ويتوسط بعضهم فيذهب إلى أن خالدا فصل من العراق في النصف من جيشه، فلما بلغ قراقر وعزم اجتياز المفازة سار خلالها في بضع مئات، وتابع سائر الجيش مسيرته بوادي سرحان حتى اتصل بجيوش المسلمين عند بصرى، وليس هذا الرأي بالمستحيل وإن اعترض عليه بأن مخافة خالد أن تستقبله جموع الروم فتحبسه عن غياث المسلمين تطعن على خالد أنه عرض القسم الأكبر من جيشه لأمر لم يرد أن يتعرض له هو ومن اختارهم للسير معه.
وأيا كان الرأي في مسيرة خالد وفي الجيش الذي صحبه من العراق فإنه أدرك المسلمين باليرموك وقام معهم لقتال الروم، ولقد صادف مجيئه أن عزز هرقل جيشه بباهان القائد القادر الذي هزم خالد بن سعيد، واغتبط الروم بباهان اغتباط المسلمين بخالد بن الوليد، وأقام الجيشان يتحين كل منهما فرصة النزال يريدها مواتية ليتم له بها النصر على عدوه.
والحق أنه كان موقفا بالغا غاية الدقة، ولم تكن كل دقته في فرق ما بين الجيشين في العدد؛ إذ كان المسلمون لا يزيدون على أربعين ألفا، في حين كان الروم أربعين ومائتي ألف؛ بل كانت دقته كذلك في تفوق عدة الروم على عدة المسلمين، لم يكن هذا التفوق مما نعهده بين الجيوش في عصرنا الحاضر، فلم يكن الروم بأعلم من العرب بأساليب الحرب؛ لكنه كان تفوقا يضاف إلى العدد فيزيده بأسا وإن لم يظهر له أثر طيلة الشهرين اللذين انقضيا منذ جمع المسلمون وجمع الروم قواتهم على اليرموك، وعلة ذلك أن المسلمين كانوا يتفوقون على الروم بقوتهم المعنوية، كانت جموع الروم خليطا من البدو المقيمين بالشام ومن جيوش هرقل التي غزت الفرس من قبل، ولم تكن بين هؤلاء وأولئك رابطة تجمعهم، ولم يكن لهم مثل أعلى يجاهدون في سبيله، أما المسلمون فكانوا جميعا من العرب، وكانوا جميعا يؤمنون بأنهم في غزوهم الروم يجاهدون في سبيل الله حق جهاده، فمن استشهد منهم فله الجنة فيها نعيم مقيم ومغفرة من الله ورضوان، ومن لم يؤت الشهادة كتب له جهاده عند الله، ثم كان له من مغانم الحرب ما يزيده حبا فيها وإقبالا عليها.
ترى لأي القوتين في هذا الموقف يكون الغلب: قوة العدد أم قوة الإيمان؟ قوة المادة أم قوة الروح؟!
وتعاقبت الأيام وانقضى أسبوع وأسبوعان وثلاثة أسابيع والجيشان في موقفهما لا تحين لأيهما فرصة النزال. كيف أطاق خالد بن الوليد هذا الموقف وما صبر قط لمثله من قبل؟ أفراعته كثرة جيوش الروم فهابها كما هابها زملاؤه؟ أم كان يدرس الموقف ويفكر في أسباب النصر؟! أم إن عوامل أخرى كان لها في نفسه من الأثر ما قعد به كل هذا الزمن عن القيام بهجوم؟ كل ما تذكره الروايات أن جيش المسلمين لم يكن موحد القيادة، وأن خالدا جاء من العراق مددا لزملائه ولم يجئ أميرا عليهم، بل لقد كان الأذان للصلاة ينادى به في كل معسكر على حدة، وكان كل أمير من أمراء الجند ينظم خطته بما يكفل عدم تراجعه، لذلك لم يستطع خالد أن يقوم بهجوم وحده، وليس في إمرته على أكثر تقدير غير تسعة الآلاف الذين جاءوا معه مع العراق، وقد أدى هذا التفرق في القيادة إلى هجمات من جانب الروم ردها المسلمون ثم قعد بهم تفرق القيادة عن القيام بمثلها.
ماذا يستطيع خالد أن يفعل في مثل هذا الموقف؟ إن أبا بكر لم يوله إمارة الجيش حين كتب إليه بالسير من العراق إلى الشام، فلو أنه طلب أن يتولاها لأوغر صدر زملائه ولأقام بالمدينة قيامة خصومة، وعلى رأسهم عمر بن الخطاب، لكن البقاء في هذا الموقف على ضفة اليرموك يزري به ويذهب عزم المسلمين، والروم ينشطون كل يوم وينظمون صفوفهم، وتدل أنباؤهم على أنهم يتجهزون لموقعة حاسمة، وقد عرف أمراء الجند من زملاء خالد هذه الأنباء، أفلا يستطيع أن يقنعهم برأيه في وحدة القيادة؟! لكنه لا يثق بأحد منهم ما يثق بنفسه، وهو إن دعا إلى أبي عبيدة أو إلى عمرو مثلا أغضب سائر الأمراء، فماذا عساه يصنع؟!
