7
وتم تجهيز هذه الجيوش للسير حين أقبل ذو الكلاع الحميري وسائر أمراء اليمن على قبائلهم من مذحج وطيء وأسد وغيرهم، هنالك ودع أبو بكر يزيد بن أبي سفيان وجيشه إلى الشام وأردفه بزمعة بن الأسود وأوصاه بما سبق أن ذكرناه.
وضاقت المدينة بالقادمين من أرجاء شبه الجزيرة، فخرج أبو بكر إلى ثنية الوداع فوجه الجيوش منها إلى الشام، وقد انضم خالد بن سعيد بن العاص إلى جيش أبي عبيدة بن الجراح مفضلا إياه على ابن عمه يزيد بن أبي سفيان؛ لأنه أسبق في الإسلام، ولأنه أمين الأمة على لسان رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وخرجت جيوش اليمن ومعها نساؤها وأبناؤها تسير مع المهاجرين والأنصار فيمتلئ بهم فضاء الصحراء، وجاء إلى المدينة بعد مسيرهم جند من اليمن ومن سائر العرب بعثهم الخليفة في إثر من تقدموهم لينضموا إلى أي الأمراء شاءوا.
وكان هرقل بفلسطين حين بلغته أنباء المسلمين ومسيرتهم لغزو بلاده، عند ذلك جمع رءوس المدن وحرضهم على قتال هؤلاء «الحفاة العراة الجياع» الذين خرجوا إلى بلادهم، وقال لهم: «وأنا شاخص عنكم وممدكم بالخيول والرجال، وقد أمرت عليكم أمراء فاسمعوا لهم وأطيعوا.» ثم إنه خرج من فلسطين إلى دمشق فإلى إنطاكية، وجعل يحرض الناس ويقول لهم مثل ما قال لأهل فلسطين، وأقام بإنطاكية يتخذ لمواجهة المسلمين عدته.
وبلغ أبو عبيدة أرض الشام مارا بوادي القرى وبالحجر، فلما دخل مآب قاومه جند من الروم لم يلبث أن شتتهم، ولما بلغ أبو عبيدة الجابية جاءته أنباء هرقل تصف تجهز الروم للقاء المسلمين بجيش لم يسمع بمثله عددا وعدة، عند ذلك كتب إلى أبي بكر يستشيره ويستمده، وكتب يزيد بن أبي سفيان كذلك يذكر أن انسحاب هرقل إلى إنطاكية آية خوفه وانزعاجه، ورضي أبو بكر عن كتاب يزيد وأجابه يشجعه، أما جوابه إلى أبي عبيدة فلم يخل من بعض اللوم، وفي الكتابين ذكر أبو بكر أنه ممد المسلمين بأضعاف ما يمد هرقل به أمراء جنده.
وكتب الخليفة إلى أهل مكة يشاورهم، فغضب عمر ورأى في استشارتهم تسوية لهم بالسابقين الأولين من المسلمين، وعتب أهل مكة على ابن الخطاب، وكان مما قاله عكرمة بن أبي جهل: «أما إنكم إن كنتم تجدون قبل اليوم في عداوتنا عقالا فلستم اليوم بأشد علي من ترك هذا الدين وعادى المسلمين منا.»
كانت العرب في هذه الأثناء تنسل من كل صوب وحدب إلى المدينة تريد أن يكون لها في غزو الشام نصيب، وجمعهم أبو بكر، وجعل عمرو بن العاص عليهم وعلى من جاء من أهل مكة، وسأل عمرو: «ألست أنا الوالي على الناس؟» وأجابه الخليفة: «أنت الوالي على من معك من ها هنا، فإن جمعتكم حرب فأميركم أبو عبيدة بن الجراح.» ولما آن لعمرو أن يسير توجه إلى عمر بن الخطاب فسأله أن يكلم أبا بكر ليجعله أميرا على المسلمين بالشام، قال عمر: «لا أكذبك، ما كنت لأكلمه في ذلك أبدا وأبو عبيدة أفضل منزلة عندنا منك.» وألح ابن العاص يقول: «إنه لا ينقص أبا عبيدة شيئا من فضله أن ألي عليه.» ولم يغير هذا الكلام من رأي ابن الخطاب، بل أجابه: «ويحك يا عمرو! إنك لتحب الإمارة، والله ما تطلب بهذه الرياسة إلا شرف الدنيا، فاتق الله يا عمرو ولا تطلب بشيء من سعيك إلا وجه الله، فاخرج إلى هذا الجيش؛ فإنك إن لم تكن أميرا هذه المرة فما أسرع ما تكون إن شاء الله أميرا ليس فوقك أحد.» ورضي عمرو وسار بجيشه إلى الشام بعد أن ودعه أبو بكر ونصح إليه.
وكتب أبو بكر إلى أبي عبيدة يستحثه على الغزو، لكن تقدم المسلمين بالشام كان بطيئا لم يغير من بطئه وصول الأمداد ثم وصول عمرو بن العاص إليهم، بل لقد ظل أبو عبيدة يكتب إلى الخليفة يذكر له: «إن الروم وأهل البلد ومن كان على دينهم من العرب قد اجتمعوا على حرب المسلمين.» ويطلب إليه رأيه، عند ذلك ضاق أبو بكر ذرعا، فرأى أن ينسي الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد ، فكتب إليه بالعراق يقول: «إذا جاءك كتابي هذا فدع العراق وخلف فيه أهله الذين قدمت عليهم وهم فيه، وامض متخففا في أهل القوة من أصحابك الذين قدموا العراق معك من اليمامة وصحبوك من الطريق وقدموا عليك من الحجاز حتى تأتي الشام فتلقى أبا عبيدة بن الجراح ومن معه من المسلمين، فإذا التقيتم فأنت أمير الجماعة والسلام عليك.»
غضب خالد حين بلغه الخبر، فقال قبل أن يقرأ كتاب الخليفة: «هذا عمل عمر، نفس علي أن يفتح الله العراق على يدي.» فلما قرأ كتاب الخليفة ورآه قد ولاه على أبي عبيدة وعلى الشام كله اطمأن وقال: «أما إذ ولاني فإن في الشام خلفا من العراق.»
نامعلوم صفحہ