المقدمة
تمهيد
مذهب الشيوعية
صاحب المذهب
أتباع المذهب
بواعث الشكاية
المذهب
المادية
الشيوعية والطبقات
الطبقات والإنتاج
القيمة الفائضة
حقوق الفرد
الشيوعية والآداب والفنون
الأخلاق
الآداب والفنون والمعارف والعلوم
الأوطان والديانات
الشيوعية والإسلام
الإسلام والشيوعية
محصول الدعوة
الحاضر
المصير
المقدمة
تمهيد
مذهب الشيوعية
صاحب المذهب
أتباع المذهب
بواعث الشكاية
المذهب
المادية
الشيوعية والطبقات
الطبقات والإنتاج
القيمة الفائضة
حقوق الفرد
الشيوعية والآداب والفنون
الأخلاق
الآداب والفنون والمعارف والعلوم
الأوطان والديانات
الشيوعية والإسلام
الإسلام والشيوعية
محصول الدعوة
الحاضر
المصير
الشيوعية والإنسانية في شريعة الإسلام
الشيوعية والإنسانية في شريعة الإسلام
تأليف
عباس محمود العقاد
المقدمة
تصدر الطبعة الثانية من هذا الكتاب بعد صدور طبعته الأولى بنحو ست سنوات.
وليست السنوات الست بالمدة القصيرة بحساب الحوادث العالمية والتجارب الكبرى في تاريخنا الحديث، وإن تكن قصيرة بحساب السنين، أو بحساب الزمن الذي انقضى بعد إعلان الفلسفة المادية التاريخية في منتصف القرن التاسع عشر.
بل ربما كانت السنوات الست في تاريخ الإنسانية الحديث أحفل بنتائج التجربة العملية من السنين التي نيفت على المائة منذ إعلان الفلسفة المادية؛ لأن تجربة السنوات الست الأخيرة أتت بعد نضج العهد الصناعي الأكبر، الذي جعله أئمة المذهب الماركسي أساسا لمبادئ مذهبهم ودعامة للنبوءات المحتومة التي تترتب عليه؛ ولأن الحوادث التي ارتبطت بتجربة المذهب المادي التاريخي في الزمن الأخير كانت على نطاقها العالمي الواسع أوفر عددا وأكثر تنويعا وأصح دلالة من جميع التجارب الصغيرة التي مرت بالمذهب من منتصف القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين.
وعندنا اليوم من دلائل الاتجاه إلى مصير المذهب في المستقبل تجارب القرن الماضي وتجارب السنوات الأخيرة، وكلتاهما قاطعة في الدلالة على ابتعاد العالم في اتجاهه المستمر عن مبادئ المذهب المادي للتاريخ، ولكن المرحلة الأخيرة - مرحلة السنوات القلائل منذ منتصف القرن العشرين - تشير إلى مسافة أوسع كثيرا في الاتجاه البعيد عن المذهب، سواء نظرنا إلى تطبيقاته المتعددة، أو نظرنا إلى نبوءاته التي هي أهم من التطبيقات في امتحان الأسس والدعائم التي قام عليها.
فالثابت اليوم أن المذهب الماركسي يحتاج إلى تعديل كبير في مبادئه الأساسية قبل وضعه في مواضع التنفيذ، وأنه - مع التعديل الكثير قبل الشروع فيه - لا يزال محتاجا إلى التعديل بعد التعديل في أثناء تطبيقه، ولا يزال كل تعديل من هذه التعديلات الكثيرة يبتعد به مسافة بعد مسافة في الطريق المخالف لطريقه، فلم يبق من الماركسية بعد هذه التعديلات غير أنواع من الاشتراكية الديموقراطية تناقض الماركسية في جوهرها؛ لأن الاشتراكية الديموقراطية بأنواعها جميعا تقوم على تضامن الأمة بحذافيرها، ولا تقوم على انفراد الطبقة التي يسميها الماركسيون «بالبرولتارية» ولا يشركون معها طبقة أخرى.
أما النبوءات المحتومة فقد كذبت جميعا، وظهر على الدوام أن نتائج السنين بعد السنين تذهب فيها من النقيض إلى النقيض.
فمن نبوءات الماركسية المحتومة أن البلاد التي تسودها الصناعة الكبرى هي أصلح البلاد لسيادة الماركسية فيها، فإذا بالنتيجة الواقعة في كل مكان أن الماركسية أفشل ما تكون في تلك البلاد، وأن هذه الماركسية تسود بمقدار خلو البلاد من الصناعة الكبرى، لا بمقدار غلبة الصناعة الكبرى عليها، ثم تتغير بها التجربة العملية لا محالة بعد بضع سنوات، فتتقدم إلى الاشتراكية الديمقراطية وتبتعد عن الشيوعية الماركسية بانتظام واطراد.
ومن نبوءات الماركسية المحتومة أن الثروة تنحصر شيئا فشيئا حتى تجتمع كلها في أيدي قليل من أصحاب رءوس الأموال، وتتجرد الأمم فيما عدا هذه الطائفة القليلة من كل شيء غير القيود والأغلال.
فإذا بالواقع المطرد أن رءوس الأموال تتوزع بين حملة الأسهم من أصحاب الموارد الصغيرة أو المتوسطة أو الكبيرة بالمئات والألوف، وأن السلطان في تدبير الأموال يتوزع كذلك بين أصحاب رءوس الأموال وبين خبراء الصناعة وخبراء الإدارة وخبراء التسويق والترويج والإعلان، فلا انحصار على اطراد، بل توزيع وتنويع في الكفاية والصنعة على اطراد.
ومن نبوءات الماركسية المحتومة أن العامل المنفرد ينعدم بعد استقرار الصناعة الكبرى، فلا يتسع له مجال الرزق ولا مجال الحياة، فإذا بالعمال المنفردين يزدادون إلى جوار كل أداة صناعية من الأدوات الضخام، وإذا بالعمال المنفردين يصبحون طوائف وأنواعا في كل حرفة من الحرف، بحسب الاختلاف والتنويع في المكنات والأدوات، واختلافهم وهم مجتمعون في داخل المصنع كاختلافهم وهم منفردون متفرقون للاشتغال بصناعاتهم في البيوت والأسواق. •••
وقد صار بطلان هذه النبوءات أقوى الدلائل على بطلان الأسس التي قامت عليها، وهي تلك الأسس التي أفرط دعاة المذهب في وصفها بصفات التحقيق العلمي، وهي أبعد ما تكون من التحقيق.
ولو كانت النبوءات مما يبدو قبل مضي الزمن المقدور لها لسقطت الصفة العلمية عن هذا المذهب ولم ير فيه أحد من المحققين محلا للدراسة الجدية والمناقشة المنطقية، ولكن العلماء أعطوا هذا المذهب المتداعي فوق حقه من العناية؛ لأنهم قد اضطروا إلى انتظار النتيجة من تحقيقاته العملية بعد حين؛ ولأنهم من جهة أخرى قد تناولوه بالبحث العلمي عند ظهوره مجاراة لنزعة العصر في القرن التاسع عشر، وقد كان كل شيء فيه أهلا للدراسة العلمية، بعد أن حل العلماء محل الكهان في «تطويب» الآراء والدعوات.
على أنهم قد أسرفوا في العناية الجدية بهذا المذهب، وهو يحمل أدلة البطلان على وجهه بغير حاجة إلى التعمق الكثير وراء العناوين.
فإن الدعوى المجردة من السند هي صبغة هذا المذهب التي لا تخفى على ناظر إليه من النظرة الأولى؛ لأنه يطلب التسليم بالدعوى من التعريف، ثم يجعل التعريف حلا للقضية قبل ثبوته، وقبل ثبوت القضية من باب أولى.
فهو يقرر - مثلا - أن الإنسان حيوان منتج، ويعتبر هذا التعريف حقيقة مفروغا منها، ثم يثبت باستناده إليه أن الإنتاج هو قوام كل شيء في المجتمعات الإنسانية.
ولكن المسألة كلها لا تبتدئ بالإنتاج، بل لا بد قبلها من صفات أخرى في الإنسان قبل الوصول إلى هذه الصفة، وتلك هي؛ أولا: امتيازه بمطالب أخرى غير مطالب الحيوان، وهي ثانيا: قدرته على تدبير هذه المطالب بالإنتاج، وهي ثالثا: إنتاجه لما أراده حسب مطالبه وكفاياته، ثم يأتي الإنتاج بعد ذلك كله محكوما بمقدماته، وليس هو الحاكم لها على الجملة أو على التفصيل.
والماركسيون يقررون أن المادة مبنية على التناقض، ويعتبرون تعريفها بذلك حلا لقضية التناقض، وهو المشكلة التي تحتاج إلى الحل ، وليس هو التعريف والحل في آن.
ويقررون أن الطبقة هي الجماعة من الناس التي تخالف مصالحها مصالح سائر الطبقات، ثم يجعلون تنازع الطبقات سببا لأطوار التاريخ، ويطلبون التسليم بهذا التطور بعد اشتراط النزاع من الكلمة الأولى في التعريف.
ولقد ضلوا السبيل عن أقرب الطبقات إلى الطبقة البرجوازية، وهي طبقة الإقطاعيين، واسمها باللغات الأجنبية معناه طبقة المتنازعين
Feudal ، فكيف يصبح الإقطاعي الذي يحارب الإقطاعي مثله حرب المستميت عضوا في طبقة واحدة؟! وكيف يصبح التابعون للإقطاعي أعداء له، وهم يحاربون في صفه من كان تابعا للإقطاعيين الآخرين؟!
وهكذا يقوم المذهب كله على تعريفات سابقة لكل بحث وكل تحقيق، وما كان لأمثال هذه الدعاوى من حق في المناقشة الجدية - باسم العلم لولا نزعة العصر كله أيام المناداة بها، ولولا أن النبوءات الباطلة التي قامت على تلك الدعاوى كانت لا تزال في انتظار التجربة الواقعية، التي لا ننتظرها نحن أبناء العصر الحاضر؛ لأننا نلمس أنقاضها باليدين.
وكل ما بقي اليوم من الماركسية فهو هذه المذاهب الاشتراكية «للديموقراطية» التي قامت في أرجاء العالم على غير أساس من دعاوى الماركسيين، وقد تعاد طبعة هذا الكتاب مرة أخرى وهو من قبيل الكلام التاريخي المحفوظ بغير حاجة من وقائع الزمان إلى برهان عليه؛ لأن الواقع الملموس باليدين سوف يغني عن ذلك البرهان.
تمهيد
قبل منتصف القرن الماضي نشر «كارل ماركس» مذهبه الفلسفي الذي سماه بالتفسير المادي للتاريخ، وبنى عليه مذهبه الاقتصادي الذي سماه «الاشتراكية العلمية» تمييزا له من المذاهب الاشتراكية السابقة، وهي عنده اشتراكيات أحلام أو اشتراكيات «طوبى» لا تقوم على غير الأمل والخيال.
ولم تكن هذه «الاشتراكية العلمية» أقل نبوءات من المذاهب التي كان ينعى عليها أنها تجافي العلم وتنتكب طريق الواقع؛ لأن الاشتراكية العلمية التي آمن بها «كارل ماركس» قد تطوحت في نبوءات لا تنتهي إلى آخر الزمان، وادعت لنفسها أنها تفسر أسرار الكون وأسرار المادة في جميع ظواهرها، وأنها ترسم للتاريخ المقبل خطاه التي لا يحيد عنها ولا يزال مطردا عليها إلى غير نهاية، وهي نهاية أبعد في مجاهل الغيب من النهايات التي قدرتها الأديان الغابرة ببضعة آلاف من السنين؛ لأنها توغل في الآباد المقبلة إلى ملايين السنين، وتدعي باسم العلم - لا باسم الخرافة - أن الغيب المجهول لن يأتي بشيء في حياة الإنسان غير الذي رسمه «كارل ماركس» وفرغ منه قبل منتصف القرن التاسع عشر، وقبل أن يتقدم العلم نفسه وراء خطواته الأولى في العصر الحديث.
ولم تكن المسألة عند «كارل ماركس» مسألة تقديرات نظرية لا يترتب عليها شيء من العواقب غير تبديل نظرية بأخرى أو تنقيحها برأي يخالفها، ولكنها كانت مسألة أرواح ودماء وشعوب وأنظمة واجتراء على الماضي كله بالهدم والانتفاض، إيمانا بتلك النظرية التي لا تقبل الشك، ولا يستكثر على تحقيقها إهدار الدماء كالأنهار ولا تقويض المعالم الباقية كأنها من جهود عدو للإنسان، وليست من جهود الإنسان في جميع الأزمان.
وكان ينبغي للإيمان بتلك النظرية أن تقوم على أسس واضحة مقررة ثبتت في عقل صاحبها وفي سائر العقول ثبوتا لا شبهة عليه ولا مثنوية فيه، ولكنها في الواقع لم تثبت في ذهنه بتفصيلاتها ولم يفرغ من دراستها في حينها، وأرجأ التوسع في شرحها إلى الجزء الأخير من كتابه، ثم مات قبل أن يفرغ من ذلك الكتاب.
وعد «كارل ماركس» بإشباع القول في مسألة الطبقات، ومسألة القيمة «الفائضة» من كسب العمل، ومسألة التطور بين عصر الانتقال، وعصر المجتمع ذي الطبقة الواحدة، وكل هذه المسائل من صميم القواعد التي يقوم عليها مذهبه العلمي كما يسميه، ولكنه مات ولما يبين للناس حقيقة الطبقة الاجتماعية، ولا معنى القيمة الفائضة، ولا نظام الحكم بعد انتقاله إلى أيدي الطبقة العاملة، ولا الوسيلة التي يتم بها هذا الانتقال.
وعلى ضخامة الدعوى التي يدعيها «كارل ماركس» في نبوءاته الأبدية، تكشفت الحقائق في حياته، فإذا هي تنقض تلك النبوءات، وتدل على نقيض البقية الباقية منها، فلم يلتفت «كارل ماركس» إلى هذه النقائض البينة، أو التفت إليها ليقذفها ببعض اللعنات - غير العلمية - التي تعود أن يقذف بها كل ما يخالف تقديره وكل من يخالفه ، ومنها الرجعية والعامية والعقلية السطحية وخدمة رأس المال وخداع السواد والتعلق بالأوهام، وأشباه هذه المثالب والوصمات. •••
ولم تمض سنوات على وفاته حتى تعاظمت هذه النقائض على أتباعه، ووجدوا أنفسهم أمام تلك الضرورة التي تركها «كارل ماركس» في أوائلها، واستطاع أن يتجاهلها ويروغ من طريقها؛ لأنها لم تتعاظم في زمنه حتى تأخذ عليه جميع المنافذ والفجاج، فتذرع أتباعه بكل ذريعة غير الذرائع العلمية في تمحيص نبوءاته وتقديراته، وضعوا في أذهانهم أن «كارل ماركس» ينبغي أن يكون على صواب بأي حال، وأنه إذا تعذر إثبات صوابه بالمعنى الظاهر وجب التماس المعنى الذي يجعله مصيبا على وجه من الوجوه، وأنه إذا تعذر الفهم الصريح والتأويل الخفي معا وجب أن يبقى «منقحا»، ولو زال كل أثر من آثار الفكرة ولم يبق منها إلا التنقيح المزعوم، وخيل إلى الناس أنهم أمام طائفة من الدراويش يتبركون بخرقة من دثار ضريح مهجور، ويعنيهم أن يحتفظوا بخيط من تلك الخرقة كيفما كان، ولا يعنيهم أن يكون الدثار صالحا للكساء.
وطال الترقيع والتلفيق على أولئك الأتباع، فاضطروا إلى مواجهة الحقيقة، كما استطاعوا أن يواجهوها.
ظهر لهم أخيرا أن «كارل ماركس» غير معصوم، وقالوها كأنهم يستجمعون شجاعتهم للاجتراء على هذا التجديف المخيف، بل قالوها وهم يشتمون المنقحين؛
1
لأنهم حرفوا مبادئ «كارل ماركس» ولجئوا إلى التحريف ليحيدوا عن طريقه الذي رسمه أمام التاريخ إلى نهاية الزمان.
كان ينبغي أن يصمدوا على ذلك الطريق.
كان ينبغي أن يبقى ذلك الطريق مفتوحا دون غيره إلى نهايته القصوى، وأن يبقى «كارل ماركس» مقدسا متبوعا مرجوعا إليه في مآزق الفتنة والضلالة، وكل ما يجوز لأتباعه أن يفهموا أنه غير معصوم في الدلالة على ذلك الطريق الأبدي الذي لا طريق سواه، فمن الجائز عليه أن ينأى عن الجادة، وينحرف إلى التيه، وليس من الجائز لأتباعه أن يتخذوا من انحرافه دليلا على انحراف الطريق. •••
وقبل أربعين سنة أتيح لبعض أتباعه أن يقبضوا على زمام الثورة الروسية بعد انهيار دولة آل رومانوف. فجاءتهم هذه الثورة والمذهب الماركسي يتداعى ويتناقض بنبوءاته وتقديراته وتخريجات منقحيه ومنقحي منقحيه. وأمامهم في مفترق الطرق مسلك من مسلكين: إما أن يهملوا المذهب فيهلموا الحق الذي يبنون عليه قيادة الثورة وتأسيس الحكومة الجديدة، وإما أن يتشبثوا به لتطبيقه أو تجربة تطبيقه، ما استطاعوا التجربة والتطبيق، مع الاسترسال عند كل خطوة في التنقيح وتنقيح التنقيح، والاعتراف تارة بالقداسة وتارة بالعصمة حول دثار الضريح.
وتهيأ للتجربة الماركسية في بلاد القياصرة ما لم يتهيأ قط لمذهب من المذاهب الاجتماعية، واستباح المجربون والمطبقون والمنقحون جميعا ما لم يستبحه أشد المتهوسين تعصبا لدين من الأديان في سبيل نشر الدين والخلاص من الكافرين به أو المارقين عليه، ولم يحصر التاريخ من ضحايا الأديان منذ أيام الجهالة إلى العصر الحاضر عشر معشار الضحايا الذين ضاعوا بالملايين قتلا ونفيا وتعذيبا في سبيل النبوءات الماركسية، ولم تثبت بعد ذلك كله نبوءة من تلك النبوءات، بل ثبت بما لا يقبل الشك أنها مستحيلة على التطبيق.
ولا حاجة إلى دقائق المذهب البعيدة للحكم على نبوءات «كارل ماركس» الأبدية، ولا حاجة بالبداهة إلى الأبد كله ولا إلى بعضه - إن كان للأبد بعض مقسوم - للعلم بفساد هذه النبوءات واستحالتها على التطبيق، فإن الخطوط العريضة من نبوءات المذهب البارزة تكفي لبيان مصيرها بعد البحث الأمين والتجربة العملية، فإن قرنا واحدا كانت فيه الكفاية وفوق الكفاية لإثبات التناقض بين وجهة التاريخ ووجهة «كارل ماركس» في نبوءاته الأبدية؛ لأن بحوث القرن وتجاربه دلت على هذا التناقض الواضح وألجأت الماركسيين أنفسهم إلى التحمل الشديد في تخريج مقاصد إمامهم، أو إلى الاعتراف الصريح بخطئه وحاجته إلى التنقيح والتصحيح.
إن حرب الطبقات من دعائم المذهب الماركسي الذي لا بقاء له بغير بقائها، ومن ثم سمي المذهب بالمادية الثنائية أو المادية الحوارية على بعض التراجم اللفظية؛ لأنه يقوم على تتابع النقيضين بين الطبقة الماضية والطبقة التي تخلفها، إلى أن يحين الأوان المقدور ويأتي المجتمع الموعود الذي لا طبقات فيه.
وعلى هذا الأساس الذي لا قوام لنبوءات «كارل ماركس» بغيره، يجزم «كارل ماركس» بزوال الطبقة الوسطى من المجتمع قبل زوال رأس المال، ولا بد عنده من فناء الطبقة الوسطى بين طبقة رأس المال وطبقة العمال قبل ظهور المجتمع الذي يستولي العمال فيه على مواد الإنتاج.
على أن الإحصاءات التي سجلتها الأرقام قد أثبتت أن الطبقة الوسطى تزداد مع الزمن ولا تنقص كما جاء في النبوءات الأبدية، ولم تخرج هذه الإحصاءات من أيدي الخصوم المنكرين للمذهب من أساسه، بل جاءت من الأنصار المؤيدين الذين اضطرتهم الوقائع إلى الاعتراف بما لا يقبل الإنكار، وقد كان أول هؤلاء المؤيدين إدوارد برنشتين
2
الذي أراد بإحصائه في الحقيقة أن ينقذ المذهب من الضياع، فأثبت أن أصحاب الموارد المتوسطة يزدادون مع تقدم الصناعة الكبرى، واعتقد أن توزيع الثروة في نطاق واسع هو السبيل إلى اللامركزية التي خفيت «كارل ماركس»، وأن انقراض الطبقة الوسطى لا يحقق اللامركزية الموعودة، بل يحققها انتشار الثروة بين جميع الطبقات.
ولم يكن خطأ «كارل ماركس» في هذه المسألة الأساسية خطأ النقص في الإحصاءات التي يجهلها، ولكنه كان خطأ الهوى والتعنت أمام الواقع الذي لا يريد أن يراه؛ لأنه لا يوافق هواه، وكان كذلك خطأ القصور في الإدراك والتقدير الصحيح الميسور لمن يحسن التقدير، ولو لم تكن لديه أرقام ولا سجلات إحصاء.
كان رأس مال الصناعة في مبدأ أمره محصورا في أيدي أصحاب المصانع المعدودين، وكان صاحب المصنع الكبير واحدا أو اثنين من أسرة واحدة، أو كانوا ينتمون إلى أسرات قليلة مشتركة في رءوس الأموال.
ولكن هذه الحالة أخذت في التغير على أيام «كارل ماركس» وقبل إتمام كتابه، فظهرت الشركات المساهمة وكثر المشتركون فيها بالأسهم الكثيرة أو القليلة، وكان على «كارل ماركس» أن يفهم أن رءوس الأموال تتوسع على هذا النحو ولا تنحصر في أيد معدودة كما اعتقد أو أراد، وأن انقراض الطبقة الوسطى ليس بالأمر المحتوم على هذا التقدير، وأن اليوم الذي يشترك فيه العمال أنفسهم في رءوس الأموال غير بعيد، وأن النبوءة عن هذه النتيجة كانت على متناول يديه لو أنها توافق هواه، ولكنه أهملها ليبحث عن النبوءات التي توافق ذلك الهوى الدفين، وكله من هوى التخريب والعدوان.
ولقد كانت الثورة الروسية بعد الحرب العالمية الأولى أكبر معول ولا ريب في أساس الاشتراكية العلمية كما شرحها صاحبها ومريدوه.
كانت نبوءات «كارل ماركس» تقضي بقيام الشيوعية في البلاد التي بلغت بالصناعة الكبرى غاية أشواطها، فإذا بالشيوعية تقوم في البلاد التي لم تعرف من الصناعة الكبرى غير خطواتها الأولى، وإذا بهذه القاعدة تسري على البلاد المتأخرة فلا تقوم للشيوعية قائمة في غيرها، ولو إلى حين.
وكان من لوازم الاشتراكية المادية أو الاشتراكية العلمية أن تكون الصناعة الكبرى هي التي تخلق النظام السياسي وتمهد له بانتهاء الصناعة الكبرى إلى نهايتها، فإذا بالنظام السياسي هو الذي يخلق الصناعة الكبرى في البلاد الروسية وغيرها من البلاد التي تقتدي بثورتها.
وكان «كارل ماركس» يحكم على الصناعة كما رآها في زمانه، وكانت هذه الصناعة من البساطة بحيث تستولي عليها الأيدي العاملة وتحسن إدارتها، فإذا بالصناعة تتعقد وتتصعب وتتشعب حتى تتعذر إدارتها على غير الخبراء في علوم المكنات وعلوم الكيمياء، وعلوم الاقتصاد، وما يقترن بهذه العلوم جميعا من المعارف النفسية والمعارف السياسية أو التاريخية، وإذا بطبقة أخرى غير طبقة الأيدي العاملة تستولي على وسائل الإنتاج، وتبلغ من التحكم فيها ما لم يبلغ أصحاب رءوس الأموال.
وانتهت التجارب العملية بعد أربعين سنة، إلى وجهة مختلفة تبتعد شيئا فشيئا من الوجهة التي تحراها «كارل ماركس» ومريدوه، ومن النبوءات المحتومة التي بلغ القوم من التشبث بحروفها في دعواهم ما لم يبلغه عباد النبوءات الأقدمون.
انتهت التجارب العملية إلى إباحة الملكية الفردية على صورة من الصور، وإلى السماح بالتفاوت الكبير بين الأجور، وإلى حكومة مطلقة تدوم أربعين سنة، وتستبد بالعمال بدلا من استبداد العمال بها دون طبقة المنتجين والمديرين.
والناس اليوم ينظرون إلى الطبقة الحاكمة في بلاد القياصرة الأقدمين، فيرون أنهم أفخر وآنق في ملابسهم وشاراتهم وركائبهم من زملائهم الذين ينوبون عن بلاد رأس المال في المؤتمرات العالمية، وما من أحد يلج بالمكابرة فيزعم أن جميع الطبقات في بلاد الشيوعية تتزين بهذه الأزياء وتتحلى بهذه الشارات، وما من أحد يلج بالمكابرة، فيزعم أن سلطان أصحاب الأموال قد كان على أقواه وأعتاه يزيد على سلطان ملوك الإنتاج اليوم في البلاد الشيوعية، بل ما من أحد يلج بالمكابرة حتى يزعم أنه داناه زمنا أو يدانيه. •••
وانطوت مائة سنة على ظهور النبوءات الأبدية، وانطوت أربعون سنة على تجربتها وتطبيقها والإصرار على إثباتها أو على تخريجها وتأويلها، فلم يثبت لها حظ من التحقيق العلمي إلا أن يكون خط المناقضة والمفارقة، ولم تستقم خطوطها العريضة كما رسمها صاحبها، وحتم على المستقبل كله غاية التحتيم أن يلتزمها، ولا ينحرف عنها قيد شعرة ذات الشمال ولا ذات اليمين، وهذه نتيجة المذهب في خطوطه العريضة التي كان ينبغي أن تثبت قبل غيرها؛ لأنها هي الناحية البارزة لجميع الأنظار من المؤمنين والمطلوبين للإيمان، فأما الخطوط الدقيقة والمعلومات البعيدة، فهي من التخاذل والتشعث وقبول الرأي ونقيضه في وقت واحد، بحيث لا تصلح للاستشهاد بها على مذهب واحد كائنا ما كان.
ولو كان «كارل ماركس» ممن يرعون أمانة العلم؛ لتهيب الهجوم على تلك المجازفات باسم الحقيقة العلمية؛ لأن العلم بعد ازدهاره في العصر الحاضر لم يصل إلى الحد الذي يخوله دعوى الإحاطة الشاملة بأسرار الكون، ودعوى القدرة على تطبيق تلك الأسرار الشاملة على تاريخ الإنسان في مجاهل المستقبل البعيد إلى آخر الزمان.
فأما في عصر «كارل ماركس» فالعلم الذي كان يحبو في خطواته الأولى أحرى أن يقف دون هذا الشوط البعيد وقفة الحذر والإحجام، وتلك الإحصاءات التي يجمعها «كارل ماركس» من هنا وهناك لم يكن منها إحصاء واحد متسلسل المصادر محقق المراجع على النحو الذي يسمح بالمقارنة الصادقة، ويدعو إلى الثقة بالنتيجة القريبة فضلا عن النتائج القصوى.
بل لو كان «كارل ماركس» مخلصا لمذهبه لتردد في دعواه العلمية أشد من تردد المخالفين له من أبناء عصره.
إذ كان العلم على مذهبه مصطبغا بالصبغة البرجوازية، مسخرا لخدمة الطبقة الاجتماعية القابضة على زمام الإنتاج، فهو علم ناقص مدخول لا تستقيم النتائج منه في جميع الأحوال، ولا يستطيع «كارل ماركس» أن يزعم أن عبقريته الفردية تناولت ذلك العلم البرجوازي فصححته وخلصته من شوائبه ونفت عنه الزيف قبل زوال سلطان البرجوازية ورأس المال، فإن العبقرية الفردية عنده لا تنشئ علما مستقلا عن الظروف الاجتماعية، ومن قال بجواز ذلك فإنما يهدم التفسير الاقتصادي للتاريخ، كما شرحه «كارل ماركس» هدما ذريعا لا يبقيه على قرار.
إلا أن «كارل ماركس» لا تعنيه أمانة العلم في مذهبه ولا في مذهب غيره، ومن ضياع الوقت على غير طائل أن يناقشه المناقشون على القواعد العلمية، وهم يقذفون بالعلم والعقل إلى عرض البحر ساعة يسلمون دعواه، ويأخذون مأخذ الجد في إنكار زعمه أنه قبض على زمام القوانين المادية ماضيا وحاضرا ومستقبلا، واتجه بها إلى الوجهة التي لا تحيد عنها يوما في مجتمعات بني الإنسان ما بقي للإنسان وجود.
إن الذي يسلم هذه الدعوى يهزل ولا يجد، ويكلف العلم شططا لا يحسب من العلم في شيء.
وما بقي اليوم من أحد يسلم لهذه الدعوى صفة العلم إلا أن يكون واحدا من فريقين: الفريق الأول أتباع «كارل ماركس» الذين أسسوا برامجهم على مذهبه، وارتبطت دعايتهم في أقطار العالم بنبوءاته، وأوغلوا في الطريق التي لا رجوع عنها في أمان إلا بعد نسيان هذه الدعاية، واستعداد الأتباع والأشياع لمواجهة الواقع غير مصطدمين منه بصدمة المفاجأة.
فهؤلاء يعلمون من التجربة العملية أن مذهب «كارل ماركس» مناقض للعلم والعمل ومتعذر التطبيق والتنفيذ بحروفه أو بعد التصرف الكثير فيه، ومعاذيرهم التي يعتذرون بها لمخالفته أنهم لا يزالون في أول التجربة بين عقابيل الماضي ومقاومة الخصوم، وأن الأمر يدعو إلى قليل من المساومة والهوادة ومجاراة الظروف إلى حين، ثم إلى حين آخر بعد ذلك الحين.
أما الفريق الآخر ممن يناقشون النبوءات الماركسية أو النبوءات الأبدية مناقشة العلم المعقول، فهم أولئك الذين يضيعون العلم في سبيل السمعة العلمية، وهم أشباه الذين قيل فيهم إنهم يحكمون بالظلم ليشتهروا بالعدل، وإنهم ينصفون في تمحيص جميع الآراء ولا يتعسفون.
فإذا نظر الباحث في أقوال هؤلاء وهؤلاء علم أن الفريقين من العلم براء، وأن مذهب «كارل ماركس» إنما يبحث على أنه ظاهرة نفسية، ولا يبحث على أنه مبادئ علمية مع إنصاف العلم والعقل وإنصاف الواقع والعيان، بعد مائة سنة من ظهور المذهب، وبعد أربعين سنة من محاولة تطبيقه بكل ما يستطاع من المحاولات.
إن فهم جميع المذاهب يستلزم على الدوام فهم صاحب المذهب بلوازمه العقلية وبواعثه النفسية وخلائقه التي توحي إليه بالفكر والشعور، أو يستعان بها على أفكاره ودوافع شعوره.
وفهم «كارل ماركس» بصفة خاصة ألزم ما يكون لفهم مذهبه الذي سول له - في هذه السهولة - أن يهجم على دعوة لا تقنع بما دون هدم العالم الإنساني القائم، ولا تصغي إلى هوادة في الأمر تتقبل الإبقاء عليه بحال من الأحوال.
إن شهوة الهدم والتخريب هي التي توحي إلى صاحبها الثقة التامة العامة بتلك النبوءات الأبدية في غير هوادة ولا توسط ولا اعتدال، ولو كان الأمر على عكس ذلك وكانت الثقة العلمية هي التي توحي إلى صاحب المذهب أن يدعو إلى هدم كيان العالم لوجب أن تكون تلك الثقة قائمة على أركان من الحقائق لم يعهد لها نظير في تقريرات بني الإنسان، إذ لم يسبق لإنسان أن يدعو إلى مثل ذلك الهدم بكل ما في وسعه من لدد وإصرار.
ولو أن إنسانا أراد أن يهجم على هدم بلدة واحدة فوق أصحابها، لكان لزاما عليه أن يلتمس لهدمها أسبابا أقوى من جميع الأسباب التي سولت ل «كارل ماركس» هدم المجتمعات الإنسانية بكل ما فيها على كل من فيها من معارضيه ومخالفيه، وسولت له أن يستبيح من أجل هذه الدعوة سفك الدماء كالبحار، ومتابعة القتل والتخريب في قطر بعد قطر إلى جميع الأقطار.
وماذا لو كان في النبوءة خطأ يسير، وقد ظهر فيها الخطأ الكبير، بل ظهرت فيها الأخطاء الكبار؟ ألا يدعو ذلك إلى قليل من التردد وقليل من الهوادة في اللدد والإصرار؟ بلى، إنه ليدعو إلى التردد الكثير وإلى التحرج الكبير من عواقب ذلك التهجم على المجهول، لو لم تكن شهوة الهدم والعدوان هي مصدر الوحي الأثيم وعلة العلل في ذلك التفكير العقيم.
وهذا في الواقع هو معنى الثبوت العلمي في مذهب «كارل ماركس» إذا درسناه من وجهة الظواهر النفسية، ولم نضع الوقت عبثا في مناقشة النبوءات التي لا يقبلها العلم على وجه من الوجوه.
فكلمة «الثابت العلمي» مرادفة في مذهب «كارل ماركس» لكل ما هو لازم لإشباع شهوة التخريب والعدوان.
وكل شيء يعوق الدعوة إلى التخريب والعدوان، فهو عنده باطل ينكره العلم، وضلال تمليه الأحلام والأوهام.
وليس ثبوت القيمة الفائضة أو حرب الطبقات أو النقائض المادية؛ لأنها واقع قائم في حوادث التاريخ أو حوادث العيان. كلا، بل هي ثابتة جميعا ببرهان واحد دخيل في طبيعة «كارل ماركس»، وهو لزومها لإشباع شهوة التخريب والعدوان.
كانت ثورته على برامج النقابات في عصره أعنف الثورات، وكانت الخيانة وانتهاز الفرص أيسر التهم التي صبها على رءوس القائمين بدعوة النقابات؛ لأنهم آمنوا بإمكان الإصلاح بغير هدم العالم الإنساني كله على رءوس من فيه.
ومع هذا مضت حركة النقابات على سوائها، فحققت للعمال والصناع قبل خمسين سنة - بغير حاجة إلى سفك الدماء وتخريب العمار - إصلاحا لم تحققه الثورة الماركسية مع سلب الحرية وإهدار دماء الملايين من الأبرياء.
ولكن لا بريء في رأي «كارل ماركس» إذا حالت حياته وحياة الملايين من أمثاله دون إشباع شهوة التخريب، ولا حقيقة في العلم الماركسي لإصلاح ملموس باليدين إن لم يسفك الدماء، وينشر الخراب في المشرقين والمغربين.
وهكذا يثبت الشيء في العلم الماركسي بمقدار لزومه؛ لإشباع تلك الشهوة لا بمقدار ما يعززه من الحقائق والبراهين.
ودراسة «كارل ماركس» على ضوء الظواهر النفسية أقرب الدراسات إلى فهم مذهبه وفهم البواعث التي تمليه وتوسوس به في ضميره وضمائر المتقبلين لدعوته والمجبولين على غراره، فما من صورة «علمية» ل «كارل ماركس» تترك بعدها مجالا للشك في طبيعة المذهب الذي يدعو إليه، وما من خير يخطر على البال أنه يصدر من نفس كتلك النفس، يملؤها الحقد والسوء، وينبعث منها على عمد وعلى غير عمد فيما تعلنه وتخفيه.
ومن ثم نرى لزاما علينا أن نبدأ دراسة الماركسية بدراسة «ماركس» نفسه، كما صورته لأبناء عصره سيرة حياته المحفوظة في سجلات أتباعه ومتاحف وثائقه وذكرياته، وحسب القارئ أن يلم بهذه الصورة الواضحة؛ ليريح ذهنه من متاعب البحث في «النبوءات الأبدية» التي بشر بها نبي السوء في زمانه، ثم يريح ذهنه من الخلط والخبط في رطانة المذهب بين المادية والحوارية والنقائض الاجتماعية. وبين العمل وكسب العمل وفيض العمل وحق العمل، وسائر هذي الأغاليط التي جاء بها شيء واحد هو لزومها لتحقيق تلك النبوءات، فسيعلم القارئ بغير جهد جهيد أي لزوم لمبدأ من تلك المبادئ كلما علم لزومه لفتح الطريق إلى الغاية التي لا محيد عنها، وهي هدم العالم الإنساني على من فيه بغير إصغاء قط لشفاعة من شفاعات السلم أو التوسط في الإصلاح.
إن صورة «كارل ماركس» هي مفتاح مذهبه ومذهب الحقد والسوء في نفوس أمثاله، وها هي صورته الصادقة بملامحها الناطقة، لا ينكرها أنصاره ولا يقدرون على إنكارها، وإن كانت أحق شيء منهم بالإنكار.
مذهب الشيوعية
صاحب المذهب
سلك الماركسيون في ترجمة زعيمهم بعد وفاته مسلكين متناقضين: عدلوا من أحدهما إلى الآخر بعد شيوع ذكره واستفاضة أخباره ونشر الكثير من الوثائق المطوية عن حياته وعلاقاته بأسرته وصحبه وزملائه، مما يحتاج إلى تفسير أو توفيق بينه وبين المنزلة الرفيعة - بل المقدسة - التي أرادوا أن يرفعوه إليها على إنكارهم لكل قداسة إنسانية أو إلهية.
سلكوا في بداءة الأمر مسلك التقديس والتطويب، ثم عدلوا عنه إلى الاعتراف بالنقائص والأخطاء مع الاحتراس والمراوغة، ولم يلبثوا أن توسعوا في الاعتراف بما لا بد منه مع تطاول الزمن وتداول الأخبار عن الخفايا والأسرار، وكان اعتذارهم الذي يدورون حوله كلما صدم الناس بخفية جديدة من خفاياه: إن شخص الرجل شيء ومذهبه شيء آخر، وإن أعمال الرجل الاجتماعية بمعزل عن حياته الفردية، تطبيقا لرأي «كارل ماركس» نفسه حيث يقول: إن «الشخصية الفردية» ناقلة لا أثر لها في المجتمع ما لم يكن لها تمهيد أو مساندة من الظروف الاجتماعية.
ولم يلبثوا مرة أخرى أن توسعوا في الاعتراف بالنقائص والأخطاء عن قصد يدارونه تارة ويعلنونه تارة أخرى، إذ كانوا يشعرون بالحاجة إلى التحلل من قيود المذهب كما وضعه «كارل ماركس»، كلما تعثروا في تطبيقه وتتابعت العقبات أمامهم في كل خطوة من خطوات التنفيذ والاختيار، ولا يزالون يترخصون في تطبيق المبادئ الماركسية، ويلتمسون لذلك المعاذير من مصاعب الابتداء واستحالة الطفرة وضرورة الأناة والاعتدال في أطوار الانتقال، وينسون أنهم على طول الزمن يبتعدون من النتيجة التي يريدونها، وتتسع الشقة بينهم وبينها في كل عام وفي كل مشروع من المشروعات التي يقيمونها على قواعد المذهب كما يقولون.
ولقد كان غاية ما ينتظر من أتباع الماركسية المؤمنين بقواعدها أن ينتقلوا من التقديس والعصمة إلى نفي التقديس والعصمة وكفى.
كان حسبهم أن يصبح «النبي المرسل» غير مقدس وغير معصوم لو وجدوا في ذلك مقنعا للعقول التي تفاجأ في كل يوم بعيب من عيوب «النبي المرسل»، لا يكفي لقبوله نفي القداسة والعصمة والنزول به درجة أو درجتين دون مرتبة الكمال.
كان حسبهم هذا لولا أن عيوب الرجل تنزل به دون ذلك كثيرا في كل تقدير، فليس قصاراه أنه كامل يأتيه النقص عرضا في بعض الحالات والفلتات، بل حقيقة أنه ناقص يتحول فيه النقص إلى قوة بحكم الظروف.
من مترجميه الذين واجهتهم هذه الضرورة «أوتو روهل» صاحب كتاب «كارل ماركس: حياته وعمله» الذي ترجمه إلى اللغة الإنجليزية «إيدن» و«سيدار بول».
