والذين أمدهم الله بالملائكة ونزل فيهم قوله تعالى:
كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين
أين من هؤلاء جيش خالد بن الوليد الذي غزا العراق ومزق الفرس! لقد تألف هذا الجيش من بقية قليلة من جيش اليمامة، ثم كان أكثره ممن استنفرهم خالد من أهل البحرين وعمان وممن قاتل أهل الردة وثبت على الإسلام في هذه النواحي، أفيقاس أولئك إلى الذين شهدوا بدرا وأحدا وحنينا، والذين أمدهم رسول الله في حياته بنفحة منه؟! وهل يقاسون إلى الأبطال أمجاد مكة والمدينة والطائف ممن عركوا الحرب وعركتهم الحرب؟! فإن يكن خالد قد غلب الفرس بعرب الجنوب، فما أحرى عكرمة وأبا عبيدة وابن العاص ويزيد أن يقضوا بجيوش مكة والمدينة على الروم القضاء الحاسم! وأبو بكر لم يبالغ حين بعث هذه الجيوش كلها إلى الشام بعد أن انتصر عسكره بالعراق، فلو أن أمر المسلمين هناك وقف عند هزيمة خالد بن سعيد لذهب نصرهم بالعراق بددا، ولاقتحم الروم عليهم شبه الجزيرة، ولوقف الإسلام من الأسدين فارس والروم موقفا لا يرضاه الحق جل شأنه، وما كان ذلك ليحدث وأبو بكر في خلافة رسول الله، وما كان ليحدث ولو لم يبق في القرى غيره، على حد تعبيره رضي الله عنه عند اختلاف أصحابه معه عشية حروب الردة.
وظل أمراء الجند في مسيرتهم حتى نزلوا الشام، أما عمرو بن العاص فلم يتحرك جيشه من العربة حيث كان منذ أوفده أبو بكر، وأما أبو عبيدة فتخطى البلقاء إلى الجابية بعد أن أخضع من قاومه من عرب مآب وصالحهم، ولقد نزل شرحبيل الأردن، ونزل يزيد بن أبي سفيان البلقاء؛ وفي رواية أنه لقي قوة من الروم والبدو في دائن فتغلب عليها. ولقد اختلفت الروايات: ألقي جنود المسلمين حربا في جنوب فلسطين، أم تقدموا فيها فلم يجدوا من يواجههم؟ والراجح أنهم تقدموا حتى صاروا على مقربة من جيش عكرمة، وأن الروم لم يواجهوهم بقواتهم، بل تركوا أمرهم لرجال البادية، وأن ما حدث من وقائع بين العرب والروم في جنوب فلسطين قد حدث من بعد في عهد عمر بن الخطاب.
على أن اضطراب الروايات ينتهي حين تتصل جيوش المسلمين بجيش عكرمة؛ إذ يعسكر أبو عبيدة على طريق دمشق ويعسكر شرحبيل في مرتفع بأعلى الغور فوق طبرية ونهر الأردن، ويظل يزيد بالبلقاء مهددا بصرى، ويبقى عمرو بالعربة مهددا حبرون، وفي هذه المواقع وقفت الجيوش يتداول أمراؤها الرأي ما يصنعون.
ذلك أن الروم لم يكترثوا أول الأمر لهم، بل خيل إليهم أن هؤلاء العرب لن يتقدموا إلى أكثر مما تقدم محمد من قبل في غزوة تبوك، وأنهم عائدون أدراجهم لا محالة، فلما هزم خالد بن سعيد وفر من الميدان ازدادوا طمأنينة إلى ما توهموا، وظنوا أن ما يترامى إليهم من أنباء المسلمين وتجهيزهم مددا لعكرمة على حدود الشام لن يزعجهم، ولن يكون مصيره إلا كمصير خالد بن سعيد، فلما رأوهم تقدموا إلى المواقع التي ذكرنا أفاقوا من سباتهم ورأوا الأمر أجل خطرا من أن يستهينوا به، وأدركوا أنهم إن لم يواجهوه بكل قوتهم أصابهم ما أصاب فارس، وفتح هؤلاء الغزاة المسلمون الشام كما فتحوا العراق؛ لذلك سير هرقل إليهم قوات عظيمة، وقفت كل واحدة منها إزاء كل جيش من جيوش المسلمين، حتى يشتغل بعضهم عن بعض فيسهل التغلب عليهم وطردهم من البلاد.