تواترت الأنباء بتجهيز الروم وحماستهم لقتال المسلمين بعد أن جاءهم باهان بعدد كبير من القسيسين أقاموا شهرا يحرضونهم وينعون لهم النصرانية إذا لم يقض على هؤلاء العرب البغاة القضاء الأخير، بل لقد ترامى إلى أمراء الجند على المسلمين أن الروم سينازلوهم في غدهم، وأن باهان صفهم للقتال صفا لم يسمع أحد من قبل بمثله، عند ذلك ريعوا واجتمعوا يتشاورون ما يصنعون.
وبدءوا الحديث عن كل أمير منهم ووجهته للقاء العدو، أما تعبئة الجيش فلم يتناولها البحث إذا كان كل أمير صاحب الرأي في صف جنوده، فلما آن لابن الوليد أن يتكلم حمد الله وأثنى عليه وقال: «إن هذا يوم من أيام الله لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي، أخلصوا جهادكم وأريدوا الله بعملكم، فهذا يوم له ما بعده، ولا تقاتلوا قوما على نظام وتعبئة وأنتم على تساند وانتشار، فإن ذلك لا يحل ولا ينبغي، وإن من وراءكم لو يعلم علمكم حال بينكم وبين هذا، فاعملوا فيما لم تؤمروا به بالذي ترون أنه الرأي من واليكم ومحبته.» أمسك الأمراء عن القول هنيهة بعد الذي سمعوا من خالد. إنه على حق؛ وآية ذلك بقاؤهم شهرين قبل مجيئه وشهرا بعده وهم لا يقدرون من أمر الروم على شيء وقد تجهز الروم فعبئوا، ترى لو أنهم ظفروا بالمسلمين وردوهم، فلمن تكون الإمارات التي وعد أبو بكر بها هؤلاء الأمراء؟ لمن تكون حمص إذا لم يدركها أبو عبيدة؟ ولمن تكون البلقاء إذا لم يقم بها يزيد؟ ولمن تكون الأردن إذا جلا عنها شرحبيل، والعربة إذا أخلاها ابن العاص؟ وإذا ظفر الروم بالمسلمين فكيف يرجع هؤلاء الأمراء إلى المدينة وقد فصلوا عنها مددا لعكرمة بعد أن أصاب خالد بن سعيد من خزي الهزيمة ما أصابه؟!
مر ذلك كله بخاطر الأمراء حين سمعوا خالدا، فقالوا له بعد هنيهة: «هات! فما الرأي؟» قال: «إن أبا بكر لم يبعثنا إلا وهو يرى أنا سنتياسر، ولو علم بالذي كان ويكون لقد صحبكم، إن الذي أنتم فيه أشد على المسلمين مما قد غشيهم، وأنفع للمشركين من أمدادهم، ولقد علمت أن الدنيا فرقت بينكم، فالله الله! فقد أفرد كل رجل منكم ببلد لا ينتقصه منه إن دان لغيره من الأمراء، ولا يزيده عليه إن دانوا له، إن تأمير بعضكم لا ينقصكم عند الله ولا عند خليفة رسول الله. هلموا! فإن هؤلاء قد تهيئوا، وإن هذا يوم له ما بعده؛ إن رددناهم إلى خندقهم اليوم لم نزل نردهم، وإن هزمونا لم نفلح بعدها. هلموا فلنتعاور الإمارة، فليكن بعضنا اليوم، والآخر غدا، والآخر بعد غد، حتى تتأمروا كلكم، ودعوني أتأمر اليوم.»
ولم يتردد القوم في إجابة خالد إلى ما طلب بعد أن سمعوا كلامه؛ وما لهم لا يؤمرونه اليوم الأول وهذه المعركة لا ريب تطول، وإن هي إلا واحدة من المعارك التي تطاولت ثلاثة أشهر، والتي توشك أن تمتد حتى يتداول كل واحد منهم إمارة الجيش مرات! وهون عليهم ما بلغهم من تجهز الروم أن يدعوا خالدا يتلقى الصدمة الأولى؛ لأنه قد عرض نفسه لها، وما كان لأحدهم أن ينكر مقدرته عليها وهو غازي اليمامة وفاتح العراق.
نامعلوم صفحہ