1
فهذا الكاتب يدين بالمذهب الماركسي ويؤمن بالتفسير الاقتصادي للتاريخ، ولكنه لا يرى مناصا من تفسير نقائص أستاذه باختلال جسده، فيقول بنص عبارته كما ننقلها من الترجمة الإنجليزية: «إنه كان نموذجيا فيما كان يعانيه من اعتلال نشاطه الروحي،
2
وكان على الدوام متقلبا مبتئسا حقودا، لا يزال في تصرفه عرضة لتأثير سوء الهضم والانتفاخ وهياج الصفراء، وكان موسوسا
3
يغلو كجميع الموسوسين في الشعور بمتاعبه الجسدية، وكما كان يعتمد في الطعام الذي لا ينتظم فيه على الاستعانة بالتوابل والأبازير والمخللات وبيض السمك المملح وما إليها، كان يستعين بأمثال ذلك في عمله وعلاقاته بغيره، ولا يخفى أن الأكل السيئ عامل سيء وزميل سيء في الوقت نفسه، فإما أن يحجم عن الأكل أو يفرط فيه، وإما أن يكسل عن العمل أو يرهق نفسه فيه بما لا يطيقه، وإما أن ينقبض عن معاشرة الناس أو يتخذ له صديقا من فلان وعلان وبدران وزيدان، هؤلاء على الدوام متطرفون لا تحتمل معداتهم ولا رءوسهم ولا أرواحهم
4
مفاجأة الاختلاف، وكذلك كان «كارل ماركس» في صباه عاجزا عن المثابرة على دراسة ترشحه لعمل يعينه على مطالب العيش. وأصبح في كهولته عاجزا عن المثابرة على جهد من الجهود العقلية يتكفل بغذاء الشخصية كلها، فلم تكن له صناعة ولا مكتب ولا شاغل منتظم ولا وسيلة من وسائل المعيشة، وما من شيء لديه إلا وهو موكول إلى المصادفة والارتجال والاضطراب، وبدلا من الانتظام في سماع المحاضرات في أثناء دراسته ليستعد بذلك للعمل المنتظم راح يحشو معدته بأخلاط التوابل الفلسفية والأدبية، وتعاورته على الدوام قلة الصبر على رياضة النفس وضعف الإحساس بالنظام ونقص القدرة على الموازنة بين المورد والمصروف، وكانت تنقضي الشهور ولا ينشط لكتابة سطر واحد، ثم يقذف بكل قواه على عمل جسيم كأعمال المردة والجبابرة، فيسلخ الليالي والأيام ملتهما بالمطالعة مكتبات كاملة، راصا من حوله أكداسا من القصاصات، مالئا بالتعليق والتدوين كراسات فوق كراسات، تاركا خلفه آكاما من الكتابة المخطوطة يبدؤها ويهملها، ولا ينتهي منها إلى نتيجة ولا محصول». •••
على هذه الصورة يتمثل «كارل ماركس» كاتب يدين بالمادية الثنائية وبالتفسير الاقتصادي للتاريخ، ثم يمضي في سرد هذه العيوب في إمام مذهبه ليقول: «إنه قد استمد من الضعف قوة، واستخرج من النقص تعويضا يغطي عليه.»
ونعتقد أن الكاتب لم يكن ليسترسل في تصوير إمامه على هذه الصورة، لو أمكنه أن يسكت عن الجانب المهم منها وهو عجزه عن العمل المنتج ونزوعه إلى هدم ما يبنيه بيديه. ولكن الكاتب لا يستطيع أن يدعي ل «كارل ماركس» حبا أشد من حب أبيه، وليس في وسعه أن يمحو الوثائق التي تحتوي فيما احتوته أقوال أبيه عنه وكتاباته إليه، ومنها رسالة يقول فيها «ماركس» الأب: «إن بعض الناس ينامون ملء عيونهم إلا أن يستدعيهم السرور إلى سهر الليل كله أو بعضه، على حين يقضي ولدي الموهوب الذكي «كارل» جملة لياليه مرهقا جسده وعقله في دراسة لا لذة فيها، معرضا عن جميع الملهيات في طلب المشكلات الغامضة؛ ليهدم غدا ما بناه اليوم، ويرى بعد ذلك كله أنه أضاع ما لديه، ولم يستفد شيئا مما لدى الناس.»
5
أما هذا الخلل الملازم ل «كارل» من مطلع حياته فله عند «أوتو روهل» تعليلات كثيرة، منها مرض الكبد المتأصل واعتلال بنيته اعتلالا ينبئ عن وهن أصيل في التركيب، ومنها انتسابه إلى الملة اليهودية في بلاد تنظر إلى هذه النسبة كأنها وصمة اجتماعية، ومنها آفة الولادة الأولى، أو ما ينتاب تربية الولد الأول من عوارض التدليل والانفراد. ويفتتح «روهل» فصله عن «ماركس» الرجل بتزكية المذهب المادي في تفسير حالة الفرد وتفسير أحوال الجماعات على السواء، فيقول مبتدئا بتقرير هذه العقيدة: «وإذا كان التفسير المادي للتاريخ كما هو في الحق أصدق تفسير لمجرى الحوادث التاريخية، فمن الواجب ألا يصدق على الجماعات التي تتولى تنفيذ تلك الحوادث وحسب، بل ينبغي أن يصدق كذلك على الأفراد الذين تتجسم فيهم ظواهرها، إلا أن تطبيق التفسير المادي للتاريخ بالنسبة للجماعات مهمة من مهام الدراسات الاجتماعية. بخلاف تطبيقه على الأفراد فإنه مهمة من مهام الدراسات النفسية.»
وخلاصة المقارنة بين حالة «كارل ماركس» وحالة البيئة التي نشأ فيها أن «كارل ماركس» الفرد لا يعنينا بمعزل عن آرائه الاجتماعية وعن الظواهر التي عملت على إخراج تلك الآراء.
وهذه هي الحيلة التي أراد الكاتب المؤمن بالمادية التاريخية أن يحتال بها على إغفال عيوب إمامه في معرض الكلام على مذهبه، ولعلها حيلة تنفع كل قائل غير القائلين بتفسير عقائد الناس وآرائهم بأحوالهم المادية ومطالبهم الجسدية، فإن الذي يعتقد أن الديانات والأخلاق والآراء إنما هي صدى المطالب الجسدية التي يحسها الناس، لن يستطيع التخلص بهذه السهولة من أثر البنية في تكوين آراء صاحبها، ولن يستطيع أن يزعم أن هذه الآراء تأتي سليمة مطهرة من نفس مريضة مختلة مطبوعة على الحقد والضغينة، وإذا استحال على الأمة في مجتمعها أن تتخلص من دواعيها الجسدية حين تدين بالدين، وحين تتعود العادات، وحين تشرع الشرائع، وحين تتذوق الجمال وتبتدع فنونه وتماثيله، فليس في مقدور الفرد أن يتخلص من نوازعه وشهواته ولا من أهوائه المتأصلة في تركيبه، وليس من المعقول أن يتساوى الرجل المطبوع على الضغينة والرجل المطبوع على سلامة الطوية في بواعث التفكير ومواجهة المسائل التي يصبغها بصبغة عقله هواه، ومن قال بذلك فهو من القائلين بالعزل بين الروح والجسد، وليس من القائلين بتغليب الجسد على كل فكرة وكل عاطفة وكل شعور. •••
ومهما يكن من جدوى هذه المعاذير، فهناك سؤال حتم يبقى على الشيوعيين أن يجيبوه، وهو: هل يعتبر «كارل ماركس» بهذه الأخلاق فردا صالحا في مجتمع من المجتمعات الإنسانية كائنا ما كان؟ وهل يكون فردا غير صالح، ويجوز مع ذلك أن يكون إماما صالحا لتأسيس المجتمعات المثالية من يومه إلى أقصى الآماد المجهولة؟
وأيا كان جوابهم على هذا السؤال الحتم، فلا شك أن هوان الأخلاق عليهم هو مرجع الفضل في تهوين الاعتراف بتلك العيوب على زعيمهم وإمامهم، وإن يكن فضلا غير مشكور.
ويشبه هذه الصورة التي رسمها «روهل» صورة أخرى رسمها زعيم من أكبر زعماء المذاهب الهدامة في عصره وهو «باكونين» زعيم «الفوضوية» الذي تلقى عنه «ماركس» أوائل دروسه في المذاهب الاجتماعية، وهو رجل له عيوبه وهناته، ولكنه من طراز في الأخلاق غير طراز «كارل ماركس». ولم يكن من خلاله المشهورة خلة الحقد وافتراء الأكاذيب على عمد لخدمة الدعاية أو شفاء الضغينة، بل كان على نقيض ذلك سريعا إلى الاعتراف بصواب غيره إذا تبين له صوابه، قريبا إلى الصفح عن خصومه الذين لا يتورعون عن اختلاق التهم عليه لتشويه سمعته والتشكيك في نياته، وقد اتهمه «ماركس» بالجاسوسية، وأحيلت هذه التهمة على لجنة من أقطاب الثوار لتحقيقها ، فثبت لهم تزوير الوثيقة التي تستند إليها، وكان «باكونين» حاضرا في جلسة التحقيق والمناقشة للدفاع عن نفسه فأخذ الورقة المزورة ولم يتشبث بإدانة مزوريها بل أحرقها بيديه، وبسط كفه للداعية الألماني «ليبكنخت» الذي كان يتولى اتهامه بالنيابة عن «ماركس»، فصافحه وختم هذه المهزلة باستئناف العمل معه والنزول عن حقه في إلصاق شبهة التزوير به وبأستاذه الموعز إليه.
يقول «باكونين» هذا عن «ماركس» وهو يعقد المقارنة بينه وبين «ماتسيني» زعيم الوطنية الإيطالية: يحب «كارل» نفسه أضعاف حبه لأصدقائه ومريديه، وما من صداقة تصمد لحظة إذا مسته لحظة في غروره وكبريائه، وأيسر من ذلك جدا أن يغفر الإساءة أو الخيانة لدعوته الفلسفية ورسالته الاجتماعية، فإنه ينظر إلى هذه الخيانة نظرته إلى علامة من علامات القصور العقلي أو علامات امتيازه على صديقه فيرى فيها نوعا من التسلية المرضية، وقد يكون هذا الصديق أحب إليه وأدنى إلى قلبه؛ لأنه يأمن أن يكون مزاحما له في رسالته أو منافسا على القمة العليا في شهرته، غير أنه لا يغتفر أبدا أصغر الإساءات إلى شخصه، ولا بد لك من أن تعبده وتتخذه وثنا تصلي بين يديه إن أردت أن تظفر بمودته، أو لا بد لك من أن تخافه وتهابه إن أردت أن يحتملك ويصبر عليك، وهواه دائما أن يحيط نفسه بالأقزام والحجاب والمتزلفين، ولا يمنع ذلك أن يحيط به بعض ذوي الأقدار.
أما على الجملة فلك أن تقول: إن أصحاب «ماركس» تندر بينهم صراحة الصداقة، وتكثر بينهم الدسائس والمناورات، وهم متفاهمون ضمنا على المكايدة والصراع والمساومة على مرضاة الغرور المتبادل بين زمرتهم، ولا موضع لشعور الصداقة حيث يعمل الغرور وتسود الأثرة، فكلهم على حذر، وكلهم متوقع للتضحية به والقضاء عليه، وليست جماعة «ماركس» إلا جماعة التزلف المشترك، وهو بينهم الموزع الأكبر للأقدار والدرجات، والمحور الأكبر كذلك للغدر والكيد والدسيسة. لا يتفتح أبدا ولا يستريح للصراحة يوما. بل يحرض أبدا على اضطهاد من يستريب فيه أو من يقوده سوء حظه إلى التقصير عن إكباره كما ينبغي له من الإكبار في نظره. ومتى بدا منه الإذن في الاضطهاد، فلا حدود للخسة واللؤم في الذريعة التي يتذرعون بها لقضاء إربه، ولما كان هو نفسه يهوديا فقد أحاط نفسه في لندن وباريس، وفي ألمانيا قبل كل شيء بنفر من اليهود الصغار على حظ متفاوت من المقدرة على الدس والنشاط والمغامرة كسائر أمثالهم، حيث كانوا بين الموظفين التجاريين وعمال المصارف والمشتغلين بالأدب والسياسة، أو هم بعبارة أخرى سماسرة في الأدب والسياسة كزملائهم السماسرة في الصفقات التجارية، قدم في المصرف والقدم الأخرى في مراكز الحركة الاجتماعية، ولهم عشيرة كبرى في ألمانيا بين أدباء الصحف الدورية، وإن هؤلاء المتأدبين من اليهود لذوو براعة في صناعة الجبن والواقعية والإيغار والمكيدة تسمعهم يقولون كأنهم يترددون: يشاع، يزعمون، لعله غير صحيح ... ثم يقذفون بأخبث التهم في الوجوه.
ومما كتبه «باكونين» عن «ماركس» إلى «هرزين»:
6 «إن «ماركس» قد خدم قضية الاشتراكية خمسا وعشرين سنة بمقدرة ونشاط وإخلاص، ولن أغفر لنفسي - لو أنها سولت لي من جراء البواعث الشخصية - أن أهدم عمله أو أغض من شأنه.»
وقد أعلن «باكونين» صواب «ماركس» في بعض المسائل الفلسفية والسياسية التي اختلفا عليها، وأن «ماركس» لا يتورع عن الانتقام من مخالفيه باختلاق التهم عليهم، وأنه لا يتورع عن الانتقام من أحد يرتفع إلى المكانة العليا في الدعوة الاجتماعية وإن لم يكن بينهما نقاش على الخطأ والصواب، وقال وهو يذكر جملة «ماركس» على «برودون»:
7
إن «ماركس» ينطوي على خليقتين ذميمتين: الغرور والغيرة، وما كان بعضه ل «برودون» إلا لأنه مشهور جدير بالشهرة، وما من مسبة يحجم عن صبها على رأسه؛ لأنه أناني يفرط في أنانيته لحد الجنون، وتسمعه يتحدث قائلا: أفكاري، آرائي، وينسى أن الأفكار والآراء ليست ملكا لأحد على التخصيص، وأن أصلح الآراء تلك التي تتمخض عنها البديهة العامة. •••
وتكاد هذه الصورة أن تبرز بجميع ملامحها للناظر العابر بعد جلسة أو جلستين مع «كارل ماركس»، كما تبرز للغرباء الذين تجمعهم به المصادفة حينا بعد حين، فليس يختص بها أولئك الأخصاء الذين طالت عشرتهم له وخبرتهم بأطواره وأعماله؛ لأنها صورة بينة تنعكس عن صفات متغلغلة متمكنة لا تخفيها المواربة، ولا تحتاج إلى إنعام النظر طويلا لإبراز طواياها.
وصفه «كارل شورز»
8
بعد التقائه في كولون سنة 1848 قال: «إنه قد استفاضت عنه شهرة واسعة بالاطلاع الغزير، ولم أكن على علم بكشوفه ونظرياته، فزادني ذلك شوقا إلى التقاط كلمات الحكمة من فم الرجل الشهير، فخاب أملي على نحو غريب، إذ كانت كلمات «ماركس» ولا شك مشبعة بالمعاني، ولكني لم أر قط في حياتي رجلا بلغ سلوكه من البغضة التي لا تطاق ما بلغ سلوك هذا الرجل، كان لا يعير التفاتة واحدة لفكرة تخالف فكرته أقل مخالفة، وكان يعامل كل من يخالفه معاملة ملؤها التحقير والازدراء، ويجيب على كل قول لا يعجبه إجابة قارضة تسخر من الغباء المطبق الذي يرمي به قائله أو تلوح له بالاتهام وسوء النية، ولا تزال لهجته في النطق بكلمة برجوازية عالقة بذهني إلى هذه الساعة، وهو سريع إلى إلصاق مسبة البرجوازية بكل من يخالفه على أسوأ ما تدل عليه من ضعة العقل والخلق.»
9
وقال «تيشو»
10
عنه مع إعجابه به وتسليمه بقدرته: «لو كان قلبه في عظمة فكره، وكان حبه في قوة حقده، لاقتحمت النار معه على الرغم من تصريحه غير مرة بهبوط منزلتي في نظره.»
لا جرم كان بهذا المسلك خليقا أن يغري بالمناقضة والمشاكسة، وكان يكفي - كما قال «شورز»: إن ينم على وجهة يختارها ليدفع بسامعيه إلى وجهة غيرها.
وعلى كثرة الذين كتبوا عنه وعن ذكرياتهم معه، لم يكن بينهم أحد يمر بهذه الخليقة دون أن يلحظها، ولو كانت من الخلائق العارضة أو الخلائق التي تظهر وتختفي بين أدوار العمر وطوارئ الأحوال، لما أنكرها منه أبوه في مقتبل عمره، كما أنكرها صديقه وصفيه وزميل حياته وشريك دعوته «فردريك إنجلز»
11
وهو أحرص الناس على سد خلته ومداراة عيوبه. ولكنها خليقة لازمته من مطلع حياته إلى خاتمة أيامه، فأبوه يكتب إليه أيام تلمذته ليقول له مكرها: «إنك - لسوء الحظ - تؤيد بسلوكك رأيي الذي كونته عنك، وأرى أنك - على ما فيك من خصال حسنة - أناني تغلب الأنانية على جميع صفاتك.»
و«إنجلز» في سنة 1863 - أي بعد أن جاوز الخامسة والأربعين يكتب إليه قائلا: «من البديه أنك سترى مما أنا فيه من الحزن، وما أنت عليه من جمود الطبع أنني لم أكن أستطيع أن أجيبك قبل هذا التاريخ. إن أصحابي جميعا - ومنهم المخالفون - قد أبدوا لي من العطف والعزاء فوق ما كنت أنتظر، أما أنت فقد لاح لك إنها فرصة لإظهار سموك بالتعالي عن الحزن، وجمود العاطفة، ليكن ما أردت، سلمنا لك ما تريد، فانعم بانتصارك.»
وإنما ثار «إنجلز» هذه الثورة النادرة؛ لأنه كتب إلى «ماركس» ينعي إليه خليلته فلم يتحرك لمصابه، ولم يزد على كلمات أسف وجيزة، تلاها على الأثر طلب المعونة وشرح الأزمات التي يعانيها، وقد كان «إنجلز» ينسى شواغله وهمومه كلما سمع عن وعكة خفيفة يشكوها طفل من أطفال «ماركس» أو تشكوها قرينته السقيمة، فلا يهدأ ولا يتوانى حتى يسعفه بما في وسعه من المعونة والمواساة.
وفي هذه المرة فقط عرف «ماركس» كيف يعتذر من خطأ يلومه عليه لائم من صحبه أو زملائه أو ذويه، فكتب إلى «إنجلز» ينحي على نفسه؛ لأنه أرسل ذلك الخطاب، ويقول إنه أدرك خطأه بعد إلقائه في البريد، وإنه كان من رثاثة الحال في داره بلا طعام، ولا دفء ولا راحة بحيث لا يملك متنفسا غير التهكم وقلة الاكتراث.
وهكذا كان الاعتذار الوحيد الذي ارتضاه «ماركس» أعرق في اللؤم من الخطأ الذي ساقه إليه؛ لأنه اعتذار الشعور بالحاجة إلى الرجل الذي كان يلتمس المعونة منه، ولم يكن اعتذار شعور بالواجب أو الوفاء. •••
والأمر الذي يستوقف النظر طويلا بعد هذه الصور المتفرقة أنها تصدر عن إجماع عام ممن لا يتفقون يوما في وصف إنسان واحد كبير أو صغير، فقد اتفق عليها من يعتقدون مذهب «كارل ماركس» ومن لا يعتقدونه ولا يعرفونه، واتفق عليها من عاشروه سنوات ومن لم يجتمعوا به غير مرة أو مرات، واتفق عليها الغرباء وأقرب الأقرباء من أصدقائه وذويه، ومن كان منهم مظنة الإجحاف لخصومة أو خلاف - كأستاذه «باكونين» - فالشبهة عليه أضعف ما تكون في هذه الأحوال؛ لأنه على رذائله الكثيرة لم يشتهر برذيلة الحقد والافتراء على عمد وروية، بل اشتهر على نقيض ذلك بالمسامحة وحب الإنصاف لأصحابه وخصومه، ولا يضيره بعد ذلك أن يكون مظنة الاشتباه بالإجحاف، لأن ما قاله عن «ماركس» يطابق في جملته رأي أبيه ورأي الخاصة الأقربين من أصدقائه ومريديه.
إلا أن الأقوال التي تتفق على الوصف لا تتفق على التعليل والتحليل؛ ف «ماركس» هكذا باتفاق عارفيه، ولكن لم كان هكذا ولم يكن على صورة أخرى؟
هنا تختلف الآراء والظنون؛ لأن المجال هنا مجال بحث وتقدير وليس مجال رؤية وتقرير، ونحن نعرض هذه التعليلات فلا نجد بينها تعليلا أقرب من تعليل «روهل» إلى الإجماع أو الفهم من والقبول، وقد تقدم أنه يرجع بعيوبه إلى أسباب شتى يلخصها في اعتلال البنية والشعور بوصمة المجتمع وانفراده برعاية أبويه؛ لأنه كان أول الأبناء.
وهذه تعليلات تنظر إلى الوقائع الصحيحة ولا تستوعبها؛ لأنها لم تلتفت إلى الجانب المهم من الوراثة وعلاماتها الواضحة في أبويه، وليست الوراثة مما يهمل في شأن إنسان من الناس حيث كان وكيف كان، ولكنها في شأن «كارل ماركس» أحق بالالتفات إليها والبحث عن الصلة بينها وبين قواعد مذهبه وغاياته؛ لأنها وثيقة الصلة بتلك القواعد والغايات.
لقد كان «كارل ماركس» ينحدر من أبوين ينتميان - كلاهما - إلى طائفة الربانيين والحاخامات اليهود، وكان أبوه فقيها دينيا، وأمه من سلالة اليهود الهولنديين الذين هاجروا إلى بلاد المجر في القرن التاسع عشر لكثرة من في هذه البلاد من اليهود وأصحاب المزارع والأموال.
جاء في كتاب «الحركات الاجتماعية الاقتصادية» لمؤلفه «هاري ليدلر»:
12 «إن أباه كان من رجال الشريعة الإسرائيليين، وإن جده كان من البرنانيين، وإن أمه تنحدر من أسرة هولندية ربانية هاجرت من هولندا في القرن السابع عشر إلى البلاد المجرية.»
وهذه الأسرة العريقة في الديانة اليهودية قد تحولت - أبا وأما - عن دينها إلى الدين المسيحي بعد ولادة «كارل» بست سنوات، ولم يتحول الأبوان معا عن عقيدة وإيمان صادق بالمسيحية، ولكنهما اتفقا على ترك الدين الذي انحدرا من سلالة فقهائه ورؤسائه تمهيدا لفرص العيش، ثم تمهيدا لفرص المستقبل أمام الابن الذي بلغ السادسة، وأرادا في هذه السن الباكرة أن يحولاه معهما عن ديانة الآباء والأجداد إلى ديانة الدولة والمجتمع الذي يعيشان فيه، وليس أنسب من سن السادسة، لتحويل طفل صغير من دين إلى دين؛ لأنه قد يتأخر عن السن المناسبة لتبديل معتقداته وشعائره، إذا بلغ سن المراهقة على دين الآباء والأجداد.
أيمكن أن تنفصل هذه الحادثة عن مذهب «كارل ماركس» في جوهره ولبابه؟ أيمكن أن تنفصل عن شعوره بالدين وشعوره بالعقيدة الروحية على اختلاف مناحيها؟
لقد أقام «كارل ماركس» مذهبه على المادية الاقتصادية، وكان قوام هذا المذهب أن الديانات والعقائد جميعا إنما هي انعكاس الضرورات الاقتصادية في المجتمع، كما تتمثل في عباداته وعاداته.
وليس في هذا المذهب شيء يناقض الواقع المحسوس الذي شب عليه في طفولته بين أبويه.
ولا تكون «المادية الاقتصادية» هنا فكرة من أفكار البحث والمنطق والدراسة العقلية وكفى، بل تكون في ضميره لاعجة من أقوى اللواعج النفسية التي تتطلب التنفس والتهدئة، وتهمة كامنة في الأعماق تحاول جهدها أن تنتفض من أعماقها وتتخذ لها نزعة من نوازع التسويغ أو نوازع التحدي والمفاخرة، حينما تفتحت لها دخائل الفكر والوجدان.
وكأنه يقول من وراء المادية الاقتصادية متسائلا متحديا: ماذا صنع أبواي؟ أتراهما صنعا شيئا يعاب عليهما أو يعاب على أحد؟ أتراهما على نقص في الأخلاق والضمير؛ لأنهما تحولا عن الدين التماسا للمنفعة الاقتصادية أو المنفعة المادية؟
كلا، إن الديانات كلها تتحرى المنفعة الاقتصادية وتنبت في منابتها، وإن المنفعة الاقتصادية في كل مجتمع هي ينبوع العقائد فيه، وينبوع كل ظاهرة روحية فيه مما يسمونه بالآداب والأخلاق والفنون، ويحسبونه من ثمرات الذوق أو الخيال أو من وحي السماوات والأرباب، وما صنعه أبواي لا يعاب عليهما ولا ينم عن نقيصة خلقية أو خيانة لعهد الروح والضمير، بل هو مفخرة لهما وآية من آيات صدق النظر والبصيرة لديهما؛ لأنهما قد نفذا إلى أصل الدين في أعمق أعماقه، فلم ينخدعا فيه كما ينخدع المؤمنون الغافلون عن أصل الدين وعن جميع الأصول.
فها هنا دلالة أقوى من دلالة الفكرة التي تتولد من البحث العلمي والأقيسة المنطقية، ها هنا «أولا» خليقة موروثة مع الطباع التي تورث عن كلا الأبوين، وها هنا بعد ذلك حاجة نفسية تلح على الوعي الباطن والوعي الظاهر معا، وتلتمس منهما قوة العزاء أو قوة التحدي والمكابرة، فلا معابة في ترك الدين طلبا للمنفعة المادية أو الاقتصادية، بل هو الظاهرة العامة التي ينبغي أن ترجع إليها جميع الديانات، وهو إلى ذلك مفخرة الأبوين بالنظر الثاقب والحدس القويم.
وليس موقف الأسرة من الدين هو كل ما نلمحه من الخلائق الموروثة وأثرها في تكوين أفكاره أو بواعث تفكيره، فإن اعتلاله كان مسبوقا بعلة مثلها في أبيه الذي مات بها قبل بلوغ الشيخوخة، وقال الأطباء عنها في محضر الوفاة: إنها داء الكباد، ولم تكن أمه أصح من أبيه كما يؤخذ من أخبارها القليلة، وكان له أخ يسمى «إدوارد» أصابه داء الهزال فمات في صباه. •••
هذه نشأة جسدية تضاف إلى نشأته النفسية أو الأخلاقية، فلا تنم على فطرة سوية ولا تهيئ الناشئ للخير والفلاح في حياته الخاصة أو العامة، ويجوز لمن يترجم سيرته أن يقدر جرائرها إذا أعوزته الشواهد والروايات بأسانيدها، غير أن الحوادث المفصلة في هذه السيرة تغني عن التقدير وتزودنا على سعة بالمعلومات الوافية عن إمام الشيوعية من طفولته الباكرة؛ لأن الدعوة إلى المذاهب الثورية ومذاهب الاشتراكية المتطرفة والمعتدلة قد انتشرت بعد عصره بسنوات معدودة، وأدركها أتباعه وتلاميذه فاحتفظوا بآثاره وبالغوا في الاحتفاظ بها، حتى جمعوا من خاصة أخباره ما قل أن يجتمع في سيرة مشهورة من رجال الدول، فضلا عن دعاة المذاهب والبرامج الاجتماعية، وكان من حظ التاريخ الصادق أن أتباعه كانوا - بحكم عقيدتهم - ممن تهون عليهم قيم الأخلاق والأدب، فلم يتحرجوا من المساوئ والعيوب كما يتحرج منها مترجمو العظماء، حين يعرضون لأخبارهم الخاصة وسقطاتهم المريبة.
ومن هذه المعلومات دون غيرها، يتراءى أمام المادية التاريخية في كل صفحة من صفحات سيرته مصدقا لتلك الخلائق التي أجمعت عليها أوصاف عارفيه، فلم يكن في عمل تولاه قط قدوة صالحة أو فردا صالحا لمجتمع من المجتمعات كائنا ما كان في حساب الماديين أو غير الماديين، فلا الناشئ الطالب في سلك الدراسية، ولا الرجل رب الأسرة، ولا الصديق أو الزميل في الدعوة الاجتماعية، ولا الداعية العامل على نشر مذهبه، ولا الإنسان الذي ينتمي إلى ملة أو وطن أو طبقة، كان في «كارل ماركس» قدوة يحمدها الماديون التاريخيون ويتمنون الإكثار منها في مجتمعهم الموعود، أو في بيئة من البيئات على اختلاف المعايير والآداب.
كان على أحسنه عندهم موضع اعتذار وتعليل، ولم يكن في أخلاقه قط موضع إكبار واقتداء.
كان الطالب «كارل ماركس» يهمل دروسه، وينقطع عن معهد الدراسة أسابيع متواصلة، ويبدل منهجا من مناهج التعليم بمنهج غيره، ثم لا ينشط للمنهج الجديد إلا ريثما يبدله، ويتعلق بآخر يهدم به ما بناه بالأمس كما قال أبوه.
وقد كان أبوه - على سنة الآباء أجمعين - يميل إلى حسن الظن، أو يلقي في روعه أنه يحسن الظن به؛ ليستبقي عنده بعض الثقة برأيه، فلا يركب رأسه على هواه إذا داخله اليأس من جانب أبيه، فكان يوحي إليه بالنصيحة من خلال النقد والثناء، ويقول له: إنه يسهر الليالي الطوال في بناء الآراء وهدمها، وينقطع من الجامعة لمتابعة هذه الآراء التي لا تطرد على وتيرة ولا تنتهي إلى طائل، وحقيقة الأمر أنه ينقطع عن الجامعة لغير ذلك السبب في كثير من الأحيان، وأنه كان يسترسل في سهراته مع غواة اللهو والعربدة، ويهجر البلدة كلها - بلدة «بون» مقر الجامعة ليذهب إلى «كولون» في جوارها، ويبتغي فيها من ملاهي السهر ما لم يكن ميسورا له تحت الرقابة الجامعية. وحدث في بعض هذه السهرات أنه سيق إلى دار الشرطة مع جماعة من السكارى لإفراطه في السكر والعربدة. وأنه سيق إلى المبارزة مرة أخرى، وتبين من تقريرات الشرطة أنه استخدم الأسلحة النارية فيها.
13
وقد جرت عادة «ماركس» في كتابته الاقتصادية أن يطلق اسم «الرعاع» على علماء الاقتصاد الذين يقنعون بالظواهر ولا ينفذون إلى بواطن الحركات الاجتماعية، كما تبدو له في دراساته التي يميزها دون غيرها باسم الدراسات العلمية. فإذا استعيرت هذه التسمية للباحثين في أطوار «الشخصيات»، فلعلها تنطبق على أولئك المترجمين الذين كتبوا سيرة «كارل ماركس»، وأرادوا أن يفسروا تقلبه بين الدراسات فأقنعتهم كلمة «القلق» أو «الجموح»، ولم يشعروا بالحاجة إلى تفسير وراء هذا التفسير الذي يصح فيه أنه من قبيل تفسير الماء بعد الجهد بالماء، لأن القلق هو التقلب، والتقلب هو القلق، بغير فارق كبير في مصطلحات القاموس أو مصطلحات العلوم النفسية، وشبيه بهؤلاء المفسرين نظراؤهم الذين يفسرون هذا القلق باختلال البنية، ولا يذهبون وراء هذا الاختلال إلى دخائل النفس لفهم بواعثها وغاياتها، وما كان اختلال البنية بصالح لتفسير عمل من الأعمال، أو توضيح ترجمة من التراجم، إلا حين ينتقل من أسماء الأمراض والأسقام إلى أسماء الأخلاق والعادات.
وظاهر أننا لا نفهم شيئا من كلمة القلق أو كلمة الاختلال، إذا أردنا أن نفسر بها تقلبه من دراسة القانون إلى دراسة الفلسفة إلى دراسة المذاهب الاقتصادية، ولكننا نفهم بواعث هذا التقلب إذا فهمنا أن شهوة الهدم والنقمة لا تجد لها منفسا تستريح إليه في دراسة القانون أو الفلسفة، وأن مبادئ القانون أو الفلسفة لا تخلق النبوءات الدامية، ولا تتصل بهياج الثورات والفتن التي تنبعث من غرائر الملايين، كما تتصل به مشكلات الاقتصاد وصراع الطبقات على الأرزاق، وضرورات المعاش، وقصارى ما ينتهي إليه الباحث في دقائق الشريعة والقانون أن يكشف منها أخطاء يدركها الفقهاء والمشرعون، ولا تتعداهم إلى جمهرة المتقاضين من سائر الطبقات، وغاية ما ينتهي إليه الباحث في دقائق الفلسفة أن يغوص إلى الأعماق ويقنع الفلاسفة أو طلاب المذاهب الفلسفية برجحان فكرة على فكرة، وصحة قياس من الأقيسة المنطقية وبطلان قياس سواه.
أما مشكلات المعاش - ولا سيما في عصر «ماركس» أو عصر الثورات - ففيها منفس واسع لشهوة النقمة والبغضاء ونعيب الهدم والخراب، وفيها وسيلة قريبة بل وسائل شتى لخطاب الغرائز والضغائن وللإنذار بالويل والثبور في أمد قريب أو بعد أمد منظور.
إن طبيعة «كارل ماركس» لم تجد ما يريحها في مذاهب القانون ولا في مذاهب الفلسفة، ولكنها سرعان ما انتقلت إلى مذاهب الاقتصاد حتى وجدت هنالك بغيتها، ولم تفهم هذه المذاهب إلا من الناحية التي تملي لها في شهوتها وتنفس بها عن ضغائنها وأحقادها، وصح عندها كل فرض ينتهي إلى العداء والبغضاء، وبطل عندها كل فرض يبعد هذه النهاية أو يشكك فيها أو يشير إلى طريق غير طريقها، فلا مقياس من العلم ولا من التجربة ولا من النظر لتلك المقدمات التي تفترق ما تفترق، ثم تلتقي عند الأمنية المشتهاة باسم التقدم والإصلاح، وإنما المقياس الذي لا يخطئ أبدا لكل فرض من فروض المادية التاريخية أنه مقدمة محتومة للعاقبة المشئومة، ومنفس واسع لشهوة النقمة والعدوان. •••
من تلك التلمذة - ولا تلمذة غيرها في نشأة «كارل ماركس» - سلمت له دعوى العلم الذي احتكره لمذهبه الاشتراكي بين جميع المذاهب الاشتراكية التي عرفت في عصره وقبل عصره، وما من مفكر اشتراكي من أولئك الواهمين أو الحالمين - أو الرعاع في رأيه - إلا كان له نصيب من العلم لا يقل عن هذا النصيب إن لم يزد عليه.
ولما حصل على لقبه العالمي الذي كان يعتز بصيغته اللاتينية، لم يحصل عليه من جامعة تعلم فيها وانتظم بين طلابها، ولم يحصل عليه بعد مناقشة في موضوعه وامتحان لبراهينه وأسانيده، ولكنه حصل عليه بالمراسلة في جامعة «جينا» الألمانية، وهي الجامعة التي كان لها نظام يسمح بقبول البحوث من المراسلين بعد سداد رسومها وإجازتهم عليها بالألقاب في غيبتهم بغير اشتراط الحضور في أيام التحصيل ولا في يوم محدود للمناقشة والامتحان.
جاء في كتاب «البروسي الأحمر»
14
بإسناده إلى المرجع الألماني السابق: «... كانت هناك جامعة جينا في دوقية فيمار الكبرى، وكانت تقاليدها أخيرا تسمح بإجازة الامتحان بالمراسلة، فلا تشترط حضور الطالب إليها، ولا يتطلب الأمر إلا أن يرسل أطروحته مع الوثائق اللازمة عن طريق البريد فترسل إليه الشهادة، وكذلك فرغ من الأطروحة وأرسلها إلى الجامعة في السادس من شهر أبريل سنة 1841 بعنوان عميد قسم الفلسفة، فوقع العميد شهادة الدكتوراه بتاريخ الخامس عشر من الشهر للدكتور كارلوس انريكوس ماركس التريفيني ...» •••
وتوفي «هنريك ماركس» رب الأسرة، وابنه الأكبر «كارل» يختتم مرحلة الدراسة الجامعية. فانتهى دور الطالب وابتدأ دور الولي المسئول عن أسرته في وقت واحد، لأنه كان - كما تقدم - أكبر الأبناء الذكور، فانتقل إليه عبء القيام على شئون الأسرة بعد أبيه.
ولا يخفى أن عاطفة الأسرة عنوان صادق لعاطفة الإنسان في الأسرة الاجتماعية أو الأسرة الإنسانية الكبرى، فلا يكون الإنسان مسلوب العاطفة مع أسرته موفور العاطفة مع غيرها من أبناء نوعه أو أبناء جلدته على التعميم. ومهما يكن من رأي الماديين في نظام الأسرة، فالأقربون على كل حال ناس كسائر الناس، إن يكن بينهم وبين غيرهم فارق في العلاقة، فهم أدنى إلى العطف المتبادل بينهم من جمهرة الغرباء.
وقد ارتبط «كارل» بعلاقات الأسرة جميعا مكفولا في رعاية أبيه وكافلا لأقربائه وذويه، فكشف عن خلتين ملحوظتين في جميع علاقاته بأسرته: غلبة الأنانية، والتقصير في الواجبات.
أرهق أباه بطلب المال وهو طالب منقطع عن الدراسة يغيب أكثر الوقت عن جامعته بل عن البلدة التي فيها الجامعة، واسترسل في هذا السرف بعد علمه بحاجة أبيه إلى المال لإنفاقه على علاجه وعلاج ابنه المريض، بعد عجزه عن الكسب واعتماده على المدخر لديه من كسب شبابه، ونبهه أبوه غير مرة إلى القصد في مطالبه والاعتدال في نفقاته فلم ينتبه، ولم يقصر عن تكرار الطلب على عادته من يوم اغترابه عن أهله، فكتب إليه آخر الأمر ضجرا من هذه اللجاجة أو هذه الأثرة التي كان يقول: إنها وصمته البادية على صفحته، وصارحه بالتأنيب الشديد قائلا: «ماذا تظن؟ أتراك تحسبنا مخلوقات من الذهب!»
ثم مات أبوه - وهو في برلين - فلم يكلف نفسه مشقة الانتقال إلى بلده - وهو رب الأسرة بعد أبيه - ليواسي أهله وأخوته الصغار، ويقوم على تدبير شئون الأسرة كلها بعد فقد عائلها، ولم يشغله في هذه المحنة العائلية شاغل يباليه غير طلب الحصة التي يستحقها من ميراثه منجمة على حسب أقساطها الميسورة أولا فأولا بعد إحصائها.
واسترسل في الطلب حتى نفد نصيبه من الميراث، فمال على نصيب أمه وإخوته، وكانت أمه ترجو أن يغنيهم بكسبه أو يكفيهم على الأقل مؤنة نفقاته، فإذا هو عالة عليها يجور بمطالبه التي لا تنتهي على رزق إخوته المفتقرين إلى السند والعائل بغير أمل في مورد جديد من موارد الكسب يعولون عليه.
وضاقت أمه ذرعا بهذه الأنانية العمياء، وهذا الكنود الشديد في ولدها الأكبر الذي كانت ترجوه لها ولبنيها الصغار بعد أبيهم، وغضبت معها أخته «صوفي» التي كانت تدلله وتعزه بين لداتها إعزاز البنات لإخوانهن الكبار، فكتبتا إليه تنذرانه بقطع المدد عنه، وقالتا له بصريح العبارة: «إنك الآن في الرابعة والعشرين فاعتمد على سعيك في كسب رزقك، ولا تنتظر بعد اليوم مددا نقتطعه لك من قوت أهلك.»
15
وكف - آخر الأمر مضطرا - عن الطلب، ولكنه لم يكف عن الاستعارة من أقربائه وأصدقائه ومنهم زوج أخته وأقارب ذلك الزوج، ومنهم قريبه العم «فيليبس» وزميله في الدعوة «إنجلز» وزميله الآخر «أنينكوف».
وكانت الاستعارة - غير المردودة - وسيلته التي لا وسيلة غيرها في معاشه ومعاش زوجته، حيث كان وحيثما انتقل بين ألمانيا وفرنسا وهولندا وإنجلترا التي كان يهجرها ليعود إليها دواليك، كلما استغلقت عليه أبواب الاستعارة فيها.
وتقبل من المعونة - بل من الإحسان - ما لا يقبله رجل ذو كرامة، فكان زملاؤه الذين يضيقون بطلباته المتلاحقة يحيلون عليه الأعمال التي تطلب منهم فيقبلها وهو لا يحسن أداءها ليحيلها على من يحسن هذا الأداء ويستولي هو على أجورها.
ففي سنة 1848 زار «دانا» مدير صحيفة نيويورك تربيون مدينة كولون، فقدمه إليه زميله «ف. فريلجراث»، ثم عاد «دانيا» بعد ثلاث سنوات إلى لندن، فالتقى ب «فريلجراث» وسأله أن يكتب إلى التربيون خلاصة التعليقات السياسية في القارة مرتين كل أسبوع. فأحاله «فريلجراث» إلى «ماركس»، وقبل «ماركس» هذه الإحالة مع جهله بالإنجليزية، وعاد فأحال العمل كله إلى صديقه «إنجلز» على كثرة شواغله وتبرعه بإعالته - أو إعارته - بما كان يومئذ في وسعه. ولم يمض غير قليل حتى تبين لهم جميعا أنه مورد ضئيل لا يكفل ل «ماركس» وأسرته معيشة الكفاف؛ لأن مدير الصحيفة كان يسقط كثيرا من الرسائل، ولا يحتسب الأجر إلا على الرسائل المنشورة، عشرين شلنا لكل رسالة تأتي بعد مراجعة المهمل والمنشور!
