واقتربت من الزورق ولكن شيئا جعلني أقف ولا أستطيع الاقتراب من الزورق، ورحت أدفع جسمي بكل قوتي ولكن بدون جدوى، والفتى في الزورق يجدف وكأن شيئا لا يحدث، والفتى في البحر يغرق ويصرخ من حين إلى آخر ولكن بلا جدوى هو الآخر. - أنا لا أستطيع فعلا أن أقترب منه ولكنك أنت فيه، فلماذا لا تنزل به إلى البحر؟ - لقد أجبتك. - حاول. - لا أستطيع. - ويغرق هؤلاء جميعا؟ - أنا أفعل كل ما أستطيع. - أنت تجدف في الرمال. - هذا هو كل ما أستطيع أن أصنعه. - سأصرخ. - اصرخ. - لعل أحدا يسمعني. - سيسمعك الكثيرون ولكن أحدا لن يجيب صراخك. - لماذا، ماذا يجري للناس؟ - إن إنقاذه في يدي أنا وحدي. - فلماذا لا تنقذه؟ - أنا أفعل كل ما أستطيع. - أنت لا تفعل شيئا. - هذا هو كل ما أستطيع. - إنه في البحر وأنت على الشاطئ. - هذا قدره وقدري. - لا نتكلم عن القدر. - إنه قدره وقدري. - الجبناء وحدهم الذين يرمون أخطاءهم على القدر. - المنطق العادي يحكم أفكارك. - وأنت لك منطق؟ - إنني أستخدم منطقي هنا. - وهل منطقك يجعلك تملك الزورق ولا تنقذ به أحدا؟ - لأن هذا الزورق خلق للرمال فقط. - أهذا منطق؟ - منطق لا تعرفه. - منطق جديد؟ - جديد أو قديم، لا أدري، وإنما هذا هو المنطق الذي أعرفه. - ويغرق في البحر. - لعله ينقذ. - كيف؟ - إذا قدر له أن ينقذ فسوف ينقذ. - كم كنت أرجو أن أكون قادرا على إنقاذه. - وما الذي يمنعك؟ - لا أعرف السباحة، أو أنا على الأقل لا أجيدها. - فحاول. - وإذا غرقت معه؟ - تكون قد أرضيت ضميرك. - وضميرك أنت؟ - لا شأن لك بضميري، أرح أنت ضميرك.
وهممت أن أنزل إلى الماء ولكن ثقتي أنني لا أجيد السباحة ردتني ونظرت إلى الفتى يغرق، ونظرت إلى الفتى يجدف في الرمال، وأوليت الجميع ظهري وانصرفت.
حكاية رجل بخيل
نشأ كما ينشأ أمثاله جميعا من الأثرياء في الريف؛ فلم يكن ذا شأن في هذا الحين من الزمان، فكان بحسب الطفل من هؤلاء أن يختم القرآن في الكتاب، وأن يتعلم أصول الحساب وقواعده، فإن كان ذا ميل شديد للدراسة أرسله أبوه ليكمل تعليمه في القاهرة، فإن لم يكن فهو مقيم بجانب أبيه في القرية يعين أباه في شئون الحقل، ويصبح من أعيان قريته، فإن كان صاحب عقلية راجحة وكلام منمق، وإذا كان كريما يحسن استقبال الناس ولقاءهم أصبح من أعيان المركز، فإن كان واسع الثراء صاحب شخصية يمكن أن تكون مرموقة أصبح من أعيان المديرية أو من أعيان البلاد جميعا إذا رشح نفسه في مجلس شورى القوانين الذي أصبح بعد ذلك مجلس النواب أو مجلس الشيوخ.
وهكذا اكتفى عبد القادر فهمي بأن يختم القرآن في قريته الهدارة من أعمال مديرية بني سويف بالصعيد، كما تعلم قواعد المحاسبات على يد ميخائيل أفندي شفيق كاتب دائرة والده.