وتجري الرواية في أمر الجيوش من الجانبين بأن عدد المسلمين كان ثلاثين ألفا أو نحوها، وأن جيوش الروم بلغت عدتها أربعين ومئتي ألف؛ قيل: إن جيش عكرمة كان ستة ألاف، وإن الجيوش الثلاثة الأخرى بإمارة أبي عبيدة ويزيد وعمرو بن العاص كانت تترجح بين سبعة آلاف وثمانية آلاف لكل منها، أما جيوش الروم فكان أكبرها عددا بإمارة تذارق (تيودوريك) أخي هرقل لأبيه وأمه، وكانت عدته تسعين ألفا، وقد عسكر بإزاء عمرو بن العاص، ووقف جيش عدته ستون ألفا بإمارة الفيقار بن نسطوس بإزاء أبي عبيدة، أما شرحبيل بن حسنة فاستقبل الدراقص على قوة من الروم عدتها أربعون ألفا، واستقبل چرچة بن تدرا جيش يزيد بن أبي سفيان.
رأى المسلمون هذه الجيوش فهابوها وتداولوا في موقفهم منها؛ فهم لم يكونوا يتوقعون مقاومة منظمة هذا التنظيم، ثم إنهم علموا أن هرقل تحصن بحمص، وأنه يتتبع أنباء الغزاة بعناية بالغة، وأنه منذ علم بقدوم الجموع العربية إلى أراضي الإمبراطورية قد جعل كل همه إلى الاحتفاظ بالسلطان الذي كفله النصر على فارس له، أما وقد كان أخوه تذارق قائد الجيوش التي غلبت الأعاجم وعادت تتقدمها أعلام النصر ، فليكن قائد الحملة على العرب ليطهر أرض المعاد منهم، وليلقي عليهم درسا لا ينسونه أبد الدهر.
هاب المسلمون جيوش الروم حين رأوها يخطئها العد، ففزعوا بالكتب وبالرسل إلى عمرو بن العاص يلتمسون عنده الرأي، ورأى عمرو أنهم لا يستطيعون لقاء الروم متفرقين، فكاتبهم يقول: «إن الرأي الاجتماع؛ وذلك أن مثلنا إذا اجتمع لم يغلب من قلة، فأما إن تفرقنا لم تقم كل فرقة لمن استقبلها لكثرة عدونا.» وجاءهم كتاب من أبي بكر بمثل رأي عمرو، وفيه: «اجتمعوا عسكرا واحدا، وألقوا زحف المشركين بزحفكم، فأنتم أعوان الله، والله ناصر من نصره، وخاذل من كفره ولن يؤتى مثلكم من قلة، وإنما يؤتى العشرة الآلاف والزيادة عليها بذنوبها فاحترسوا من الذنوب، والله ناصركم.» واتعد المسلمون اليرموك على طريق دمشق، واجتمعت قواتهم كلها على شاطئه الأيسر فلما رأى الروم ذلك جمعوا قواتهم على الشاطئ الأيمن للنهر وتولى تذارق قيادتها.
ونهر اليرموك ينبع من جبال حوران وينحدر سريع التيار بين آكام مختلفة الارتفاع إلى غور الأردن وإلى البحر الميت، وعلى ثلاثين أو أربعين ميلا من ملتقى اليرموك بنهر الأردن تقع واقوصة في منبطح فسيح من الأرض تحيط به من ثلاث نواح جبال بالغة الارتفاع، وقد اختار الروم هذا المنبطح معسكرا لهم حين رأوه يتسع لجموعهم العظيمة، فلما قدموا إليه واستقروا به تخطى المسلمون النهر إلى شفته اليمنى واختاروا منبطحا آخر على الطريق المفتوح لجيش الروم، فلم يبق للروم طريق إلا عليهم، ورأى عمرو بن العاص هذا الموقف، ورأى الروم حصرت بين الجبال، فقال: «أيها الناس أبشروا! حصرت والله الروم، وقلما جاء محصور بخير!»
نامعلوم صفحہ