16
كان رب الأسرة عالة على أسرته في كهولته، كما كان عالة على أسرته في طفولته وصباه، وكان الرجل الذي يحارب التطفل الاجتماعي طفيليا في كل مجتمع أصيل أو دخيل نزل فيه.
ومما يذكر على الخصوص في سيرة رب الأسرة الذي يحارب الملكية، ويحسبها سرقة أخبث من سرقة اللصوص وقطاع الطريق، أنه رد خطيب بنته «لورا» ريثما يتحقق من صحة ميراثه، ومن كفاية هذا الميراث للتعويل عليه في طلباته، وكان هذا الخلاسي «لافارج» ابن مالك من ملاك الإقطاع في أمريكا الجنوبية، تعلم في جامعة باريس وأرسلته الجامعة إلى لندن في بعثة خاصة، فتعرف إلى «ماركس» وفتاته هناك.
17
وإذا كان الجو العاطفي في الأسرة دليلا على حظ أبيها من العطف والحنان وشعور الإخلاص بينه وبين خاصته وذويه، فقد كان «كارل ماركس» أعجز الناس عن إلهام صغاره سجية من سجايا العطف والمودة تجعل للحياة معنى غير معنى المنفعة العاجلة، والأثرة المتحكمة، وسوء الظن بكل نبيل جليل من العواطف الإنسانية، فماتت ابنته «لورا» هذه وأختها «ألينورا» منتحرتين بعد حياة مضللة على غير هدى. ولم تنتحرا من البؤس في دار أبيهما. بل أقدمتا على بخع نفسيهما بيديهما بعد مفارقة الدار، هذه مع زوجها الخلاسي وتلك مع عشيقها «أفلنج»، الذي ظهر لها بعد معاشرته أنه هجر زوجته وأخفى عنها زواجه قبل معاشرتها. وكانت «ألينورا» هذه مخطوبة للكاتب العالمي المعروف «برناردشو» فرفضته، وتعلقت بذلك الأفاق قانعة معه بعلاقة الخليلة والخليل، مؤثرة لها على علاقة الزوجة والزوج مع رجل مستقيم الخلق والسمعة.
ولقد كان انتحار أختها «لورا» لسبب أعجب من الخيبة في هواها، فاتفقت هي وزوجها على الانتحار معا فرارا من الشيخوخة التي تحرمهما متعة الشباب، وقضت الفتاتان على حياتهما في السن التي تلوذ فيها النفس الإنسانية بالعاطفة العامرة التي تجعل للحياة معنى فوق معنى اللذة ونزواتها، وتتغلب به على متاع الأنانية والأثرة العاجلة، بحثتا عن هذا المعنى إبان الحاجة إليه فلم تجداه؛ لأنهما لم تفهماه ولم تحساه في البيت الذي نشأتا فيه، ووجدتا في موضعه نظرة يائسة إلى الناس وإلى الدنيا ضللتهما في كل اختيار يرجع فيه المرء إلى هداية العاطفة الصادقة والضمير السليم.
لا جرم كان في مصطلح الأسرة كلما فارقت بنت من بناتها دار أبيها أنها نجت من محنة الجوع والضيق.
ثم تحسنت حالة «إنجلز» شريك «ماركس» في الدعوة الشيوعية؛ لأنه استقل بعمله، وتمكن من توظيف مبلغ من المال في السنة لمعيشة زميله لا يقل عن ثلاثمائة وخمسين جنيها بعد سداد ديونه وتنظيم داره، وتسوية الخلاف بينه وبين المتعاقدين معه على الأعمال المهملة والمشروعات المعطلة، وصدق فيه قول أبويه: إنه سيعيش عالة على الناس ما عاش. •••
وربما خطر على البال أن الرجل كان يهمل الأعمال التي يكسب منها ضرورات معيشته؛ لأنه يعكف على العمل في نشر دعوته وتدوين فلسفته وأداء رسالته، ويشغله هذا العمل عما عداه من تكاليف السخرة المفروضة عليه في غير ما يرتضيه!
ولكن الواقع أن العمل الذي كان يهمله إنما هو عمل الدعوة في صميمها، وأوله كتاب «رأس المال» إنجيل المادية التاريخية كما يسميه الشيوعيون، وقد مات «ماركس» وهذا الإنجيل ناقص في أهم نظرياته وألزمها لإثبات المذهب «العلمي»، وترجيحه على مذاهب الاشتراكيين الرعاع والاشتراكيين المتعلقين بالأحلام، مات «ماركس» ولما يستوف «إنجيله» بحثه الموعود في نظرية الثمن والعمل ونظرية صراع الطبقات.
كان بعض معارفه قد أشفقوا عليه، أو ملوا منه الطلب وراء الطلب بغير وفاء ولا انتهاء، فأقنعوا الناشر «لسكي» بالاتفاق معه على تدوين نظرياته الاقتصادية التي تدور عليها نظم السيادة والحكم في المجتمعات البشرية، وتسلم «ماركس» في ثمن الكتاب ألفا وخمسمائة فرنك سنة 1844، وانقضت أربع عشرة سنة ولم يظهر الكتاب، وإذا ب «كارل ماركس» يعقد مع الناشر «دنكر»
18
اتفاقا آخر على تأليف الكتاب نفسه، ولم يكن «دنكر» يعامله من قبل، ولكنه عامله في هذه الصفقة بوساطة «لاسال»؛ لأنه كان يطبع له الكتب والمنشورات.
ومضت السنون ولم ينجز «ماركس» اتفاقه مع الناشرين.
19
وكان من المنظور بعد ضمان «ماركس» لمورد رزقه من معونة «إنجلز» أن يفرغ لإتمام بحوثه واستيفاء الفصول الناقصة من كتاب رأس المال، ولكنه ما كاد يضمن المورد بلا عمل، حتى أعفى نفسه من كل مجهود وترك العمل كله ليستسلم لمكائد البطالة والفراغ. •••
وأعجب ما في دعاوى هذا الرجل دعواه على زعيم الفوضوية «باكونين» بعد أن أحس من جانبه خطر المنافسة والسبق بين زمرتهم إلى منزلة الثقة والكرامة، أثار عليه حملات التشهير، واجتهد اجتهاده في التنقيب عن جريمة يعزوها إليه، فماذا وجد؟ وجد أن «باكونين» دنس سمعة الاشتراكيين؛ لأنه اتفق مع ناشر في روسيا على ترجمة كتابه، ولم ينجز ترجمة الكتاب!
ومطلع حياته كختام حياته سواء في تسخير المذاهب للوقيعة أو للوصول، ففي مطلعه كانت تصدر في بلاد الرين صحيفة تسمى «رينش جازيت» تتطرف في دعوتها إلى الاشتراكية، فأنذرتها الحكومة بالإغلاق إذا هي لم تعدل عن خطتها، ولم تخرج منها الكاتب المسئول عن سياستها، وكان شابا من أصحاب «كارل ماركس» اسمه «روتنبرج»، فلما سئل عن رأيه في موقف الحكومة أشار بإخراج زميله، وقبل أن يتولى تحرير الصحيفة بعده، وتولى التحرير فعلا على خطة جديدة تنحي على الاشتراكية والاشتراكيين، وأعداد الصحيفة محفوظة بحملاتها إلى اليوم.
20
فالدعوة إلى المذاهب لم تكن شغلا له يشغل به جميع أوقاته، ويتحين الفرص لإنجازه وتمكين حجته وسد خلله، وإنما كان كل همه منها أن يتزعمها ويحتكر شهرتها ويحيط نفسه بحاشية من أتباعها وأذنابها، وينحي عنها كل من بزغ له نجم لامع فيها أو استطاع أن يتقدم صفوفها، ولعل أعدى أعدائه وأبغض الناس إليه من كان يخدم تلك الدعوة أو يخدم دعوة من قبيلها، فلا شكر لهؤلاء عنده ولا صداقة ولا رعاية، وكل جزائهم عنده ذم وتشهير وانتقاص واتهام، يعلم هو قبل سواه مبلغه من الصدق والثبوت. فيتعلل لهذا بسوء الفهم، ويتعلل لذاك بسوء النية، ويتعلل لغيرهما بالرياء والنفاق أو بالوهم والاختلاق، ولم يسلم من ضغينته قط أحد من هؤلاء بغير استثناء.
ف «برودون» كان عنده سخيفا مسوغا للسرقة والملكية بأسلوبه، عاجزا عن تفنيدهما بأسانيده وبراهينه، و«كارل جرون» دخيل على الحركة، مستغل لأفكارها المبتكرة في سبيل العيش والمجاملة، و«ليبكنخت» خائن لزعامته، ملفق لآرائه، منتفع باسمه على الرغم منه، و«لاسال» - صاحب الفضل عليه في التعاقد مع «دنكر» - زنجي بدم الوراثة، متهم الجدات والأمهات بالفسوق الذي تشهد به ملامح وجهه وسيماه.
وصهراه «لونجويه» و«لافارج» خالفاه ولم يتبعا خطاه، فكتب إلى «إنجلز» يلعنهما، ويقول عن الأول: إنه خليفة «برودون» وعن الثاني إنه خليفة «باكونين»، وإلى الشيطان فليذهبا معا ملعونين مدحورين!
و«باكونين» - كما تقدم - جاسوس مختلس بغير بينة، بل على نقيض البينة. ولا يكف عن الكيد له حتى يصدر الحكم عليه من لجنته بالفصل من زمرة الاشتراكيين.
كلهم هكذا بغير استثناء.
أنقول بغير استثناء؟ نعم بغير استثناء، إلا استثناء واحدا دل على خسة هذه الطبيعة المدخولة من كل خسة تشهد بها ضغائنه ومفترياته، لأن هذا الاستثناء الواحد في جميع حياته، وبين جميع أبناء عصره، هو استثناء الحاجة على الرغم وقلة الحيلة.
كان «إنجلز» دون غيره من المخلوقات البشرية، ومن العاملين على نشر الدعوة الاشتراكية قبل غيرهم، هو الاستثناء الوحيد من حملات المذمة والضغينة؛ لأنه يعول «ماركس» وينفق عليه وعلى أسرته، ويتكفل بسداد ديونه وتنظيم شئونه، فهو جريء بالذم والاتهام على جميع خلق الله حين يأمن الضرر والخسارة، ولكنه يحسن الأدب - على رغم - حين يلجئه الكسل والفضول إلى قبول الإحسان أياما وشهورا وأعواما بغير انتهاء. فلا سخافة هنا، ولا خيانة، ولا عقلية برجوازية أو رعاعية، ولكنها العصمة كلها من جميع النقائص والأخطاء، ولا يسلم من هذه الضغينة ناجح في نشر الدعوة، وإن لم يكن من الزعماء المنافسين لصاحب المذهب وإمام المادية التاريخية. ولو كان في صدر «ماركس» متسع لقبول عمل العاملين، لكان أحرى الناس أن يتقبل منهم العمل على نشر الدعوة طائفة الصناع أو «الصعاليك» المنذورين لقيادة المجتمع الحديث، وإقامة النظام الاجتماعي الخالد على الزمن إلى غير انتهاء. ولكن واحدا من هؤلاء جاوز حده واغتر بثناء الزعماء عليه، فراح حيث ذهب إلى البلاد الألمانية يحرض عمالها على الإضراب، واشتهر من ثمة بينهم باسم زعيم العمال الألمان. فحاقت به اللعنة من جراء هذا الجهد الناجح، وسيق إلى مجلس المحاكمة لسؤاله عن جنايته على شرذمة العمال الذين حرمهم الشغل والخبز بتحريضه إياهم على مطالبة أصحاب المصانع بزيادة الأجور، كأنما كان في الوسع أن يقدم العمال على الإضراب بغير مجازفة تعرض أناسا منهم للبطالة أو ترك العمل إلى حين، وكأنما قامت الشيوعية على ذريعة لتحقيق مبادئها غير هذه الذريعة في جميع دعايتها، وهي التي أنكرت الوسائل الدستورية في المطالبة بحقوق الطبقة العاملة، ووصفت من يعتمد عليها بخيانة هذه الطبقة وتضليلها عن الهدف الوحيد الذي لا محيد عنه لكل إصلاح جدير بالعناء من طلاب الإصلاح المخلصين. •••
ونعرض بشيء من التفصيل لقصته مع العامل المغضوب عليه؛ لأنها أغرب من قصصه مع «برودون» و«جرون» و«باكونين» وأشباههم من أعلام النابهين الذين يناظرونه ويناظرهم وينفس عليهم شهرتهم ورواج آرائهم، فلو كانت في هذه النفس طوية من المروءة تطيق نجاح أحد في نشر الدعوة الاشتراكية لكانت خليقة أن تطيق ذلك العامل، ولو من قبيل المثال لما يبشرون به من دولة العمال، ولكنه غشم في الطبع لا يستريح لغير النقمة والحسد، ولا يغتفر الوزر لمن يعترض لنقمته وحسده. وقد نجح العامل المغضوب عليه، فما زال به زعيم المذهب حتى ساقه إلى المحاكمة، وعومل في زمرته بغشم لا يحمدونه ولا يحمده أحد لأسوأ مجتمعات الاستغلال والاستبداد، ومن أجل استبداد هذه المجتمعات واستغلالها كانوا يثيرون الثائرة ويقيمون القيامة كما يقولون.
يسمى العامل المطرود من الزمرة الماركسية «ولهلم ويتلنج» ولا يعلم له اسم أب معروف؛ لأنه تربى في حجر غسالة ألمانية حملت به سفاحا من ضابط في جيش نابليون، لم يلبث أن هجرها وهجر الطفل فكبر بين لداته وهو يعلم أنه ابن سفاح ويمقت الجيش والجندية، وحان موعد تجنيده فهرب من الحي وتعود في مخابئه أن يطيل القراءة فيما اتفق له من الكتب والنشرات.
وكان يأوي منذ صباه إلى طرزي يتعلم منه صناعته، فجعل يعاود هذه حتى أتقن منها ما يحصل به على بعض الأجر ولا يكاد يستقل به عن أصحاب الدكاكين، وزين له الغرور في السابعة والعشرين أن يجرب صناعة التأليف فكتب رسالة عن «الإنسانية كما هي وما ينبغي أن تكون». وزج بنفسه بين أتباع «بابوف» الداعية الفرنسي الذي ثار على الثورة؛ لأنها لم تذهب إلى المدى الذي كان ينبغي أن تذهب إليه، ولم تبدأ بالمساواة الاقتصادية قناعة منها بالمساواة السياسية، وصودرت صحفه ومنشوراته، فألف جماعته السرية، وانكشف أمره بوشاية واحد من هذه الجماعة فقضى عليه بالموت بعد محاكمة طويلة (1760-1797م)، ولكنه ترك بعده شيعة أمينة لدعوته؛ لم تزل بين تبديد وتجديد حتى انتمى إليها «ويتلنج» مع طائفة من الألمان الذين هجروا بلادهم فرارا من الاضطهاد، ولجأ «ويتلنج» نفسه إلى الفرار بعد حين من فرنسا إلى سويسرا، فقضي عليه هناك بالسجن؛ لأنه كتب فيها رسالة يشبه فيها نفسه بالسيد المسيح؛ لأنه صانع فقير يبشر بالاشتراكية ولا ينتمي إلى نسب من بني الإنسان.
ثم امتزجت حركة «بابوف» بحركة الاشتراكيين والماركسيين، فانتمى «ويتلنج» إليها وألف كتابا سماه «ضمانات الوئام والحرية» قرظه «ماركس» وقال: إنه باكورة رائعة من بواكير الطبقة الألمانية العاملة، وزكاه آمنا عواقب هذه التزكية؛ لأن أحدا من الناس لم يكن ليأخذ هذه البواكير مأخذ الجد في عالم التأليف!
إلا أن «ويتلنج» لم يقصر جهوده على الكتابة التي لا خوف منها على مكانة الإمام المقدم في مذهب الاشتراكية العلمية، بل طمح «ويتلنج» بعد التأليف إلى العمل المباشر، وجمع حوله شرذمة من العمال البابوفيين والفوضويين والماركسيين يدينون له بالزعامة؛ لأنه يحسن الكلام والكتابة، وتمادى في العمل المباشر، حتى دعا إلى الإضراب والمقاطعة الصناعية تطبيقا لمبادئ «الأعمال المباشرة» في مذهب الشيوعيين، وكان في بروكسل من بلاد البلجيك يوم قرر «ماركس» دعوته إلى مجلس من مجالس الحزب العليا «للمناقشة فيما يمكن الاتفاق عليه من تنظيم حركة العمال الشيوعيين».
وعقدت هذه الجلسة «يوم 30 من شهر مارس سنة 1846» برئاسة «كارل ماركس» وحضور زميله «إنجلز» وطائفة من الثوار الموثوق بهم في المدينة من كل مهاجري الأمم الأوربية، ومنهم الشاب الروسي «أنينكوف» الذي كان يتنقل بين البلاد الأوربية، ويحمل إلى «كارل ماركس» خطاب توصية من زعماء الثورة في بلادهم، وهو الذي دون محضر هذه الجلسة، وأثبت فيه أحاديث «ويتلنج» و«ماركس» فيما دار بينهما من الحوار.
قال: كان الخياط المهيج «ويتلنج» شابا أشقر وسيما يلبس معطفا فضفاضا ويرسل لحيته لم يحفل بتهذيبها، ويخيل للناظر إليه أنه سمسار متجول، وليس بالعامل الثائر المتنمر الذي يظنه السامع بسيرته.
وبعد أن تعارف بعضنا إلى بعض عرضا، وبدا «ويتلنج» خلال هذا التعارف في مظهر متكلف من الأدب والمجاملة، جلسنا إلى مائدة خضراء صغيرة، وجلس «ماركس» على كرسي الرئاسة فيها بجمته التي تشبه لبد الأسد، منحنيا على ورقة أمامه وبين أصابعه قلم من رصاص. وكان زميله الملازم في الدعوة «إنجلز» الطويل المعتدل القامة بهيئته الإنجليزية، الوقور، هو الذي افتتح الجلسة بحديث عن ضرورة التفاهم بين طلاب الإصلاح من العمال على رأي واضح بين الآراء المتناقضة، وعلى خطة مرسومة يتخذونها علما لهم يحومون حوله، وينظر إليه أولئك الأنصار الذين لا يتاح لهم الوقت ولا القدرة على بحث المسائل النظرية باجتهادهم.
ولم ينتظر «ماركس» حتى يفرغ «إنجلز» من خطابه، بل رفع رأسه فجأة وقذف «ويتلنج» بهذا السؤال: أنبئنا يا «ويتلنج»، إنك أثرت الشغب بدعايتك بين العمال الألمان وجمعت منهم طائفة اتبعتك فخسرت من جراء ذلك أعمالها وأقواتها، فما هي حجتك التي تسوغ بها نشاطك الثوري، وبأية قاعدة تدعم ذلك النشاط؟
وتلت هذا السؤال مناقشة أليمة لم تطل على كل حال كما سنرى من هذا البيان.
وبدا أن «ويتلنج» يؤثر أن يجري المناقشة على أساس العرف الشائع من الخطابة الحرة، وابتسم بسمة الجد والقلق حين أخذ يقول : «إن مهمته لم تكن تفرض عليه أن يبتدع نظريات جديدة في علم الاقتصاد، وإنما كانت مهمته أن يتبع الخطط التي كان يلوح من الأحوال الجارية في فرنسا أنها أوفق الخطط لفتح أعين العمال على شئونهم الجائرة وعلى المساوئ التي كانوا يبتلون بها.
وأطال الكلام فأدهشني على خلاف ما توقعت، إنه لم يتكلم كما تكلم «إنجلز» في وضوح وسلاسة، بل اختلط عليه القول وطفق يكرر عباراته ويعود إلى تصحيحها ويسبق النتائج التي تنبني على حججه أو يتعجلها.»
قال «أنينكوف»: إنه كان يواجه في هذا الاجتماع جمهورا مغايرا كل المغايرة لذلك الجمهور الذي ألف مخاطبته في دكانه وقبوله لكتاباته، وكان ولا ريب وشيكا أن يسهب في القول فوق إسهابه لو لم يبادره «ماركس» بنظرة مغضبة وهو يصيح به متهكما: «إنه لمن الخداع السهل أن تثير الشعب بغير مبالاة بعمله، وإن إيقاظ الآمال الخيالية لن يفضي يوما إلى خلاص المظلومين، بل يفضي على النقيض إلى ضياعهم وخذلانهم، وإن ذهابك إلى صناع ألمانيا على غير قاعدة علمية ولا نظرية قائمة، لا معنى له إلا أنه لعب فارغ بالدعاية مجرد من محاسبة الضمير، ولا نتيجة له إلا خلق رسول داعية من جهة، واجتماع قطيع من الحمير يستمع إليه فاغر الأفواه من جهة أخرى.»
وأضاف «ماركس» إلى ذلك - وهو ينظر إلى الكاتب «أنينكوف»: «إن دور «ويتلنج» كان قمينا أن يجدي جدواه في بلاد كروسيا، ولكنه في البلاد المتمدينة كألمانيا لا جدوى منه بغير الاستناد إلى النظريات القائمة.»
واحمر وجه «ويتلنج» الأصفر وأصبح كلامه حاميا مباشرا، وقال بصوت يرتعش من الهياج: «إن الرجل الذي ينجح في جمع مئات من الرجال إلى نداء العدل والتضامن والمحبة الأخوية، لا يمكن أن يوصف بأنه رجل خاو ذو دعاية فارغة، وإنه يستطيع أن يعزي نفسه أمام الحملة التي تنصب عليه تلك اللحظة، بذكر المئات من الرسائل الشاكرة والبيانات الراضية التي تقاطرت عليه من بلاده، وإن جهوده المتواضعة في خدمة المصلحة المشتركة لأهم من التخريجات النظرية الدقيقة التي تبتعد كثيرا عن ناحية الشعب المهضوم والجماهير المظلومة.» «وثارت ثائرة» «ماركس» بعد سماع هذه الكلمات الأخيرة فضرب المائدة بقبضة يده ضربة عنيفة هزت المصباح عليها، ووثب محنقا وهو يصيح: «إن الغباء لم يسعف أحدا قط.» «واقتدينا به فنهضنا وقوفا وانتهت الجلسة بذلك.»
وقال «أنينكوف»: «إنه أسرع إلى توديع «ماركس»، وتركه حين انصرف من الحجرة وهو في هياجه يذرعها جيئة وذهوبا.»
وواضح من هذا المحضر أن العامل المغضوب عليه فوجئ بالمحاكمة وبالحكم في وقت واحد، وختمت حياته السياسية في رأي زمرته لغير مخالفة تستطيع أن تحاسبه عليها؛ لأنها لم تبسط أمامه خطة مقررة يحاسب على مخالفتها، وإنما انعقدت الجلسة للاتفاق على هذه الخطة، ودعي «ويتلنج» إليها للتفاهم على هذا الاتفاق، وقضى «ماركس» قضاءه المطلق في مصير الرجل بين جماعته حاكما بأمره، واثقا من تأييد قضائه، وكل هذا في دعوة لم يكن لها من موجب وليس لها من حجة غير إنكار الاستبداد وضمان حق الضعيف الأعزل في وجه الحاكم المستبد وصاحب المال الغشوم. •••
إن «هنريك ماركس» لم يسمع بغير القليل من هذه الفعال وهذه الأخبار حين قال عن ابنه - وفي قلبه غصة: «إن الأنانية غالبة عليه، وإنها وصمة أو لطخة على صفحة نفسه.»
هذا أقرب الناس نسبا إليه، وأقربهم إليه فكرة، زميله «إنجلز» الذي سمع الكثير من تلك الفعال وتلك الأخبار، وعرف من خلاله ما عرفه أبوه، ولكنه كاد أن يخفيه عن ضميره حتى صدمه في إبان حزنه تلك الصدمة، فلم يكتمه أنه جامد الشعور يخفي جمود شعوره بالتعالي على خلق الله.
ويأتي بعد هذين كاتب من كتاب التفسير المادي للتاريخ يعلم ما علمه الأب والزميل، وزيادة عليه مما أضافه الزمن إلى سيرة أستاذه، فلا يرميه بأقل من خلة الحقد والتقلب واختلال الإرادة.
فماذا يقول التاريخ وهو ينظر إلى الرجل بعين غير عين الأب أو عين الزميل أو عين التلميذ؟
إنه لا يستطيع أن يزوي بصره عن تلك الخلال التي تتمثل له حيثما نظر إلى علاقة من علاقاته الاجتماعية؛ لأن تلك الخلال التي تجمعها «الأنانية » الناقمة تملأ فراغ نفسه فلا تدع فيها متسعا لغيرها، ويكفي أن يكون الرجل كذلك ليكون كما كان بغير حاجة إلى سر آخر غير ذلك السر المتكشف للعيان، إنه لم يكن صالحا في علاقة من علاقاته الاجتماعية، لم يكن الطالب الصالح، ولا الابن الصالح، ولا العامل الصالح لنفسه ولأسرته، ولا الزميل الصالح في مودته أو خدمة دعوته، كان فاشلا في كل علاقة من هذه العلاقات الاجتماعية، ولم يكن منظورا منه شيء غير الفشل فيها، مع تلك الأنانية وتلك النقمة وذلك الجمود.
ولقد كان شخصا منفرا لمن حوله فيما يرجع إلى مسلكه بينه وبين نفسه، لا يقصد فيه المرء صلة بينه وبين أحد من أبناء نوعه.
كان قذرا يهمل الاغتسال والنظافة، وكان منظر القروح والثآليل التي تملأ وجهه وعينيه وما ظهر من جلده يزيد قذارة على قذارة، وكانت هذه القروح والثآليل مما يجنيه على نفسه بتهافته على الأطعمة الممنوعة على الرغم من وصايا الأطباء وإلحاحهم عليه في اجتناب الطعام الذي لا يوافق المصابين بالكبد، ولا سيما الذين أزمنت فيهم هذه الإصابة من جراء النهم وفعل الوراثة، وقد نقل «ليوبلد شوارزشيلد» صاحب كتاب البروسي الأحمر نبذة من الرسالة التي كتبها بعضهم إلى صهره عن معيشته في لندن جاء فيها «إنه شخص مشعث للغاية، سيء التصرف في أعماله، يجري في معيشته على نهج المتشردين من المشتغلين بالمطالب الفكرية، ويندر أن يستحم أو يمشط شعره ويغير ملابسه الداخلية، يشرب كثيرا ويحوم أياما على غير هدى وبغير عمل. فإذا حزبه أمر لازب قضى الليل والنهار في العمل: ولا يخطر له على بال أن ينظم ساعاته ومواعيده.»
هذه الرسالة وما في معناها من التقارير محفوظة في دار المحفوظات بمدينة ليبزج نقلها المترجم عن المجلد العاشر من أخبار الاشتراكية الألمانية.
وإذا كانت هناك تتمة لهذه الصورة المنفرة، فهي مسلكه الشاذ الذي لا نظير له في البيئة اليهودية التي نبت فيها، فإنه جمع فيه طرفي النقمة من قومه وعلى قومه في آونة واحدة، فلا هو بالمسلك الذي يرضى عنه قومه ولا هو بالمسلك الذي يرضى عنه أعداء قومه، كأنما آلى على نفسه ليكونن بغيضا منفرا حيث كان وكيف كان.
وتقدم من كلام «روهل» أن شعوره بالنسبة لليهودية كان مركبا من مركبات النقص التي يفسر بها تناقضه واختلال أحواله.
كان ولا شك يهوديا في أعمق أعماقه، وكانت زمرته التي يأوي إليها على الأكثر من شذاذ اليهود، وأصحاب الفضول منهم، كما جاء في كلام «باكونين» عنه، وكان هو يتشبه بالأسلاف والآباء اليهود كما وصفتهم كتب التلمود، فيرسل لحيته ويطلق جمته ويحب أن يتراءى للناس كأنه أب من آباء العبرانيين في أيام إسرائيل الأولى، ولكنه لا يكتب عن اليهود واليهودية إلا ليحاول أن ينفي عنه ذلك النسب اليهودي، ولا يجد أمامه سبيلا إلى التنصل منه غير سب اليهودية والإنحاء عليها، ومن كلامه في ذلك: «ما الأساس العالمي الذي تقوم عليه اليهودية؟ إنه الضرورة العملية وحب المنفعة الذاتية. وما النحلة العالمية التي تنتحلها اليهودية؟ إنها نحلة الطواف والتجوال، وما الإله العالمي لليهودية؟ إنه المال.»
ويجتهد «روهل» في استنباط البواعث النفسية وراء هذه الحملة فيعزوها إلى الرغبة في التنصل وتسويغ الخروج على الملة الموروثة، إلا أنه باعث من بواعث شتى، يفرضها المترجمون له من أنصاره وخصومه، فمنهم من يرى أن الحملة على اليهودية حيلة يسوغ بها الحملة على الأديان جميعها، ومنهم من يرى أن هذه الحملة دفع مقدم لتهمة النية المبيتة على هدم المجتمعات القائمة وتسليم زمامها لسماسرة المال بعد تقويض القيم المرعية في تلك المجتمعات من روحية أو وطنية أو عقيدة خلقية، منهم من يرى أن الحملة على اليهود من قبيل التحدي لقومه؛ لأنه يحس منهم الزراية به وبأهله وبالصابئين عن ملة الآباء والأجداد.
وكل باعث من هذه البواعث شائن معوج متناقض مع دعواه، ولا سيما الإنحاء على اليهودية؛ لأنها تقدس الضرورة العملية، وتنزع إلى الطواف والتجول، فإن هذه المذمة أعجب المثالب من رجل يقيم النظام الاجتماعي كله على الضرورات العملية، ويدمغ الوطنية - أو حب الوطن - بتهمة السخرية والتسخير من تدبير أصحاب الأموال والقابضين بأيديهم على أزمة الإنتاج.
وبأي هذه البواعث يأخذ الناظر في ترجمته لا يكون «كارل ماركس» إلا - كدأبه المعهود - مثلا سيئا لليهودي في انتسابه وانتقاضه على بيئته وعلى أصله الذي لا فكاك منه بحال من الأحوال. •••
هذه صورة تامة، وإن تكن موجزة، لإمام الاشتراكية المادية أو الاشتراكية العلمية، لم نأت على لمحة من ملامحها البينة من غير مصدرها، ولم نرجع في تلك المصادر إلى أعدائه ومخالفيه إلا أن يكون كلامهم مطابقا لكلام الأصحاب والأقربين.
ولا ندري بعدها ماذا يقول القائل في أولئك الذين يتركون الناحية الوحيدة التي ينبغي أن يتجه إليها الباحث قبل كل وجهة تصلح لمناقشة مذهبه أو مناقشة دعوة من الدعوات تنضح بها هذه الشخصية المعتلة، وما يختلف رأيان مستقيمان في طبيعة بواعثها وصبغة تفكيرها وشعورها بما ينكشف للنية وما يأتي على غير وعي أو نية مكشوفة لصاحبها.
كل ما في وسعنا أن نقوله: إن طغيان كلمة «العلم» في القرن التاسع عشر هو الذي وضع هذا المذهب في موضع الفروض العلمية، وإن طغيان كلمة «العلم» قد اقترن به شيوع الثورات التي يقودها أناس من القائلين بالتفسير المادي للتاريخ، فنسي الناقدون «العلميون» أن عناوين الثورات غير أسرارها ومضامينها، وأن كثيرا من الثورات كان شعاره خرافة يردها العقل لأول نظرة، ولا تحتمل المناقشة العلمية ممن يجد في احترام العلم والمناقشة.
ولولا طغيان كلمة «العلم» في القرن التاسع عشر وظهور الثورات المسماة بالماركسية في القرن العشرين لما كان للماركسية كلها مكان في البحث غير مكان الظواهر النفسية، فإن الظواهر النفسية كما تمثلت في «كارل ماركس» كافية كل الكفاية لتفسير مذهبه بجميع تفصيلاته وفروعه ومراميه: كل شيء فيه مقرر مؤكد على قدر نصيبه من النقمة ومن إشباع شهوة الحقد والكراهية، وكل شيء فيه مرفوض منقوض إذا أبطل تلك الشهوة أو رفع عنها نقابها ونفذ دخيلتها.
وهكذا يفسر كل مبدأ من مبادئ «كارل ماركس» وكل حجة من حججه؛ لأنها على أية حال لم تبلغ من الثبوت واليقين مبلغا يهون نقض الدعائم الإنسانية القائمة على رءوس الملايين من الضحايا ما لم يكن ذلك مبنيا على طبيعة مجبولة من الشر والنقمة، وأن أيسر شك في ثبوت تلك المبادئ لحقيق أن يدعو صاحبه إلى مراجعة النفس والأناة قبل الهجوم على كوارثه وجرائره بغير حيطة ولا تدارك مستطاع بعد فوات الأوان.
تلك هي الحقيقة السافرة على وجه المادية الماركسية.
تلك حقيقة كل ادعاء يخول رجلا واحدا أن يحيط بقوانين الكون من مبدئها إلى منتهاها، ويجزم بها الجزم الذي لا يداخله شيء من التردد الكثير أو القليل مع وخامة عقباه.
حقيقة إنه «ظاهرة نفسية» تتلخص في بضع كلمات: «شهوة النقمة، والخراب.»
وسترى أن شهوة النقمة والخراب هي التي تصغي بالأسماع إلى هذا المذهب الأثيم، كما كانت هي مصدر الصيحة بوحيه ودعوته ودعواه.
أتباع المذهب
نسبت إلى الفلسفة الشيوعية حركات ثورية كبيرة ليست منها ولم تكن نتيجة لها، فاكتسبت من نسبتها إليها شأنا غريبا أضافه الباحثون إلى شأنها في عالم التفكير، فبحثوها على هذا الاعتبار كأنها فلسفة خطيرة التفكير حقيقة أن تتولد منها الحركات الثورية التي اقترنت باسمها، ولولا ذلك لانزوت الشيوعية وكتابها «رأس المال» في مدرجة الإهمال كما انزوى غيرها من المذاهب والكتب، ولم تظفر من الباحثين والقراء بعناية غير التي هي أهل لها بنظرياتها الملفقة، ودعائمها المزعزعة، وبراهينها التي لا تثبت على البحث النظري ولا على التجربة العملية.
وأهم الحركات الثورية التي نسبت إليها، الثورة الروسية بعد الحرب العالمية الأولى. وليست هذه الثورة في رأي الشيوعيين أنفسهم نتيجة للأطوار الاقتصادية والاجتماعية التي يقول «كارل ماركس» أنها مقدمات لازمة لقيام الشيوعية، وخلاصة هذه المقدمات أن تنتشر الصناعة الكبرى وتنحصر شيئا فشيئا بين أيدي المحتكرين حتى تستأصل كل طبقة في المجتمع غير طبقة أصحاب الأموال المعدودين وطبقة الأجراء أو «البرولتارية» الذين تقوم على أيديهم الثورة الشيوعية بعد استيلائهم على زمام الصناعة.
فالبلاد الروسية كانت آخر البلاد الأوربية التي يصدق عليها هذا التطور، وإنما الثورة التي وقعت فيها بعد الحرب العالمية الأولى ثورة من ثورات الهزائم الكبرى التي امتلأ بها التاريخ القديم والحديث، وكانت سببا لإسقاط كثير من الدول عن عروشها التي نخرها الفساد وتلقت أمام رعاياها تبعات تلك الهزيمة وجرائرها، مقرونة في أكثر الأوقات بتبعات العجز عن تدبير مصالح أولئك الرعايا.
ولم يذهب عرش «رومانوف» وحده بعد هزائم الحرب العالمية الأولى، بل ذهبت معه عروش «هوهنزلرن» و«هابسبرج» و«آل عثمان»، وذهبت الهزائم قبل الحرب العالمية الأولى بأسرة «المانشو» في الصين على أيدي «سن يات سن» وأصحابه من طلاب الإصلاح.
وكل ما قيل عن نسبة الثورة الروسية إلى الشيوعية، فإنما مرجعه إلى الفئة التي كانت تدين بآراء «كارل ماركس»، وتسلمت قيادة الثورة بعد تمرد الجيش على أسرة «رومانوف»، ولكن الحركات الثورية في الصين وتركيا وألمانيا وغيرها قد آلت إلى أيدي فئات أخرى لا تنتسب إلى الشيوعية، وقد كانت الهزيمة الكبرى هي المشابهة الوحيدة بين هذه الحركات في جميع البلدان، ولم تتفق على برنامج غير ذلك بعد قيامها على رءوس الحكومات.
فالثورة الروسية بعد الحرب العالمية الأولى لم تكن من فعل الشيوعية، ولم يكن من الممتنع عقلا أن تحدث هذه الهزيمة قبل ظهور كتاب الشيوعية بنحو خمسين سنة بدلا من حدوثها بعد ظهوره بنحو خمسين سنة، فإن التاريخ حافل بأنباء هذه الهزائم التي أطاحت بالعروش ومهدت للحركات الثورية وقيام الدعاة من أصحاب المبادئ، أو أصحاب المطامع السياسية.
ولقد ذهبت هزيمة نابليون الأول بدولته، وعادت أسرة «البربون» إلى عرشها القديم فترة من الزمن، ثم ذهبت هزيمة نابليون الثالث بدولته وقوضت عرش فرنسا العريق لتقوم على أنقاضه دعائم الجمهورية، ومعها مبادئ الثورة الفرنسية التي تحقق منها ما تحقق، ولا يزال الكثير منها حبرا على ورق واسما على غير مسمى، وكان ذلك قبل عصر «كارل ماركس» بقرابة مائة عام.
فمن الواجب الفصل بين شأن المذهب الماركسي في قيمة التفكير وبين الحوادث الكبرى التي أضيفت إلى فكرته بفعل المصادفة، فجعلت لها شانا غير شأنها وأنقذتها من الإهمال الذي كان حتما مقدورا عليها لولا تلك المصادفة، فلو لم يكن «لينين» وأصحابه يقولون: إنهم ماركسيون لكان كتاب «رأس المال» - كما كان - رزمة من الورق اللغو، يعجب قراؤه لما فيه من الخلط والترقيع وغلبة أهواء الشر على قواعد التفكير، ولما كان له من موضع في غير الدراسات النفسية للرجوع بهذه الإحنة الخلقية إلى مراجعها من أثر البيئة والنشأة والتكوين، ولعله لم يكن ليظفر بهذه الدراسة النفسية؛ لخفاء اسم صاحبه وزوال الباعث لتمييزه بالدرس والاستكشاف.
أما الحركات الثورية، أو الدعوات الثورية، التي تولاها الشيوعيون بعد قيام سلطانهم في روسيا، فكل ما كان لها من الصلة بالصناعات الكبرى أن الصناعات الكبرى حشدت الأجراء بالمئات والألوف في صعيد واحد، فاستطاع الدعاة توجيه الدعوة إليهم جملة والتأثير فيهم بأساليب التأثير في الجماعات، سواء كانت هذه الأساليب من مبتكرات العصر الحديث أو من المخلفات التي تقدم بها الزمن في العصور الأولى.
وقد حاول «كارل ماركس» أن يفرق بين أجراء الصناعة وأجراء الزراعة في قابلية الثورة بفروق كثيرة تمحلها على طريقته في الالتواء والتسلل وراء الأسباب الاقتصادية الخفية، فقال مثلا: «إن الأجراء في الصناعة قابلون للثورة الاجتماعية؛ لأنهم لا يملكون شيئا في المصانع، وإن الفلاح الأجير غير قابل للثورة الاجتماعية؛ لأنه يملك بعض الأرض أحيانا أو يملك بعض النتاج منها»، ولكن سوابق التاريخ تعصف بهذا الهراء كله، وتبقى حقيقة واحدة من أسباب الثورات الاجتماعية، وهي إمكان اجتماع الثائرين في مكان واحد أيا كان عملهم في الصناعة أو الزراعة، وتتم أسباب الثورة حين تقترن بها الدعاية وضعف السلطان، أو ضعف الهيبة ممن يقبضون على أعنة الأمور.
حدثت أمثال هذه الحركات الاجتماعية في القدم قبل الميلاد بعدة قرون، ولم تكن هناك صناعة كبرى ولا صغرى تجمع بين الألوف من الأجراء وبين أقطاب رءوس الأموال وملاك الصناعات.
حدثت حركة كبيرة من هذه الحركات الاجتماعية بعد الأسرة الفرعونية الرابعة؛ لأن الفلاحين تعودوا الاجتماع بالمئات والألوف في بناء الأهرامات والهياكل، ووجدوا أمامهم نزاعا مستحكما بين طلاب السلطان.
وحدثت حركة الأرقاء في إسبرطة قبل الميلاد بأربعة قرون، وهم الأرقاء المعروفون باسم: الهيلوت
1
أو باسم الضواحيين،
2
وكلهم من الفلاحين زراع الأرض بالحصة والمقاسمة في الثمرات، وقد تجمعوا بالألوف على مقربة من المدينة، وهزموا قادة إسبرطة، وألجئوا هذه المدينة الحربية الصارمة إلى طلب النجدة من جيرانها، فلم تقدر على صد الأرقاء الثائرين إلا بعد حوالي عشر سنوات.
وحدثت حركة الأرقاء في الدولة الرومانية بقيادة «سبرتاكوس»
3 (72ق.م) الرقيق الذي تعلم المصارعة، وتمكن من جمع زملائه في الرق، فحشد منهم قرابة سبعين ألفا، ودوخ الجيوش الرومانية بحملاته القوية حتى استنفد جهود الدولة وكلفها أن ترصد له أكبر قوادها من طراز «كراسوس»
4
و«بومبي»، فلم يخمدوا ثورته إلا بعد عناء شديد.