وكان عبد القادر يجد في مكتبة أبيه بعض الكتب القديمة فقرأها أبناء القرية المتعلم منهم وغير المتعلم فأصبح يحسن الإنصات.
وقد اعتمد عليه أبوه في أعمال الحقل والمحاسبة؛ فكان يقوم بعمله خير قيام، فعلى الرغم من سعة الأرض وكثرة المحاسبات كان عبد القادر على علم بكل خافية من شئون الفدادين التي تبلغ ألفي فدان، وما لبث أن أصبح هو وحده القائم بأمر الأرض، وكان أبوه يكتفي بأن يأخذ الريع آخر العام، وكان أبوه يعطيه راتبا شهريا خمسين جنيها. ولم تمر إلا سنوات أربع حتى فوجئ الأب بابنه يشتري مائة فدان. - من أين دفعت الثمن؟ - من مرتبي. - ألا تصرف منه شيئا؟ - ولماذا أصرف؟ - ألا تحتاج إلى شيء؟ - الأكل في البيت. - والملبس؟ - تشتريه أنت في كل عام. - ولكن مرتبك لا يكفي لشراء الأرض؟ - لقد اتفقت مع البائع على أن أسدد له خمسين جنيها كل شهر. - وأنت؟ - إن سألتك شيئا لا تعطه.
ولم يعرف الأب إن كان يفرح بابنه هذا المدبر أم يحزن، ولكنه تركه وشأنه وإن كان قد أزمع في نفسه أن يعجل بزواجه؛ فقد حزر أنه لو تركه دون زواج ما تزوج أبدا، وخشي فهمي بك عبد المتعال أن تنقطع ذريته لتدبير ابنه، ولا يحب أن يقول لنفسه نتيجة لبخل ابنه. - أريد أن أزوجك. - كم سيكلفك الزواج؟ - ليكلف ما يكلف. - أعطني تكاليف الزواج، ولا تشغل أنت نفسك. - هذا ما أخشاه، إنك ابني الوحيد فلو تركتك وشأنك ما تزوجت أبدا. - أنت مصمم إذن؟ - كل التصميم. - أمرك.
واختار الأب العروس فتاة من أسرة عريقة بالصعيد لابنه وخطبها دون أن يراها هو أو ابنه؛ فقد كانوا في ذلك الحين يتزوجون من الأسرة العريقة، ولا يهم أن تكون الزوجة جميلة أو غير جميلة. أما عبد القادر فقد ارتاح للزواج حين علم أن أبا زوجته يملك ألفي فدان وليس للعروس إلا أخ واحد، ولم يكن محتاجا لعلمه الواسع بالمواريث ليعرف أنها سترث عن أبيها إن آجلا أو عاجلا ما يقرب من السبعمائة فدان فقد كانت أمها متوفية. إلى جانب بيت فخم بالقاهرة. وعد الأب أن يكون من نصيب الابنة لأنه أعد لأخيها قصرا آخر بالقاهرة أيضا. وتزوج عبد القادر وعاش هو وزوجته نفيسة في بيت أبيه، وكانا يذهبان أحيانا إلى بيت أبيها بالقاهرة، وكان الأب يعرف تدبير ابنه فكان هو الذي يعد لسفرهما إذا سافرا، وكان الأب يعطي لنفيسة مبلغا من المال لتشتري به ما تشاء من القاهرة خوفا من تدبير ابنه الذي لا يحب أن يسميه بخلا، إذا هو أعطاه المال دون زوجته.
وحتى ذلك الحين لم تكن مواهب عبد القادر قد تكشفت؛ فأبوه هو الذي ينفق عليه وعلى زوجته، ولكن نفيسة لاحظت على زوجها عدم عنايته بملبسه؛ فكانت هي التي تعتني بها، كما لاحظت أنه لا يعتني بنظافة جسمه، فكانت تصر أن تفرض عليه النظافة فرضا ويخضع هو صاغرا؛ فقد كان ذهنه جميعا منصرفا إلى القيام بشأن الأرض وتدبير مبالغ لشراء أرض أخرى.
نامعلوم صفحہ