وهؤلاء يقولون: إن امتداد الفتح إلى العراق وفارس أدى بجماعة من الفرس لابتداع هذه الأقاويل، وقد استجمت هذه الجماعة من الفرس بعد انتصار الأمويين وأقامت في استجمامها تتحين الفرص حتى تهيأت لأبي مسلم الخراساني، فكان من أمره وأمر العباسيين ما كان.
فأما الذين يقولون بتخلف علي وبني هاشم عن البيعة أربعين يوما أو ستة أشهر، وقولهم هو المشهور كما قدمنا، فيستندون إلى ما سبق من الروايات، وإلى أن عليا والذين تخلفوا معه لم يشتركوا في جيش أسامة، مع ما كان لعلي من شجاعة وبأس في القتال اشتهر بهما في غزوات النبي، واشتهر بهما من بعد في جميع أدوار حياته، وهم يردون قول الذين ينفون التخلف عن البيعة بأن حجة المهاجرين على الأنصار في ولاية الأمر كانت أنهم أدنى صلة بالنبي، وأن العرب لا تعرف إلا قريشا؛ لأنهم سدنة الكعبة والذين تشخص إليهم أبصار الناس جميعا من أهل شبه الجزيرة، وهذه الحجة هي بذاتها سند بني هاشم في التقدم على غيرهم لخلافة رسول الله؛ فلا غرو أن يستمسكوا بها وأن يؤدي ذلك إلى تخلفهم عن بيعة أبي بكر، وذلك ما فعل علي، وتلك كانت حجته وحجة أصحابه، فإذا هم رضوا البيعة من بعد فإنما فعلوا حتى لا تكون فتنة تفسد إجماع المسلمين، وبخاصة بعد أن ظهرت في العرب الردة، وبعد أن انتفض العرب على سلطان المدينة انتفاضا أوشك أن يهدد انتشار الدين الذي جاء به محمد من عند الله.
على رغم هذا الخلاف بين الرواة في أمر البيعة واشتراك بني هاشم وسائر المهاجرين فيها أو تخلف جماعة منهم عنها، فالاتفاق تام على أن أبا بكر ولي الأمر بعد الرسول غير منازع منذ اليوم الأول، ولم يذكر أحد من القائلين بالتخلف عن بيعته أن واحدا من بني هاشم أو من غيرهم حاول أن يثير ثائرة مسلحة أو هم بمناهضة الخليفة الأول، أفكان ذلك لمكانة أبي بكر من رسول الله، حتى قال: لو كنت متخذا من العباد خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، أم كان لصحبته رسول الله في الهجرة ولما تحلى به من فضائل وما كان له في نصر الرسول من مواقف، أم كان لأن رسول الله أنابه عنه في الصلاة أثناء مرضه الأخير؟ أيا كان السبب الذي دعا المسلمين لبيعة أبي بكر بالخلافة ويوم وفاة النبي، فالثابت أنه لم يناهضه أحد ولم ينضم إلى من تخلف عن بيعته أحد، وذلك ينهض دليلا على أن المسلمين الأولين تصوروا الخلافة بغير ما تصورها خلفهم من بعد منذ الدولة الأموية، وأنهم كانوا أدنى في تصورها إلى معاني الحياة العربية البحتة القريبة منهم، والتي كانت معروفة في أنحاء شبه الجزيرة قبل مبعث النبي (عليه السلام)، فلما اتسعت رقعة الفتح الإسلامي واختلط العرب بغيرهم من أهل الأمم التي فتحوا، تغير تصور المسلمين لفكرة الخلافة تبعا لهذا الاختلاط ولهذه السعة في المملكة الإسلامية.
تصور المسلمون الخلافة تصورا عربيا بحتا، فالمتفق عليه أن النبي
صلى الله عليه وسلم
لم يوص بالخلافة لأحد، وما حدث يوم الوفاة من تنازع الأنصار والمهاجرين في سقيفة بني ساعدة، وما لعله حدث من خلاف بين بني هاشم وسائر المهاجرين بعد بيعة العامة، لا يذر محلا للشبهة في أن أهل المدينة اجتهدوا في أمر الخلافة عند اختيار الخليفة الأول، وأنه لم يكن لذلك سند في كتاب ولا سنة؛ فاختار المقيمون بالمدينة من رأوه أصلح المسلمين لتولي أمورهم، ولو أن الأمر امتد إلى ما وراء المدينة من قبائل العرب لكان الشأن غير ما كان، ولما كانت بيعة أبي بكر فلتة موفقة، على حد تعبير عمر بن الخطاب.
ولم تكن السنة التي اتبعت في اختيار أبي بكر هي التي اتبعت في اختيار الخليفتين من بعده: عمر وعثمان، فقد أوصى أبو بكر قبل وفاته باختيار عمر بن الخطاب، ثم جعل عمر الخلافة من بعده في ستة ذكرهم بأسمائهم وترك لهم أمر اختيار أحدهم، فلما كان مقتل عثمان وما حدث على أثره من خلاف بين علي ومعاوية، استتب الأمر للأمويين يتوارثه الأبناء عن الآباء، أما وتلك رواية الحوادث فلا محل للقول بأن لولاية الأمر في الإسلام نظاما مقررا، وإنما هو اجتهاد أملته الأحداث في أحوال الجماعة الإسلامية المتغيرة، وأملته على صور مختلفة تلائم تغير هذه الأحوال .
وكان النظام الذي سار عليه أبو بكر عربيا بحتا كذلك، وكان لاتصاله الزمني الوثيق بعهد النبي، ولاتصال الصديق نفسه بالرسول وتأثره به على النحو الذي سبق تصويره، أثر فيه لم يلبث أن تغير من بعد بحكم الأحوال وبحكم امتداد الفتح الإسلامي، وقد ظل هذا التغير في نظام الحكم يجاري البيئة التي يقوم فيها، حتى لم يكن ثمة وجه للشبه بين العهد العباسي في أوج مجده وعهد الخليفة الأول أبي بكر، ولا بينه وبين عهود عمر وعثمان وعلي.
وعهد أبي بكر يكاد يكون فريدا في نوعه؛ فهو الاتصال الطبيعي لعهد الرسول في السياسة الدينية، وفي السياسة الزمنية، صحيح أن الدين كان قد كمل، ولم يبق لأحد أن يغير فيه أو ينسخ منه، لكن العرب ما لبثت حين مات النبي أن فكرت في الردة، وأن ارتد الكثير من قبائلها؛ فلم يكن لأبي بكر بد من أن يضع لتلافي هذا الأمر الخطير خطة ينفذها، وكان النبي قد بدأ مع الدول التي تجاوره سياسة تتصل بدعوته؛ فلم يكن لأبي بكر مفر من متابعتها.
كيف فعل في هذه وفي تلك؟ ذلك ما سنفصله من بعد.
نامعلوم صفحہ