وحدثت حركة الأرقاء في العصر الإسلامي بعد منتصف القرن الثالث للهجرة (وبعد منتصف القرن التاسع للميلاد) حين ثار زنج البصرة بقيادة علي بن محمد بن عبد الرحيم، وما برحت ثورتهم تحتدم وتخبو من أيام الخليفة المهتدي بن الواثق إلى أيام الخليفة المعتمد بن المتوكل، وتمكن هؤلاء الزنج من التجمع؛ لأنهم كانوا يعملون في الموانئ وسفن الشواطئ كما كانوا يعملون في الزراعة ونقل البضاعة، ولم يكن هؤلاء الأرقاء ولا أرقاء «سبرتاكوس»، أو الأرقاء الهيلوت والضواحيون عمالا مسخرين في صناعة كبرى أو صغرى كالأجراء المفروضين في مذهب «كارل ماركس»، بل كانوا فلاحين أو حفارين في المناجم أو حمالين على الشواطئ، جمعتهم أماكن عملهم ووحدة الشكاية أو وحدة المصلحة بينهم، فخرجوا من تلك الحركات الاجتماعية قبل عصر الصناعة الكبرى بأكثر من عشرين قرنا في الزمن القديم ونحو عشرة قرون في زمن الإسلام.
وعملت في كل حركة من هذه الحركات الاجتماعية عواملها المشتركة التي لا بد منها في جميع العهود، وهي عوامل الدعاية والقيادة والهزيمة أو سقوط الهيبة، وظهور العجز عن تدبير الأمور من قبل الطبقة الحاكمة.
ولا نعلم على التحقيق كيف كانت دعاية الثورة المصرية بعد عهد الأهرامات، ولكن تفرق الدعاة والأسر في الوجه القبلي على الخصوص مع شيوع الشكوى بين الفلاحين قد يدل على دخيلة الدعوة، التي جذبت كل فريق من الثائرين إلى زعيم من زعماء الأسر وطلاب العروش.
أما ثورة الهيلوت فالمعروف عنها كثير، ومن هذا الذي عرف عنها أنها رزقت القيادة الحسنة على يدي «أرستومين» و«أرستديمس» وجاءتها دسائس الفتنة الخارجية من جانب الفرس مسخرين لها أناسا من الطامحين إلى الملك على رأسهم القائد «بوزانيوس» وأناسا من رؤساء العصابات كانوا على خطر دائم من فتك الشرطة الخفية المختصة بتعقب الأرقاء البارزين بين صفوف أبناء جلدتهم، وكانت لهم خفية خاصة تترصدهم يسمونها الكربتية، وتشبه الخفية القيصرية قبل الثورة الشيوعية في نظام التجسس وحبائل الإيقاع والاستطلاع. •••
والمعروف عن ثورة الأرقاء على روما أكثر من المعروف عن ثورة الأرقاء على إسبرطة، قياسا على اشتهار الأنظمة الرومانية واشتباكها بالأمم المحيطة بها، فلا ينظر المؤرخ في تفصيلات الحوادث التي انتهت بنشوب ثورة «سبرتاكوس»، إلا وجد فيها جميع العوامل التي تخلق هذه الثورات من الأزمات السياسية والاقتصادية إلى هزائم الحروب وسقوط الهيبة، إلى تحريف الدعاية وإمكان حشد الثائرين في صعيد واحد.
تعاقبت الغارات على روما من برابرة الشمال في القرن الأول قبل الميلاد، وانقسم ولاء الجيوش الرومانية بين المشرق والمغرب، وتضعضعت الحكومات القنصلية أو الشبيهة بالجمهورية، ومهدت الطريق لقيام سلطان الاستبداد وظهور الحاكمين بأمرهم من القادة وزعماء العشائر، وخابت آمال المصلحين في برامج الإصلاح، ومنها تقييد الملكية الزراعية ورسم الخطط الواسعة لتوزيع الأرض والثروة بين الملاك الكبار والصغار بالتدريج.
وكان الأخوان «طيبريوس» و«جايوس جراشي» قد استنفدا الحيل في إقناع العلية وأعضاء مجلس الشيوخ بإعادة توزيع الأرض العامة لزيادة عدد الملاك الصغار، واستصدر أولهما من مجلس الشيوخ قرارا بالحد الأقصى للأرض الزراعية العامة، فجعله ثلاثمائة فدان (سنة 133ق.م) ثم جاء أخوه فأراد أن يتوسع في تعميم الحقوق السياسية، وأنشأ طائفة من المشترعين دون طائفة الشيوخ وكل إليها الحق في محاسبة الولاة السابقين ومن إليهم من رجال الدولة، وكانت هذه المنازعات على الحقوق السياسية والحقوق المدنية بداءة الانقسام بين طوائف العلية من سادة المجتمع الروماني القديم.
واتفق هذا في الوقت الذي تتابعت فيه غارات البرابرة الشماليين على تخوم الدولة، فكان عجز الحاميات العسكرية عن صد المغيرين حجة مقنعة سوغت للقائد «جايوس ماريوس» أن ينظم الجيش بقيادته ويستغل سمعته في الحروب الأفريقية للاستئثار بالسلطة في حروب الدفاع عن تخوم الشمال، وجر هذا الاستئثار إلى انقسام الدولة بين جيش الوطن بقيادته وجيش الولايات بقيادة «كرنيلوس سولا»، ووقعت بين الفريقين معارك عنيفة، لم تنحسم قبل انقضاء سنوات في القلاقل والفتن والأزمات، خرج منها «سولا» منتصرا على «ماريوس» حوالي سنة إحدى وثمانين قبل الميلاد، فدانت له الدولة بالطاعة حوالي سنتين.
ولم تنقض شهور على موت «سولا» (سنة 78ق.م) حتى تجددت المساعي الحثيثة، التي تتجه من كل جانب إلى هدم النظم والجمهورية، وإقامة السلطان المطلق بزعامة هذا أو ذاك من القادة المتنافسين. وفي هذه الفترة نشبت ثورة «سبارتاكوس» ووجدت لها أشياعا من أشتات الأسرى الذين جاءت بهم حروب الرومان في تراقية وطن «سبارتاكوس» وبلاد الغال وسائر أرجاء الدولة الواسعة، وكان منهم أناس لحقوا بالجيش وتدربوا فيه على الأعمال الحربية، وأناس آخرون من رعاة الجنوب في إيطاليا ممن كانوا يحملون السلاح لحماية قطعانهم،
5
ويشتبكون في حروب كحروب العصابات كلما ضعف سلطان الحكومة القائمة. فانقاد ل «سبارتاكوس»، جيش كبير من الشذاذ النافرين، وتمكن من الانتصار على جيش الدولة بقليل من العناء (سنة 73ق.م)، ثم هزم الجيوش التي جردت لقتاله بقيادة القناصل والولاة في بلاد الغال، واستشرى خطبه حتى كاد أن يحكم البلاد الإيطالية فيما وراء العاصمة، ولم تقدر عليه الحكومة بجيوشها التي تخلفت من أيام النزاع وانقسام الولاء بين القادة، حتى تصدى للأمر رجل من رجال «سولا» الكفاة - هو القائد «كراسوس».
6
فجند لقتاله جيشا جديدا تولى تدريبه وتنظيمه على يديه، ودارت الدائرة على «سبارتكوس» في معركة أبوليا
7 (سنة 71ق.م)، وقد كاد أن يفلت بفلول جيشه على أسطول من السفن الصغيرة عند مسيني، ثم تبين أن الثائرين لم يكونوا جميعا من الأرقاء المملوكين لسادة معروفين، وأحصى منهم نحو ستة آلاف لم يعرف لهم سادة يملكونهم، ولم تكن لأكثرهم سابقة في الرق، وإنما كانوا مع طائفة من القتلى والفلول الهاربين، ثوارا على الظلم والخلل ، وطلابا للحرية والحقوق الإنسانية.
والمعروف عن ثورة صاحب الزنج في الدولة العباسية أكثر مما عرف من ثورة الأرقاء في الدولة الرومانية؛ لأنها حدثت في عهد تاريخي وافر المراجع والمآخذ، قريب بالنسبة إلينا في أحواله وأوقاته ومصادر دعوته ودعواه، وقد كانت الدعوة والدعوى معا كأوهن ما تكون الدعوات والدعاوى من السخف والتضليل، ولكنهما فعلتا فعلهما المعهود مع ضعف الدولة واحتشاد الثوار في مكان واحد وسهولة انتحال الحجة التي يستند إليها الثائر على الدولة القائمة، في أعنف أوقات النزاع بين العباسيين أصحاب السلطان والعلويين أصحاب الحق في عقيدة الأكثرين من أبناء الإقليم وما جاوره من الأقاليم.
ورواية أخبار هذه الثورة من وجهة نظر غربية أدنى إلى التناسق مع أخبار الثورات من قبيلها في تاريخ اليونان والرومان، ولهذا نرويها هنا كما لخصها سبير «وليام موير»
8
في كتابه عن تاريخ اضمحلال الخلافة، إذ يقول من أخبار سنة خمس وخمسين ومائتين للهجرة (869 م) ما يلي:
أشاعت فتنة الزنج الذعر والفتك من حولها خمس عشرة سنة، وكان زعيمها فارسيا انتحل النسب إلى علي بن أبي طالب، فكان يدعو أول الأمر بهذه الصفة إلى بعض الآداب الروحية، ثم ما عتم أن كشف عن خبيئته، فإذا هو متمرد منتفض يسري عليه لقب الخبيث. وكان يحوم في شبه الجزيرة العربية قبل ذلك على غير طائل، ثم رفع راية العصيان ونادى بالحرية لجميع المستعبدين ووعدهم بما لا حد له من الأسلاب والغنائم إذا التفوا برايته، واتخذ له شعارا آية من القرآن، كتبها على الراية تبطل الرق وتلغيه:
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن
وفسر الآية بأن الله اشترى الرءوس والأموال فلا يملكها أحد. ولم يكن بالمستغرب من العبيد الذين علمهم أن يهينوا سادتهم أن يهرعوا إليه بالألوف ومعهم أهل البادية من طلاب الأسلاب والغنائم. أما اسم الزنج فمعناه «الأثيوبيون» من أوشاب القارة الأفريقية، ومن هنا نسبت إليهم الفتنة فسميت بفتنة الزنج. وكانت سنة خمس وخمسين ومائتين بداءة عصيانهم ومجاهرتهم بالقتال، وتلتها سنتان انتشروا فيهما بين جوانب وادي النهرين وشواطئ قارون إلى الأهواز، فبسطوا أيديهم من ثم على هذه الأنهر، وشجعهم النجاح فأغاروا في سنة سبع وخمسين ومائتين (871م) على البصرة واقتحموها وأعملوا في الأهلين كل منكر وفظيعة. ثم نادوا بالأمان غدرا، فقتلوا كل من اغتر بأمانهم من جمهرة السكان المخدوعين. وهدموا المسجد الكبير، وأشعلوا النيران في المدينة كلها. وقد راع الخليفة مقتربهم من عاصمة الخلافة، فأنفذ الموفق على رأس الجيش لقتالهم، فنشط للقتال نشاطا قويا. ولكنه لم يظفر بهم إلا قليلا في المعارك الأولى لاضطراره إلى وقف القتال حينا بعد حين، واشتغاله بدرء المخاطر في مواقع أخرى من الدولة.
ولقي موسى، وغيره من القادة، مثل هذا الفشل سنة بعد سنة ثابر الزنج خلالها على الغارة مع ما كانوا يمنون به من الهزيمة في بعض المعارك، وجعلوا يغيرون على العراق وخوزستان والبحرين عصابات متفرقة أو جموعا مصفوفة، فنهبوا الأهواز واتخذوا «واسط» معسكرا يشنون منه حروب التخريب والتقتيل، وانقضت على البلاد التعسة عشر سنين من الشقاء والفزع، ثم فرغ لهم الموفق بعد الخلاص من الأعداء الخارجين فوحد الجيوش تحت قيادته وقيادة ابنه المعتضد، ودارت الدائرة من ذلك الحين على جموع الأرقاء، فطردوا أولا من خوزستان، ودفعوا إلى الجانب السفلي من النهر، حيث استعصموا بالمواقع الحصينة، واحتموا بالأقنية والجداول المحيطة بها، ولا تزال أخبار المعارك التي تلت ذلك نحو خمس سنوات محفوظة تروى بتفصيلاتها المسهبة المملة، وأجلى العدو من مواقع كثيرة، ولكنه لبث بعد جلائه عن تلك المواقع ثلاث سنوات مستعصما ببعض الحصون لانقطاع الحصار فترات متوالية من جراء إصابة الموفق بجراح أقعدته عن العمل السريع، وأخذ الثوار يتسللون زرافات زرافات إلى الموفق، فيقبل منهم التوبة برفق وسماحة، وبلغ من رفقه وسماحته أنه أعلن العفو عن المسيء الأكبر. فأعرض عنه بصلف وقحة. ثم سقطت القلعة وعاد كثير من النساء السبايا إلى ديارهن، ووقع الخبيث في الأسر وهو يمعن في الهرب فقتل وحمل رأسه، حيث رفع على مشهد من الجموع المتكوفة، فخروا سجودا يشكرون الله على النجاة من شره. •••
وتلخيص «موير» هذا لفتنة الزنج، يصدر عن نظرة تاريخية على الحيدة بين الداعية والدولة التي يثور عليها، فلا يمتزج بالغضب الديني الذي يشعر به المؤرخ المسلم وهو يتكلم عن فتنة من فتن المروق والإباحة والافتراء على العترة النبوية، وهي في رواية «موير» على نسق تام مع الثورات التي من قبيلها، وإن تفاوتت أبعد التفاوت في الأزمنة والأمكنة وأجناس الثوار ومطالبهم وعقائدهم التي يأخذون بها أو ينتقضون عليها، فكلها ثورات حصلت لأنها أمكنت، وكلها ثورات أمكنت؛ لأنها ثورات أناس من أصحاب الشكايات الاجتماعية أو المنتفعين بالقلاقل والفوضى حيث كانت، تجمعوا في صعيد واحد، واستضعفوا السلطان لما مني به من الهزيمة والعجز، فاستخفوا بأمر الخروج عليه، ولا يلزم من ثوراتهم هذه أن يكونوا من الفلاحين أو الصناع أو «العاطلين»، ولا أن تتقدم ثوراتهم أو تتأخر، حسب الأطوار التي يرتبها «كارل ماركس» على هواه.
أما هوى «كارل ماركس» فهو أن تكون الثورة - تطبيقا لرأيه في الصناعة الكبرى - محصورة في «البرولتارية» التي تأتي بعد نبوءته آخر الزمان؛ لأنها لو لم تكن محصورة على هذا النحو لما جاز أن يتطرق منها إلى هدم المجتمعات كافة وإنكار الماضي بحذافيره، ولكان حكمها في العصر الحاضر كحكم تلك الثورات التي انقضت بانقضاء أيامها وجرى التاريخ بعدها في مجراه. غير مقيد بالخطة التي رسمها له، ولم يأذن له بالانحراف عنها يمنة أو يسرة إلى غير نهاية!
ولقد اتجهت في الزمن الحاضر - قبل منتصف القرن العشرين - دعوات ثورية إلى جماعات من الأجراء غير دعوة الشيوعية، فاستجاب لها أولئك الأجراء حينما انخدعوا بوعودها وأمكنهم أن يستجيبوا لها، واستثيرت حماستهم تارة باسم الغيرة الوطنية التي يحسبها «كارل ماركس» في أكاذيب الطبقات، وتارة باسم الدين أو باسم مذهب واحد من مذاهب الدين، وكان أناس من هؤلاء الأجراء يعملون في الصناعات، وأناس منهم يعملون في المجازر التي تتجر باللحوم ولا تتوقف أعمالها على صناعات العصر الحديث، وعلى هذا المثال كانت دعوة «بيرون » وزملائه في الأرجنتين، وكانت دعوات مثلها بين شعوب أمريكا الجنوبية من جميع الأجناس والنحل والأعمال.
وليس من جديد الشيوعية الماركسية، أو من أفنانينها المستحدثة، أن تستهوي إليها أناسا متفرقين في المجتمعات غير الأجراء وأصحاب الشكايات الاجتماعية، فهذا الاستهواء ميسور لكل دعوة تتجه إلى الغرائز الخسيسة، وتزين لأصحابها رذائلهم التي تسقطهم وتذلهم كلما قيسوا بمقاييس المجتمعات القائمة. وكل داعية يشفي حزازة الحسد والكراهية بين المحرومين أو غير المحرومين، فهو على ثقة من استهواء الأسماع واستدراج الأنصار الذين يتهوسون بمثل هذه الدعوات تهوس الجنون؛ لأنها تخاطبهم من كل ناحية مرذولة يتحرقون على التخلص منها، وتقودهم بزمام الضغينة العمياء والعدوان المتحفز والهوان الجاثم على الصدور من رواسب آلاف السنين، وما من شيء يجعل العقل البشري بعيدا غاية البعد عن النظرة العلمية، كتلك الحالة التي يتطلبها دعاة الماركسية من المدعوين إليها، وهي حالة الضغينة المتحكمة والغرائز المتمردة والجموح الذي لا يخجل من عرف أو شريعة أو حياء، وكل وهم من الأوهام الحمقاء أو باعث من البواعث البهيمية، فهو مصدق عند من تتحكم فيه تلك الحالة بغير سند أو برهان، على النقيض من جميع الإسناد والبراهين، ويا له من علم ذلك العلم الذي تتمخض عنه طبائع دعاة من طراز «كارل ماركس»، وتتلقاه طبائع المدعوين إليه من صرعى الأحقاد والغرائز العمياء.
وإنك لتنظر إلى كائن من كان من المستعدين لسماع تلك الدعوة، فلا تخطئ الصفة الغالبة عليه أو الصفة المتحكمة في أهوائه بين ما يرضاه أو يأباه، ولا تكون تلك الصفة في أحد منهم بمعزل عن الأنانية المطبقة والاتهام السريع ولو فيما بينهم من أقرب المقربين.
فلولا الشغلان الشاغل بنوبة العلم في القرن التاسع عشر، لما جاز أن تحمل على المحمل العلمي سخيمة الماركسية التي لا محل لها في غير الظواهر النفسية، سواء أخذناها من مصدرها في نفس داعيتها أو أخذناها من مآلها في نفوس المصغين إليها، أو أخذناها من الشعور الذي تعول عليه آخر الأمر وهو شعور اليأس المستميت الذي يقال لأصحابه: إنكم تصدقون الشيوعية كما تصدقون غيرها؛ لأن خراب العالم لا يعنيكم ولا تفقدون فيه غير قيودكم!
والعلم لا يسمى علما إن لم نعرف ما يناقضه، أو يناقض طبيعته على وجوه الدعاوى السافرة، ولا سيما الدعاوى التي تجر وراءها هدما معجلا لكل ما بناه الناس من شتى الأمم في مختلف العصور.
وأي شيء نعرف من العلم أنه مناقض لطبيعته إن لم نعرف ذلك في دعوى المدعين أن قوانين الكون الأبدية تكشفت في مدى التاريخ الاجتماعي، وباحت بأسرارها لعقل واحد يتحكم في مجرى التاريخ المقبل إلى غاية مداه؟
وأي أسرار هذه الأسرار التي لا نقض لها ولا معقب عليها؟
تلك الأسرار هي تعريف قيمة السلعة، أو تعريف الطبقة الاجتماعية، أو تعريف المادة، أو تعريف التفسير المادي للتاريخ بعد تعريفها.
ولا نقول: إن العلم يرفض كل هذه التعريفات لأول نظرة أو يحكم بالبطلان على وجوهها السافرة، ولكننا نقول مقال اليقين: إن العلم الذي يزعم أن هذه التعريفات بلغت مبلغ الثقة الجازمة التي تتحكم في ماضي بني الإنسان ومصيرهم بغير نقض ولا تعقيب، إنما هو خرافة من أجهل الخرافات التي تحوم على العقول البشرية، وإن خرافة من خرافات العجائز في عصور الظلمات لا تتطلب من غفلة التصديق بما يتطلبه قبول تلك الخرافة بعد بحث أو بغير بحث على الإطلاق.
على أن المطلوب من العقل البشري أمام هذا العلم المضحك، أضخم جدا مما تتطلبه خرافات العجائز وخرافات الأساطير وكل ضرب من ضروب التخريف يطيف بعقل إنسان.
إذ يطلب من العقل أن يصدق - بناء على هذه التعريفات - أن طبيعة الإنسان سوف تتبدل بعد مآل الصناعة الكبرى إلى أيدي الأجراء فلا منافسة ولا سباق إلى النفوذ ولا اختلاف بين الظواهر والبواطن، ولا أثر من آثار الشرائع والقوانين التي تدعو إلى قيام الحكومات، وهذا ثابت مقرر لا شك فيه عند هذا العلم البديع الذي ليس بخرافة وليس بأفيون للشعوب، وكيف كان ثابتا يا ترى؟ كان ثابتا لأن مآل الصناعة الكبرى إلى أيدي الأجراء ثابت أيضا ثبوتا لا شك فيه عند هذا العلم البديع، الذي ليس بخرافة ولا بأفيون للشعوب.
وما من رأي بين هذه الآراء ثابت كل الثبوت، ولو أنه ثبت كذلك لما لزم منه ثبوت النتائج التي يرتبونها عليه، ولكنها إنما تثبت لسبب واحد عند هؤلاء العلماء غير الواهمين وغير الحالمين؟ تثبت لأنها لازمة لإشباع شهوة النقمة والخراب، ولو بطلت شهوة النقمة والخراب لحظة واحدة لسقطت من قمتها إلى أساسها ترابا على تراب وهباء على هباء.
ومن العلم الصحيح الذي لا شك فيه - بحق - أن الدعوة الماركسية ظاهرة نفسية، إذ كان كل رأي من آرائها، وكل نتيجة من نتائجها تفسر بتفسيرات الظواهر النفسية ولا تلجئنا إلى تفسيرات غيرها.
والظواهر النفسية تفسر تلك الدعوة من الألف إلى الياء، وتشرحها على أوضح ما تكون لمن أراد أن يستكنه بواطنها من جانب العقل أو جانب الشعور.
أما التفسير المادي للتاريخ، فلا يفسره لنا ولو أخذنا بقواعده وقضاياه، لأن المادة - إذا صح أنها تفسر كل معلوم ومجهول - لم يكن من حق «كارل ماركس» أن يحتكر تفسيرها على أصح الوجوه.
وسنرى مكان الدعوة الماركسية من العلم ومكانها من الظواهر النفسية، ونرى بعد المقابلة بين مكانيها ماذا يبقى من أصولها وفروعها، إذا أخرجنا منها طوية النقمة والخراب.
بواعث الشكاية
من العبارات الجارية مجرى المثل في مصطلحات الماركسيين أن «مذهب هيجل» قلب الحقيقة رأسا على عقب، فأقامها على رأسها في التراب بدلا من قدميها.
إن صحت هذه العبارة في مذهب من المذاهب، فهي أصح ما تكون في مذهب «كارل ماركس» عن دوافع الإصلاح.
إن المشاهد في الواقع، والمعقول في التفكير المستقيم، أن الأسباب المادية لا تغير حالة من حالات البشر إلا إذا تحولت إلى أسباب نفسية يشعرون بها، فإن الفقير الذي لا يعلم أنه فقير لا يفكر في تغيير حاله ولا ينساق إلى عمل شعوري أو غير شعوري لتغيير تلك الحال، وكذلك الفقير الذي يعلم أنه فقير، ولكنه لا يكترث لما به ولا يبالي أن يغيره أو يتطلع إلى تغييره.
أما مذهب «كارل ماركس» فهو يقلب هذه الحقيقة رأسا على عقب ويقيمها على رأسها بدلا من قدميها، فيقول: إن الأسباب النفسية لا تغير حالة من حالات البشر إلا إذا تحولت إلى أسباب مادية. ثم يضطرب في بيان هذه الأسباب المادية اضطرابا يترنح به بين النقيضين، مع أن المذهب كله قائم على أساس هذه الأسباب.
وتاريخ القرن التاسع عشر الذي ولد فيه «كارل ماركس» أسبق التواريخ إلى نقض مذهبه والإبانة عن خلطه واضطرابه؛ لأنه أسبق التواريخ إلى إثبات أثر الحالات النفسية في حركات الإصلاح أو حركات الثورة والانقلاب.
كانت في القرن التاسع عشر - في القارة الأوربية - شكايات كثيرة قاسية، شرحها مؤرخوه ومصلحوه ولا يزال المؤرخون والمصلحون يشرحونها إلى اليوم، ولم يحاول أحد قط أن يتجاهلها ويداريها أو يخفف من سوئها ولا من استياء المستائين منها. بل الواقع أنها لقيت من أهل القرن عناية لم تلقها شكايات القرون الغابرة من أبنائها، فنشط المصلحون للبحث في عللها ووسائل علاجها، وظهر من مذاهب الإصلاح في مدى خمسين سنة أضعاف ما ظهر من هذه المذاهب في القرون الأولى، وكانت كلها في المذاهب القائمة على القواعد الاشتراكية وقواعد المساواة بين الآحاد والطوائف والطبقات.
والقرون الأولى - مع هذا - لم تكن خالية من شكاياتها الكثيرة القاسية، بل كان كل قرن منها له كفايته وفوق كفايته من الشكايات الكثيرة القاسية، ولو رجعنا القهقرى من القرن التاسع عشر إلى القرن الأول للميلاد، لوجدنا في كل فترة من فترات هذا الزمن حادثا بارزا من كبريات الحوادث التاريخية يترجم عن شكاياته ومساوئ أحواله، فلا نرجع قليلا من القرن التاسع عشر حتى يصادفنا عصر الثورة الفرنسية وقبله عصر الهجرة إلى أمريكا والبلاد الشرقية، وقبله عصر الإصلاح والأزمات الدينية العلمية، وقبله عصر الحروب الصليبية، وقبله عصر الظلمات في القرون الوسطى وأوبئتها ومنازعاتها وأزماتها، وقبله عصر انحلال الدولة الرومانية، وقبله عصور أخرى لا تنقطع فيها الشكايات الكثيرة القاسية ولا الحوادث الكبرى التي تترجم عنها.
والشكاية الحاطمة - وهي شكاية الفقر - لم تكن من طوارئ القرن التاسع عشر على القارة الأوربية، فإن الأوربي في القرن التاسع عشر كان أقل فقرا من أسلافه قبل قرن واحد وقبل عدة قرون، وكان أقرب إلى الكفاية في المعيشة من أولئك الأسلاف، ولكنه كان أقوى شكاية، وأنشط حركة في طلب التبديل والارتقاء ممن كانوا قبله أسوأ حالا وأفقر يدا، وأدنى إلى الحرمان وأبعد من الكفاية.
وسبب ذلك أن الأوربي في القرن التاسع عشر، كان أعرف من أسلافه بحقوقه، وأشد شعورا بالحرمان من أولئك الذين سبقوه وزادوا عليه في مضانك الحرمان.
هذا هو الباعث المهم إلى ثورات الإصلاح في القرن التاسع عشر، وهو الباعث الذي نلمحه من النظرة الأولى ثم نتبينه من النظرات الطويلة المتوالية، بعد إنعام التأمل والدراسة، فلم تكن الثورة في طلب الإصلاح على قدر التقدم في أدوار الصناعة الكبرى، كما يريد «كارل ماركس» أن يقرر في مذهبه، بل كانت على قدر الحاجة إلى الحرية والاعتراف بحقوق المساواة. «ماركس» نفسه شاهد من الشواهد المطبقة على صحة هذا السبب، فإنه هو وزملاؤه من الألمان دعاة المذاهب الاشتراكية قد نشئوا في بلاد متوسطة بين عصر الإقطاع وعصر الصناعة الكبرى، وقد نشأ دعاة الثورة الروسية المعاصرون له في بلاد لم تخرج بعد من عصر الإقطاع، ولم تكن لها صناعة كبرى تذكر بين أقطار الصناعة.
أما البلاد التي تقدمت في الصناعة الكبرى، كالبلاد الإنجليزية، فهي التي قلت فيها الدعوة إلى الثورة، وعظمت فيها الدعوة إلى الإصلاح عن طريق الوسائل الدستورية، وهي البلاد التي أخرجت دعوة الفابيين
1
الذين يؤمنون بإمكان التعاون بين مذاهب الاجتماع، كما أخرجت النقابات التي تعول على الانتخاب وقوانين البرلمان، وتليها في هذه الوجهة، درجة أو درجات، بلاد أخرى من القارة على حسب نصيبها من الحرية، وفي مقدمتها فرنسا وبلاد الغرب والشمال.
كانت الدعوة إلى الثورة تشتد على حسب الشعور بالحاجة إلى الحرية، وكانت الدعوة إلى الإصلاح السلمي تشتد على قدر التقدم في الصناعة الكبرى، خلافا لما قرره «كارل ماركس» وشيعته رأسا على عقب، ووفاقا لما هو معقول ومشهود.
وقد كانت الثورة في طلب الحرية عامة في أنحاء القارة على اختلاف درجاتها من الصناعة، وعلى اختلاف أطوارها من وسائل الإنتاج، وكلما قلت الحرية زادت حدة الثورة وشدة الانقلاب.
كان لزاما على «كارل ماركس» وشيعته، إذا ناقضوا هذه الحقيقة، أن يثبتوا حقيقتهم المزعومة إثباتا قاطعا يمتنع فيه كل اختلاف، كان لزاما عليهم أن يزيلوا كل لبس يحيط بآرائهم في وسائل الإنتاج، التي يحسبونها قضاء أبديا يناط به التغيير والتبديل من أوائل التاريخ إلى نهايته القصوى، أو إلى غير نهاية، كان لزاما عليهم أن يحققوا السبب الذي يرونه كافيا للإصرار على قلب الدنيا وهدم المجتمعات دون أن يلتفتوا أقل التفاتة إلى احتمال الخطأ فيه.
ولكنهم على خلاف ذلك، قد تركوا وسائل الإنتاج لغزا مبهما يتيهون فيه، ولا يفضي بهم التيه إلى ملتقى متفق عليه.
ما وسائل الإنتاج؟ أهي الآلات الصناعية، أم هي الطبقة المشرفة عليها؟ وهل الطبقة هي التي تنشئ وسائل الإنتاج، أو وسائل الإنتاج هي التي تنشئ الطبقة؟
تلك مسألة ليست بالمسألة الهينة التي يجوز فيها اللبس ويستبيح الباحث أن يتركها عرضة للتأويل والتخريج أو للتمحل والتهريج؛ لأنه يستبيح بها ما لم يستبحه أحد قط من قبله، ويعلق عليها القرار الأخير في أمر لا غنى فيه عن اليقين كل اليقين، ولكن هذه المسألة التي ليست بالهينة، قد هانت على «كارل ماركس» وشيعته كأنهم لا يبالون نتائجها، أو يحبون تلك النتائج حبا يعميهم عن كل عاقبة وكل مصير.
فوسائل الإنتاج تارة هي الآلات الصناعية حيث يقول في رسالته الفكرية الألمانية:
2 «إن طاحون الريح تعطيك مجتمعا يتولاه سيد الإقطاع، وطاحون البخار تعطيك مجتمعا يتولاه صاحب رأس المال في الصناعة.»
ووسائل الإنتاج تارة أخرى هي الطبقة المستولية على المجتمع، حيث يقول في البيان المشترك الذي كتبه مع «فردريك إنجلز» وقيل عنه: إنه أهم في بيان الشيوعية من كتاب رأس المال: «إن الطبقة البرجوازية لا يمكنها أن توجد بغير تطور دائم في أدوات الإنتاج يغير علاقات الإنتاج، ويغير من ثم علاقات المجتمع بأسره.»
أما في كتاب «رأس المال» فيكفي أن تعرف آلة من آلات الزمن القديم؛ لتبني عليها تركيب المجتمع كله، وفي هذا المعنى يقول في الجزء الأول: «إن آثار آلات العمل الغابرة تؤدي للباحث في جميع أحوال المجتمع الاقتصادية التي مضت مهمة كالتي تؤديها عظام الحفريات للباحث عن أنواع الحيوان المنقرضة، وليست آلات العمل هي المميزة بين الأدوار الاقتصادية، بل كيفية صنعها والأدوات التي صنعتها هي التي تميز لنا تلك الأدوار، وإن أدوات العمل لا تبين لنا درجة التطور الذي بلغه العمل الإنساني وحسب، بل هي دلائل على الأحوال الاجتماعية التي يجري فيها العمل.» •••
وهذه العبارات وما في معناها تتفرق في كتابات «كارل ماركس» وزميله «فردريك إنجلز» وأقطاب الشيوعية بمثل هذا التناقض أو أشد منه، كما سنرى عند البحث في مواضعها من هذا الكتاب، وكلها لا تنجلي عن موقف محدود في هذه المشكلة الخطيرة التي تقف بنا بين ضفتين: هذه للهدى والفلاح، وهذه للضلالة والخسارة بلا هوادة بينهما ولا شفاعة ولا سلام.
فهل طاحون الهواء هي التي تعطينا أرباب الإقطاع، وطاحون البخار هي التي تعطينا أرباب رأس المال؟ أو أن الأمر على نقيض ذلك، والطبقة الاجتماعية هي التي تخلق آلاتها وتتطور بها على حسب أطوارها؟ إن كانت الآلة هي الحكم في وسائل الإنتاج ومصائر الجماعات، فالإدارة الإنسانية أحط من الآلة الصماء؛ لأنها - بنتائج عملها - آلات في أيدي الآلات. وإن كانت الطبقة الاجتماعية هي التي تخلق آلاتها وتتولى أطوارها، فمن الواجب إذن أن نتجه بالبحث إلى نفس الإنسان أو نفوس الناس، ولا محل إذن لكل هذه الطنطنة بالإنتاج والمباحث العلمية في الإنتاج والأدوار التاريخية التي نحصرها في وسائل الإنتاج.
ولا بد من الفصل بين القولين؛ لأن القول بأحدهما نقيض القول بالآخر، وترك الأمر فيهما بغير فاصل محدود خليق أن يدور بنا حتما في متاهة خفية بين الحد الذي تبتدئ منه الإرادة الإنسانية، والحد الذي تنتهي إليه وتسلم المصير كله للآلات والمكنات.
ولا ينفعنا أن نلفق هذه البداية وهذه النهاية في أعماق الطبيعة البشرية أو في معادن الآلات الصناعية؛ لأننا إذا لفقنا الخليطين المشتركين في الإنتاج بقي أمامنا أن نعرف كيفية صنع الآلات ، وأن نعرف الكيفية التي يدار بها كل نمط منها في نظام بعد نظام.
ومن حق كل قارئ أن يقول لدعاة الشيوعية: إنني أريد منكم حدودا واضحة في هذا الأمر الخطير؛ لأنكم تدعونني إلى هدم العالم بلا هوادة ولا إصغاء إلى قول غير الذي تقولون أو رأي غير الذي ترون، فلا أقل من اليقين قبل الهجوم على هذه الغاية التي لا رجعة فيها.
ولكن طبيعة الدعوة المبنية على الضغينة وشهوة الدمار إنما تلوح لنا في طبيعة المستجيبين لذلك الهذر الملقى إليهم باسم العلم والدراسة الواقعية، فإنهم لا يستجيبون له إلا إذا كانوا قد وضعوا في أذهانهم أن يهدموا أولا، وأن يستمعوا لصوت الهدم قبل كل صوت، ثم يأتي الإقناع أو لا يأتي بعد ذلك فهما لديهم مستويان.
والواقع أنهم يقدمون على الهدم لأقل من ذلك الخلاف بين المعسكرين، معسكر الشيوعية ومن ينكرونها كل الإنكار.
يقدمون على الهدم، ويصرون عليه، ولا يتلفتون لاحتمال الصواب، كلما اختلفوا على التفصيلات الصغيرة التي يختلف عليها أتباع كل مذهب متفقين على جملة الأصول، يقدمون على الهدم ويصرون عليه، ولا يتركون متنفسا لاحتمال الصواب في المخالفة كلما اختلفوا على التفصيلات الصغيرة التي يختلف عليها أتباع كل مذهب متفقين على الأصول، ومن أقطابهم - نظراء «كارل ماركس» في مقامه بينهم - داعية البلشفية «لينين» وحامل العلم في قيادة الثورة الروسية، فإنه خولف قبل الثورة في بعض تفصيلات الدعوة يوم انقسم البلشفيون والمنشفيون، ثم اجتمع مؤتمر ستوكهلم للتوفيق بين الفريقين، فأذعن «لينين» لقراره، ثم ناقضه بالحملة على المنشفيين في اللحظة الأولى، وأعلن هذه الحملة قبل أن تنقضي على القرار بضعة أسابيع، وانعقد مجلس الحزب لمحاكمته على سوء مسلكه مع أعضاء حزبه، فتقبل المحاكمة وحضر للدفاع عن مسلكه، فاعترف بخروجه في لهجته عن آداب الخطاب بين أعضاء الحزب الواحد، ولكنه قال كما جاء في المجلد الثالث من مختاراته: «إنه لا يعتبر مخالفيه أعضاء في حزبه، بل يعاملهم معاملة الأعداء ويتخذ في مناقشتهم أسلوبا مقصودا؛ لإثارة البغضاء والنفور والازدراء، مقصودا لغير الإقناع، بل لتحطيم الصفوف، أو مقصودا لغير تصحيح الخطأ، بل للإتلاف ومحو الخصم من على ظهر الغبراء.
وهذا الأسلوب الذي استخدمته إنما يراد به أن يثير أقبح الظنون وأقبح التهم والشبهات حول الخصم، ويدعو حقا على خلاف أسلوب الإقناع والتصحيح إلى بلبلة الآراء بين الطبقة العاملة، وإذا سئلت: أأنت معترف بأن هذا الأسلوب غير مقبول؟ فجوابي: نعم.
مع قيد صغير وهو أنه غير مقبول بين أعضاء حزب متحدين، وإنما يعني الاختلاف بينهم فصم كل عروة من عرى الألفة والوئام، ونقل العراك من التأثير داخل الحزب إلى التأثير في خارجه، أو نقله من الصحيح وإقناع الزملاء إلى هدم نظامهم وإهاجة العمال عليهم ومع العمال جمهرة الشعب على الإجمال.»
ولا شك أن هذا سبب - كلا سبب - لاستباحة كل هذا الشطط في الهدم والتشهير والتحقير وإثارة الشحناء والعداء، وإذا كان هذا كله مستباحا لمجرد الاختلاف على الرأي بين أعضاء الحزب الواحد، فلا حاجة إلى سبب لاستباحته واستباحة ما هو أنكر منه في الخلاف بين الشيوعيين، ومن ينكرون مذهبهم ويخرجون على حدوده، وإن لم تكن له حدود واضحة للمؤمنين أو المنكرين.
وإنه لمن الخزي لهؤلاء المفسدين أن الحقيقة تصدمهم ولا تدعهم في غفلتهم عنها؛ لأنها أكبر من أن يحجبها التجاهل والاستخفاف، وإن وجوه الاعتراض على آرائهم تأتيهم من حولهم ومن داخل معسكرهم، فلا تغيب عنهم طويلا بين المناقشات والمساجلات التي لا مناص منها، ولكنهم يعرضون عنها؛ لأنهم منصرفون عن كل خاطر يشككهم في غايتهم من الهدم والشحناء، مغضبون بكل ما في طبائعهم المريضة من لدد وإصرار على الجانب الذي يخالف وجوه الاعتراض، ولا يقبل التريث في مناقشتها، فإذا اعترفوا بها فإنما هو اعتراف المضطر إلى حين، ثم لا يترتب على ذلك الاعتراف تبديل أو تعديل في الغاية التي لا ينصرفون عنها بحال.
وربما كان من ممهدات العذر لهم أن يجهلوا وجوه الاعتراض، ولا يخرجوا من نطاقهم الضيق إلى ما وراءه من الفروض والآراء، فأما الخزي المحيق بأولئك المفسدين، فهو استخفافهم بدفع كل اعتراض يشككهم في شهوة الهدم والكراهية مهما يبلغ في إلحاحه عليها من جانب الأتباع أو الناقدين.
إنهم أمعنوا في تهوين العوامل الإنسانية في مجرى التاريخ جيلا كاملا بغير تراجع ولا مبالاة، وأملى لهم في هذا الغلو أن دوافع الثورة في القارة الأوربية كانت على أشدها حوالي منتصف القرن التاسع عشر، فلم يشعروا بالحاجة إلى الأناة والاعتدال، ولم يصادفهم ما يكبحهم عن الشطط الذي يتمادى فيه من شاء في أيام الفتنة، ولا يستطاع التمادي فيه مع استقرار الأمور، فلما يئسوا من تحقيق الانقلاب العاجل واحتاجوا إلى مزيد من الإقناع وقليل من العنف والجماح، تراجعوا واعترفوا بعض الشيء بأثر العوامل الإنسانية أو أثر الفكرة في حوادث التاريخ وحركات الإصلاح، وكتب «إنجلز» في سنة 1890 إلى طالب يسأله جلاء الشك في هذه المسألة فقال:
إنه على «ماركس» وعلي أنا يقع بعض التبعة في توكيد العوامل الاقتصادية وإعطائها فوق ما تستحقه من التقرير، وقد كنا أمام حملات خصومنا مضطرين إلى توكيد المبدأ الأصيل في دعوتنا لإنكارهم إياه، ولم يتسع لنا الوقت كل حين لإبراز العوامل الأخرى بين الفعل ورد الفعل من العوامل المتعددة.
