والعقلية العربية بفطرتها بدوية مستقيمة، تريد الحقيقة في بساطة، وتقصد إليها في غير التواء ولا تعقيد، فزندقة مزدك ومثنوية ماني قد تستهوي من يعجبهم الحوار ويغريهم الجدل، وكذلك الأمر في فلسفة اليونان، ولا تميل العقلية العربية إلى هذا التعقيد الجدلي، لهذا هوت إلى النصرانية وأخذت بها واطمأنت إليها، ولم يدن بالمجوسية من العرب إلا قليل.
والنصرانية دين سماوي أصحابه أهل كتاب أقر الإسلام صفاءه الأول؛ فلا عجب أن يكون أخذ العرب بها في العراق وفي الشام من طلائع التمهيد للفتح العربي وللإمبراطورية الإسلامية.
على أن سبق العرب للنصرانية في العراق والشام لم يغير من خصائصهم، ولم يصرفهم عن استقلالهم وعن تعلقهم بحياتهم العربية، تولت الأميرة ماوية بنت الأرقم بن الحارث الثاني أمر العرب بالشام في أواخر القرن الرابع المسيحي، فطمع الروم في ملكها، فحاربتهم حتى اضطرتهم لمصالحتها، ثم أمدتهم بفوارس لمحاربة القوط الطامعين فيهم، وقد دافع هؤلاء الفرسان العرب عن القسطنطينية دفاعا مجيدا.
ولم يكن حرص الغساسنة على استقلالهم الذاتي إزاء الروم، وحرص اللخميين على استقلالهم الذاتي إزاء فارس، ليجمع بين هؤلاء العرب وأولئك؛ ولم يجمع بينهم اشتراكهم في الميل للمسيحية؛ بل كانت الحروب تتصل بين اللخميين والغسانيين اتصالها بين فارس والروم، أليست القبيلة أساس العمران العربي! فكما كان عرب شبه الجزيرة قبائل يقاتل بعضهم بعضا، كان عرب بادية الشام قبائل يقاتل بعضهم بعضا.
في الثلث الأول من القرن السادس المسيحي بلغ اللخميون ذروة المجد في العراق، وبلغ الغساسنة ذروته في الشام، وكان ذلك في عهد المنذر الثالث اللخمي والحارث بين جيله الغساني، تولى المنذر الثالث ابن ماء السماء ملك الحيرة بين سنة 513 وسنة 562 ميلادية في عهد قباذ ثم كسرى أنوشروان وتولى الحارث بن جبلة زوج مارية ذات القرطين ملك الغساسنة بين سنة 529 وسنة 572 ميلادية، في عهد جستنيان ثم في عهد جستين الثاني، وكان هذا الحارث يدعى الحارث الأعرج، كما كان يدعى الحارث الوهاب.
في هذا العهد ظلت الحروب متصلة بين الفرس يحالفهم المنذر، والروم يحالفهم الحارث، وكان المنذر في هذه الحروب شديد البأس قوي الشكيمة، بلغ من ذلك أن فرض الصلح الذي تم بين الفرس والروم جعلا سنويا يدفعه الروم للمنذر.
استمر هذا الصلح زمنا قوي فيه الروم واشتد ساعدهم وخشيهم كسرى، فدفع حليفه المنذر فحارب الحارث وتغلب عليه، ثم عادت الحرب فشبت بين الروم والفرس كرة أخرى إلى سنة 562م، وكان المنذر في هذه الأثناء لا يهدأ عن الحرب، يحارب خصومه، ويحارب خصوم فارس، ويوغل في ممتلكات الروم حتى يبلغ حدود مصر.
لم تخفض قوة المنذر من قدر الحارث عند الروم؛ فقد ظل في نظرهم القوة التي يواجهون بها عرب العراق، ولذلك ولاه الإمبراطور جستنيان سنة 529م ملكا على جميع قبائل العرب في سوريا، وجعل له لقب فيلارك وبطريق
وهو اللقب الذي يلي لقب الحاكم الروماني في الشام.
فكر الحارث في التخلص من المنذر، أما وهو لا يستطيع ذلك في ميادين القتال، فليجعل الغدر سلاحه، فبينما كانت الحرب ناشبة بينهما يوما أوفد مائة من رجاله عطرتهم ابنته حليمة ليلقوا ملك الحيرة ويبلغوه أن ملك الغسانيين يذعن له، وانتهز أحدهم فرصة غال فيها المنذر وقتله، عند ذلك اضطرب جند العراق، فهاجم الحارث وشتت شملهم؛ وذلك يوم حليمة.
نامعلوم صفحہ