وكان السلطان في العراق وفي الشام متداولا بين الإمبراطوريتين الفارسية والرومية، فكانت فارس تنتزع الشام من الروم أحيانا وتضمه إلى العراق التابع لها، وكان الروم ينتزعون العراق من فارس أحيانا ويضمونه إلى الشام التابع لهم، وكان العرب الذين نزحوا إلى بادية الشام ينضمون في كثير من الأحيان إلى جيش الفرس أو جيش الروم، متأثرين بما في طبيعتهم من ميل إلى الغزو والسلب، وأدى ذلك إلى أن فكرت الدولتان في اتخاذ هؤلاء الذين نزلوا البادية الممتدة بينهما سدا يحول دون اعتداء إحداهما على الأخرى، لتبقى الشام خالصة للروم، والعراق خالص لفارس.
على أن هذه القبائل العربية انحازت بحكم منازلها في البادية إلى أقرب حضر لها؛ فانحاز المقيمون على حدود الشام إلى الروم، وانحاز المقيمون على حدود العراق إلى فارس، مع احتفاظهم باستقلالهم الذاتي، ومعيشتهم البدوية، وحياتهم العربية الخالصة.
لم يحل احتفاظهم بهذه الخصائص دون تأثرهم بحياة الحضر القريب منهم، وسياسة الدولة التي يخضع هذا الحضر لها، بل لقد تغلغل في هذا الحضر من أنس منهم في نفسه الكفاية لامتثال حياة الحضر والاضطلاع بأعبائها، وبلغ من ذلك أن امتد سلطانه وعظم في المملكة نفوذه، وإن المؤرخين ليذكرون أن الإمبراطور الروماني فيليب كان عربيا من بني السميذع أول من عرف التاريخ من العرب الذين هاجروا إلى الشام، وأنه كان قبل ارتقائه عرش الإمبراطورية رئيس عصابة في تعبير الغربيين، ورئيس قبائل تغير وتغزو في تعبير العرب، وأعلى ذلك من مكانة العرب المقيمين بالشام، وإن لم يصرفهم عن البادية ولم يدمجهم في حضارة الروم.
أما العرب الذين أقاموا على حدود العراق، فلزموا البادية ولم يجازفوا بالدخول إلى حوض الفرات كي لا يخضعوا لسلطان الفرس فيه، وظل ذلك دأبهم حتى كانت الفرس مسرحا لثورات وحروب داخلية اتصلت بين ملوكها وزعماء الطوائف فيها، وقد تغلب زعماء الطوائف واستقلوا بأمر الفرس، كل منهم في ناحيته، وأتاح ذلك للعرب أن دخلوا حوض الفرات وأنشئوا على شاطئه مدينة الأنبار، ثم أنشئوا الحيرة.
ولعل قبائل من هؤلاء العرب كانوا من الأسرى الذين جاء بهم الفرس حين غزواتهم الأولى لجنوب شبه الجزيرة، فقد ذهب بعض المؤرخين إلى أن الملك بختنصر الثاني غزا شبه الجزيرة وعاد منها بالأسرى، وأنزلهم على شاطئ الفرات، فأقاموا الأنبار؛ ثم إنه نقلهم من الأنبار جنوبا فأنشئوا مدينة الحيرة.
2
وأيا كانت الرواية الصحيحة فالثابت أن العرب بدأ سلطانهم يستقر في العراق من ذلك الحين، وأنهم استقلوا بالأمر غرب الفرات بين الأنبار والحيرة حين تولى أمرهم جذيمة الأبرش أو الوضاح بين سنة 215 وسنة 268 ميلادية، وقد جمع جذيمة كلمتهم وامتد سلطانه فيهم من الحيرة إلى الأنبار إلى عين التمر؛ وبذلك اشتمل غرب الفرات كله إلى بادية الشام، بل لقد امتد سلطانه على العرب المقيمين بهذه البادية حين غزا مضر المقيمين بها، وضم إليه منهم عدي بن ربيعة وشرفه وأكرمه.
وعدي هذا هو الذي تزوج الرقاش أخت جذيمة، فتناولت كتب الأدب نبأهما بآثار روائية شائقة، وهو الذي أولدها عمرو بن عدي صاحب قصة الزباء التي انتحرت قائلة: «بيدي لا بيد عمرو.»
بينما كان جذيمة الوضاح على ملك العرب بالعراق، كان أذينة بن السميذع على رأس العرب بالشام، وكان سابور عاهل فارس، وفيليب إمبراطور الروم، وقد ثار أهل الشام بسلطان فيليب لقسوة حكمه، وانتهز سابور الفرصة فسار إلى الشام وهزم جند الروم، عند ذلك نقض أذينة عهد ولائه للروم وانضم للفرس، وطمع في أن يكون له في ظل سابور من المكانة بالشام ما لجذيمة بالعراق، على أن ڨالريان تولى إمبراطورية الروم مكان فيليب، وسار بنفسه إلى الشام وهزم سابور ورده إلى فارس، عند ذلك عاد أذينة مواليا للروم، غير أن الدوائر ما لبثت أن دارت على ڨالريان، وأراد أذينة أن ينضم إلى سابور كرة أخرى، فرفض سابور ولاءه بعد الذي رآه منه، ولم يجد أذينة بدا في محافظته على سلطانه وعلى حياته من أن ينهض بنفسه على رأس عرب الشام لمحاربة فارس، وبسم له الحظ فغلبها وطارد جيوشها إلى المدائن، بذلك سمت مكانته عند الروم، وصار صاحب القدح المعلى في محاربة الفرس، حتى لقد تغلب عليهم من بعد ذلك كرة أخرى.
وحكم بعد أذينة أبناؤه، ومنهم الزباء، وقد استهوت إليها جذيمة ودعته ليتزوجها ثم قتلته، فكان جزاؤها أن ذهب إليها عمرو بن عدي ومعه قصير بن عمرو فانتحرت حتى لا يقتلها، وبوفاتها انقضى عهد بني السميذع بالشام.
نامعلوم صفحہ