وقال «إنجلز» في خطاب آخر: «إنه على حسب الإدراك المادي للتاريخ يكون العامل الفعال في اللحظة الأخيرة عامل الإنتاج والتثمير في الحياة الواقعية. وما حدث قط من «ماركس» ولا مني أننا قررنا غير ذلك، ولكن الذي يحاول أن يجعل العامل المادي وحده فعالا في التاريخ يخرج بالعبارة من معناها إلى كلام مجرد بغير معنى، فالعامل المادي هو المهم في الأساس، ولكن العوامل الأخرى السياسية وغير السياسية - من دساتير وشرائع ومؤثرات ذهنية ونظريات فلسفية وعقائد دينية - كلها تسيطر على منازعات التاريخ، وتقرر أشكالها في كثير من الأحيان.»
3
وليس لهذا الاعتراف من نتيجة معقولة إلا إدحاض المذهب والعدول إلى شيء من الأناة، بل كثير من الأناة، في الدعوة إلى الهدم، والإصرار على اللدد في مكافحة كل مخالفة كبيرة أو صغيرة له في تفسير التاريخ، فإن الفصل بين العوامل الإنسانية وبين العوامل الآلية في حوادث التاريخ المتشابكة ليكونن من ضروب التنجيم والتخمين بعد هذا الاعتراف، ولا يجوز لأحد - بناء على الزيادة هنا أو النقص هناك من هذه العوامل أو تلك - أن يعلنها فتنة عمياء بلا هوادة ولا إصغاء إلى مختلف الآراء.
ولكن هل عدل الشيوعيون بعد هذا الاعتراف عن صيحتهم الأولى التي تحفز الضغائن في نفوس اليائسين إلى غاية مداها من الهدم والعدوان؟
هذا هو الشيء الذي يستطيعونه، وذلك هو الموقف الذي لا يستطيعون التراجع فيه؛ لأنه أساس المذهب كله في أعماق الطبائع دون الآراء والتخريجات التي يلفونها ويشدونها ويلقون بها، حيث تنقاد لهم وحيث لا تنقاد؛ ليتخذوا منها الحجة لدعوة الهدم والعدوان.
وغني عن القول أن هذه الشهوة العمياء تضللهم عن الحقائق التي بين أيديهم، كما تضللهم - من باب أولى - عن الوقائع التي يدعون النظر إليها بغير الثقة، حين يتكلمون عن المستقبل القريب والمستقبل البعيد، فقد كان «إنجلز» يؤكد في كلامه عن الاشتراكية الطوبية والاشتراكية العلمية - التي هي اشتراكية دون غيرها بطبيعة الحال - أن الثورة الشيوعية بادئة في ألمانيا منتشرة منها إلى الديار الأوربية من حولها، وكان البيان المشترك - المانفستو - يؤكد في سنة 1848 أن ألمانيا على أبواب ثورة برجوازية تتبعها ثورة الصعاليك أو البرولتارية، وكانت نبوءات كهذه كذبت جميعا ولم تصح لهم نبوءة واحدة، وما من أحد يطالب داعية المذاهب الاجتماعية بعلم الغيب إلا أن يكون داعية للشيوعية الماركسية، فإن المذهب الذي يقوم على نبوءة لازبة يتقرر بها أو لا يتقرر على الإطلاق، يجب أن يقاس بمقياس نبوءته القريبة دليلا على ما وراءها من النبوءات التي تستباح في سبيلها الفتن والحروب والثورات. وماذا يبقى من مذهب المادية التاريخية إذا سقطت نبوءته التي يبنيها على قوانين الإنتاج، ويجعلها ضربة لازب مفضية إلى قيام المجتمع الذي لا طبقات فيه بعد انتهاء صراع الطبقات؟ إلا أن الداعية الشيوعي قد نسي الجانب المهم في هذا الاعتراف، الذي جاء بعد الفراغ من شرح المذهب بثلاثين سنة، فليس المهم أن «إنجلز» وزميله «كارل ماركس» أهملا العوامل النفسية أو العوامل الإنسانية تحديا لخصوم المذهب ومناقضيه ، لكن المهم أنهما قضيا العمر يفسران الأزمات الحاضرة والغابرة تفسيرا ناقصا مخطئا، لا يصلح للاعتماد عليه في العواقب العظمى التي يرتبانها عليه، ونتيجة ذلك أن الشيوعية تسقط من عداد المذاهب التي يؤخذ بها في تصوير الحالة في زمانها وتصوير الحالة أو الحالات التي ينبغي أن تعقبها، وهذا هو محور البحث كله في حقيقة الدعوة وعواقبها، فليست هي صورة صادقة للشكايات الاجتماعية، ولا هي صورة صادقة لعلاجها وتقدير العواقب التي تخلفها، وتتوفر الجهود على تحقيقها والتعجيل بإنجازها عن ثقة لا تقبل التسامح واختلاف وجهات النظر في الأصول والتفصيلات، كما هو دأب الشيوعيين عامة مع من يخالفهم في أصغر الأمور وأكبرها على السواء.
وعلى هذا يجب أن نسقط الشيوعية من عداد المذاهب التي تفسر شكايات القرن التاسع عشر وتتولى علاجها، وهذا هو الحد الفاصل بين إنكار الشيوعية وإنكار تلك الشكايات، فلا نكران للشكايات الاجتماعية التي تجاوبت بها الأمم خلال القرن التاسع عشر، وإنما ينكر المنكرون، بحق - أن الشيوعية تحسن وصفها وتحسن علاجها، فضلا عن دعوى المدعين أنها استأثرت بالوصف الوحيد الصادق والعلاج الوحيد الموافق للعلم والتفكير السليم.
إن شكايات القرن التاسع عشر بعضها اقتصادي من أثر الصناعة واختلاط المعاملات واتساع الأسواق وموارد الخامات، وبعضها أدبي «معنوي» من أثر التطور في الأفكار والعقائد ومقاييس الأخلاق، والشيوعية لا تفسر هذا ولا ذاك تفسيرا يركن إليه أو يحمل على محمل العلم والدراسة.
ونعود إلى أولئك الذين يحكمون بالظلم ليشتهروا بالعدل، فنقول: إنهم يفعلون مثل ذلك في إظهار الإنصاف لمبادئها ودعاواها، فالإنصاف الحق لهذه الدعوة المتعسفة أنها «كلام فارغ» لا يصمد للنظر، ولا يليق بالعلم أن يسلم له بالصفة العلمية على حسب العنوان المعلق عليه، فمن الجهل المطبق أن يجيئنا أحد فيزعم أنه ملك زمام الحقائق الأبدية ماضيا وحاضرا ومستقبلا، ثم نتقبل منه هذا الزعم؛ لأنه سماه بالعلم واحتكر له الصفة العلمية، ومن الجهل المطبق أن تقاس الشيوعية بمقياس الحوادث الجسام التي حملت عنوانها، فإن مبادئ الشيوعية لم تخلق الثورة الروسية. ولم يكن من العسير على جماعة من الناس كائنا ما كان عنوانها - أن تقود تلك الثورة كما قاد النازيون ألمانيا، والفاشيون ثورة إيطاليا، وقاد أتباع «سن يات سن» ثورة الصين، وقاد غيرهم حركات الأمم في أوروبا وآسيا وأفريقيا بعد الهزائم وقلاقل الحكم وأزمات المعيشة، كلها ثورات وجدت من يقودها من الجماعات المنظمة بعد سقوط الدول لأسباب متفرقة أشد التفرق، متباعدة أشد التباعد في المصادر والدعاوى والغايات.
إنما حق الشيوعية من العلم أن نفسرها بتفسير الظواهر النفسية في الطبائع المريضة، فأكبر مبادئها واضح البطلان إذا طبقته على قواعد البحث وبرامج الإصلاح، وأصغر وساوسها - بل أخفى خفاياها - واضحة المعنى إذا رجعت بها إلى دخائل النفوس المريضة التي تتحفز للنقمة وتلبي كل من يحفزها إليها.
و«كارل ماركس» لم يبتدع الشيوعية؛ لأنه رجل عطوف حريص على تخفيف الآلام ورحمة الضعفاء، والذين صدقوه لم يصدقوه لأنهم فكروا في مبادئه، أو يقدرون على التفكير في مبدأ من المبادئ على إطلاقها، فإن تسعة أعشارهم لا يقدرون على التفكير لمحة عين ولا يبالون أن يقدروا عليه، ولكنهم يصدقون الشيوعية؛ لأنها تشبع فيهم بواعث النقمة وترضيهم عن خطتهم التي يتبرمون بها ويمتلئون بصغارها، وإنهم لتصدمهم أكاذيب الشيوعية وأكاذيب دعاتها أكذوبة بعد أكذوبة، ثم تبقى الشيوعية بحذافيرها حيث كانت من طبائعهم أن لم يزدها الغضب على من يكذبونها، لأن الشيوعية بحذافيرها قبل الاستماع إلى دعوتها، وبعد الاستماع لكل حجة تناقضها، هي كلمة واحدة، حيث رجعت إليها من طبائع دعاتها ومصدقيها، وتلك هي كلمة «النقمة» على كل إنسان وعلى كل شيء.
وليس على بصيرة بطبائع هذه النفوس من يحاول أن يقنعها بالحجة والعيان، وليس بسليم اللب من يحاول أن يصرف عن الشيوعية لئيما تسميه الإنسانية مجرما وتسميه الشيوعية ضحية المجتمع، أو ماجنا تسميه الإنسانية حقيرا وتسميه الشيوعية متقدما يحتقر الرجعية وآدابها، أو امرأة هلوكا تسميها الإنسانية بغيا وتسميها الشيوعية متحررة من رق الزوجية المفروضة عليها، فهذه محاولات مخفقة من البداءة أيا كان موقعها من الحجة المقنعة والعيان الملموس . وسنعرض حقيقة الشيوعية - بعد تلخيصها - من هذه الناحية التي تحتويها من طرفيها، وسنرى أنها واضحة جدا، كلما رجعت بها إلى مصادرها من النفوس المريضة، وأنها مبهمة جدا كلما صدقنا لجاجة المتحدثين عنها باسم العلم والإصلاح.
المذهب
تقوم المادية الماركسية على أساس مستعار من مذهب هيجل
1
الفيلسوف الألماني صاحب «المثالية» أو «الفكرية الحديثة»، ويقول «لينين» في تعليقاته الفلسفية التي نشرت بعد موته: «إن كتاب «رأس المال» لا معنى له بغير مذهب «هيجل» القائم على تطور النقائض أو الثنائية.»
ولباب مذهب «هيجل» أن الوجود الحق إنما هو وجود الفكرة المطلقة، وأن الفكرة أبدية أزلية قادرة على كل شيء ولكن بالقوة والقابلية، فإذا أردت أن تحقق كل شيء بالفعل فإنما سبيل ذلك أن تحققه في أطوار التاريخ.
والفكرة تعرف كل شيء كذلك بالقوة والقابلية، ولكنها تتطور لتعرف نفسها بالفعل وتصل إلى أرفع أطوارها في وعي الإنسان.
وغايتها القصوى أن تعرف كل شيء، أي أن تعرف نفسها؛ لأنها هي كل شيء، وبهذه المعرفة تتحقق الحرية المطلقة من جميع العوائق، فتصل الفكرة إلى طور من أطوار الحرية، كلما وصلت إلى طور من أطوار المعرفة إلى أن تتم هذه الأطوار بتمام المعرفة وتمام الحرية.
وإذا كانت الفكرة مطلقة أبدية أزلية، فهذه الأطوار محدودة، وكل طور منها ناقص يتممه طور آخر، وهذا الذي يسميه «هيجل» قانون النقائض، أو قانون الثنائية، أو كما سماه بعضهم قانون الحوار من باب المجاز؛ لأن الحوار يقدم رأيين متقابلين، فكل طور من أطوار التاريخ لا يشتمل على كل كامل، بل يشتمل على جزء يقابله جزء آخر، وتكمن فيه جرثومة التناقض؛ لأنه بعض وليس بكل محيط بجميع الخصائص والمزايا والأطوار.
فنحن لا نفهم شيئا من الأشياء بما هو عليه فقط، بل نفهمه بما ليس عليه أيضا، أو كما قيل في المثل القديم: «وبضدها تتميز الأشياء.» فالشيء الموجود ونصطلح على تسميته ب «الفعل»
2
يقابله نقيض،
3
ويتألف منهما معا وجود أكمل منهما؛ لأنه يجمع مزايا الاثنين، وهو في إصطلاح «هيجل» مركب النقيضين.
4
فهناك فعل وهناك ضد لذلك الفعل، ثم يتركبان فيصبحان شيئا واحدا، ثم يبدأ التناقض مرة أخرى حتى ينتهي إلى تركيب أتم من التركيب الأول، وعلى هذا النمط المتتابع يتطور التاريخ وتتقدم المعرفة والحرية، لأنها معرفة تأتي من وجوه متعددة، وتأتي بعد الخلاص من قيود النقائض التي يحد بعضها بعضا، فكل نقيضة منها تحد ما يقابلها.
والتناقض - على هذا - هو دافع الحركة ودافع التقدم والحرية، إلى أن يبطل التناقض في الأجزاء باحتوائها جميعا في الكل لا يوجد شيء خارجه، ولا يوجد من ثم شيء يناقضه، فهو الحرية بغير حدود والمعرفة بغير مجهول.
ومقتضى مذهب «هيجل» أن الحكومة البروسية هي أعلى ما ارتقى إليه الوعي الكوني من أطوار التاريخ، وبقيامها بين المحكومين تتحقق حرية الجميع؛ لأن حرية كل منهم تصطدم بحرية الآخر إذا لم تجتمع هذه النقائض جميعا في قوام واحد، وهو قوام تلك الحكومة.
ولذلك كان للفيلسوف «هيجل» حظوة كبرى في أعين السادة والأمراء الألمان، وكان هو الفيلسوف الوحيد الذي يحضرون دروسه مع الطلاب، وإن اتفق معه في مواعيد الدرس فلاسفة آخرون.
وعلى حسب مذهب «هيجل» هذا يمكن أن يقال: إن الفوضى الأولى في المجتمعات البدائية تبعتها السلطة المطلقة، ثم اجتمع من الفوضى والسلطة المطلقة نظام الاستبداد المحدود، ثم ظهر نقيض الاستبداد المحدود في نظم الحكومات الديمقراطية والإمبراطورية والمتحدة. كأنها حلقات الماء التي تحيط كل حلقة منها بالحلقات التي تقدمتها، ثم تتسع وتتسع، ولا تزال في كل مرة قابلة للإحاطة بما قبلها والامتداد إلى ما بعدها.
وتتعدد مظاهر التاريخ عند «هيجل» فتدل عليها الأفكار والفنون، كما تدل عليها الدول والنظم والقوانين، وتخلق فينا هذه المظاهر بواعث الرجاء ثم تأتي بعدها بواعث اليأس مما كنا نرجوه، فما يقوينا وينهض بعزائمنا اليوم يعود فيملأ نفوسنا باليأس لكي نتخطاه، ونتطلع إلى رجاء أعظم وأبقى، ومن هنا تترقى الأديان والمعتقدات وتترقى المعرفة وشعائر الإيمان، فكل إيمان في حالة من أحوال المعرفة يتبعه إيمان أعظم منه في حالة أعلى وأوسع من تلك الأحوال.
وجاء «كارل ماركس» فأبقى إطار هذا المذهب وأفرغه من محتوياته، ونقله من مذهب فكري إلى مذهب مادي لا يرى في الكون شيئا غير المادة، وسمى مذهبه بالمادية الثنائية، وسمى قوانينها التي تسيطر على تاريخ الإنسان بالتفسير المادي للتاريخ، فالمادة هي كل شيء، والفكرة مخلوقة من المادة، والوعي الإنساني هو أعلى ما ارتقت إليه المادة من أطوار التاريخ.
وعند «كارل ماركس» أن هذه الأطوار تتناقض، ويحمل كل طور منها جرثومة نقيضه، ويطبقها على المجتمع الإنساني فيقول: إن الضرورات المادية في المجتمع هي التي تحرك أدوار التاريخ، فيأتي كل دور منها بنقيض ما تقدمه، ولا تزال تتعاقب نقيضا بعد نقيض حتى يأتي الدور الأخير في المجتمع الإنساني، فيخلو من النقائض ويستولي على المجتمع نظام واحد لا أضداد فيه.
ولما كانت الضرورات المادية تحتاج إلى إنتاج - بعد حالة المشاع التي كانت عامة في المجتمعات البدائية، فالمشرفون على وسائل الإنتاج هم الذين يحكمونه ويخلقون له العرف الذي يلائمه والعقائد التي تتمشى مع مصالحهم، والأخلاق التي تكفل البقاء لسيادتهم، ولا تنقضي دولتهم إلا إذا انقضت وسائل الإنتاج وخلفتها وسائل غيرها يملكها أناس آخرون، وهذا ما يسميه حرب الطبقات.
وهذه هي النقائض المادية التي يعول عليها في تفسير التاريخ.
ففي البدء كانت المشاعية التي لا ملكية فيها لأحد، ثم استولى السادة على وسائل الإنتاج باستخدام الأرقاء والمسخرين الذين هم في حكم العبيد، ثم ذهب هؤلاء السادة وجاء بعدهم الفرسان أرباب الإقطاعات الذين يسخرون الزراع كما كان أسلافهم يسخرون الأرقاء، ثم جاء بعدهم تجار المدن وأصحاب الأموال البرجوازيون، أو الطور الأول من أطوار رأس المال، ثم جاء الطور الثاني من أطوار رأس المال مع تقدم الصناعة، ونشوء الصناعة الكبرى في عصر البخار والمخترعات الحديثة.
ونقائض التاريخ الإنساني - على هذا - تنتقل من عصر المشاعية البدائية إلى عصر الرق إلى عصر الإقطاع إلى عصر البرجوازية إلى عصر رأس المال الأخير، وهنا تنتهي النقائض لانتهاء عصر الاستغلال.
ففي عصر الرق يستغل السادة عمل العبيد، وفي عهد الإقطاع يستغل الفرسان عمل الفلاحين والصناع، وفي عصر البرجوازية يستغل أرباب الأموال عمل الأجراء، وفي عصر الصناعة الكبرى تنحصر الأموال شيئا فشيئا بين أيدي القلة الصغيرة من أصحاب المصانع والشركات، حتى يستنزفوا ثروة المجتمع، فلا يبقى فيه غيرهم وغير المسخرين لهم محرومين من كل شيء إلا السلاسل والأغلال.
ويثور هؤلاء على سادتهم يأسا من كل خير يأتيهم من المجتمع «الرأسمالي» فيزيلونهم ويقبضون بعدهم على أزمة الإنتاج بغير استغلال وبغير تسخير. وهذه هي غاية التاريخ الإنساني التي تبطل فيها النقائض، ولا تبقى فيها غير طبقة واحدة ينتهي بعدها صراع الطبقات، وينتهي عندها كل صراع في الحياة الاجتماعية، إذ كانت وسائل الإنتاج هي مدار الصراع كله في أوائل حركات التاريخ.
في هذا العهد يئول كل شيء إلى كل إنسان، فلا يوجد من يملك أرضا أو مالا يستأثر به دون سائر أبناء المجتمع، ويظل شعار المجتمعات الإنسانية أبدا: «من كل أحد حسب قدرته إلى كل أحد حسب حاجته.» ولا سيطرة ولا دولة، ولا نزاع، ولا حروب.
ولما كانت الحكومات إنما تقوم لحماية المالكين لزمام الإنتاج الاقتصادي، فلا ضرورة للحكومات مع شيوع الثروة وتوزيع الأموال، ولكنها قد تبقى زمنا محدودا خلال فترة الانتقال، ثم تتضاءل وتذوي شيئا فشيئا حتى تذهب في النهاية غير محسوس بها وبغير جهد من المحكومين.
وعلى حسب المادية الثنائية، يموت كل دور من أدوار التاريخ بجراثيم الفناء التي تتولد في بنيته بطبيعة تكوينه، ولكنه لا يموت حتى يبلغ قصاراه من التمام، فإذا تمت مقوماته جميعا فآخر عهده بالتمام أول عهده بالزوال.
وقد آلت أدوار الاستغلال إلى دور الاستغلال الأكبر وهو دور الصناعة الكبرى، وهو استغلال يعيش بالقيمة الفائضة، وينمو بالقيمة الفائضة، ثم يموت بالقيمة الفائضة.
وما هي هذه القيمة الفائضة؟
هي في مذهب «كارل ماركس» نظرية العمل والكسب؛ لأنه يقرر أن العمل يعطي كل شيء قيمته، فلا قيمة لشيء من الأشياء بغير العمل الاجتماعي الذي يبذل فيه.
وإذا لم يكن هناك استغلال وجب أن يأخذ العامل ثمرة العمل كله؛ لأنه - بهذا العمل - يعطي الثمرة قيمتها التي لا قيمة لها بغيره .
إلا أن صاحب المال يستغل اضطرار العامل ، فلا يعطيه من عمله إلا الكفاية لقوته وما هو في حكم القوت من ضرورات المعيشة، ثم يأخذ الزيادة لنفسه، ويتصرف بها في توسيع ثروته ونفقاته، وهذه الزيادة هي التي يسميها «كارل ماركس» بالقيمة الفاضلة.
ومن لوازم رأس المال في عهد الصناعة الكبرى، أنه يزيد اضطرار العامل إلى قبول الأجر القليل يوما بعد يوم؛ لأن أدوات الإنتاج - من الآلات الضخمة - تغلو كلما تقدمت الصناعة، فلا يستطيع اقتناءها وإدارتها إلا صاحب المال الكثير، هذا من جهة.
ومن الجهة الأخرى يتنافس أصحاب الأموال بنقص الأثمان فتنقص الأجور، ثم يبلغ هذا النقص حدا لا يتجاوزه لأنه يمس الضرورات المعيشية التي لا غنى عنها للأجسام الحية، فيلجأ أصحاب الأموال إلى زيادة الربح بزيادة قدرة المكنات على الإنتاج، ولا تزال هذه القدرة تزداد حتى تخرج للأسواق فوق حاجتها وحتى ترتفع أثمان المكنات إلى أعلاها، فيزداد العامل اضطرارا على اضطرار، كلما كسدت البضائع وارتفعت أثمان المكنات، وتمادى التنافس بين المنتجين إلى نهاية لا مناص عندها من الوقوف والحيرة بين المتناقضات، وهذه هي أزمة الأزمات في نظام رأس المال.
ويحدث في أثناء هذا التنافس أن يعصر أصحاب الأموال بينهم كل مشتغل بالصناعة من المتوسطين أو الفقراء، فيلحق كل فريق منهم بأقرب الطبقتين إليه، فريق يلحق بأصحاب رءوس الأموال، وفريق آخر يلحق بالأجراء الذين لا يملكون غير القوت، وهم البرولتارية أي الطبقة التي لا تنتج غير الأطفال، وإلى هذه الطبقة يوجه «كارل ماركس» نداءه الذي يقول فيه: «اتحدوا يا صعاليك العالم، فأمامكم عالم تغتنمونه وليس عندكم من شيء تفقدونه غير القيود والأغلال.»
ويعلم «كارل ماركس» أن العالم الذي يدعو الصعاليك إلى هدمه يقوم على الأوطان والعقائد وآداب السلوك والعرف المتبع بين الأمم، فيقرر أن هذه الأشياء كلها تابعة لنظام رأس المال، ولا بد أن تزول ولا تبقى منها بقية ليزول ذلك النظام، فإنما الأوطان، والعلاقات الاجتماعية، والعقائد، والأخلاق كافة، وليدة النظم السياسية لحماية القائمين على مصادر الثروة، وأي فكرة تنشأ في مجتمع إنساني، فلا محل لها فيه إلا أن تكون عونا لذوي السلطان على دوام ذلك السلطان.
والنظر في حقيقة هذا المذهب يتطلب النظر في أهم مبادئه التي وردت موجزة فيما تقدم، وهي المادية ووسائل الإنتاج وصراع الطبقات، والقيمة الفاضلة، ونشأة العقائد والآداب.
وسيكون النظر في هذه المبادئ موضوع الفصول التالية، نبدأها ببيان علاقة المبدأ بالظواهر النفسية، ونتبع ذلك بزيادة في الشرح لتمحيص الدعوى العلمية التي يدعيها أصحابه لجميع مبادئه وقضاياه وتفسيراته وعواقبه، التي تستلزمها تلك المبادئ والقضايا والتفسيرات، ولا تقبل عاقبة غيرها في كبيرة ولا صغيرة من حوادث التاريخ.
وأول هذه المبادئ الهامة مبدأ المادية الثنائية؛ لأنه يحيط بها جميعا ويسميها باسمه بين المذاهب الفكرية والاجتماعية، ويقيمها على أساسه، فلا قوام لها بغير هذا الأساس.
المادية
تفسير «المادية» بالظواهر النفسية واضح قريب التناول، فهي أدنى المذاهب إلى اليأس والعنف والخطط الآلية، وأشد الماديات إغراقا في اليأس والعنف تلك المادية التي اختارها «كارل ماركس» وسماها بالمادية الثنائية.
فالمذاهب المادية متعددة، أشهرها المادية المكنية والمادية الناموسية.
والمادية المكنية هي التي تتخيل الكون في صورة مكنة مدارة، تتركب كل أداة منها في موضعها وتدور كلها كما تدور الآلات، وهي مذهب يفتح الباب لتصوير «المدير» الذي يركب تلك الآلة ويحرك دواليبها ويضع كل جزء منها في موضعه ويديره بالتوافق مع الأجزاء الأخرى لإنجاز عملها وتحقيق أغراضها، ومثل هذا الباب قد تأتي منه الرحمة، وقد يفضي إلى افتراض القدرة المدبرة الحكيمة، فلا ينبغي أن يفتح ولا بد من إغلاقه وإن لم تقم في المذهب الماركسي حجة تسوغ ذلك الإغلاق.
يقول «كارل ماركس» في رسالته عن الفيلسوف فيورباخ
Feuerbach : «إن العيب الأكبر في مذاهب المادية الموجودة - ومنها مادية «فيورباخ» أن الموضوع والواقع والحس إنما تفهم على أنها موضوعات للتأمل، ولا تفهم على أنها عمل إنساني يحس ويتصرف، وأنها هي صاحبة الفاعلية.»
فلا بد عند «كارل ماركس» من مكنة تدير نفسها من باطنها، ولا يمكن أن تدار من خارجها على فرض من الفروض، ولهذا يجب أن تسقط المادية المكنية أو «المكنازم» من الحساب على أي احتمال .
وشبيه بالمادية المكنية من بعض الوجوه مادية النواميس، وهي التي يقول أصحابها: إن ظواهر الكون المحسوسة كلها مادية تديرها النواميس المركبة في طبائعها، وتتحرك في نطاقها بأمر خالق المادة وخالق النواميس، وقد تدخل في هذه المادية فلسفة الهند القديمة التي ترى أن المادة وهم ظاهر، وأن الحقيقة المطلقة وراء هذه المحسوسات وهذه النواميس.
وإذا كانت المادية المكنية مرفوضة في رأي «كارل ماركس»؛ لأنها قد تفتح الأبواب لافتراض المدير المدبر، فالمادية التي تؤمن بوجود الحقيقة من وراء الظواهر والنواميس مرفوضة من باب أولى.
ولا يعنينا هنا أن رأي «كارل ماركس» صحيح أو غير صحيح، ولكن الذي يعنينا منه موقعه من الظواهر النفسية، وهو أقرب المذاهب موقعا من اليأس والعنف والخطط الآلية.
أما البحث في هذه المادية بمقاييس الفكر والعلم فمحصوله أنها ترقيع، وأنها تفكير ساذج، وأنها بقية من بقايا الخرافات الإسرائيلية، وأنها لا تنتهي إلى نتائجها التي انتهى إليها «كارل ماركس»، ولو صحت مقدماتها المفروضة، وليس منها فرض صحيح، فمن الترقيع أن تستعار فلسفة «هيجل» من المثالية إلى المادية وتستعار معها مصطلحاتها وأطوارها، ثم يقال: إنها باطلة كما وضعها صاحبها، وصحيحة كما استعارها منه «كارل ماركس».
إن الفلسفة النظرية تصويرات أو تصورات في الذهن تحتمل التجوز الكثير؛ لأنها تبحث في شئون يقدرها الذهن ويرى أنه بلغ فيها قصاراه إذا خلص منها إلى تقريب الحقيقة إلى الإدراك الإنساني بعض التقريب، فإما أن يقال: إنها باطلة في النظر، صادقة في الواقع من قبيل المصادفة بجميع مصطلحاتها، فذلك هو الترقيع السخيف الذي لا مثيل له فيما نعهده من ترقيعات الرثاثة والسخافة؛ لأنه يرقع الشيء بغير مادته، أو يرقع النظريات بالواقعيات ويزعم أنها تلفق لها بالمصادفة، ولا تلفق حيث وضعها فيلسوف الحكمة المثالية.
والسذاجة في المادية الماركسية أظهر من سخافة الترقيع والتلفيق؛ لأنها تقوم على النظرة العامة السهلة التي كانت شائعة بين جمهرة المتعالمين في القرن التاسع عشر، ممن يستسهلون التحقيق والتفسير، ويظنوهما شيئا ملموسا قريبا من دق المائدة بالأيدي وخبط الأرض بالأقدام، وهذه هي الحقيقة في رأيهم لا ما يتوهمه الواهمون في أحاديث الغيب والخيال.
كان أحدهم ينكر تفسير الكون بالفكرة أو بالحقائق الغيبية، ويقول - وهو يدق بيده على المائدة ويخبط بقدمه على الأرض: هذه هي الحقيقة التي تفسر لنا كل شيء وليست تلك الفروض المغيبة وراء الواقع الملموس باليدين.
وعند هؤلاء أن المادة مفسرة بالبداهة، ناطقة بالبداهة، غنية بالبداهة، عن كل تفسير وكل تعبير.
هذه هي المادة تحت يديك وقدميك وأمام عينيك، فما حاجتها إلى التفسير والتعبير؟
هذه النظرة الساذجة هي نظرة «التفسير المادي» للوجود ظاهره وخافيه، وهي نظرة «كارل ماركس» في تفسير الكون وتفسير التاريخ وتفسير كل محتاج إلى تفسير، إلا المادة نفسها، فإنه لم يحاول قط أن يفسرها ويفسر حقيقتها في الحس أو في العقل أو في الخيال؛ لأن تفسيرها في وهمه - أو في عمله - أن تضرب بيدك على المائدة فإذا هي هناك، وأن تخبط بقدمك الأرض فتسمع «وجودها» ناطقا صادقا غنيا عن البيان.
وسذاجة هذه النظرة لم تكن خفية في عصر «كارل ماركس» لو شاء أن يتأنى، ولم يشأ أن يتعجل بحافز من الرغبة في تقرير ما يوافق هواه، ولكنها في عصره ربما كانت خفية على المتعجلين بادية لمن يؤثرون الأناة والروية أمام المجهول.
أما اليوم فكل سامع من الملمين بأطراف الحديث عن المادة، يعلم أن مشكلة الروح في أعمق أعماقها لم تواجه الذهن بعقدة في تفسيرها كالعقدة التي تواجهه عند تفسير المادة، نقول: «كل سامع» من الملمين، ولا نقول: «كل دارس أو كل عليم»؛ لأن حديث المادة في أصولها وراء الذرة والشعاع، قد أصبح من الأحاديث المتواترة على كل لسان.
ما هي المادة؟
ليست هي هذا اللون المنظور؛ لأنك لا تنظره إلا بشبكة العين الإنسانية، فإذا ضاقت أمواجه أو اتسعت فلا لون أمام عينيك، وليس هذا اللون بعينه منظورا لكل ذي عين من الأحياء.
وليست المادة هذه الدقة التي تسمعها إذا ضربت المائدة بيدك؛ لأن يدك لا تدق شيئا إذا تضاعفت قوتها مئات الأضعاف أو ألوف الأضعاف، بل تجري دون المائدة كما تجري في هذا الفضاء.
وليست المادة هذا الوزن الثقيل أو الخفيف؛ لأنها تقوم بغير هذا الوزن وراء حدود الجاذبية الأرضية، المادة ذرات، والذرة لا يدري أحد أهي موجة أو جوهر فرد صغير بالغ في الصغر، ولكنه يقبل الانقسام فيطير شعاعا في الأثير.
وما هو الأثير؟ كل ما قيل عن الروح أيسر فهما وأقرب إلى الإدراك من هذا الأثير.
شيء لا لون له، ولا كثافة، ولا حركة، ولا تصدق عليه خاصة من خواص المادة في علم العارفين بها والعاملين في ذراتها.
وقبل أن نصل إلى هذا اللغز المركب نقف عند الذرة وما فيها من البروتون والنيوترون والإلكترون، وما يقال عن البروتون السالب في الفضاء المستعصي على الفهم في حيز هذا الجو، وعلى مقربة من عناصر المادة وأجزائها إلى أدق دقائقها المدركة بالفرض والتخمين.
و«كارل ماركس» مع هذا - يظن في علمانيته التي لا حد لها - أنه يفسر بهذه المادة كل شيء، وأن هذه المادة غنية كل الغنى عن تفسير المفسرين وتقدير المقدرين، يقول في البيان المشترك: «إن الشبهات التي تلقى على الشيوعية من جانب الدين، أو جانب الفلسفة، أو جانب الأفكار النظرية على العموم - غير جديرة بالجد في تمحيصها واختبارها، فهل يحتاج الأمر إلى بداهة عميقة لنعلم أن خواطر الإنسان وآراءه ومداركه - أو بكلمة واحدة وعيه - يتغير مع كل تغير يطرأ على كيانه المادي وعلاقاته الاجتماعية وحياته العامة.»
لا، إن هذه الحقائق المادية عائمة على السطح لا تحتاج إلى بداهة، ولا اختبار، ولا امتحان، ولا تردد، ولا تقبل كلمة أخرى غير الكلمة التي يرسلها «كارل ماركس» من طرف اللسان، فلا يضطرب فيها قولان.
وندع أسرار المادة جميعا، ونسلم مع «كارل ماركس» أنها مجردة من كل سر ننتظر به المستقبل لكشف خباياه، وأنها مفسرة صالحة لتفسير جميع نواميس الكون ووقائع التاريخ، فلماذا يلزم من ذلك أن وسائل الإنتاج هي التي تتحكم في تاريخ الإنسان؟! ولماذا يكون الناس أحق بهذه القوة من الأدوات الصماء؟!
إن مطالب العيشة ضرورة لا غنى عنها لجميع الأحياء، ولكن ضرورتها هذه لم تمنع الأحياء أن يتعددوا أنواعا وأفرادا لم تحصرها العلوم بعد، ولم تحصرها الحواس والعقول، واضطرارها جميعا إلى مطالب المعيشة، لم يمنع هذا التنوع الهائل في أجناسها وطبائعها وآحادها.
فلماذا نسقط هذه القوى الحية من حسابنا ولا نلتفت في تفسير أطوار التاريخ إلا لوسائل الإنتاج الصماء؟ لماذا تكون هذه القوى الحية رهينة بالآلات الصماء؟ ولماذا تكون كذلك بعد ظهور نوع الإنسان وهو الذي يصنع تلك الآلات الصماء؟
يقول «ماركس» و«إنجلز» فيما جاء من مجموعة الرسائل المختارة: «إننا نعتبر أن الأحوال الاقتصادية هي العامل الذي يقرر أخيرا أطوار التاريخ، ولكن النوع الحيواني هو نفسه عامل من العوامل الاقتصادية.»
وكثيرا ما جاء في كلام «ماركس» و«إنجلز» أن الإنسان فاعل منفعل، وأنه بين القوى المادية هو القوة الوحيدة التي لها عقل وإرادة، فلماذا تكون هذه القوى العاقلة المريدة رهينة بالآلات الصماء ولا تكون الآلات الصماء تابعة لها في جميع الأحوال؟!
وإذا هبطنا بالإنسان عن عليائه وسوينا بين تأثيره وتأثير المكنات، فلا أقل من أن نسوي بين القوتين في التأثير، تارة للجماعات العاقلة الرشيدة وتارة لأدوات الخشب والحديد، فهذه إذن حلقة مفرغة لا يتبين أحد منها على سبيل الحتم موضع الابتداء وموضع الانتهاء. ولا يستطيع أحد أن يقول على سبيل الحتم: أين ابتدأت إرادة الإنسان، أو أين ابتدأ إحساسه بالمطالب الجديدة في شئون المعيشة، وأين ابتدأ عمل الآلات والمكنات؟! لا يستطيع أحد أن يقول: إن الناس أحسوا هنا فأرادوا فغيروا واخترعوا، وإن الآلات وجدت بعد ذلك، فتسلمت بين يديها أطوار التغيير والتبديل، وهما إذن على الأقل عاملان متساويان متعادلان مجهولان على حد سواء أو معلومان على حد سواء، فلماذا اختار «كارل ماركس» على سبيل الحتم أن يكون الحكم الأخير للآلة، وأصر على ذلك إصراره الذي نلمحه متشنجا من أجله لكل مخالفة له في تقديره، ولم يقع اختياره على العامل الآخر عامل الإرادة والعقل والحياة؟!
أما سبب ذلك في الظواهر التاريخية، أو في أسانيد البحث والنظر، فغير مفهوم وغير ثابت وغير قاطع في ثبوته إن كان له نصيب من الثبوت. وأما سببه في الظواهر النفسية فلا عناء في البحث عنه؛ لأنه يفسر لنا كل شيء ولا يختلف عليه تفسيران.
سببه في الظواهر النفسية أنه هو الطريق الوحيد لإشباع شهوة النقمة والشر في طبيعة «كارل ماركس» وأنه الأساس الوحيد الذي يقوم عليه افتراض المجتمع الذي لا طبقات فيه، وتسويغ الهدم والعدوان على كل ما عداه.
ينبغي أن تكون الآلات هي الحكم الأخير في إنشاء الطبقة التي تستولي عليها ولا تأتي بعدها طبقة تناقضها.
أما إذا كانت العوامل الإنسانية هي الحكم الأخير، فالباب مفتوح لإنشاء نقيض جديد للمجتمع الأخير، وطبيعة الإنسان بنقائضها الكثيرة كفيلة بالانتقال مرحلة أخرى من نظام إلى نظام؛ لأنها هي مصدر النقائض ومصدر البواعث إلى اختراع الآلات.
يجب إذن أن تكون الطبقة الأخيرة طبقة بغير نقيض؛ لأنها تستولي على وسائل الإنتاج.
أما إذا كانت وسائل الإنتاج لا تمنع النظم الإنسانية أن تتناقض ولا تمنع البواعث النفسية أن تعمل في طلب السيادة والسلطان، فمن أين يأتي الشر والخراب، وكيف ترتفع الصيحة بهدم كل ما كان وكل من كان من تراث الأمم والأزمان؟!
يثبت شيء واحد لا يستغني عنه «كارل ماركس» في سبب ولا نتيجة، وهو شهوة الهدم، ثم يركب عليه الأسباب والنتائج أو يدعها لك تركبها كما تشاء، وما دام هناك باب مفتوح للهدم، فكل ظن ثابت ثبوت اليقين، وكل ما عداه كفر وبهتان.
وباب الهدم لا ينفتح إذا كانت النقائض تأتي من القوى الحية؛ لأن هذه القوى الحية تخرج لنا طبقة جديدة بعد كل طبقة، وتسلط عواملها الدائمة العميقة الأغوار لطلب السلطان، أو طلب السيادة على المجتمع الجديد.
ويا للخسارة إذن ويا لخيبة الرجاء!
لا محل إذن لاستئصال الجماعات وتقويض ما بناه الناس في مختلف الحضارات، ولا محل إذن للغاية الأخيرة التي من أجلها نقتحم جميع الغايات.
ولا ضرورة للبحث عن تفسير جامع مانع لمعنى المادة، ولا عن دليل قاطع على غلبة الأدوات والآلات، إذ يكفي أن تنظر وراء جميع الفروض والتخمينات، فترى الهدم هناك أو لا تراه، وحيث ترى الهدم فكل شيء ثابت، وكل شيء واضح، وكل شيء مفسر اليوم، ومفسر إلى آخر الزمان، وحيث لا ترى الهدم، فكل شيء باطل مناقض للعلم متهم النية متهم الدليل!
ومن سخرية القدر أن النظامين اللذين قاما في أضخم بلاد العالم وانتسبا إلى «المادة الماركسية» قد فعلا في نقضه أضعاف ما فعلاه في إثباته، وهما نظام روسيا ونظام الصين.
فكل منهما قد هدم القاعدة الأولى من قواعد المذهب؛ لأنه هدم قوله: إن الثورة السياسية تابعة للثورة الصناعية، وأثبت أن الثورة السياسية هي التي تنشئ الصناعة الكبرى، أو هي التي تهيئ الأسباب لإنشائها، ولا حاجة بالثورة السياسية إلى تلك التلفيقات اللولبية، التي يتملص فيها دعاة المذهب من جحر ليدخلوا في جحر آخر، ويجعلوها مقدمات محتومة في زعمهم تفضي إلى نتائج محتومة لا مهرب منها، ولا حتم هناك، وإنما هو الترخص أو الاستثناء الذي يجوز في كل مذهب، ولا يستأثر بطريق واحدة للتاريخ لا يؤذن له في خطوة يخطوها إلى وجهة غيرها.
