والكثير من هذه الروايات يذهب إلى أن أول جيش سار إلى الشام إنما سار بعد أن عاد أبو بكر من حجه في آخر السنة الثانية عشرة وأول السنة الثالثة عشرة من الهجرة وتذهب روايات أخرى إلى أن أبا بكر سير خالد بين سعيد بن العاص إلى حدود الشام حين سير خالد بن الوليد ذهب إلى العراق في أول السنة الثانية عشرة، والراجح عندي أن خالد بن الوليد ذهب إلى العراق فتولى القيادة العامة فيه على المثنى ومن معه قبل أن يفرغ المسلمون من حروب الردة في اليمن وكندة وحضرموت، وأن خالد بن سعيد، إن كان قد ذهب في هذا الوقت أو ذهب قبله، فإنما ذهب لحماية التخوم لا للغزو، والراجح عندي كذلك أن أبا بكر لم يفكر في غزو الشام إلا بعد أن تم النصر للمسلمين في حروب الردة باليمن وما حولها، وبعد أن دخل ابن الوليد الحيرة واطمأن بها، وبعد أن فتحت دومة أبوابها فصار طريق وادي سرحان إلى الشام آمنا بفتحها.
يؤيد هذا الرأي ما سبق أن ذكرناه من استنفار أبي بكر قبائل اليمن، وما كان ليستنفرها قبل القضاء على الردة فيها، ثم إن عكرمة بن أبي جهل وذا الكلاع الحميري لم يقيما باليمن إلا بعد أن اطمأن الأمر في ربوعها، بل ذهبا مع المهاجر بن أبي أمية للقضاء على الردة بكندة وحضرموت ، فلما اطمأن أمر الجنوب كله وآن لعكرمة أن يعود إلى المدينة سرح الجند الذين جاهدوا معه، ثم تولى قيادة جيش آخر تألف بديلا من جيشه، ومن اليسير عليك أن تقدر ما يستغرقه العود من اليمن إلى المدينة، ثم السفر من المدينة إلى الشام، وأنت تعلم أن الطريق بين مكة والمدينة تقطع على ظهور الإبل في أكثر من عشرة أيام، وأن العير كانت تطرد في ذلك الزمن إلى الشام شهرا مقبلة وشهرا مدبرة.
ولقد اختلفت الروايات كذلك؛ أي أمراء الجند ذهب إلى الشام أول ما فكر أبو بكر في غزو الروم؟ قيل: إن خالد بن سعيد بن العاص الأموي كان هذا الأمير وقد ذكرنا فيما سلف أن خالدا إنما ذهب أول حروب الردة ردءا بتيماء على تخوم الشام وتجري رواية غير هاتين بأن خالدا كان باليمن من قبل رسول الله، وأنه قدم إلى المدينة بعد شهر من وفاة النبي، فلما رأي علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان قال لهما: «يا بني عبد مناف لقد طبتم نفسا عن أمر يليه غيركم!» فلما وجه أبو بكر الجنود إلى الشام جعل خالد بن سعيد عليها؛ فقال له عمر: «أتؤمره وقد صنع ما صنع وقال ما قال!» ولم يزل به حتى عزل خالدا وأمر يزيد بن أبي سفيان، وفي رواية أن عمر قال لأبي بكر في شأن خالد: «إنه رجل فخور يحمل أمره على المغالبة والتعصب» وقيل: إن خالدا لم يذهب أميرا وإنما ذهب في جيش أبي عبيدة بن الجراح ونحن نرجح، رغم هذا الاضطراب في الروايات، أن خالدا ذهب ردءا بتيماء، وأنه أقام بها، وأنه لم يكن بالمدينة حين استنفر أبو بكر الناس لقتال الروم، وأن أبا بكر إنما استنفر الناس تلبية لنداء خالد حيث بعث إليه يستمده ويذكر له من أنباء الروم وتحركهم ما حرك الخليفة لغزو الشام.
