لا يزال الأمد بعيدا بيننا وبين اليوم الذي تستجاب فيه هذه الدعوة، فالناس لا يزالون إذا دعوا بالحكمة والموعظة الحسنة إلى غير ما وجدوا عليه آباءهم جعلوا أصابعهم في آذانهم، وأخذتهم العزة بالإثم، وأبوا أن يجادلوا بالتي هي أحسن، وحسبوا أن القوة الغاشمة تخفت صوت الحق، ذلك أن ضميرهم لا يزال في طفولته، والطفل يحسب أنه كلما ضج وعلا ضجيجه خضع أبواه لرغائبه وأهوائه، فإذا رأى أبويه يهذبانه ولا يزعجهما ضجيجه أذعن وسكن، وذلك ما صنع أبو بكر مع أهل الردة حين ضجوا وحاولوا المقاومة، أخذهم بما يجب أن يؤخذوا به، فقضى على مقاومتهم وعلى ضجيجهم.
وشاءت الأقدار أن تمهد لانتشار الإسلام في فارس والروم بانتشار العرب في بادية الشام؛ فقد يسروا لأهل الجزيرة أن ينفذوا إليهم، وأن يتخطوهم لغزو الفرس على شاطئ دجلة والفرات وما وراءهما، ولغزو الروم في الشام وفي مصر إلى السودان.
أنت ترى من ذلك كله أن المعجزة التي حدثت في عهد أبي بكر لم تكن ثمرة المصادفة، وإنما كانت أمرا محتوما قضت به سنن الكون التي لا تبديل لها، فلو أن شبه الجزيرة لم تكن تجاور الشام والعراق، ولو أن اللغة العربية لم تكن لغة القبائل التي استقرت ببادية الشام منذ قرون، ولو أن الله لم يصطف نبيه في ذلك العهد الذي اشتد فيه ظمأ العالم لسماع كلمة الحق والاهتداء بنوره، لو أن ذلك كله لم يكن، لجرت المقادير بغير ما جرت، ولكان تاريخ الإنسانية غير ما نعرف اليوم، ولما حلت الحضارة الإسلامية محل حضارة فارس والروم، بل لاتخذت الحضارة أطوارا أخرى غير التي عرفنا من يومئذ إلى عصرنا الحاضر.
وإذا شاءت الأقدار أن تتم على الأرض مثل هذه المعجزة مهدت لها بما رأيت، وهيأت لها أسباب الفوز، فأبرزت من ملكات الرجال ومواهبهم ما يخطون به في صحف الكون مشيئة القدير الحكيم. لقد رأيت ما صنعه أبو بكر وخالد بن الوليد وعمر بن الخطاب وأمراء الجند المسلمين، ورأيت كيف اضطلعوا بمثلها لولا أن أراد ربك لهذه المعجزة أن تتم وفاقا لسنته. فلولا هذه المشيئة لظل أبو بكر تاجرا ينمو ربحه ويكثر ماله، ثم تنطوي صفحته ولم تزد مكانته في قومه على زعامة قبيلة تيم بن مرة، وعلى احتمال الديات والمغارم، ولولا هذه المشيئة لظل خالد بن الوليد فارس بني مخزوم وفارس قريش، ولما سما اسمه فاقترن على التاريخ بأسماء الإسكندر الأكبر، ويوليوس قيصر، وهانيبال، وجنكيز خان، ونابليون، ولولاها لما أصبح اسم الفاروق عمر بن الخطاب علما للعدل والرحمة والبأس مجتمعة، فإذا نحن أرخنا اليوم لهم وأشدنا بفعالهم، وقرنا سمو الدعوة للحق إلى اسم القائد العبقري وجعلنا منهما وحدة على الزمان، لم نعد بذلك أن نرسم صورة من مشيئة القدر والعوامل التي تهيأت لتنفيذها، والتي أدت إلى انتقال الحضارة هذا الانتقال الذي مهد لعهد جديد في حياة العالم.
أما وقد ذكرت القائد العبقري خالد بن الوليد، فلأقف الآن وقفة قصيرة أتناول مسألة تناولتها في «حياة محمد»، لكني أتناولها هنا من غير الناحية التي تناولتها هناك. لقد طالما تحدث من شاء عن انتشار الإسلام بالسيف، وقد بينت في «حياة محمد» أن القرآن ينكر حرب الاعتداء في مواضع كثيرة منه، يقول تعالى:
وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (البقرة: 190) ويقول:
فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين (البقرة: 194)، وهو يدعو إلى الصلح والصفح والتسامح دعوته لحرية الرأي ولدفاع المؤمن عن عقيدته إن حاول غيره أن يفتنه عنها.
هذه مبادئ ثابتة في الإسلام يصور بها المثل الأعلى ويدعو الناس إليه، فما بال أبي بكر دفع المسلمين لحروب الردة ولفتح العراق والشام؟ وما بال أمراء المؤمنين بعده نهجوا في هذا الأمر نهجه وساروا فيه سيرته؟ لقد كان الصديق أكثر المسلمين اتصالا بالنبي وامتثالا لما أمر الله به ونهى عنه، أفلا ينهض ذلك دليلا على أن الإسلام، وإن أقر مبادئ الرحمة والتسامح والصفح، لم ينكر على الدعاة إليه أن ينشروه ببطش القوة! ولذلك غزوا البلاد وحكموها ودعوا أهلها إلى دينهم؟
لا شك في أن الصديق قد نفذ في حروب الردة ما جاء في كتاب الله من قوله تعالى في سورة براء:
فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون * وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون (التوبة: 12)، وهم لم يعد ما أمر الله به حين وافق على غزو العراق وغزو الشام، وليس معنى ذلك أن هذا الغزو هو المثل الأعلى الذي دعا الإسلام إليه وجعل السلام غايته، وإنما معناه أن ما حدث منه هو بعض إملاء الغرائز الإنسانية في ذلك الطور من طفولة الضمير الإنساني، كما أنه بعض إملاء هذه الغرائز في عصرنا الحاضر حيث الضمير الإنساني لا يزال يتدرج إلى الصبا، فله من الصبا طيشه ونزواته.
نامعلوم صفحہ