فالثورة الروسية قامت بعد الحرب العالمية الأولى في بلاد ترجع إلى الصف الأخير بين صفوف البلاد الصناعية، والثورة الصينية التي انتسبت إلى المذهب المادي، قامت بعد الحرب العالمية الثانية على أيدي الفلاحين خلافا لما توقعه جميع الأقطاب الشيوعيين خارج الصين، وعلى رأسهم «ستالين».
والصين - بعد - هي البلاد التي اخترعت المطبعة والبارود والإبرة المغناطيسية والمدن التجارية وعملة الورق ومصارف الموانئ وسلسلة المعاملات «البرجوازية»، التي انتشرت في بلادها وتجاوزتها إلى غيرها، ولم تفعل تلك الأدوات شيئا مما فعلته في أوربة، وفرضت به فرائضها المحتومة على مجرى التاريخ من نظام الرق إلى نظام رأس المال.
وإذا جاز مثل هذا الترخص أو الاستثناء، فما هو وجه الحتم الذي لا يرتضي مقدار شعرة من الحيد إلى يمين أو يسار، ولا يحتمل من المستقبل البعيد تعديلا من مفاجآت التاريخ، أو من مبتكرات التطبيق؟
يتساءل «كارل ماركس» بغير حق: هل يحتاج الإنسان إلى بداهة عميقة ليعلم أن تاريخ الإنسان يتوقف على ضروراته المادية؟ ويلقي هذا السؤال، ولا يلقي بالا إلى الضرورات التي تنشأ من الإنسان وقد ينشئ من أجلها الآلات ووسائل الإنتاج.
ولكننا نتساءل بحق: هل يحتاج الإنسان إلى بداهة عميقة؛ ليعلم أن وسائل الإنتاج ووسائل الإشراف عليها وراء الحسبان من الآن إلى آخر الزمان أو آخر الأزمان.
ما هي وسائلنا الصناعية اليوم إلى جانب وسائل الطاقة الذرية؟ وما هي وسائل الطاقة الذرية إلى جانب القوة المغناطيسية وقوة الجاذبية؟
لقد كان يسيرا على «كارل ماركس» أن يتخيل في زمانه مجتمعا يستولي فيه الصانع على مكنات الصناعة، فلم تمض على زمانه عشرون سنة، حتى أصبحت إدارة المكنة الكبيرة هندسة يتخصص لها المدير بدراسة السنين، ولا ينفرد بعدها بإدارتها دون الخبير الإداري والخبير الاقتصادي والخبير السياسي والخبراء في غير الإقليم على نحو من الخبرة يناسب كل إقليم.
أهو لعبة هذا المصير الإنساني بمفاجآته واحتمالاته ونقائضه وأعاجيبه، يأتي رجل واحد في بضع سنوات ليفكها ويركبها على حكمه وهواه، ثم يغلق الباب، فلا مراجعة ولا تردد ولا ارتياب.
أهذا هو العلم وما عداه هو الوهم أو الحلم أو الخرافة أو الوبشية في التفكير؟ كلا، مع استعارة قليلة من «كارل ماركس» في توكيداته الخارقة بغير موجب للتوكيد، إذ لا يحتاج الإنسان إلى بداهة عميقة ليرى أن الخرافة هي هذا الهراء، وأن العلم وسلامة التفكير من هذه الخرافة براء.
قلنا: إن المادية الماركسية بقية من بقايا الخرافات الإسرائيلية، على ما فيها من الترقيع والتفكير الساذج والنتائج التي لا تستلزمها المقدمات.
فإذا رجعنا مرة أخرى إلى الظواهر المادية، فهناك خرافة النعيم الألفي
1
التي امتلأت بها الأساطير الإسرائيلية العتيقة، ولم يفلت «كارل ماركس» من أوهامها على الرغم من صيحاته باسم العلم أو صيحاته على أفيون الشعوب أفيون الأديان.
والنعيم الألفي خرافة إسرائيلية تقول لشعب الله المختار: إن العالم سيخرب بعد ألفي سنة، ثم يخرج من في القبور من أبناء إسرائيل، فيعمرونه في نعيم مقيم لا تبديل فيه ولا تأخير ولا تقديم، هذا النعيم الألفي هو ميراث اليهودي «كارل ماركس» من أساطير قومه، وله ميراث آخر من عاداتهم وتقاليدهم، وإن لم يكن من الخرافات أو النبوءات.
ميراثه الآخر هو تقديس الفلوس! ما الذي يحرك التاريخ؟ الفلوس! ومن الذي يسود العالم؟ صاحب الفلوس!
ومن هم القابضون على زمام الحضارات والعقائد والآداب والفنون والأخلاق، وكل ما يشتمل عليه تاريخ الإنسان في السر والعلانية وفي هذا الزمان وما غبر من الأزمان، وما سيأتي أو سوف يأتي من الأزمان؟!
سبحان الله، هل يحتاج الإنسان إلى بداهة عميقة ليعلم أن القابض على هذه الأزمة جميعا هو القابض على مفاتيح الفلوس؟!
هذه إحدى الظواهر النفسية التي لا بد منها لتفسير المذهب الماركسي بين ظواهره وخباياه، وهي تنقضه ولا تفسره وكفى، لأنها ترينا كيف يكون صاحب المذهب ثمرة من ثمرات الظواهر النفسية تعمل عملها، حيث تصادفها الظواهر النفسية من قبيلها، وقلما تصادفها مقدمة من مقدمات التفسير المادي على وفاق المذهب وأحاجيه وقضاياه.
الشيوعية والطبقات
الطبقات والإنتاج
تاريخ الإنسانية في رأي الماديين المفسرين للتاريخ هو تاريخ الطبقات المتوالية.
والعامل الحاسم في تكوين الطبقة هو وسائل الإنتاج، فمن يملك وسائل الإنتاج الضرورية في المجتمع، فهو سيد المجتمع، وكل ما في المجتمع من شرائع وعقائد وآداب وعادات، فهو مسخر في خدمة مصالحه وأغراضه بقصد أو على غير قصد من الطبقة الحاكمة أو الطبقات المحكومة.
ولا داعية إلى استمداد قول من غير أقوال الماديين التاريخيين لإسقاط هذه القاعدة الكبرى على أساسها؛ لأن الأقوال المسلمة عندهم تكفي لإسقاطها وتشككهم على الأقل فيها، وتوجب عليهم أن يبحثوا عن سبب غير هذا السبب - أو مع هذا السبب - لتفسير الأطوار التاريخية، لولا أنهم يريدون هذا السبب ولا يريدون غيره، ويتعمدون أن يصلوا إلى نتائجه المقدرة عندهم من طريقها أو من غير طريق.
فمن المسلمات عندهم أن الإنسان قد وصل إلى تدجين النبات وتدجين الحيوان قبل أن تظهر فيه طبقة تستغل الطبقات الأخرى، وأن هذا التدجين قد تم على خطوات متعاقبة، أولاها: صيد الحيوان للانتفاع بلحومه وجلوده في الطعام والكساء ، وثانيتها: صيد الحيوان والاحتفاظ به للانتفاع بألبانه وأصوافه، وثالثتها: صيد الحيوان للانتفاع به في الزرع والحرث والانتقال وحمل الأثقال.
فإذا كانت هذه الأطوار الهامة قد تمت قبل نشوء الطبقة، فليس من الحتم إذن أن تكون الطبقة هي التفسير الوحيد للأطوار السابقة والأطوار التي نشأت بعدها، وليس هذا من الحتم بصفة خاصة إذا كانت الأطوار التاريخية ملتبسة العوامل والأسباب كما يقول «إنجلز» في كتابه عن فلسفة «فيورباخ»،
1
وكما يقول في كتابه عن أصل الأسرة، وهو الكتاب الذي اتفق مع أستاذه «ماركس» على آرائه، ومات «ماركس» قبل أن يكتبه، فكانا في جميع هذه الآراء على وفاق.
يقول «إنجلز» ما ترجمته بحرفه: «إنه بينما كان تحقيق هذه القوى الدافعة للتاريخ في حكم المستحيل نظرا لاشتباكها واختفاء العلاقات المتداخلة بينها وبين آثارها، نرى أن عصرنا الحاضر قد بسط إلى الآن هذه العلاقات المتشابكة تبسيطا يمكننا من حل ألغازها، وأنه بعد قيام الصناعات الواسعة - أو بعد الصلح الأوربي سنة 1815، على الأقل - لم يبق سرا مجهولا عند أحد في بريطانيا أن الصراع السياسي كله إنما يدور على تنازع السيادة بين طبقتين: طبقة الملاك النبلاء، والطبقة الوسطى.»
وما معنى هذا على أي وجه من الوجوه أردنا أن نعرف معناه؟
إن معناه البين أن أطوار التاريخ قبل القرن التاسع عشر لم تكن قاطعة في الدلالة على سبب وحيد، لا يسمح بافتراض سبب آخر؛ لاستحالة الفصل بين المقدمات والآثار.
ومعناه أن النظرية التي يريدون من أجلها أن يقلبوا الكون على من فيه قائمة على ملاحظات محصورة في نحو ثلاثين سنة من تاريخ الإنسانية، يجوز جدا أن تختلف بين تلك الفترة التي كانت بداءة انتقال، لم تظهر عواقبها التي لا يطيق الماديون انتظارها؛ لأنهم في عجلة لا تحتمل هذا الانتظار.
وليت الملاحظات - ملاحظات ثلاثين سنة - في تاريخ الإنسانية قد كشفت عن شيء يؤيد مذهبهم بين الطبقات؛ لأن الصراع بين الملاك النبلاء والطبقة الوسطى لم يكن صراعا على استغلال إحداهما للأخرى، بل كان صراعا على دعوى السيادة، كما قال «إنجلز» وغايته في رأيه هي استغلال طبقة ثالثة من العمال.
إن تدجين النبات والحيوان قبل نشوء الطبقة كاف لتقدير أسباب للأطوار الاقتصادية والاجتماعية غير تنازع الطبقات، فإن لم يكن كافيا، فحسب الباحث الأمين أن يعلم أن الملاحظات المستمدة من التاريخ مشكوك فيها قبل سنة 1815، وأن الملاحظات المستمدة بعدها مأخوذة من تاريخ ثلاثين سنة؛ ليقف موقف المتهيب قبل الهجوم على الهدم وتحريم النظر في كل حيلة للإصلاح تنقذ الأمم من هذه العاقبة.
إلا أننا لا نريد أن نكتفي بهذا العرض لرأي القوم تفنيدا لدعواهم في هذا الأمر الجلل، ونريد أن نسترسل في تفصيلاتهم؛ لأن التفصيلات أدل على سخف هذه النظرية من ذلك العرض الوجيز.
فلنعلم إذن أن امتلاك وسائل الإنتاج هو أصل الطبقات المستغلة، ولكن يجب أن نعلم مع ذلك أن الملكية لذاتها ليست عاملا حاسما في تكوين الطبقة؛ لأن الأجير الفقير قد يقيم في كوخ يملكه، وصاحب المصنع الغني قد يقيم في قصر يستأجره، وما الملكية الحاسمة إلا ملكية الوسائل التي تنتج ضرورات المعيشة.
كذلك لا يتوقف الأمر على وحدة المصادر التي تأتي منها الثروة، فإن الطبيب والمحامي يعيشان من مصادر مختلفة وهما من طبقة واحدة. ولكن العلاقات الاقتصادية في تكوين الطبقات أهم من مصادر الكسب والمورد. وكل طبقة تتعلق مصالحها بالطبقة المسيطرة على وسائل الإنتاج فهي لاحقة بها منتمية إليها، وشعورها نحوها على وفق شعورها بالاعتماد على بقائها والدفاع عن مصالحها.
وعلى هذا التقدير يرى الماديون المفسرون للتاريخ أن الإنسانية مرت بسبعة أدوار منذ قيام الجماعات أو المجتمعات الاقتصادية فيها، الدور الأول هو دور «الشيوعية البدائية»، وهو دور كانت الملكية الخاصة فيه مجهولة، وكانت مرافق المجتمع مشاعة بين جميع أفراده، ولم تكن فيه بضائع للبيع والتبادل، وإنما كانت فيه حاجات للمعيشة في متناول من يريدها.
والدور الثاني هو دور «البربرية السفلى» وفيه ظهر الحديد وأصبحت له قيمة تجارية أو استغلالية، وهنا ظهرت وسائل الإنتاج ولم يظهر العمل المأجور بعد، إذ كانت وسائل الإنتاج في أيدي الأسرة تتقسم بينها العمل والجزاء.
والدور الثالث هو دور «البربرية العليا» وفيه ظهر الزيت والخمر مع الحديد والمعادن المصنوعة، وانقسم فيه المجتمع إلى أغنياء وفقراء يحتاجون إلى ما في أيدي الأغنياء، فيعملون في خدمتهم ويعيشون من عطائهم.
والدور الرابع هو دور «السادة والأرقاء» وفيه ظهر العبد المسترق إلى جانب الفقير المدقع، وكانت مجتمعات المدن اليونانية تجمع هذه الطبقات بتغليب عمل الرقيق تارة، وتغليب العمل المأجور تارة أخرى.
ثم كان الدور الخامس متمثلا على أتمه في نظام الدولة الرومانية، فقام العمل كله - أو أكثره - على كواهل الأرقاء، وأصبح العمل عيبا يترفع عنه الرجل الشريف صاحب الرئاسة والمكانة في المجتمع وفي الدولة.
ثم كان دور الإقطاع وساعد على قيام سيادة البرابرة على الدولة الرومانية، فإن السادة بين البرابرة لم يكن يعيبهم أن يعملوا أو يشتركوا في العمل، فأصبح رب الإقطاع سيد المجتمع الجديد خليطا من المنتج والمستغل لإنتاج الآخرين.
وجاء الدور السادس وهو دور «رأس المال الأول» وكانت التجارة فيه غالبة على الصناعة والزراعة، واتسعت أسواق التجارة في أثناء هذا الدور بعد كشف أمريكا وطرق الملاحة إلى الشرق الأقصى، فكانت طبقة تجار المدن - البرجوازية - صاحبة السيادة في هذا الدور.
وتلاه دور رأس المال في عهد الصناعة الكبرى، وهو الدور الذي يبلغ فيه الاستغلال أتمه ويبلغ فيه نهايته المحتومة في وقت واحد، وتقوم بعده طبقة واحدة لا تستغل غيرها، فلا تقوم إلى جانبها طبقة أخرى.
ويسقط دور رأس المال هذا حين تجتمع الثروة كلها في قبضة آحاد معدودين، وتبقى الكثرة الساحقة من المجتمع محرومة لا مصلحة لها في الصناعة الكبرى، فتثور على أصحاب الأموال، وتهدم أركان المجتمع القائم، وتنشئ لها مجتمعا يلائمها بعلاقاته وعاداته وآدابه. وتقضي على أصول الأديان والعقائد الأولى؛ لأنها وجدت جميعا للدفاع عن أصحاب وسائل الإنتاج، وتمكين كل طبقة مستغلة في دورها من تسخير العاملين على اختلاف الأعمال والصناعات.
ويعجل سقوط نظام رأس المال كلما اشتد التنافس بين أصحاب الأموال أو أصحاب المصانع، فتطغى الثروات الكبيرة على الثروات الصغيرة ، وتتقلص الأوساط بين أصحاب رءوس الأموال والأجراء ، ويتحكم أصحاب رءوس الأموال عند زوال المنافسة، فلا يسمحون للأجراء بأكثر من الرزق الضروري لإقامة أود الحياة.
ومما يعجل بسقوط هذا النظام أن صاحب المال يحتاج إلى مضاعفة الربح بزيادة المنتجات، فتزيد هذه المنتجات عن الحاجة ولا تجد من يشتريها في أوطانها، وتدعو الضرورة إلى استعمار البلاد المتأخرة واستغلال خاماتها وأيديها العاملة، ولكنه علاج مسكن يؤجل القضاء المحتوم ولا يدفعه، ثم يأتي هذا القضاء حين تصبح طبقة أصحاب الأموال منعزلة وحدها أمام الجموع المسخرة في داخل البلاد وخارجها.
ومتى انفردت الطبقة الحاكمة في هذا النظام أمام الجموع الزاخرة التي تئن تحت وطأتها فتلك هي الخاتمة التي لا فكاك منها، وتلك هي نهاية الطبقات وبداية العهد الأبدي الذي لا طبقات فيه. •••
وقبل البحث في صواب هذه الآراء أو خطئها، نبدأ بالإشارة إلى علاقتها بالظواهر النفسية؛ لأن هذه العلاقة واضحة هنا، كما تتضح في كل مبدأ وكل رأي وكل تأويل من أصول المذهب أو فروعه.
ما هي الطبقة؟
الطبقة في تعريف «كارل ماركس» هي الطائفة التي تكون لها مصالح معارضة لمصالح طبقة أخرى، وعلى هذا يكون التعريف هو البرهان!
لا بد من فرض العداوة بين الطبقات حتى يقال إنها طبقات، وإلا فهي معدومة أو ناقصة في دور التكوين.
فلا يمكنك أن تتكلم عن طبقة إلا إذا افترضت العداوة لازمة لوجودها، وهكذا يدور بك التعريف والبرهان معا في حلقتهما المفرغة التي لا يدرى أين طرفاها، فهي طبقة؛ لأنها تعادي غيرها؛ وهي تعادي غيرها لأنها طبقة، ولا بد من عنصر العداء في جميع الأحوال.
ونعود إلى سؤال «كارل ماركس» لنعيده بحق فنسأل: هل يحتاج الإنسان إلى بديهة عميقة؛ ليعلم أن الناس يختلفون ولو لم تكن هناك طبقات؟
أليست هناك أعمال متفاوتة في الكفاية والأهمية؟ أليست هناك رغبات تتنازع بين الناس لتقدير كفاياتهم واختصاص كل منهم بأحب الأعمال إليه؟ وأين هو مقياس الشعرة الذي يجعل كل إنسان يعرف قدره ولا يزيد عليه، ويعرف حاجته ولا يزيد عليها، ويعرف عمله الواجب ولا ينقص منه؟ وأين هو ميزان الشعرة الذي يحكم بين أصحاب الحظوظ المختلفة من القوة والصحة والذرية والذكاء والهمة والجمال وسائر المزايا، التي يتفاوت بها الناس ولا تضبط الفوارق بينها في ميزان؟
لا بد أن تنفى هذه الفوارق كافة من كل حسبان وكل مظنة وكل احتمال، لأنك إذا أعرتها حقها من الأثر الفعال أفلتت الفرصة وانفتح الباب - أو الأبواب الكثيرة - لاختلاف الأقدار واختلاف الناس في الكسب والمعيشة واختلاف الطبقات.
فلا بد إذن أن تنفى هذه الفوارق كما تسقط الفوارق من قبيلها في قصص العجائز وأحلام الحالمين في أسطورة «أورفيوس» وما إليها من الأساطير، التي أبطلت النزاع قديما بين الذئاب والنعاج وبين الكواسر والبغاث.
هكذا والسلام.
وإلا فكيف تسنح الفرصة التي لا فرصة غيرها للهدم والجزم وإغلاق الطرق كافة أمام بني الإنسان غير الطريق اللازم ل «كارل ماركس»، ولا منعرج عنه إلى سواه؟
إننا سنرى أن «كارل ماركس» لم يصنع شيئا ينفي هذه الفوارق؛ لأن وسائل الإنتاج لن تئول إلى أيدي طبقة واحدة ولو زالت جميع الطبقات التي عرفت في تاريخ الإنسانية إلى الآن، ولن يأتي الزمن الذي تصبح فيه السيطرة على وسائل الإنتاج سهلة مبذولة لكل من يريد، ومتى افترقت الكفايات والأقدار والأعمال، فليس تعريف القوم للطبقة إلا كلمات مرصوصة من لغو المقال. •••
وبعد ملاحظة هذه الظاهرة التي لا مرجح غيرها لوضع الطبقة في موضعها من مذهب «كارل ماركس»، نعود إلى الدعوى العلمية التي يدعونها لأصول المذهب وفروعه، فنقول: إن الثقات من خبراء علم الإنسان «أنثروبولوجي» لم يثبتوا فرضا من تلك الفروض، ولم يذكروا لنا مجتمعا من المجتمعات البدائية خلا من الملكية الخاصة لوسيلة من وسائل الإنتاج، ونحن في عصرنا هذا ننظر إلى المجتمعات المترقية في الحضارة، فلا نرى مجتمعا منها خلا من المشاعية التي كانت في العصور الأولى مما يعيه التاريخ ويدل على ما كان قبل التاريخ.
فالأنهار وكنوز الثروة الأرضية في حيازة المجتمع كله، يمنح الرخصة في استغلالها بإذن منه متفق عليه في الشريعة العامة، والسلاح الموقوف على الدفاع العام لا يملكه فرد ولا جماعة بغير إذن المجتمع أو إذن الدولة، ومثل الأنهار والمناجم وأسلحة الجيوش كمثل الآبار والمراعي وأسلحة الصيد العامة أو أسلحة القتال في المجتمعات البدائية، لم يتغير فيها شيء من جهة المبدأ أو جهة التحليل والتحريم بحكم العرف والشريعة.
ولم يذكر علماء الإنسان عهدا حرمت فيه الملكية الخاصة من هذه الوجهة، ولكنها تترك للاستغناء عنها كما تترك ملكية الأنهار وما إليها في الحضارات المترقية، ويمكن أن يقال: إن الملكية الخاصة وجدت حيث وجدت الحاجة إليها والرغبة فيها والقدرة عليها، وإنها قائمة قيام المشاعية أو الشيوعية في المجتمعات الأولى.
2
يقول «سبك»
3
في مبحثه عن أرض الصيد بين قبائل الشمال الشرقي الحمراء: «إن أرض الصيد هنا محدودة بحدودها الصريحة يرثها الابن عن أبيه، وتنتقل الزوجة إلى سكن زوجها الخاص، وللإخوة في بعض الأحوال حقوق في المزايا الاقتصادية.»
4
ويقول الرحالون الذين عاشوا بين قبائل الكاي في غانة الجديدة: إن الأرض بينها مشاعة على العموم، ولكن اللص الذي يضبط في أرض يقوم على زرعها أحد غيره يجوز قتله ولا يحق لأهله أن يثأروا له أو يطلبوا الدية من قاتله، وإنهم ربما سمحوا بغرس شجرة مثمرة في أرض الغريب ولكنهم لا يسمحون ببناء كوخ أو خص عليها، وإن الرجل منهم يملك أسنان الخنزير البري أو أسنان الكلب؛ لأنها ذات قيمة سحرية أو فنية ويحق له أن يقتل من يسرقها أو يحاول اغتصابها، وإن ثمرات الأشجار عندهم حق لغارس الشجرة في حقل يزرعه غيره، وإن الصائد الذي لمح الصيد لأول مرة صاحب حق فيه لا نزاع عليه.
ويروي خبراء علم الإنسان عن قبائل «كاريرا» الأسترالية أن الأرض عندهم قد تملكها شعبة من القبيلة، وقد ينشب القتال بين مالكيها وأعدائهم ثم لا يخطر على بال الغالب أن يستولي على الأرض ويطرد منها من كانوا يحتلونها من العشائر المهزومة.
وتروى حالات شبيهة بهذه الحالات عن العشائر البدائية في الهند وسيلان والأقاليم الأفريقية، يرجع إليها في مصادر كثيرة نذكر منها كتاب «رحلات في أفريقيا الغربية» «لكنجلي»، وكتاب «العشائر والبطون في كليفورنيا الجنوبية» ل «جيفورد»، وكتاب «السكان الأصلاء في ويلز الجديدة الجنوبية» ل «فريزر»، وكتاب «توزيع الأرض وتقاليد الميراث بين المكسيكيين الأقدمين» ل «بالدلير» وأشابه هذه الكتب والتقارير التي أجمعت على اختلاط أحوال المشاعية والملكية الخاصة في الجماعات الأولى، ولم ينفرد منها مرجع بحصر جماعة قط في نظام واحد خلا من أثر الملكية الخاصة أو أثر الملكية المشاعة.
وأيا كان المرجع في هذه النظم، فلا الخير ولا العقل يسيغان أن نتصور أن الاستغلال وجد لأن أناسا أرادوه وقالوا لأبناء مجتمعهم: نحن نريد أن نستغلكم، فقال لهم أبناء المجتمع: حبا وكرامة، ها نحن أولاء بين أيديكم، فاستغلونا كما تشاءون!
فما وجد الاستغلال قط؛ لأنه رغبة مستجابة لا معارضة فيها، وإنما وجد لأنه قدرة يستطيعها أناس ويعجز عنها أناس آخرون، وهذه القدرة إما أن تكون قدرة الشجاعة، أو قدرة الخبرة بفنون القتال، أو قدرة القيادة السلمية، أو قدرة البنية القوية التي تخضع من تغلبهم لمشيئتها وتروضهم على طاعتها.
وقلما تكفي البنية القوية وحدها لتمكين أحد من القيادة الدائمة ما لم تكن مقرونة بمزية عقلية أو خلقية تسندها وتدبر لها وسائل دوامها.
ونحن نقرأ في كلام «ماركس» و«إنجلز» أن المجتمعات البدائية انتقلت من عصر المشاعية إلى عصر الرق بعد أن تعودت الإغارة على جيرانها والتعويل على ثمرات أرضهم وكسب أيديهم، ولكنهما يعبران هذا الدور عبورا سريعا، ولا يقولان لنا كيف وجدت الطبقة التي تسترق العبيد من الأسرى الغرباء أو من أبناء القبيلة الضعفاء.
وهنا نرجع إلى الظاهرة النفسية لتفسير هذا السكوت أو هذا العبور السريع، فإن اللعبة كلها لعبة الهدم والنقمة - تبطل لا محالة إذ اعترف «ماركس» وأتباعه بالطبيعة الإنسانية التي تميز أناسا بالشجاعة، وأناسا بالدراية في فنون القتال، وأناسا بالحيلة والذكاء أو «بالشخصية» المطاعة لجملة هذه الصفات مجتمعات، وإذا اعترف «ماركس» بوجود هذه المزايا قبل أن توجدها وسائل الإنتاج لم يستطع أن ينفي كل النفي - على طريقته الجازمة الحاسمة - أن قيام الطبقة الغالبة ممكن بعد انهيار نظام رأس المال، ووصولنا إلى المجتمع الذي لا طبقات فيه، وما دامت الطبيعة الإنسانية قد عملت في إنشاء الطبقة الاجتماعية، فهي عاملة غدا في إنشائها بعد قيام المجتمع المزعوم الذي لا طبقات فيه، وليس في وسع «كارل ماركس» إذن أن يجزم ويعزم ويدمدم على من يناقضونه، ويحولون بينه وبين أمنيته العزيزة التي يضرب حولها السدود، ويأبى جهده أن يحوم حولها الخيال ولو على أبعد احتمال.
إن الثقات من رواة علم الإنسان لم يذكروا لنا مجتمعا في أعرق أطوار الهمجية خلا من الممتازين بمزية النسب أو الدراية أو القدرة، ولو أننا عرضنا قطعان الماشية التي تملكها تلك المجتمعات؛ لوجدنا بين تلك القطعان مزايا القيادة والزعامة وغزارة الدر وكثرة الذرية، فإذا كان الآدميون الذين يملكونها جمهرة من الناس لا تنوع بينهم، فما هم بالمجتمع ولا هم بالبنية الاجتماعية التي لها وظائفها وأعضاؤها وخصائصها ككل بنية حية، وتفصيل هذه الخصائص والمزايا مشروح في كتب علم الإنسان وعلم الأجناس البشرية التي لا نحصيها، ولكنها مجملة في باب الرتبة من كتاب «الجماعة البدائية» لمؤلفه الدكتور «روبرت لوي»
5
حيث يقول:
إن الأفكار المتطرفة في اختلاف الأقدار موجودة في جوانب شتى من العالم وقبائل «المايدو» الشماليون يصلحون نموذجا يقاس عليه، فهنا رئاسة انتخابية مبنية على الثروة والسخاء، ولكن «الشامان» إذا كان بصفة خاصة رئيسا للجماعة السرية له قدر يغطي على قدر الرئيس، والواقع أن انتخاب الرئيس إنما يكون بوساطة «الشامان»، الذي ينقل وحي الأرواح باختياره كما ينقل وحيها بإسقاطه.
ثم يقول:
إن الفوارق السابقة تنشأ من اختلاف الأفراد مستقلة عن فوارق الدرجة والنسب. والأمثلة مع ذلك متعددة لأحوال التفوق الفردي الذي ينقل بالوراثة.
ويقول المؤلف عن مزايا الشجاعة: «إن الهمجي لا يتهم بالبلاهة، ولا يغفل عن المزايا المتعددة، ولا يجهل أن الرجل الكسلان في العمل قد يكون ناشطا فذا في الصيد أو إصابة الهدف.» وبعد تلخيص الأمثلة من جماعات أمريكا وإفريقية وجزر الأقيانوس التي تحسب من القبائل الهمجية يقول في الإجمال الأخير: «إن المجتمعات الديمقراطية - أي التي يولد فيها الأطفال سواء في الرتبة - لا تلبث خصائصهم الفردية أن تميزهم بعضهم عن بعض فلا يكونون جماعة هملا على سواء، بل مجتمعا متكونا من الأفراد.»
6
ولعنا - نحن بني الإنسان - خلقاء أن نترك لحكم العلم كل بحث إلا البحث في بواعث النفس الإنسانية وطبائع الأحياء العاقلة، ففي هذه الأمور يحق لنا أن نراقب أنفسنا ونراقب تجاربنا، ونقول كلمتنا إلى جانب كلمات الباحثين بين شعوب الهمجية أو شعوب الحضارة، حين يحكمون على النفوس ولا ينحصر حكمهم في الأخبار والروايات، وهذه الطبيعة الإنسانية فينا ومن حولنا وأمامنا في تواريخ الأمم التي تعددت أجناسها وأقاليمها ووسائل إنتاجها، ولم تحتجب في طور من أطوارها دلائل الطموح والهمة والنزوع إلى التفوق والرئاسة، وليس من العلم أن نمسح هذه التجارب المحسوسة، وهذه الدوافع الكامنة فينا لنصغي إلى قول يقوله «كارل ماركس» عن الطبيعة الإنسانية كأنها طبيعته وحده، وليست طبيعة الناس في ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، ولو كان قولا يسمع من هنا ويترك من هنا لصح أن يصغي إليه من يريد أن يصغي إلى كل مقول مسموع، ولكنه قول له جرائره، ولا تقل جريرة منها عن تقويض كل ما كان، وتفنيد جميع المأثورات والمسلمات.
ولمن يريد به أن يقول: إنكم تحكمون على الطبيعة الإنسانية فيما مضى وما حضر، ولا تستطيعون أن تحكموا عليها في ظروف غير تلك الظروف مما يتمخض عنه المستقبل المجهول!
نقول: نعم، لا نستطيع، ولكننا نقيس المقبل على الحاضر والماضي الذي تشابه أو تقارب في جميع العهود، أما الذي لا يستطاع حقا فهو الجزم بالتغيير وترتيب النتائج الحاسمة عليه، فنحن لم نر المستقبل، و«كارل ماركس» لم يره، وعلينا أن ننظر إلى نبوءته بكثير من الحذر والتريث في أمر ينقض كل ما عرف إلى الآن عن طبيعة الإنسان.
وإذا قدرنا حسن النية، وخطر لنا أن الأمر قد التبس على دعاة المادية في منتصف القرن التاسع عشر، فليس هذا الالتباس بالسائغ بعد التجربة الروسية في القرن العشرين، فإن المجزرة التي حدثت حول تفسير الآراء الماركسية وتطبيقاتها لا تنتهي إلى غير نتيجة من نتيجتين: فإما أنها آراء خلافية لم تبلغ من الثبوت مبلغا يساوي العواقب التي تترتب عليها، وإما أن هذه المجزرة أثر من آثار الصراع بين العوامل النفسية في طبيعة الإنسان، كائنا ما كان نظام الإنتاج ووسائل الإنتاج، وكلتا النتيجتين لا تجيز لنا تسليم الملايين من الأرواح البشرية والمأثورات الإنسانية لقولة قالها صاحب نبوءة، أو صاحب علم، أو صاحب دعوى في النبوءات والعلوم. •••
من الخطوات الأولى تعثر معنا المذهب المادي في تفسير التاريخ، فلم يبطل الخلاف على تفسير المشاعية الهمجية ولا على تفسير الرق بعد الانتقال من المشاعية إلى البربرية الأولى، وفي وسع «ماركس» ومن على شاكلته أن يتصوروا قيام السادة والأرقاء قبل ظهور المزايا البشرية في شجاعة الشجعان ودراية الأذكياء وعلو الهمة ودوافع التفوق والسيادة، وفي وسعهم أن يتخيلوا قطيعا من الهمل أغار على قطيع آخر، وجاء منهم بالأسرى الأرقاء فأسلمهم إلى طائفة من السادة يسخرونهم ويحتكرون ثمرات سخرتهم؛ لأنهم يشتهون السيادة ولا يشتهيها معهم أحد سواهم.
في وسع الماركسيين قاطبة أن يتخيلوا هذه الأخيلة؛ لأنهم معذورون مضطرون إلى المقدمات التي تفتح أبواب النقمة والخراب، ولكنه عذر لا يقبله المحايدون في هذه المعركة المثارة على النوع الإنساني، فضلا عن المتحيزين المتعصبين لهذا النوع، الذين لم يخرجوا من زمرته؛ لأنهم دخلوا في طبقة من الطبقات.
ومما هو حقيق بالانتباه إليه، أن اللبس في نظريات الماديين عن الطبقة، يزداد كلما اقتربنا من العصور التاريخية المدونة، ويطرد في الزيادة كلما اقتربنا من العصر الحاضر الذي نشاهده ونلمس وقائعه ونستقصي حسابه وإحصاءه، ولو كانت هذه النظريات على استقامة لانعكست الآية، وكان اللبس فيما غبر عند فجر التاريخ أشد من اللبس في شئون العصر الحاضر، ولولا علة كامنة في طوية التفكير لكان الاختلاط في شئون الجماعات البدائية أشد من الاختلاط فيما بعدها عصرا فعصرا إلى هذا العصر الذي يسمونه بعصر رأس المال والصناعة الكبرى.
إنهم قد اختلط عليهم الرأي في مبادئ الملكية والمشاعية، كما كانت عند فجر التاريخ ، وكما هي في الأيام الحاضرة، والرأي المستقيم أن المبادئ متشابهة حيث وجدت الملكية الخاصة، وربما صح أن الملكية العامة في البلاد الروسية - بعد إعلان الشيوعية فيها - مقاربة جدا للملكية العامة في البلاد المصرية على عهد الفراعنة الأول، إذ لا فرق بين ملكية الدولة للمرافق في العهدين، وليست الملكية هنا لجميع الأفراد على السواء، ولكنها ملكية للدولة ترخص فيها لكل فرد من الأفراد بمقدار.
ولم تكن ملكية القبيلة مختلفة المبدأ عن ملكية الدولة أو ملكية الفرعون أو ملكية الحزب المنادي بالشيوعية بين الأفراد، كلها تعرف المشاعية في المرافق، ولا تنكر الملكية الخاصة عند لزومها، وكلها تدين بالتأميم مع اختلاف مرافقه وأساليب إدارته، فلا محل للإطناب والتهويل في ترتيب أطوار الملكية المشاعية على مذهب الماديين.
وقد قلنا: إن ازدياد اللبس في نظريات الطبقة حسب نظام الملكية حقيق بالانتباه؛ لأنه يقل في نظريات العهود الغابرة، ويزداد في نظريات العهود التاريخية ويطرد في الزيادة كلما اقتربنا من حياتنا الحاضرة، ولولا علة كامنة في طوية التفكير لانعكست الآية، وجاز بالأمس ما لا يجوز اليوم من الأخطاء والضلالات.
أما هذه العلة الكامنة في طوية التفكير، فهي اقتراب العصر الحديث من نقطة الفصل في نتيجة المذهب بحذافيرها، وكلما اقترب من نقطة الفصل بلغ أشد الحاجة إلى العسف واللي، وشد النظرية من هنا وجذبها من هناك، التدخل في الحور الضيقة التي يعصرونها فيها واحدا بعد واحد حتى تأذن بالنتيجة المنظورة أو النتيجة المشتهاة.
وعلى هذا كان الخلط في شئون الطبقة البدائية مسألة مبدأ وتفسير، فلما اقتربنا من العهود التاريخية المدونة تعدى الخلط مبادئ الآراء إلى الوقائع العيانية التي لا خفاء بها ولا نكران لها في صفحات التاريخ المعروف.
أي فرق - مثلا - بين طبقة الأشراف
7
وطبقة السوقة
8
في الدولة الرومانية من حيث وسائل الإنتاج؟
كلتا الطبقتين كانت تملك الضياع، وتملك التجارة وسفن الملاحة، وتملك العبيد الأرقاء العاملين في الزراعة والتجارة والصناعة والمناجم المباحة لغير الدولة، وهذه مسألة أصيلة في المذهب المادي وليست بالمسألة العرضية التي تحتمل القولين: إنها مسألة الإنتاج في عهد الرقيق، فإن قامت قام معها المذهب وإن سقطت سقط معها ولم تقم له قائمة، فماذا كان بين الطبقتين من الفوارق في وسائل الإنتاج وفي تسخير الرقيق؟ ولماذا بقي فارق النسب - أو دعوى النسب - إلى نهاية الدولة الرومانية قبيل وقوعها في أيدي البرابرة تمهيدا لعهد الإقطاع ثم عهود الفرسان؟
ولماذا انتهى عهد السادة، ولم يقم بعده عهد العبيد الأرقاء تبعا للأحجية الفلسفية، التي جعلت النقيض مولدا للنقيض؟
إن نهاية رأس المال بداية عهد الأجراء، كما نعلم من جميع المقدمات والنتائج الماركسية، فلماذا لم يستول الرقيق على أزمة الإنتاج بعد زوال عهد السادة من سراة الأشراف والسوقة الرومانيين؟!
وأين هما النقيضان في عهد من العهود؟ لماذا يكون الملك البربري نقيضا للشعب البربري؟! ولماذا يكون الإقطاع نقيضا للرق؟ ولماذا تكون الصناعة نقيضا للإقطاع والرق مجتمعين؟!
هذه نقائض «أحاجي» وتخمينات لا يصدق عليها معنى النقيض في المنطق ولا في العلم ولا في الصفات الاجتماعية، وإنما يجب أن تكون نقائض في عرف الماديين؛ لأنها يجب أن تكون درجات متوالية في السلم الذي ينحدر إلى الهاوية: هاوية الخراب. •••
كان الخلط في المبادئ والتفسيرات عند الكلام على المجتمعات البدائية، فلما اقتربنا من عصور التواريخ المدونة تكاثر الخلط في الوقائع والنظم المقررة، وجعل يستشري ويمتد من عصر البربرية إلى عصر الرق إلى عصر الفروسية إلى عصر الصناعة الكبرى، وأول دلائل الخلط في عصر الفروسية أو وسائل الإنتاج لم تتغير بين العصرين: عصر الرق وعصر الإقطاع، فآلات النسيج وآلات الري وآلات الصناعة المعدنية ومتاجر الموانئ ومصارف الحواضر، لم يتغير منها شيء بين زمن وزمن إلا كما كانت الآلات والأدوات تتغير بين مكان ومكان، أي أنه كان تغييرا محليا لا يرتبط بالنظم الحكومية.
وثاني دلائل الخلط في هذا العصر - عصر الفروسية - أن فرسان الإقطاع لم يكونوا طبقة متضامنة متكافلة، ولكنهم كانوا آحادا متنافسين متنافرين، يفترقون أو يتفقون كما كان الملوك والأمراء يفترقون أو يتفقون لأنهم في الواقع كانوا أمراء صغارا يجرون في التحالف والتخالف على سنة الأمراء الكبار، ويقفون جملة أمام جملة تدخل فيها جميع الطوائف والطبقات.
والعامل المهم في انتشار هؤلاء الفرسان بين الأقاليم أو الإقطاعات أن السلطة المركزية سقطت «أولا» بعد انقسام الدولة الرومانية إلى شرقية وغربية، ثم سقطت سقوطها الأخير بعد اضمحلال الدولتين، وتفرق الولايات والأقاليم بين الرؤساء البارزين فيها.
ولو أراد «كارل ماركس» لقال: إن الرعايا من الفلاحين والتجار والصناع احتاجوا في هذا العصر إلى الحماية، فنشأ نظام الفرسان موافقا لهذه الحالة واستقر بعد نشوئه؛ لأنه كان لازما لمصالح الطرفين.
ولو أنه قال ذلك لما خرج على تفسيراته المادية، ولكان مقاله أقرب إلى المعقول وأشبه بطبائع الأمور؛ لأن الفرسان عدد قليل لا يزيد على الآحاد في كل إقليم، ورعاياهم أضعاف أضعافهم يعدون أحيانا بمئات الألوف، ولأن الفلاحين والتجار والصناع في كل إقليم كانوا يخشون أن يغير عليهم أبناء الأقاليم الأخرى، ويتسلطوا عليهم في ديارهم ويسوموهم تكاليف السيادتين في وقت واحد، سيادة الفارس الأعلى صاحب الكلمة النافذة في الإقليم، وسيادة الرعايا لأمثالهم في مرافق الزراعة والصناعة والتجارة.