ولقد كان للروم كل العذر في أن يتحركوا وأن تزداد حركتهم نشاطا فالأنباء كانت تصل إليهم تترى بانتصار المسلمين في العراق وبانقضاء الثورة التي كانت قائمة في بلاد العرب وهم لم ينسوا مجازفة محمد وأصحابه بالغارة عليهم والانتقاص من أطرافهم وموادعة القبائل المقيمة على تخومهم وها هم أولاء أتباعه يقيمون اليوم على تلك التخوم، وقد تحدثهم أنفسهم باجتيازها لذلك دعا الروم الغسانيين وغيرهم من القبائل المقيمة ببادية الشام ليقفوا سدا منيعا في وجه المسلمين واجتمع من هذه القبائل عدد عظيم لا يقل عمن اجتمع حول خالد بن سعيد ووقف الجمعان، هذا في أرض العرب وذاك في أرض الشام، وكل يتربص بصاحبه الدوائر، وفيما هم كذلك كانت أنباء خالد بن الوليد تدوي في جو الفرس والروم والعرب كله فالأنبار تفتح أبوابها، وعين التمر يقتل مقاتلتها وتسبى نساؤها، وجنود المسلمين يغنمون ما شاء الله أن يغنموا أفيبقى إخوانهم في الدين بمنزلتهم من تيماء لا يقتحمون الشام كما اقتحم ابن الوليد وجيوشه العراق!!
وكتب خالد بن سعيد إلى الخليفة كرة أخرى كتب إليه باجتماع الروم ومن نفر إليهم من بهراء وكلب وتنوخ ولخم وجذام وغسان، واستأذنه في منازلتهم وكان أبو بكر يعد إذ ذاك جيوشه لغزو الروم؛ لذلك كتب إلى خالد بن سعيد يقول: «أقدم ولا تحجم واستنصر الله!»
وكانت هذه الكلمات أول فتح الشام.
الفصل الرابع عشر
فتح الشام
قام خالد بن سعيد بتيماء في جيشه وفيمن نفر معه من قبائل البادية على تخوم الشام وأقام جيش الروم مضاعف العدد بمن انضم إليه من القبائل على الناحية الأخرى من هذه التخوم، ولقد أثار تقابل الجيشين على هذا النحو حمية المسلمين وحركهم لقتال خصومهم، فلما قرأ خالد في كتاب أبي بكر: «أقدم ولا تحجم واستنصر الله» أسرع بكل قواته فتخطى الحدود لمنازلة القوم، ولم يلبث الروم وأنصارهم حين رأوه دنا منهم أن تفرقوا وتركوا منازلهم، فدخل معسكرهم وغنم ما فيه، وكتب إلى أبي بكر بالنبأ؛ فأجابه: «تقدم ولا تقتحم حتى لا تؤتى من خلفك.» وتقدم خالد حتى بلغ القسطل في طريق البحر الميت، فهزم جيشا من الروم على الشاطئ الشرقي لذلك البحر ثم تابع مسيرته هنالك ثارت حمية الروم وثارت حمية أهل الشام معهم، فتجمعوا في قوات تزيد على ما اجتمع قبالة تيماء أضعافا مضاعفة.
ورأى خالد بن سعيد تجمعهم، فكتب إلى أبي بكر يستمده ليتابع مسيرته المظفرة، وكانت جيوش المسلمين قد بدأت السير من المدينة إلى الشام لغزو الروم، وأبو بكر متفائل بمسيرتها، مملوء أملا بنصر الله إياها؛ فالروم ليسوا خيرا من الفرس حالا، وهم مذ غلبوا الفرس قد استغرقوا في سباتهم، وجعلوا كل اعتمادهم في حماية تخومهم على أبناء البادية. ولأبناء البادية في مواقف كثيرة آيات بأس وشجاعة ميزتهم، لكن روابط الجنس واللغة لم تكن قائمة بينهم وبين الروم كقيامها بينهم وبين بني عمومتهم العرب المسلمين، ولم تكن نصرانية عرب الشام كنصرانية هرقل؛ إذ كانوا من الأرثوذكس، وكان قيصر من الكاثوليك ولعلهم رأوا في ضن هرقل بالروم على القتال دليلا على خوفه أن يهزم أبناء وطنه أو يقتلوا، لذلك تراخوا في القتال، وتركوا خالد بن سعيد يتقدم دون أن يثبتوا له.
نامعلوم صفحہ