وهو إنما أصر على ذلك لما قيل من أن شويلا هذا سمع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يذكر فتح الحيرة فسأله كرامة، فقال له: «هي لك، إذا فتحت عنوة.» وكانت كرامة بارعة الجمال في صباها، وكان شويل قد رآها في شبابه فجن بها وأقام يهرف بها دهره، أما وقد طالب بها فما كان لخالد إلا أن ينفذ وعد رسول الله.
وشق هذا الأمر على أهلها وأعظموا الخطر؛ فقالت لهم: «هونوا عليكم وأسلموني فإني سأفتدى، وما تخافون على امرأة بلغت ثمانين سنة! إنما هذا رجل أحمق رآني في شبيبتي فظن أن الشباب يدوم!» ودفعت إلى شويل، فقالت له: «ما أربك إلى عجوز كما ترى؟ فادني.» قال: «لا، إلا على حكمي.» قالت: «فلك حكمك مرسلا.» قال: «لست لأم شويل إن نقصتك من ألف درهم.» وتظاهرت كرامة باستكثار المبلغ لتخدعه، ثم أتته به ورجعت إلى أهلها وسمع أصحاب شويل بما صنع فسخروا منه لقلة الفداء وعنفه بعضهم؛ فكان اعتذاره: «ما كنت أرى أن عددا يزيد على ألف.» وشكا أمره إلى خالد، وقال: «كانت نيتي غاية العدد.» قال خالد «أردت أمرا وأراد الله غيره، نأخذ بما يظهر وندعك ونيتك كاذبا كنت أو صادقا.»
ولما تم لخالد فتح الحيرة صلى صلاة الفتح ثماني ركعات لا يسلم فيها، فلما أتمهن انفتل إلى أصحابه يقول: «لقد قاتلت يوم مؤتة فتقطع في يدي تسعة أسياف، وما لقيت قوما كمن لقيتهم من أهل فارس، وما لقيت من أهل فارس قوما كأهل أليس.»
وأقام خالد بالحيرة وجعلها مركز قيادته، فكانت أول عاصمة إسلامية خارج بلاد العرب، على أنه ترك أمر إدارتها للزعماء من أبنائها، لذلك اطمأنوا إلى حكمه، ونشروا حولهم جوا من السكينة إليه، ورأى أهل البلاد القريبة من الحيرة عدلا شاملا، ورأوا بلاط فارس مشتغلا عنهم، ففكروا في مصالحة خالد والانضواء للوائه، أليس قد ترك الفلاحين يعملون في الأرض لم يتعرض لهم، بل رفع عنهم ما كان نازلا بهم من ظلم دهاقين الفرس، وحفظ عليهم كل حقوقهم ؟ وكان أول من صالحه صلوبا بن نسطونا صاحب قس الناطف على بانقيا وبسما، وكتب معه عهدا على الجزية والمنعة لقاء عشرة آلاف دينار في كل سنة، القوي على قدر قوته، والمقل على قدر إقلاله، وختم هذا العهد بالعبارة الآتية وجه فيها الحديث إلى صلوبا: «وإنك قد نقبت على قومك وإن قومك قد رضوا بك، وقد قبلت ومن معي من المسلمين.»
وأسرع غير صلوبا من الدهاقين إلى مصالحة خالد على ما بين الفلاليج إلى هرمز جرد على ألفي ألف، بذلك بلغ سلطان خالد إلى شاطئ دجلة، وجعل عماله يقتضون الجزية في هذه البلاد جميعا ما بين الخليج الفارسي جنوبا إلى الحيرة شمالا، ومن حدود بلاد العرب غربا إلى دجلة شرقا.
وأقام خالد فيالق من جيشه في أماكن حصينة ليمنعوا من أجارهم من عدوان غيرهم عليهم، وليكون مقامهم في مختلف المواطن مظهر السلطان الإسلامي بين أهل البلاد، ولقد كان لتوزيع هذه القوات في مواطن حصينة أثره الحاسم في القضاء على كل تفكير في الفتنة، وفي توطيد الأمر للمسلمين لا ينازعهم فيه منازع.
وإنما خشي خالد ثورة الفتنة من ناحية القبائل العربية، أما الفرس فكفاهم أن بقيت المدائن بعيدة عن غزو المسلمين، ثم كفاهم ما كانوا فيه من اضطراب حال بينهم وبين التفكير فيما عداه، فقد قتل شيري بن كسرى وخلفاؤه كالوارث للعرش من أبناء كسرى وبهرام جور، فلم يجد الفرس من يملكونه عليهم وتجتمع الكلمة حوله، وتعاقبت على العرش أميرات زدنه ضعفا على ضعف، لهذا قنع الأعاجم بأن تظل عاصمتهم آمنة بما أقاموا حولها من قوات اتخذت نهر شير الذي يصل بين دجلة والفرات معقلا لها، في حين قد ظل ملكهم فيما هو فيه من فساد واضطراب.
وما كانت هذه القوات الفارسية لتصد خالدا عن مهاجمتهم لولا أوامر أبي بكر إليه ألا يبرح الحيرة أو يوغل في الفتح حتى يدركه عياض بن غنم ليحمي ظهره، وقد بقي عياض بدومة لم يستطع التغلب على أهلها من يوم خرج إليهم، لذلك أقام خالد سنة كاملة بعاصمته الجديدة، ويكاد بعده عن ميادين القتال يقتله، ولطالما قال لأصحابه: «لولا ما عهد إلي الخليفة لم أتنقذ عياضا، وما كان دون فتح فارس شيء إنها لسنة كأنها سنة نساء!» ثم إنه غلبه السأم، فدعا إليه من أهل الحيرة رجالا دفع إليهم كتابين، أحدهم إلى ملوك فارس، والآخر إلى مرازبتها، في أولهما: «الحمد لله الذي حل نظامكم، ووهن كيدكم، وفرق كلمتكم، ولو لم يفعل ذلك بكم كان شرا لكم، فادخلوا في أمرنا ندعكم وأرضكم، ونجوزكم إلى غيركم، وإلا كان ذلك وأنتم كارهون، على أيدي قوم يحبون الموت كما تحبون الحياة.» وجاء في الثاني: «أسلموا تسلموا، وإلا فاعتقدوا مني الذمة وأدوا الجزية، وإلا فقد جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون شرب الخمر.»
نامعلوم صفحہ