ولكنه لو قال ذلك لفاتته أولا دعوى الاستغلال، وفاتته بعدها سلسلة الطبقات حلقة بعد حلقة إلى خاتمتها المنظورة، ولو قال ذلك لاعترف بالمزايا الإنسانية قبل وسائل الإنتاج، واعترف بمزايا الشجاعة والدراية العسكرية، والقدرة على الرئاسة وهيبة الحكم سابقة لوسائل الإنتاج، ودون ذلك وينهار المذهب جدارا تحت جدار.
غير أن الفلسفة الماركسية لم تستطع أن تغفل عن حقيقة الصلة بين الفرسان ومن حولهم من الفلاحين وأصحاب المرافق التجارية أو الصناعية، فأطلق «كارل ماركس» وصاحبه «فردريك إنجلز» اسم العلاقة العاطفية
9
على هذه الصلة، ولم يطلقا عليها هذا الاسم إلا لأنهما كانا في عصرهما يسمعان أغاني الأجيال السابقة ينشدها الفلاحون إذ لم يبق أحد ينشدها من طائفة الفرسان وأمراء الإقطاع.
ثم تأتي دلالة الخلط الثالثة عند الكلام على زوال الإقطاع وزوال عصر الفروسية، فإن الفلسفة المادية تقلب الأوضاع كعادتها فتجعل زوال الإقطاع لاحقا لزوال سلطان القلاع والحصون، وإنما تحررت الأفكار والضمائر، ثم زال سلطان القلاع والحصون حين أراد المعترفون به قديما أن يزيلوه.
إن البارود لم يسقط القلعة أو الحصن؛ لأن المنجنيق ظل زمنا أقوى من مدفع البارود، وكان المنجنيق في أيدي حماة القلاع والحصون، ولكن الأفكار والضمائر تحررت فاستخدمت البارود للغلبة على أصحاب السلطان، ولو أنها بقيت كما كانت ولم تتحرر لأصبح البارود نفسه أداة من أدوات الفارس المتحصن في قلعته يقهر بها من يعصيه.
وقد عرضنا لذلك في حديثنا عن البارود الذي لم ينفجر والطباعة التي لم تطبع، فقلت في مجموعة الأحاديث التي نشرت بعنوان «أفيون الشعوب»:
إن بعض المؤرخين يشك في سبق أهل الصين إلى اختراع البارود؛ لأنه يربط اختراعه بالكشف الذي سجله «روجرز باكون» في معمله عند منتصف القرن الثالث عشر، ويرى أن وجود البارود يتوقف على وجود ملحه
10
وهو لم يكن معروفا في زعمه قبل «روجرز باكون». إلا أن الراجح أن «روجرز باكون» نفسه قد عثر على الصيغة الكيمية في المرجع العربي الذي أشار إليه «أومان» في تاريخ فن الحرب، فإن لم يصح هذا فالصحيح - بلا مراء - أن هذا الملح يوجد على سطح الأرض في بلاد آسيا الشرقية، ومنها الهند التي يوجد بها على سطح الأرض إلى اليوم.
وندع هذا ونرجع إلى الزمن الذي انقضى بين كشف البارود والانتفاع به في الحملات على القلاع والحصون، فقد مضت ثلاثة قرون منذ جاء ذكر البارود في أوراق «روجرز باكون» إلى أن أصبح قوة فعالة في الهجوم على المعاقل المحصنة، وقد مضت هذه القرون في تنقية الأخلاط وضبط المقادير الصالحة لسرعة الانفجار وتركيب هذه الأخلاط تركيبا موافقا للأدوات التي أمكن اختراعها يومئذ سواء أكانت مما تحمله اليد أم تجره الخيول.
وكانت مشكلة الوقت الذي ينقضي بين إطلاق القذيفة وتعبئة المدفع أو الرامية عقبة معوقة، ولم تكن من أسباب الإسراع والتغلب، ولا شك أن المنجنيق الذي كان يقذف الحجارة على قرب قد كان أفعل من المدافع الأولى في تهديد الحصون والقلاع، بل استطاع الهوجنوت إلى أوائل القرن الثامن عشر أن يقاوموا المدفع حول الحصون بمتاريس التراب وما إليها، فلم يكن البارود إذن هو القوى الحاسمة في تغلب نظام على نظام، ولم يكن استخدام المدفع الأول أسهل من فنون الفروسية التي احتكرها نبلاء القرون الوسطى، وأصح من هذا أن يقال: إن البارود في أوربا قد أفاد في ميدان الصناعة قبل أن يفيد في ميدان القتال؛ لأن بدعة الأسلحة النارية حولت الأنظار إلى البحث عن الحديد والفحم، فنشطت حركة التعدين، واستفادت منها الصناعات الحديثة مع توالي الطلب على حسب حاجة العصر الحديث. •••
وننتهي إلى الخلط الأكبر حين ننتهي إلى الحلقة الأخيرة من سلسلة الطبقات، وهي حلقة «رأس المال» أو الصناعة الكبرى.
فهذه الطبقة لا تخالف الطبقة التي تقدمها وكفى، بل تناقضها على حسب الأحجية الفلسفية على وجه لا ندري معنى المناقضة فيه. ولا جدوى من متابعة «كارل ماركس» خلال السراديب والأنفاق التي يتلوى بينها ليصل إلى مبدأ هذه الطبقة، ولا من متابعته في سراديبه وأنفاقه الأخرى التي يعود فيتلوى بينها ليصل إلى فنائها، ثم إلى النعيم الألفي المرتقب في مجتمع أبدي لا طبقات فيه.
حسبنا أن ننظر إلى النتائج المحتومة في تقدير «كارل ماركس»، ثم نعلم أن المذهب قائم على هواء بغير أساس متى علمنا أنها نتائج غير محتومة، وأنها منقوضة فيما شهدناه وعهدناه، ولا يقترب بها المستقبل إلى تقديره خطوة بل يبتعد بها خطوات.
فالنتائج المحتومة في تقديره هي:
أولا:
أن الثروة تنحصر في أيدي فئة قليلة من أصحاب رءوس الأموال وأصحاب المصانع الكبرى.
وثانيا:
أن الطبقة الوسطى تزول رويدا رويدا، ثم سريعا سريعا، فلا تبقى منها بقية في خاتمة الدور.
وثالثا:
أن طبقة الأجراء تبتئس وتنحدر مع تقدم الصناعة، حتى تبلغ نهاية الانحدار متى بلغت الصناعة الكبرى نهاية الصعود، ويومئذ تثور هذه الطبقة؛ لأنها لا تخسر بالثورة شيئا غير القيود والأغلال.
ورابعا:
أن طبقة الأجراء تستولي بعد ذلك على الصناعة الكبرى فتديرها لمصلحتها، ولا تستغل بإدارتها طبقة أخرى فيظل المجتمع - أبدا - بغير طبقات. •••
هذه النتائج المحتومة لم تتحقق نتيجة واحدة منها، ولم يكن ما تحقق حتى الآن إلا مناقضا لها هادما لدعواها، فرءوس الأموال تتفرق ولا تنحصر، وأسهم الشركات توزع بعشرات الألوف ومئات الألوف، ومصانع الشركات الكبرى أحيانا يساهم فيها العمال، وتتفرق حصص الربح منها بين الأغنياء والمتوسطين والفقراء، وتتحول المرافق العامة إلى التأميم، كلما كان المشاع أوفق لإدارتها من الملكية الخاصة، وليس هذا بمبدأ جديد في الملكية العامة أو الخاصة، بل هو المبدأ القديم الذي يشيع ملك المرفق ما دام الاستئثار به لمصلحة فرد أو أفراد محدودين غير مستطاع.
والطبقة الوسطى تزداد ولا تنقبض، ولا يقل نصيبها من الملكية أو الثروة على حسب تقدير «كارل ماركس»، ولا يتقرر ذلك بالفروض والظنون ولكنه يتقرر بالإحصاءات والأرقام، ويقوم بهذه الإحصاءات أناس من تلاميذ «كارل ماركس» يرون أن الثروة صائرة إلى التوزيع لا إلى التركيز وأنها تصير إلى ذلك في طريق غير الطريق الوحيد الذي رسمه لها «كارل ماركس» في قضائه المبرم، ومن هؤلاء «إدوارد برنشتين»
11
الذي يسميه الشيوعيون «المنقح»؛
12
لأنه يدخل التعديل بعد التعديل على القواعد التي يؤمنون بها إيمان المتدين بوحي السماء. وقد جعل «برنشتين» حدا لثروة الطبقة الوسطى في عصر «كارل ماركس» (1851-1881)، فقدرها بمبلغ يتراوح بين 150 جنيها وألف جنيه في السنة، فظهر من الإحصاء أن سكان إنجلترا زادوا خلال هذه المدة بنسبة ثلاثين في المائة، وزاد عدد المالكين أبناء الطبقة الوسطى بنسبة مائتين وثلاث وثلاثين وبعض الكسور.
وتكررت هذه الظاهرة حسب الإحصاءات المأخوذة من المجتمعات الألمانية والفرنسية، فازداد السكان - مثلا - في بروسيا بنسبة عشرين في المائة من سنة 1892 إلى سنة 1907. وكانت نسبة أصحاب الثروة التي تتراوح بين مائة وخمسين وثلاثمائة جنيه في السنة قد زادت بنسبة 84,3 في المائة، وزادت الثروة التي تتراوح بين ثلاثمائة وألف وخمسمائة وخمسة وعشرين بنسبة 46,1 في المائة، وزادت الثروة التي تتراوح بين ألف وخمسمائة وخمسة وعشرين وخمسة آلاف جنيه بنسبة 156,7 في المائة.
13
وتسلم الأستاذ «باولي» بيانات الإحصاء في إنجلترا وويلز من عصر «ماركس» إلى سنة 1931 فوجد أن السكان زادوا بنسبة 53 في المائة، وأن الذكور من أبناء الطبقة الوسطى زادوا بنسبة 95 في المائة، ولم يزد الذكور من العمال إلا بنسبة 63 في المائة ، وعد الأستاذ «باولي»
14
من أبناء الطبقة الوسطى طوائف الكتاب والموظفين في الإدارة والتجارة والأشغال الفنية، وفصل البيان عن هذه الزيادات في تعليقاته على الطبقة الوسطى وأطوارها منذ قيام الصناعة الكبرى.
ولم تأت هذه المناقضات جميعا من أناس ينكرون المادية التاريخية، بل جاء معظمها من أناس كانوا يتبعون «كارل ماركس»، ويعملون بآرائه، ثم وضحت لهم منافرتها للواقع واستحالة تطبيقها على علاتها، فعمدوا إلى تصحيحها وتنقيحها، وترقبوا شيوع الثروة من طريق التوزيع الطبيعي والتطور السلمي والتذرع بالوسائل السياسية وبرامج الإصلاح الاجتماعي لإنصاف المظلومين والحد من طغيان الثروة محصورة بين أيدي طبقة واحدة من الطبقات كائنا ما كان المجتمع الذي تعيش فيه. •••
ثم يتراكم الخلط كله عند الهدف الأقصى الذي جعله «كارل ماركس» نتيجة النتائج لصراع الطبقات، وتواريخ الجماعات البشرية منذ خطواتها الأولى في الحياة الاجتماعية. ولا شيء أدل على خطأ المقدمات من كذب النتيجة وصلاحها أن تكون نتيجة لمذهب آخر يفند مذهب «كارل ماركس»، ويبطل سوابقه ولواحقه في نفس التاريخ.
فالطبقة العاملة لا تزداد سوءا على سوء مع تقدم الصناعة واتساعها إلى غاية مداها، ونجاح الشيوعية أقل ما يكون في البلاد التي تقدمت فيها الصناعة ذلك التقدم، وأكثر ما يكون في البلاد التي لم تعرف الصناعة الكبرى، ولم تنشأ فيها طبقة من الصناع تديرها إذا استولت عليها، وتنعكس النسبة تماما في هذه النتيجة، حيث وجدت الدعوة الشيوعية، فلا تنجح الدعوة الشيوعية إلا بمقدار التأخر في الصناعة الكبرى لا بمقدار التقدم فيها، ويحدث هذا في الأمة الواحدة كما حدث في الولايات الألمانية الشرقية والغربية، ويحدث في القارة الآسيوية كما يحدث في القارة الأوربية، فلا تروج الدعوة الشيوعية في اليابان كما راجت في الصين، ولا تروج في الصين نفسها بين أبناء الأقاليم الجنوبية الشرقية، كما راجت بين أبناء الأقاليم الغربية والشمالية.
وكلما تقدمت الصناعة تبين أن الأيدي العاملة لا تستطيع أن تديرها وأن تستولي عليها، ونجمت في الأمة طبقة جديدة من الخبراء والمهندسين تأخذ بزمامها وتملك نفوذ رأس المال أو تزيد عليه.
فالصناعة التي كانت في عهد «كارل ماركس» سهلة الإدارة يتولاها من يحرك المكنة اليدوية، قد أصبحت خبرة دقيقة في جملتها وفي كل جزء من أجزائها، وأصبحت هذه الخبرة موزعة على فنون مركبة وآلات متشابكة ومعارف ذهنية وسياسية وكفايات خلقية لا يقل فعلها في الإدارة عن فعل الكفايات الذهنية والسياسية.
وكلما اتسع ميدان الصناعة تضاعفت الحاجة إلى طبقة الخبراء والمهندسين والمديرين وذوي الكفايات على تنوعها، فتدبير الصناعة في الميدان العالمي أصعب جدا من تدبيرها في الميدان القومي أو ميدان الأمة الواحدة.
هنا بلاد تكثر فيها الخامات، وهنا بلاد تصلح لإقامة المصانع لهذا الصنف ولا تصلح مصانعها للأصناف الأخرى، وهنا بلاد ميسرة لمراكز المواصلات، وهنا بلاد تقبل على الأكسية ولا تقبل على الأطعمة، وهنا بلاد يكفيها مهندسوها وخبراؤها ومديروها ويزيدون على حاجتها، وهنا بلاد تطلبهم من غيرها أو تستعين بهم حيث كانوا ولا تتمكن من تنشئة فريق منهم بين أبنائها، وهنا مبادلات ومقايضات، وهنا معاملة بالنقد أو بالصفقات التجارية، ويحيط بكل هذه البلدان عالم متغير متنقل على حسب الأطوار البشرية والطبيعية والحوادث التي تخطر على البال أو الحوادث التي لا تقع في الحسبان، فمن تخيل أن هذا العالم في ميادينه الصناعية والاقتصادية يخلو فيه مكان المديرين والساسة وذوي الكفايات الذهنية والخلقية، فإنه لكاسد الذهن حقا مطموس الخيال أو مطموس الحس والعيان.
ومن تخيل أن «العملة» بأية صورة من صورها تبطل في هذا العالم، فمن البلاء حقا أن يسمع له رأي في مقادير الأمم وأطوار التاريخ، ومن تخيل بعد خروج العملة - إن خرجت - أن هذه العوامل المتشابكة تساس وحدها وتترك الملايين من الخلق يأخذ كل منهم حقه ولا يزيد عليه، ويعرف كل منهم كفايته ولا يدعي ما عداها، وتوزن فيه المطالب اليومية والسنوية بميزان الشعرة - الذي يرضي كل آخذ وكل مانح - فليس في الحالمين ولا في المخرفين من أمعن في التخيل وراء هذا الإمعان، ومن تحدث عن الغيب المجهول بسند أضعف من هذا السند، وتلفيق أوهن من هذا التلفيق. •••
إن الواقع أمام أعيننا قد عصف بالمذهب المادي في مسألة الطبقات عصفا يزيل الثقة بنبوءاته عن الحاضر والمستقبل، ولا ضرورة مع هذا لإزالة الثقة واقتلاعها من جذورها؛ لأن الثقة التامة واجبة لكل مذهب يطلب من الناس أن يتابعوه إلى نتائجه الهائلة في تاريخ الإنسانية، فإذا تزعزعت الثقة التامة، فهذا التزعزع كاف عند كل ذي ضمير للإحجام الطويل.
شرور أهون من تلك الشرور، وعاقبة أقرب إلى المداركة من تلك العاقبة.
وليست النتيجة المعكوسة في أمر الطبقة العاملة أو الأمم التي تروج فيها الشيوعية هي كل ما يعصف بالمذهب بين يدي هذه العواقب وتلك الشرور، فإن نجاح الدعوة الشيوعية بين الأمم المتأخرة يصيب المذهب في مقاتل شتى ولا يصيبه في مقتل واحد، إنه يصيبه في مقتله، حيث يثبت أن الدعوة السياسية تفعل ما لا تفعله أطوار الاقتصاد في عهد الصناعة الكبرى، ويقلب المذهب القائم على سبق وسائل الإنتاج لكل دعوة سياسية أو فكرية، وأنه يصيبه في مقتله مرة أخرى حين يثبت أنه مذهب متأخر لا يساغ في غير الشعوب المتأخرة، وأنه فتنة كسائر الفتن التي أصغى فيها الجهلاء لكل ناعق منذ عرفت هذه الفتن في تاريخ الحضارة أو تاريخ الهمجية. •••
وقبل ختام هذا الفصل نقول: إننا لم نكتبه في نشأة الطبقة من وجهة عامة؛ لأنه شرح طويل لا ينهض به فصل في كتاب، ولكننا كتبناه عن نشأة الطبقة في مذهب «كارل ماركس»؛ لندل على الخلط في دعامة من أضخم دعامات المذهب يرتفع بارتفاعها ويهبط بهبوطها. ونحن - بعد - لا نخرج عن الموضوع إذا أضفنا إليه إلمامة عاجلة بآراء الباحثين عن نشأة الطبقة من غير القائلين بالفلسفة المادية الاقتصادية؛ لأنها تساعد على المقابلة بين الأقوال المتعارضة في نشأة الطبقات الاجتماعية.
نشطت البحوث الأثنولوجية بعد عصر «كارل ماركس»، وألقيت الأضواء المتلاحقة على مطلع التاريخ وأحوال الجماعات البدائية في الأزمنة الأولى وفي الزمن الحاضر، واشتركت الدراسات النفسية والدراسات الأثنولوجية في هذا الباب، فتجمعت منها خلاصة حسنة في هذه الناحية من البحوث الاجتماعية.
وأقوى الآراء عن نشأة الطبقة وبنائها التقليدي منذ نشأتها الأولى أنها ترجع إلى النسب والسلالة، وأن الغالب على سادة المجتمع أن يكونوا من سلالة طارئة على الوطن الأصيل، ينظرون إلى أبنائه نظرة الغالب إلى المغلوب، ويترفعون عن معاملتهم في الشئون العامة أو الخاصة معاملة الأنداد، ثم تتبدل الطبقة مع الزمن بما يعتري الطبقة الممتازة من النقص والفساد، وما تكسبه الطبقات الأخرى من المزايا والكفايات.
وأشهر القائلين بهذا الرأي «جوزيف شمبيتر» في بحوثه عن «الاستعمار والطبقات الاجتماعية»،
15
وعن «الطبقات في مجتمع متجانس من الوجهة السلالية.»
16
والشواهد على صحة هذا الرأي ملحوظة في تاريخ الأشراف من أبناء رومة القديمة، وتاريخ قبائل الفرنك والغاليين عامة في البلاد الفرنسية، وتاريخ المغول الآسيويين بين من سبقهم إلى أوربة الشرقية من القبائل السلافية، وأبرز ما تكون هذه الشواهد في البلاد الهندية، حيث تتعدد الطبقات، ويستأثر الجنس الآري المغير على البلاد بمزايا الرئاسة الدنيوية والدينية، ويترك الطبقة الثالثة للتجار وأصحاب الأموال، وينعزل تمام الانعزال عن الطبقة الدنيا التي لا تشبهه في السحنة ولا في العادات.
والطبقة الغالبة تستأثر بخيرات البلاد بطبيعة الحال، ولكن الفارق بعيد بين الاستئثار بالمال؛ لأن المستأثر به قوي قادر على التسلط، وبين الاستئثار بالسلطة؛ لأن المستأثر بها يقبض على وسائل الإنتاج وتثمير الأموال، فالسادة الغالبون قد تركوا الأعمال المالية للطبقة الثالثة دون طبقتهم ودون طبقة البراهمة، وفرضوا لأنفسهم من الإتاوات عليهم ما يقدرون على تحصيله بقوة الحكم وقوة السلاح.
ولا نتراجع بعيدا مع التاريخ أو نذهب بعيدا إلى الأقطار القصية لنرى مصداق هذا الرأي في أقوال الباحثين والمؤرخين، فإن تاريخ مصر في عصور المماليك والدول السابقة لهم يعطينا من هذه الشواهد ما يكفي لتقرير فعل السلالة في تكوين الطبقة، أو تقرير السبق في هذا الفعل على أثر الأسباب الاقتصادية.
ومن بقايا الطبقة التي ينشئها اختلاف النسب أن أبناء الطبقة الممتازة يأنفون من اختلاط النسب بينهم وبين الطبقات الأخرى، وإن رجحت عليهم في الثروة والاستيلاء على وسائل الإنتاج، ومن قبل منهم مصاهرة تلك الطبقات عيب ذلك عليه واعتده هو من قبيل التضحية التي يساق إليها لضرورة من الضرورات. •••
والباحثون النفسيون في العصر الأخير يردون جميع الأسباب الاقتصادية إلى البواعث النفسية، فهي الوشيجة الجامعة بين أبناء الحرفة وأبناء الطائفة وأبناء الطبقة، ولا تكفي الصلة الاقتصادية إذا لم تقترن بها الصلة النفسية، وقد تكفي الصلة النفسية للتأليف بين الجماعات على اختلاف الطبقات.
والباحثان الأمريكيان «لومبارد» و«مايو» يذكران الأمثلة الكثيرة على أسباب التجمع والتفرق بين أبناء الحرفة الواحدة، فضلا عن الطبقة المحيطة بالحرف المنوعة، فقد بحثا في تكوين الجماعات بين العمال، والتفتا بصفة خاصة إلى أحوال التغيب
17
بين عمال كليفورنيا أثناء الحرب العالمية، فوجدا أن العمال المتغيبين ينقطعون عن المصنع ثم يفارقون المدينة؛ لأنهم لا يجدون حولهم من يألفونه ويستريحون إلى مصاحبته ويستريح إلى مصاحبتهم، ووجدا أن أسباب التغيب والانقطاع تزول حيث يتيسر إلحاق العامل المتغيب بفئة يأنس إليها وتأنس إليه.
وسبق هذين الباحثين باحث آخر - هو «تريشر» - الذي كان معنيا بدراسة أطوار الشبان الذين ينتمون إلى العصابات، فقد ظهر له من دراسة 1313 حالة أن الشاب الذي ينتظم في العصابة يلجأ إلى ذلك لقلة الألفة بينه وبين الفئات الاجتماعية من رياضية أو ثقافية، فيركن إلى أمثاله من أفراد العصابة؛ لأن المفروض في العصابات الساطية أو الخليعة أنها تستبيح ما لا يستباح، ولا تبالي أن تقدم على المحظورات والمنفرات، كأنها تحيلها إلى مزايا وشروط لا تتوافر في جميع الشبان.
ومحصل البحوث الكثيرة في هذا الاتجاه أن اجتماع أبناء الحرفة إنما يأتي من الألفة النفسية، وأن على الحرفة أن تيسر هذه الألفة لتشابه الأزياء والعادات ومطالب الحياة، فإذا كانت الحرفة لا تتكفل بتيسير هذه الألفة لم يشعر أبناؤها بالتقارب بينهم، وجنح بعضهم إلى بيئة غير بيئتها ولو فارق مورد رزقه وفارق مدينته بمن فيها.
وليس من المشاهدات النادرة بيننا أن نرى أناسا من أبناء الطبقات العليا يختارون أصدقاءهم من أبناء الطبقات الدنيا؛ لأنهم لا يشبهون أندادهم في الثقافة أو الشواغل النفسية والعقلية، وليس من المشاهدات النادرة أن نرى أبناء الطبقات المحرومة يلقون الترحيب والحفاوة بين أبناء الطبقات الموسرة ؛ لأنهم يحسنون من آداب المعاشرة وآداب التفاهم على الجملة ما ليس يحسنه أندادهم في المراتب الاجتماعية.
وإذا كانت العوامل النفسية هي الغالبة، أو هي التي تخلص لنا من الظروف الاقتصادية، فليس إهمالها والتعويل المطبق على ما دونها مما يعين على التقدير الصحيح في أطوار الاجتماع. •••
والدراسة التي تتخلل جميع الدراسات في زماننا هذا هي دراسة الإحصاءات والمقارنات.
وقد رأينا نموذجا منها في إحصاءات «برنشتين» و«باولي» عن الطبقة الوسطى، ومجمل ما يؤخذ من سائرها أنها تبطل الحصر المزعوم في تقديرات «كارل ماركس»، وتبتعد بالتاريخ المقبل عن الوجهة التي لا وجهة سواها.
ونظرة نلقيها نحن - أبناء العصر الحاضر - على ما حولنا، تطلعنا على حقيقة الطبقة كما تنبئ عنها تلك الإحصاءات والمقارنات، ونعلم منها أن حاجز الطبقات مرن ينفتح في كل جيل لطائفة من الأمة يدخلون منه أو يخرجون، ويتبدلون من ثم طبقة غير الطبقة وعملا غير العمل في المجتمع أو البيئة، ولا ينقضي جيلان في مدينة أو قرية إلا شوهد فيهما تداول الغنى بين البيوت والعشائر، فاستغنى قوم من الفقراء وافتقر قوم من الأغنياء، وما لم يكن نظام الطبقة مصحوبا بنظام وراثي كنظام الوراثة بين النبلاء في البلاد الإنجليزية، فقلما ترى حفيدا غنيا من أجداد أغنياء، ونكاد نقول: إن نظام الوراثة في إنجلترا هو الذي أغلق الباب على من فيه وترك الغنى يتسرب إلى أيدي العاملين في الصناعة والتجارة؛ لأنهم عملوا فيه بغير منافسة من سادة المجتمع الأقدمين.
وإذا أحصينا المنتفعين من الطبقات، لم نجد أن الاستغلال مقصور على ذوي الأموال، بل وجدنا أن كثيرا من العاملين المجتهدين وصلوا إلى الغنى من عملهم في مزارع الأغنياء وبيوتهم التجارية، ولا يقل عدد هؤلاء الأغنياء عن الربع أو الخمس من جملة الأغنياء في جيل واحد، وقلما عرف هؤلاء أحدا من أجدادهم على نصيب من اليسار.
هذه المعلومات عن أطوار الطبقات تؤيد الفروض أو ترجحها على احتمالات كثيرة، بل تؤيد جميع الفروض إلا ذلك الفرض المحتوم الذي لا ينفرج في مذهب «كارل ماركس» لقيد أنملة يميل إليه تاريخ الإنسانية إلى غير الخاتمة التي يصير عليها، ويتشبث بها، ولا يطيق أن يتوهم على البعد أو على القرب خاتمة سواها.
ذلك النعيب الجهنمي لا توجبه معلومات الباحثين عن أطوار الطبقات، ولا تتأدى إليه المقدمات التي وصلنا إليها أو نبصر أمامنا أننا واصلون إليها، وإنما المقدمة التي توجبه كامنة هنالك في خبيئة الظواهر النفسية المريضة، مقدمته نفس خبيثة مطبوعة على الشر لا تريده غيره، ولا تطيق النظر إلى شيء يمتزج فيه بأمل من آمال الخير أو عاطفة من عواطف البر والأمان.
القيمة الفائضة
القيمة الفائضة أصل من أصول المذهب الماركسي، لا يقل شأنها فيه عن شأن حرب الطبقات أو التفسير المادي للتاريخ، ولعله أخطر شأنا فيه من كليهما، إذ لا حرب بين الطبقات، ولا تفسير للتاريخ بوسائل الإنتاج، إن لم تثبته نظرية القيمة الفائضة، ولا محل للقول بالمجتمع الذي لا طبقات فيه إن لم تثبت هذه النظرية، فإن القيمة الفائضة هي ربح رأس المال الذي يقوم عليه المجتمع ويتهدم لأجله، فيخلفه مجتمع لا فضلة فيه من الربح فوق نتاج العمل، ولا طبقات، ولا استغلال.
وخلاصة القيمة الفائضة في مذهب «كارل ماركس» أن قيمة كل سلعة إنما هي قيمة العمل الإنساني فيها، ولكن العامل لا يأخذ هذه القيمة كلها، بل يأخذ منها مقدار ما يكفيه للمعيشة الضرورية، وتذهب القيمة الفائضة إلى صاحب رأس المال بغير عمل.
وأحوج ما تكون النظرية إلى الثبوت في مذهب «كارل ماركس» يكون حظها من الوهن والتلفيق والمحال، وقد قيل عن نظرية القيمة الفائضة من هذا المذهب أنها «كعب أشيل» أو مقتل المذهب في جملته، وهي في الواقع كذلك لولا أن الكعب أخفى موضعا في هذه النظرية المنكشفة بجميع مقاتلها من النظرة الأولى إلى النظرة الأخيرة.
ما هي القيمة «أولا» في علم الاقتصاد؟ إنها شيء غير الثمن، وغير الكلفة، وغير السعر، ولكن الفاصل بينها لم يوجد بعد على حد قاطع لا خلاف عليه.
وقد نجحت المشكلة مع الخطوة الأولى من خطوات البحث في علم الاقتصاد، إذ لا معنى لعلم الاقتصاد، إن لم يكن معناه أنه علم «التقويم» أو البحث في القيم وعواملها ومؤثراتها وأسباب التأثير فيها.
ولا داعية إلى معرفة كبيرة بالاقتصاد أو اختصاص عظيم بفن من فنونه العويصة للعلم بأن القيمة غير الثمن، فالثمن معروض مطلوب لا يجهله من يسأل عنه، وتقديره بعد عصر المقايضة يرجع إلى قيمة المعادن الحقيقية، وقيمتها المتداولة، وقيمتها في حساب الدولة التي تضرب المسكوكات، وهنا تدعوه الحاجة إلى التفرقة بين القيمة والثمن؛ لأن العملة التي قدر بها الثمن هي نفسها ذات قيمة لا بد من البحث عنها.
ولم يكن معقولا أن يسأل الباحث الاقتصادي عن قيمة الشيء فيقول: إنها هي ثمنه بالعملة المعدنية، فإننا لا نزال بعد ذلك مضطرين إلى البحث عن قيمة العملة وقيمة المعدن ومعيار هذه القيمة في عرف التجارة وعرف الدولة التي تضرب باسمها المسكوكات.
قالوا: إن الثمن هو قيمة الشيء مقدرا بالنقود، وأما قيمته بالسلع الأخرى فهي قيمة العمل الذي يستلزمه كل منها، فإذا قيل مثلا أن قيمة الذراع من الحرير تساوي مائة رغيف، فمعنى ذلك أن العمل اللازم لصنع ذراع الحرير يساوي العمل لصنع مائة رغيف.
فهل هذا صحيح؟
كلا، وقصاراه من الصحة أنه حيلة تفريقية أو معيار مفروض للقياس عليه، مع الاستعداد للزيادة هنا والنقص هناك، أو مع الاستعداد لافتراق المعايير كل الافتراق.
إن هذه السلعة يصنعها عامل في يوم، ويصنعها عامل آخر في يومين.
وإن هذا العامل تكفيه صحفة من البقول لتوليد طاقة العمل في بنيته، وقد يزامله عامل آخر لا تكفيه الصحفة أو لا يستطيع هضمها ولا غنى له عن طعام غيرها في النوع والثمن.
ويستطيع عامل أن يباشر عمله في الشتاء بلباس خفيف، ولا يستطيع العامل الآخر ذلك إلا بمضاعفة الدثار والاحتماء بين الجدران.
والأرض المخصبة تنبت الحبوب بقليل من العمل، ولا تنبتها الأرض المجدبة إلا بعمل كثير وتكاليف شتى للري والتخصيب، ولا تعرض الحبوب من صنف واحد إلا بثمن واحد مع اختلاف العمل في إنباتها.
والكتاب المقرر للتدريس في هذه السنة يباع بمائة قرش للطالب في المدرسة، ولكنه لا يشتريه بخمسة قروش إذا تقرر كتاب غيره، ولم ينقص العمل الذي بذل في تأليفه أو طبعه أو تحضيره ذرة من أجل ذلك التغيير!
والعنب يعصر اليوم فيساوي القدح منه مليمات، ثم يترك العصير في الباطية سنة فيرتفع ثمنه خمسة أو ستة أضعاف، ثم يترك عشر سنوات فيساوي مئات!
والبلوطة تغرس اليوم ولا يساوي العمل فيها دريهمات، ثم تمضي السنوات فتساوي الدنانير، ثم يظهر في إبان ذلك منجم جديد يغني عن الخشب، فيهبط الثمن إلى ربعه أو ما دون ربعه في ذلك المكان!
والنظارة التي يشتريها زيد بدينارين، تعرض على عمرو فلا يشتريها بدرهم، ولا يأتي ذلك من اختلاف العمل فيها بطبيعة الحال!
وهذه الحلية ينفق الصانع الماهر في عملها شهورا أو سنوات، ثم يموت طالبها الذي أوصى على صنعها لتزيين كسائه أو قنيته من مدخراته، فلا تباع بعشر الثمن المتفق عليه.
يقال إذن: إن طلب السلعة يضاف إلى عملها فيعطيها القيمة التي تستحقها.
وهذا معيار كمعيار العمل يؤخذ بالتقريب، ولا ضابط له على التحقيق.
إن هذا التاجر يعرف المكان الذي يقيم فيه طلاب السلعة، ويملك الوسائل التي تؤديه إليهم.
وربما وجد التاجر الذي يعرف المكان ولا يملك الوسيلة، أو وجد التاجر الذي لا يعرف المكان ولا يملك الوسيلة، فهل يبذل هؤلاء التجار ثمنا واحدا للسلعة الواحدة؟
ويتفق أحيانا أن السلعة تطلب في إبانها ولا تحتمل البقاء إلى موعد آخر، ويتفق أنها تطلب في كل أوان، أو تطلب في أوان مؤجل وهي عند تاجرين، هذا يطيق الانتظار إلى الموعد المؤجل فلا يبيعها إلا بما يرضيه، وهذا يعجز عن الانتظار فيقبل فيها الثمن المعروض عليه!
وليس العمل والطلب كل ما يبحث فيه عند البحث في القيمة، إذ هناك عوامل أخرى بديهية تدخل في الحساب وتتغير عوارضها بتغير الأحوال.
هناك اللزوم والكثرة.
فالماء ألزم من الجوهر، ولكن الجوهر يباع بألوف الدنانير، ولا يزيد ثمن الماء على أجرة حمله عند موارد الأنهار والعيون .
والجزء من الكتاب يباع بثمن مع وجود جميع الأجزاء، ولكن قد يباع بثمن الكتاب كله إذا كان هو الجزء الناقص في مجموعة بعينها، وإن لم يكن ناقصا في غيرها من المجاميع!
والدفتر من طوابع البريد لا يساوي كثيرا أو قليلا عند غير الهواة، وربما بيع بثروة من المال القيم لهذا أو لذاك من الهواة أو التجار العارفين بمكان الهواة!
لأجل هذا الاضطراب في تعريف الضوابط التي تقوم بها الأشياء، لا يبرح الباحثون الاقتصاديون يتنقلون من تعريف إلى استدراك، ومن استدراك قديم إلى استدراك جديد.
ومن هنا نشأ الاختلاف بين تعريف القيمة الاسمية، والقيمة التجارية، والقيمة الذاتية، والقيمة المقدرة بالعمل، والقيمة المقدرة بقوة العمل، ولم ينحسم هذا الاختلاف كل الحسم بتعريف من التعريفات.
ومن هنا قيل: إن القيمة غير الكلفة، وإن الكلفة بحساب العمل شيء والكلفة بحساب الإنتاج شيء آخر.
ومن هنا وجدت تلك النظريات التي تزداد كل يوم ولا تنقص مع الزمن؛ لأنها كلما ازدادت من ناحية ظهر عليها الاعتراض من جملة أنحاء.
وعندنا تقويم القيمة بالمنفعة النهائية
1
وعندنا تقويم القيمة بالإضافة الهامشية،
2
وهي التي تحسب تكاليف الجملة ثم تحسب السلعة الزائدة، وهي في كثير من الأحوال أقل من تكاليف السلعة في الجملة، وعندنا تقويم القيمة بنتائج فقد الشيء مع نتائج الحصول عليه، وعندنا تقويم القيمة بمتوسط الطلب،
3
وعندنا تقويم القيمة بالطبقة الخصوصية،
4
وعندنا غير ذلك أشتات من التعريفات، من قال لنا: إن تعريفا منها حاسم لا استدراك عليه، فهو جاهل بما يقول أو دعي يكذب في دعواه.
وليس من قصدنا هنا أن نوازن بين هذه التعريفات، وأن نفرغ من البحث فيها حيث لا فراغ من البحث في هذه الأمور، ولكننا نحقق المقصد المأمون من هذا البحث إذا علمنا أن التعريفات جميعا تسمح بالمراجعة والاستدراك، ولا تؤخذ مأخذ الضبط الجازم من الوجهة الفكرية العلمية، وندع الضبط الجازم من الوجهة العملية التي تهدر فيها الدماء، وينعب فيها نعيب الخراب، ويتحول فيها التاريخ عن مجراه فلا يعود إليه إلا بعد اليأس والضلال . •••
وعلينا قبل الكلام عن نظرية «كارل ماركس» بين هذه النظريات أن نرجع بها إلى ينبوعها من الظواهر النفسية، ولا مشقة على الباحث عن ذلك الينبوع في ضمير «كارل ماركس»، إذ لا توجد بين تلك النظريات إلا نظرية واحدة تملى له في إشباع طوية النقمة والأذى، وهي نظرية القيمة الفائضة، فإما «قيمة فائضة» وتسويغ لهدم المجتمعات كافة وتحريم لبرامج الإصلاح ما عدا الفتنة العمياء، وإما لا «قيمة فائضة» فلا مجتمع إذن بطبقة واحدة، ولا مسوغ إذن لنعيب النقمة والبغضاء ونذير الرعب والبلاء. •••
إن أحدا من المنكرين للمادية التاريخية لا يعصم «كارل ماركس» من الخطأ، كما يعصمه أتباعه وشراح مذهبه كلما استعصى عليهم إثبات رأيه على الصراحة، وألجأتهم غلطاته ومساوئه إلى التأويل المتكلف والتخريج العسير، ولكنه مهما يكن من خطئه أو غلطه خليق أن يفهم ما يفهمه أوساط الناس وألا يخفى عليه ما ينجلي لهم بغير جفاء، ولا تعليل لخفاء الحقائق البينة عنه إلا أن يكون مغلوبا على عقله بحكم هواه، ويرجح هذا التعليل أقوى الرجحان حين ننظر إلى الآراء التي يقبلها، فإذا هي الآراء التي تملى له في إشباع الحقد والنقمة، وننظر إلى الآراء التي يرفضها، فإذا هي الآراء التي تحول بينه وبين إشباع ضغينته، وتفتح الطريق لوجه من وجوه الإصلاح غير الوجه الأوحد الذي لا معدى عنه لجميع آرائه وتقريراته وتقديراته ووصاياه.
وليس من التعليل المقبول أن تخفى عليه ثغرات القوانين والنظريات التي يتعقبها غيره بالحيطة والاستدراك، ثم يتركونها وهم على علم بما فيها من النقص ومصارحة بما يعوزها من الأسانيد، بل الغالب في جميع الزيادات التي يدخلها على تعريفاته أنها تنم على حيلة كحيل الفقهاء في فتح المنافذ للاستثناء والتخلص من الحرج، ولا يتأتى أن نفرض له حسن النية في هذه الحيلة الفقهية إلا أن يكون مغلوبا على عقله منساقا بحكم الجبلة المتسلطة عليه!
كيف تخلص «كارل ماركس» من المحرجات أو الفجوات في تعريف القيمة بالعمل؟ لم يتخلص بمعنى واضح له أو يتأتى توضيحه لمن يتشكك فيه، ولكنه تخلص منه بتلك الحيل الفقهية المصطنعة فقال: إنه يقصد قوة العمل ولا يقصد العمل الواقع، وإنه يقيده بصفة العمل الضروري في «الساعة الاجتماعية». فالسلعة بعد هذه الاستدراكات تساوي قوة العمل الضروري محسوبة بالساعات الاجتماعية.
وعلى هذا يعتقد «كارل ماركس» أنه راغ من الثغرات المفتوحة عليه، وأعد الجواب لكل اعتراض على رأيه الذي يلقى الاعتراضات الكثيرة من خبراء الاقتصاد منذ مائة سنة، ولا تتناقص هذه الاعتراضات اليوم بل تزداد.
لقد زعم «إنجلز» - صفيه المشهور - أن «ماركس» أتى بمعجزة العبقرية حين استبدل قوة العمل بالعمل، وجعل قيمة السلعة منوطة بتوليد القدرة على العمل لا بإجراء العمل الواقع في مختلف الصناعات، إلا أن هذا التبديل يبعد التعريف، ويزيد ثغراته ولا يلمه، أو ييسر لنا الإحاطة بجوانبه ومنافذ الشك فيه.
فقوة العمل تفتح الباب للعامل النفساني «السيكولوجي» إلى جانب العامل الحيوي «البيولوجي»، وتكاد تخرج بنا في كل خطوة من المعلوم إلى المجهول.
إن الصانع الإيطالي مثلا يطلب صحفة المكرونة في مصر ولا يقنع بصحفة العدس أو الفول، وإن يكن فيها من الغذاء ما يساوي صحفة المكرونة.
وإن الفاعل الذي يشتغل على نغمات الأناشيد يقل ملله ويزيد نشاطه، ويخول الفاعل المنشد حقا في الأجر أكبر من حق الفاعل الذي يصغي إليه.
وإن الأجير الذي يشكو الظلم لا يخلص في عمله، كما يخلص زميله الذي يجهل تلك الشكاية، ويعتقد أن أجره مكافئ لعمله، وإن تساوى الأجران.
أما كلمة الضروري، التي ألحقها بالعمل، فهي الفتوى الفقهية التي تجيز كل اعتراض، ولا تمنع اعتراضا واحدا مما تقدمت الإشارة إليه.
إن المهارة الضرورية لرسم صورة من صور الفنون الجميلة، تجعل العمل الذي تتضافر عليه ألوف الأيدي أمثل أجرا وإتقانا من عمل اليد الواحدة، لا تحل لنا مشكلة واحدة من مشكلات التقدير أو التسعير.
وإن الخبرة الضرورية في قائد الجيش لا تحل محلها خبرة الألوف من جنوده الذين يحسنون القتال ولا يحسنون القيادة.
أما الساعة الاجتماعية فهي صندوق الساحر الذي يجمع الأسرار، ولا يرفع الستر عن سر واحد نحتاج إلى جلائه وإقراره على قرار لا يقبل النزاع.
فالعناصر التي تدخل في تكوين الساعة الاجتماعية تشمل كل ما تتميز به المجتمعات من العادات والتقاليد والأجواء والشروط الصحية، وتكاليف الساعة الاجتماعية في حوار القطب غير تكاليفها في جوار خط الاستواء، والرضا عسير مع الفصل بين العامل وعادات بيئته أو تقاليدها الاجتماعية، وهو يسير بالأجر نفسه إذا اشتغل العامل وهو لا يشعر بالغربة عن بيئة تلك العادات والتقاليد.
وإذا سأل السائل: ما هو الفرق بين الساعة الاجتماعية في مصنع الحديد وبين أفران الخبز؟ وكيف يكون العدل أو المعادلة في الصناعتين بين الأجر والربح ورأس المال؟ فبماذا تسعفنا كلمة الساعة الاجتماعية في جواب هذا السؤال؟
إن رأس المال المتنقل في الأفران أكثر من رأس المال المتنقل في مصانع الحديد، وصاحب الفرن لا يتكلف لإقامة مصنعه، كما يتكلف صاحب مصنع الحديد عند بناء الدار وشراء العدد واستئجار المهندسين والخبراء، وقد تدور «ألف دينار» من رأس المال كل أسبوع بربح جديد في صناعة الخبز وتوزيعه على العملاء، ولا تدور هذه «الألف» بعينها إلا مرة أو مرتين، ولا شك أن مقياس الربح هنا غير مقياس الربح هناك، فما هو الفرق بين الساعتين الاجتماعيتين: ساعة في المخبز، وساعة في مصنع الحديد؟ وهل نجعل لكل صناعة ساعة اجتماعية تدور معها بمقاييس العدل والظلم ومقادير الأجور والأرباح؟
وهل يستطيع أحد - بناء على هذا التعريف - أن يدعي الحكم المبرم في قضائه على المجتمعات بتواريخها وعاداتها وآدابها وأديانها ونظم السياسة والشريعة فيها؟ وهل يمتنع التردد على ضمير يستند إلى ذلك التعريف قبل خوض الدماء والأشلاء إلا أن يكون ضميرا مسيخا أعماه الدغل عن منافذ الشك التي تتفتح أمامه كما تتفتح منافذ الغرابيل؟
والمصادفة لا تطرد في الخطأ الفكري على وجهة واحدة من الجانبين المتقابلين، فلا يجوز أن يخطئ الفكر - مصادفة - في قبول القيمة الفائضة على الرغم من تراكم الأدلة التي تنفيها أو تشكك فيها، وأن يخطئ - مصادفة - في إنكار النظريات التي تخالفها على الرغم من تراكم الأدلة التي تؤيدها أو ترجحها، فليس هذا الاطراد من مصادفات الخطأ على نسق واحد طردا وعكسا ثم عكسا وطردا من الجانبين، ولكنه هوى يغلب على العقل فيتجه به إلى وجهة واحدة حيث مال.
انظر مثلا إلى «القيمة الفائضة» التي يختار لها في الجزء الأول من كتاب «رأس المال» مثل الربح المكسوب للتاجر من ثمن الحصان، وهو يختار الحصان عمدا ليقول: إنه سلعة لا يضاف إليها شيء من عند صاحب المال.
فلو أراد أحد أن يختار مثلا ينقض نظرية «كارل ماركس» لكان مثل الحصان أصلح الأمثلة لنقضه، وكان أصلح من السلعة المصنوعة التي لا تحيا ولا تموت!
فالسلعة الجامدة قد تبقى زمنا بغير عمل مضاف يعمله التاجر للمحافظة عليها، ولكن الحصان يحتاج إلى العلف والسقي والسياسة والحراسة، ولا تبقى له قيمة الحصان التي من أجلها يباع ويشترى إذا هزل أو مرض أو ذهب فريسة لوحش من الوحوش، وفي هذا المثل ترتبط القيمة كلها بعمل التاجر، ولا تبقى للحصان قيمة أصيلة ولا قيمة فائضة بغير ذلك العمل.
ولا ينوب عن تاجر الخيل كل تاجر يبذل ثمن الحصان ثم يبيعه رابحا فيه، بل لا بد من معرفة خاصة بالخيل وأوصافها ولوازمها ووسائل المحافظة عليها وعرضها في أسواقها، أو حيث يشتريها من يطلبها، وليست هذه المعلومات العامة مما يجهله أحد لو أراد أن يعرفه ويدخله في حسابه، إلا أن «كارل ماركس» ضرب المثل بالحصان وقال: إن التاجر يشتريه بمائة جنيه وهو ينوي أن يبيعه بمائة وعشرين جنيها، ولو لم يكلفه شيئا من النفقة بين المشترى والمبيع، ونسي أن تجارة الخيل لا تقوم على هذا الافتراض، وأن الربح في هذه الحالة إنما يصح أن يقال: إنه بغير عمل وبغير مقابل إذا تساوى وجود التاجر وعدمه، فهل هما مستويان؟ وهل يقبل «ماركس» هذا التساوي المزعوم بهذه السهولة إذا كان فيه إنكار للقيمة الفائضة؟
لقد كان مثل الحصان هذا محل مناقشة بين أصحاب النظريات الاقتصادية لبيان عمل التاجر في صفقته التجارية، فقال بعضهم: إن التاجر خدم البائع ؛ لأنه أعطاه مالا أنفع لديه من الحصان ، وخدم الشاري؛ لأنه أعطاه حصانا أنفع لديه من ثمنه، وأخذ على عاتقه أن ينوب عنهما في البحث عن فرص البيع والشراء، وهو عمل له جزاء، ولكن «ماركس» يسمي هذا الاقتصاد باقتصاد الرعاع أو الأوباش - وهي تسمية لا تستغرب من أحد، كما تستغرب من الرجل الذي جعل رسالته تسليم العالم بقضه وقضيضه للصعاليك - ومن تفكير الرعاع عنده أن يقال: إن التاجر قد خلق قيمة للحصان بعمله، وأن يوصف عمله بشيء غير صفة التداول
5
التي هي من طبيعة الحال، فماذا لو ضاعت قيمة الحصان كلها فمات، وماذا لو أكل بثمنه علفا قبل أن يباع؟ هذه اعتراضات لها ثبوتها اليقيني عند «ماركس» في حالة واحدة وهي الحالة التي ترضيه ولا ثبوت لها - بل لا وجود لها - في أية حالة لا ترضيه!
وإنه ليرفض قيمة الإدارة بمثل هذه السهولة حين يقال له: إنها تقدم وتؤخر في نجاح المعمل واستمراره وكفالة ربحه، وإن الفرق بين معملين في الرواج قد يرجع إلى حسن الإدارة أو خلل الإدارة، فيعيش أحدهما وينمو ويضمحل الآخر ويموت، وكلاهما فيه عمل وفيه عمال.
ولم يصنع «كارل ماركس» في حل هذه المشكلة بادئ الرأي، إلا أن يفرق بين الإدارة ورأس المال، وكيفما تشعبت الآراء في هذه الفروق فلا خطر لها في الموضوع الذي أثيرت من أجله؛ لأن النتيجة على جميع الأقوال أن السلعة لا تستمد قيمتها كلها من عمل الصانع، وأن عمل الصانع قد يزداد وتقل قيمة سلعته مع خلل الإدارة، وأنه قد ينقص وتزيد قيمة السلعة مع حسن الإدارة وانتظامها، فليست القيمة إذن مستمدة من عمل الصانع أو أعمال الصناع أجمعين.
وبالسهولة التي يرفض بها «كارل ماركس» كل رأي لا يرضيه، نراه في مسألة الإدارة يرفض كل احتمال لاستبداد المدير بالنفوذ، ويحصر الاستبداد في صاحب المال، ولا دليل له على ذلك إلا أنه يريده ويأبى ما عداه.
فالإنسان يطلب الربح لأنه يطلب الامتياز، ويأبى «كارل ماركس» هذا؛ لأنه يفسد عليه عمله في حاضره ومصيره ، ويقول: إن الإنسان يطلب الامتياز؛ لأن هناك ربحا يطمع فيه، فما لم يكن ربح فلا امتياز.
والحصان هنا معلق وراء المركبة، على عادة المذهب في أكثر نظرياته، ومن ذاك ما تقدم في قيمة العمل، فالصحيح أن العمل الإنساني له قيمة بمقدار طلبه، وأما الصحيح في المذهب فهو قلب الواقع رأسا على عقب أو هو القول بأن السلعة لها قيمة بمقدار ما فيها من عمل الإنسان.
وعلى هذا القياس المعكوس يقال: إن حب الامتياز يأتي من حب الربح، ولا يقال: إن حب الربح يأتي من حب الامتياز.
ولا تؤخذ الحجة من الواقع المحسوس في طبيعة الإنسان، ولكنها تؤخذ من الهوى الدفين في الطبيعة الممسوخة، فلو قيل: إن المدير يحرص على امتيازه، كما يحرص عليه صاحب رأس المال سقط المذهب من قمته إلى أعمق غور فيه، فوجب إذن أن يلغى هذا القول ولا يطول النظر فيه، مخافة الكسر على الزجاجة المخبأة وراء الظهر، ولا سند لها من الجدار!
على أن الظاهر من مساجلات «كارل ماركس» وزمرته في الأيام الأخيرة أن الحملة على نظرية القيمة الفائضة كانت أقوى من المكابرة واللجاج، وأنها زعزعت المذهب في الآونة التي أدبر فيها إدبارته المنذرة بالموت بعد فشل الفتنة الباريسية، فتراجع دعاته إلى خطوطهم الأخيرة ووعد «كارل ماركس» غير مرة بإعادة البحث للإفاضة في مسألة القيمة الفائضة، وتعزيزها بالأدلة من أطوار الحركة الاقتصادية في تلك الآونة، ثم مات ولم ينجز وعده، وشعر صفيه «إنجلز» بالحرج من مناوشة ناقديه، فأعلن أن الرد على اعتراضات الناقدين سيظهر في الجزء الثالث من كتاب «رأس المال» الذي عثر على مسوداته في أوراق «ماركس» بعد موته، ثم ظهر الجزء الثالث فإذا هو يتراجع ولا يفسر ما غمض من أقواله السابقة، وإذا به يعترف بأن بعض السلع يتبادل بقيمته الإنتاجية و«أن جملة أثمان الإنتاج للسلع الاجتماعية - مشتملة على جملة خطوط الإنتاج - تساوي جملة القيم جميعا.»
وها هنا تفرقة صريحة بين قيمة الإنتاج وقيمة العمل؛ لأن خطوط الإنتاج تشمل رأس المال والإدارة والعمل ، ولا معنى معها للقول بالقيمة الفائضة التي شهر من أجلها الحرب على مجتمع الصناعة الكبرى وما سبقه من المجتمعات، وقد ختم «كارل ماركس» رسالته بنصوصه وشروحه واستدراكاته دون أن يبسط القول في شيئين من أحق الأشياء في مذهبه بالشرح والإثبات، فلم يقل لنا كيف كان في الإمكان أن يظفر الصانع بحقه كاملا في مجتمع القرن التاسع عشر أو المجتمعات السابقة، وكيف كان في الإمكان أن يتم تداول رأس المال مع ذلك وتبقى الأعمال وحقوق العمال؟
وأغرب من ذلك أنه لم يقل لنا كيف يعرف الصانع حاجته، وكيف ينالها بغير بخس ولا محاباة، وكيف تدار المصانع على سنة العدل والمساواة بعد زوال رأس المال واستيلاء الأجراء على المصانع وموارد الأرزاق.
فهذا العالم الذي يؤكد لنا أنه يحلم كما يحلم الطوبيون من الاقتصاديين الرعاع، يزعم أنه يعلم - ولا يغرق في النوم والحلم - حين يتنبأ لنا عن مجتمع يزول منه رأس المال، فيطلب فيه كل فرد حاجته بغير زيادة وينالها لساعتها بغير نقصان، ويخدمه مديرون ورؤساء لا يحرصون على مزية الرياسة ولا يحتالون على البقاء فيها، وأن المنافسات التي تنبعث من تفاوت الحظوظ في الذكاء والقدرة والجمال والصحة وكثرة النسل لن يكون لها عمل بعد زوال رأس المال، وأن «الفلوس» وحدها هي التي تعمل كل شيء ولا عمل بعدها - بتة - للتمايز بالحظوظ والأقدار.
من صدق هذا فليس بالعسير عليه أن يصدق طوبى من طوبيات الحالمين، وعلم الله ما رأينا أناسا يجلسون مجلس الجد للبحث العلمي في هذه الخرافات إلا عبرت أمامنا صور الأطفال الصغار، وهم يلبسون اللحى الطوال؛ ليمثلوا هيبة القضاء بين ألاعيب الفراغ.
وما كانت النبوءة عن المجتمع «بلا عملة فائضة» هي خاتمة النبوءات عند هؤلاء العلماء المحققين غير الحالمين وغير الواهمين، فإنه ليكفي عندهم أن يقول القائل: إنني عالم غير حالم، وإنني أدين بالمادة ولا أدين بما وراءها؛ ليجوز له الشطح الذي لا يجوز لأحد، ولا يستند فيه إلى سند. وهذه نبوءاتهم عن عاقبة الأطوار الاجتماعية رحلة قريبة جدا إلى جانب النبوءة التالية عن عاقبة الأطوار المادية، فإن «إنجلز» صفي «ماركس» يعلم علما ليس بالحلم «أن المادة تتحرك في دورات أبدية تستتم كل دورة مداها في دهر من الزمان، تلوح السنة الأرضية إلى جانبه كأنها عدم، دورة تلوح فيها فترة التطور الأعلى - ونعني بها فترة الحياة العضوية التي يتوجها الوعي الذاتي - شيئا صغيرا بالقياس إلى تاريخ الحياة وتاريخ الوعي نفسه، دورة تكون فيها كل هيئة خاصة من هيئات المادة - سواء كانت شمسا أو سديما، أو كانت حيوانا أو نوعا كاملا من أنواع الحيوان، أو كانت تركيبا كيميا أو انحلالا كيميا - أبدا في تحول وانتقال، دورة لا يدوم فيها إلا المادة المتغيرة أبدا، وإلا ناموس التغير الأبدي والحركة الأبدية. ومهما تتكرر هذه الدورة ويبلغ من قسوة تكرارها في الزمان والمكان، أو مهما يطل الانتظار قبل أن تبرز هنا أو هناك منظومة شمسية أو كوكب تتهيأ عليه البيئة للحياة العضوية، ومهما ينشأ أو ينقرض من الخلائق قبل أن تنجم بينها أحياء تفكر بأدمغتها، وتجد لها ملاذا يسمح بالحياة - ولو إلى فترة وجيزة - فإننا مع هذا لعلى يقين أن المادة في كل تغيراتها تظل أبدا واحدة وأبدا كما هي، وإنها لن تفقد صفة من صفاتها، وإن تلك الضرورة الحديدية التي تقضي بزوال أرفع زهرات المادة - وهي القوة المفكرة - هي بعينها تقضي بميلادها كرة أخرى في زمان آخر.»
نعم، هذه هي النبوءات الراسخة عن مصير الأطوار الاجتماعية ومصير الأطوار الكونية، ومن شروطها المسلمة أنها بغير دليل ولا محاولة للدليل، وهل يلزم الإنسان أن يدلل على صحة كلام بعد قوله في فاتحة كل دعوى من دعاويه: إنه يؤمن بالمادة ولا يؤمن بالأحلام؟
حقوق الفرد
إذا كان غرض البحث في حقوق الفرد وحقوق الجماعة أن نوازن بينهما، ونقدم بعضها على بعض، فليس عند «المادية التاريخية» أدب خاص تضيفه إلى التراث العريق من آداب الأمم في تقدير الفرد عامة، ولا في تقدير الفرد الممتاز أو الفرد العظيم.
فمن قديم الزمن، فرغ الناس من هذه الموازنة واتفقوا على أن حقوق الجماعة أولى بالتقديم من حقوق الأفراد ، وأن حق الفرد إذا وقف في طريق الجماعة وجبت التضحية به لخدمة الجماعة وتغليب مصالحها العامة على كل مصلحة فردية.
في هذه المسألة لا يوجد قولان.
وإذا رجعنا إلى آداب الجماعات الأولى لنعرف موضع المغالاة فيها، فمما لا نزاع فيه أن المغالاة في حقوق الجماعة أعم وأقوى من المغالاة في حقوق الفرد على حدة أو حقوق الأفراد متفرقين، وما كان فرد من الأفراد ليعظم في قومه ما لم يكن له فضل في الذود عنهم، ومعونة عائلهم، وإطعام جائعهم، وإيواء شريدهم، ولا خلاف بين رأيين في أن الموئل الأخير لحق الفرد هو مصلحة الجماعة بحذافيرها، فلا حق للفرد العظيم في التعظيم إلا أن تكون مصلحة الجماعة ملحوظة في إكبار العظمة والاعتراف بأفضال ذويها.
وعندنا في اللغة العربية ذخيرة من الشعر الجاهلي يخرج منها القارئ بفكرة واحدة، وهي أنه «لا خير فيمن لا خير للناس فيه.»
وما كان أدب العشيرة العربية إلا مثالا للعشائر الأولى على وفاق في المغزى والنتيجة مهما تتبدل أساليب التعبير.
ولما ترقى البحث في هذه الشئون إلى مذاهب الفلسفة، كان محور الفلسفة عند «أرسطو» أن الحكومة المثلى هي الحكومة لمصلحة الرعية، وأن الحكومة السيئة هي الحكومة لمصلحة الرعاة.
وقد يتعدد القول في الاختيار والاضطرار، ولا تأتي الفلسفة المادية التاريخية - مع ذلك - بشيء يضاف إلى التراث العريق في تقدير الفرد بالنسبة للجماعة، فقد يقال مثلا: إن الفرد مضطر إلى خدمة الجماعة، بحكم تكوينه، ولا ينفي ذلك حقه في الكرامة؛ لأنه أفضل من الفرد المضطر إلى العدوان على الجماعة بحكم تكوينه، ولا يكون رد الفعل من قبل الجماعة طبيعيا معقولا، إذا تساوى في معاملة الفردين: معاملة الفرد المضطر بحكم تكوينه إلى خدمتها، ومعاملة الفرد المضطر بحكم تكوينه إلى العدوان عليها.
كذلك لا تأتي المادية التاريخية بأدب جديد في معاملة الفرد إذا قالت: إنه يفلح في سعيه كلما وافقته ظروف الجماعة، وإنه لا يخلق الظروف التي تساعده وتنشأ في الأمة قبل مولده، إذ لا شك أن الفرد الذي يريد عمل الخير وينتظر موافقة الظروف لإنجازه، أكرم وأنفع لقومه من الفرد الذي يريد عمل الشر ولا يستطيعه إلا إذا وافقته الظروف.
وليكن تعبير المعبر في هذه الحقيقة، بما شاء من ألوان الأساليب، فإن تقدير الأفراد لا يتساوى إذا كان منهم من هو مضطر إلى العظمة وكان منهم من هو مضطر إلى الخسة، ولا يغض من قدر العظيم أن الأمة قادرة على إخراج مثله، فإن مثله سيأتي أيضا عظيما أفضل في صفاته وكفاياته من الحقير.
وإذا قال القائل: إن قدحا آخر من الماء سيرويني إن لم أجد هذا القدح الذي أمامي، فهو لا يبطل نفع الماء بهذا المقال، ولا يزال الماء ماء ضروريا للري وحفظ الحياة في الحالتين.
كان «هيجل» مثاليا يقول بالفكرة ولا يقول بالمادة، وكان يرى نابليون الأول على حصانه في معركة «جينا» فيقول: إنه رأى روح الكون يمتطي ذلك الحصان، ثم يعود فيقول: لو أنه لم يكن نابليون لكان تدبير الروح الأعظم كفيلا بوضع شخص آخر في مكانه على صهوة جواده يسمى بما شاءت المقادير من الأسماء.
ثم جاء الماديون التاريخيون، فاقتبسوا قواعد المذهب المادي من إمام الفلسفة الفكرية، وكرروا هذه العبارة بنصها في أمر نابليون وغير نابليون.
إن الإنسان قد يدين بكل حرف من حروف المادية التاريخية ولا يوجب عليه العقل أن ينظر إلى الفرد عامة، أو إلى الفرد العظيم، نظرة غير النظرة الإنسانية المأثورة من أقدم العصور، فمن أين جاءت تلك الرغبة الملحة عند الماديين في تحقير العظمة الإنسانية، والحرص في كل مناسبة على بخس حقها، واللجاجة في تفضيل الكثرة على المزية كلما تكلموا عن حادث من حوادث التاريخ، جاء من خسة النفس أو من الظاهرة النفسية، ولم يجئ من فكرة سليمة يستلزمها الإيمان بكل حرف من حروف المادية التاريخية؟
لتكن الجماعة أولى بالرعاية من الفرد الصغير أو الكبير.
نعم، هو كذلك، وقد كان كذلك، وكانت الجماعة على هذا تفهم أنه عظيم ولا تفهم أنه صغير.
ولتكن العظمة ضرورة من ضروريات التفاعل الاجتماعي لا فضل فيها لصاحبها.
نعم ، هي كذلك، وقد كانت كذلك، ولم يقل أحد أننا نتربص بها لنهينها ونغض من قدرها، ونصيح في وجهها لسبب ولغير سبب قائلين مكررين: إن غيرك قد كان وشيكا أن يحل في محلك ويفعل ما فعلت أو ما ستفعلينه.
وليكن الفضل الأكبر لموافقة الظروف الاجتماعية، ولا فضل لأحد لم توافقه هذه الظروف، لكنه فضل لازم، ووجد لأنه لازم، واستحق التقدير اللازم لأنه لازم، ولا يقال عنه: إنه فضول، وإنه ادعاء غير مقبول.
فإلى مصدر آخر غير البحث العلمي والآراء الفكرية نرجع بالنظر لتفسير النقمة على حق الفرد العظيم أو غير العظيم، أو لتفسير النقمة على كل فرد له لون، وله شية، وله علامة مميزة، بين القطيع السائم الذي لا لون له ولا شية ولا علامة!
نرجع إلى طبيعة الدناءة التي تنبع منها الشيوعية، وتتجه إليها في نفوس المستجيبين لها، وكلما اختبرنا هذا المذهب، واختبرنا ضمائر أصحابه تكشف لنا مصدر الشيوعية في جوانب شعورها وجوانب تفكيرها، فمن الخطأ أن نتوهم أنها نقمة على امتياز الثروة المغتصبة كالنقمة التي يشترك فيها جميع الناس، في جميع العصور، ولكنها في أعمق مصادرها نقمة على كل امتياز، وحسد لكل ممتاز، ولو كان امتيازه لنفع بني قومه أو نفع بني الإنسان. •••
ومن الوقائع المشهودة أن تاريخ الشيوعية نفسها يبرز لنا عمل الفرد في توجيه الجماعات وتحويلها عن وجهتها، فليس إعلان الدعوة الشيوعية في روسيا حتما من قضاء التاريخ، لو لم يكن «لينين» على رأس الفئة التي تسلمت زمان الثورة الروسية بعد سقوط آل رومانوف.
فلم تكن روسيا ممهدة للدعوة الشيوعية دون غيرها تمهيدا لا منصرف عنه إلى سواه، ولكنها سارت في طريق الشيوعية؛ لأن الفئة التي قادتها يومئذ هي التي سيرتها إليها، وقد تولى النازيون أمر الثورة في ألمانيا، وتولى الكماليون أمر الثورة في تركيا، وتولى «سن يات سن» أمر الثورة في الصين، وقامت في العالم ثورات متفرقات بقيادة هيئات من هذا القبيل، فاختلف الاتجاه باختلاف القيادة، ولم يكن بين الأمم التي انقادت لها من جامعة بينها غير السخط وحب التغيير، ولو أن فيالق «لينين» لم تتسلم زمام الأمر في روسيا، لما كان حتما لزاما أن تسير البلاد على الخطة التي سارت عليها تطبيقا لمذهب «كارل ماركس» أو خروجا عليه.
وما هو الحتم التاريخي الذي كان يستلزم قيام الدعوة الشيوعية في روسيا بعد الحرب العالمية الأولى؟ بل ما هو الحتم التاريخي الذي كان يستلزم إيمان «لينين» بمذهب المادية التاريخية؟ إن «لينين» لم يحلم قط بأن تقوم الثورة في حياته، وكان يقول: إنها لو قامت في مدى مائة سنة لحق للثائرين أن يغتبطوا بهذا التوفيق، ولعله كان واحدا من أولئك الثوار الروس الذين قالوا للزعيم الصيني «سن يات سن» - كما قلنا في كتابنا عنه - إنهم لا يتوقعون الثورة وهم بقيد الحياة!
وخصلة أخرى من خصال الشيوعية ينبغي أن نلتفت إليها، كلما تكلم القوم عن الحتم التاريخي، وحاولوا أن يسحبوه إلى الحاضر أو إلى المستقبل.
فالحتم التاريخي لا يظهر من حودث الماضي وأحكامه المتسلسلة من أدواره المتعاقبة، ولكنه يظهر كلما قامت في طريق الغرض عقبة تمنع نفاذه أو تعوقه إلى حين.
وإنكار الحقوق الفردية على هذا القياس لم يكن حتما لزاما في سوابق التاريخ، وإنما أصبح حتما تاريخيا يوم وقفت الملكية الفردية، والمنافسة الفردية، والكفايات الفردية، عقبة أو عقبات في طريق النفاذ، إن الحرية الديمقراطية لا تنكر منع الجور والشطط وتحريم المنافسة التي تضر بسلامة الأفراد، والحرية الديمقراطية، لا تنكر أن تتدخل الدولة في شئون الملكية الفردية إذا وجب ذلك لمكافحة وباء، أو تخفيف غلاء، أو دفع غارة من الأعداء.
والحرية الديمقراطية لم تنقض قواعدها حين أصدرت القوانين التي تحرم زيادة ساعات العمل على عشر في النهار. ولكن صدور هذه القوانين لتنفيذها على الأنوال في البيوت، قد كان من المستحيل في ظل الديمقراطية أو ظل الشيوعية أو ظل الاستبداد، إذ من اليسير أن تراقب المصنع الذي يعمل فيه ألف عامل؛ لتمنع زيادة العمل على عشر ساعات، وليس من اليسير أن تراقب ألف عامل متفرقين في البيوت؛ لتفرض على كل منهم أن يعمل في اليوم عشر ساعات ولا يزيد.
وكثيرا ما تسمع من أعداء الحرية الديمقراطية من يسألك: أكان من نعم التنافس الحر أن يساق الأطفال دون العاشرة إلى العمل الشاق بالليل والنهار؟! يسألون هذا السؤال وينسون أن التنافس هنا تنافس العمال فيما بينهم، وتنافس المصانع فيما بينها على السواء، ويسألونه وينسون أن الحرية الديمقراطية بطبيعتها لا تنكر تحريم الإرهاق والشطط بالتشريع الصارم كلما دعت الحاجة، ولكن لا الحرية الديمقراطية، ولا الشيوعية، ولا الاستبداد المطلق، ولا حكومة من الحكومات، تستطيع أن تنفذ قانونا غير قابل للتنفيذ. وليس تقديس التنافس الضار هو الذي حال دون إصدار القوانين التي تحرم زيادة العمل على الطاقة، ولكن هذه القوانين لم تصدر قبل عهد المصانع الحافلة بالعمال؛ لأن تنفيذها على البيوت، وعلى الآلات اليدوية المتفرقة شيء غير ممكن في الواقع أيا كان السلطان المشرف على الصناعات.
فالحرية الديمقراطية لم تكن تمنع الإصلاح بتحريم الشطط في التنافس الذي يريد المتنافسون أنفسهم أن يحرموه، إلا أن هذا الإصلاح لا يوافق غرض الماديين التاريخيين، وليس على منهجهم أن تبقى الملكية الخاصة مشروعة في القوانين. ولهذا يظهر الحتم التاريخي فجأة لإنكار الحقوق الفردية والحرية الفردية والكفايات الفردية، ولا موجب لظهوره من سياق التاريخ، وإنما الموجب الوحيد لظهوره أنه الوسيلة إلى تحقيق الغرض المنشود. •••
هذا الحتم التاريخي المنجم على حسب الغرض، هو مصدر الآراء التي رتبت للفرد مكانته في مذهب الماديين التاريخيين، وفرضت له نصيبه من الحرية ومن الفضل في خدمة المجتمع، أو تنفيذ برامج الإصلاح، وهو نصيب تضاءل مع الزمن في أقوال فلاسفة المذهب قبل أن يتضاءل في أعمال التطبيق؛ لأن ما قالوه في عهد «كارل ماركس» عن حرية الفرد لم يزل يتضاءل ويتضاءل، حتى أصبحت الحرية الفردية على ألسنتهم وصمة تعاب، وتدعو إلى الاتهام بإنكار حق الجماعة في أن تصنع بالفرد ما تشاء.
والمشهور عن «كارل ماركس» أنه ثائر جامح يصدم العالم الواقع بما يزعجه ولا يبالي مغبة هذا الإزعاج، إلا أنه إذا امتحن بحيلته في إزجاء القول عن مكانة الفرد، كان وصف الماكر الحذور أليق به من وصف الثائر الجموح، فلم يكتب في مؤلفاته كلمة واحدة تشير من بعيد إلى الخطر على الحرية الفردية من مذهبه في الاجتماع، وما كان في وسعه أن ينبس بكلمة في هذا المعنى، ثم يطمع في مستمع واحد يصغي إليه بين صيحات الحرية التي ملأت أجواء القرن التاسع عشر، وكانت تذهب بالناس إلى الأنفة من طاعة القانون وطاعة الحكومة على وضع من الأوضاع، فراجت بينهم دعوة الفوضوية والنقابية، وراجت بينهم دعوة الشيوعية نفسها؛ لأنها وعدت الأمم أن تنتهي بها إلى عصر تذبل فيه الحكومات حتى تزول، ومن لم يذهب إلى هذا المدى في الأنفة من الطاعة، فلا مطمع في إصغائه إلى مذهب يحدثه عن الاستبداد، ويجعل حرية الفرد نافلة من النوافل، أو مظهرا كاذبا يخفي وراءه قسوة الضرورة التي لا تحفل بالحريات ولا بالأفراد.
كان «ماركس» وأتباعه يترنمون بالحرية الفردية في موكب الديمقراطية، وكانوا يشهرون بالسلطة الفردية، فلا يصدمون أحدا؛ لأن سلطة الفرد كانت هي الخطر الأعظم على الحرية الفردية في تلك الآونة، ولم ترد الإشارة إلى دكتاتورية الصعاليك
1
أو استبداد الطبقة الأجيرة إلا مرتين في رسائل «ماركس» الخصوصية، أما الكتب والبرامج المسهبة، فكل ما ورد فيها بيان عن حالة الحكومة بين قيام الثورة واستقرارها، وأهمه ما جاء في برنامج مؤتمر جوثا،
2
وقصد به «ماركس» إلى التوفيق بين الفوضوية التي ترفض الحكومة في جميع العهود، ونظام الشيوعية الذي يترخص في إقامة الحكومة لحراسة النظام الجديد ريثما تنتظم الأحوال بعد إلغاء الطبقات.
وقد ختمت رسالة المادية الماركسية في القرن التاسع عشر، وهي لا تجرؤ على المساس بالحرية الفردية، ولا تمس مطالب الفرد إلا حيث تستطع أن تمشي في جوار فكرة من أفكار العصر المقبولة، أو مبدأ من مبادئه المحبوبة.
فالحملة على احتكار الثورة لم تكن غريبة على الأسماع، حيث تنهال الحملات كل يوم على احتكار السلطة واحتكار السيادة بأنواعها وألوانها.
والرجوع بكل شيء إلى حقوق الأمة في المسائل الاقتصادية لم يكن غريبا على الأسماع، حيث ترجع الحقوق السياسية جميعا إلى الأمة، ويتسع نطاق النيابة عن الأمة في شتى طبقاتها.
والحتمية التاريخية لم تكن غريبة عن الأحاديث الشائعة حول نواميس الكون وقوانين الطبيعة، أو إجراء كل شيء في العالم على سنة عامة لا تسمح بالشذوذ في عظيم أو دقيق من أحوال الحركة والسكون بين السماوات والأرضين.
والتشهير بالمال والتهافت عليه لم يصدم أحدا في الجيل الذي جاء بعد ثلاثة أجيال أو أربعة، تسمع عن أصحاب الأموال كل مذمة ومنقصة، وتتلقى من منابر الوعظ أو منابر الفلاسفة المبشرين بالطوبيات سوء النذير من جراء الجشع والتكالب على الحطام. وقد كانت الطوبيات تتبع بعضها بعضا في إنجلترا وإيطاليا وألمانيا منذ عهد «توماس مور» الإنجليزي إلى عهد «جوهان فالنتين» الألماني إلى عهد «شامبنلا» الإيطالي، إلى غيرهم من أصحاب البشائر الاجتماعية المجمعين على تدنيس الطمع، وتبشير المحرومين بالراحة والرزق الخفيض، وقد بدأ عصر الطوبيات في القرن السادس عشر، واستمر بعده إلى القرن العشرين، واقترن به عند نهاية القرن الثامن عشر عصر البرامج الاجتماعية، التي كان من روادها السابقين «بابوف» الفرنسي و«روبرت أوين» الإنجليزي، ورواد علم الاقتصاد وعلم الاجتماع بين أمم الحضارة الأوربية، وليس فيهم من كان يذكر الطمع في الأموال بغير المذمة والتشهير.
هذه النواحي من الفردية المعيبة هي النواحي التي اختارتها المادية التاريخية للتسلل من خلالها إلى عقول أبناء القرن التاسع عشر، ولا نقول للهجمة عليها، فما كان بمذهب المادية التاريخية من حاجة إلى الهجمة على قواعد الاحتكار، ولا إلى الهجمة في مجال البحث عن نواميس الكون وقوانين الطبيعة، إذ كان «العقل العصري» يثور قبلها على السلطة المحتكرة، والقوة المحتكرة، والثروة المحتكرة، والمزايا المحتكرة جميعا؛ لأنها في جملتها عدوان على حرية الأفراد، ولا نبتعد بالكلمات عن معانيها إذا قلنا: إن البحث عن النواميس الكونية كان في لبابه ثورة على رجال «الكهنوت»، الذين احتكروا العلم بأسرار الكون، فجاء «العقل المصري» منكرا لهذا الاحتكار مذيعا لأسرار الكون على السواء بين جميع القادرين على استطلاع تلك الأسرار.
ولقد كانت فلسفة الماديين - على هذا - تسللا إلى العقول في موضوع الحقوق الفردية، ولم تكن هجوما يصدم تلك العقول، إلا أنها تسترت بكراهة الاحتكار لتقول بكراهة الامتياز كيفما كان، وجعلت الفرد كبيرا أو صغيرا لغوا أو كاللغو في حركة التاريخ، وليس لفكرة من أفكارها الفلسفية معنى مفهوم إن لم يكن معناها إلغاء الفرد بالقول الصريح.
فلا معنى للنص على أن «الفرد» لا يصنع شيئا إلا بموافقة الظروف.
إن هذا تحصيل حاصل يصدق على الفرد وعلى الجماعة، وعلى كل قوة إنسانية أو حيوانية أو مادية تؤدي عملا في هذا العالم، ولا يمكن أن تؤديه إذا عارضتها قوة أكبر منها.
ومن تحصيل الحاصل أن يقال: إن مشيئة الأفراد تتفاعل ويأتي فيها في النهاية شيء غير الذي أراده كل فرد منهم على حدة، فإن المواد الكيمية تتفاعل مثل هذا التفاعل، ولا نقول من أجل ذلك: إن الحديد كالقصدير، أو إن الذهب كالنحاس، أو إن الكبريت كالملح، أو إن العناصر ليست عناصر مؤثرة مختلفة التأثير من أجل ذلك التفاعل المفروض.
كل ذلك تحصيل حاصل لا موجب للعناء في شرحه، لو كان الفرض منه أن عمل الفرد محاط بالعوامل التي تساعده تارة وتقاومه تارة أخرى، وإنما الموجب له أمر واحد وهو ذلك الولع بالتسفيل والتخسيس والتلصص على كل تعلة خفية لتصغير كل عظيم، واستمراء الحقد والحسد في طوية كل مهين لئيم.
ومن التسلل إلى العقول أن ينادي زعماء المادية بحقوق الفرد السياسية في المنشورات العامة، ثم يحتفظوا بين سطور المباحث الفلسفية بتفسير تلك الحرية على النحو الذي أرادوه، ولعل حصة «إنجلز» في هذا الباب كانت أكبر من حصة «كارل ماركس» حينما تصدى للبحث عن فلسفة الحرية، فإن «إنجلز» هو الذي أسهب في تفسير معنى الحرية، حين تصدى للرد على «دوهرنج» فقال: إنها هي معرفة الضرورة، وإن الإنسان يعتقد أنه كان حرا في اختيار أمر من الأمور؛ لأنه يجهل العوامل التي تكونت منها حرية الاختيار، ولم يشأ «إنجلز» - أو لم يستطع - أن يبين لنا ما الفرق بين العوامل التي «تضطر» الإنسان إلى الحرية، والعوامل التي تضطره إلى العمل الآلي المكره المجرد من الاختيار أو من الشعور بالاختيار، فلن تكون النتيجة أن الحالتين سواء، وأن الشعور بالاختيار كالشعور بالاضطرار، وأننا نختار بينهما فلا نملك أن نختار.
ولم يجهر الدعاة الشيوعيون باحتقارهم للحرية الإنسانية، إلا بعد أن قامت لهم دولة تملك سلب الحرية، فسلبوها واعتبروها ترفا لا يساوي ضرورات المعيشة، ولعبوا بالألفاظ في هذه المقارنات الجوفاء بين الكماليات والضروريات لعبا مبتذلا يشف عن سوء فهم أو سوء نية. فإن كبح الاستبداد ضرورة الضرورات في مجتمعات الآدميين، ولا يكبح الاستبداد بحشو البطون، بل بالحرية في الضمائر والأفكار.
وقد كان الشيوعيون يشهرون الخبز في وجه أنصار الحرية، وينسون أن الفاشيين والنازيين يساوونهم في هذا «البرهان» الحيواني إن لم يرجحوا عليهم، لأنهم جميعا يؤيدون مذاهبهم وتطبيقاتهم بإطعام الجياع، وتدبير العمل للعاطلين، ولكنهم لا يسألون كما يسأل الشيوعيون: ما جدوى الحرية للبطون الجياع؟
ولو قد ثبت أن الحرية ترف رخيص، وأنها ليست من ضرورات الحياة الاجتماعية لدفع أخطار الاستبداد لما كان في ذلك السؤال حجة على شيء، إذ كان الطعام ألزم للكائن الحي من أمور كثيرة لم يتركها الآدميون لهذا السبب، ولكنهم بها كانوا آدميين، ولم يكونوا آدميين بما يأكلون ويشربون.
ولقد يحق ذلك السؤال لكثير من السائلين غير أصحاب المذاهب، الذين قضوا على الملايين وعذبوا وشردوا أضعافهم من طبقة المحرومين وغير المحرومين، فإن الذين ماتوا جوعا وقحطا في تاريخ الروس منذ القدم لا يساوون شطرا من هؤلاء القتلى والمعذبين.
ثم عاد القوم إلى نغمة الحرية والفردية بعد سنواتهم التي تصرمت في ازدراء هذه الحرية وعقد المفاضلات بينها وبين الخبز وما إليه، فلما احتفلوا بذكرى «كارل ماركس» بعد انقضاء ستين سنة على وفاته، لم يشغلهم أمر في هذه الذكرى، كما شغلهم أن يدفعوا شبهة الجناية على كيان الفرد وكرامته الإنسانية في ظل الشيوعية، فطلبوا إلى أسقفهم الأحمر
3
أن يكتب لهم رسالة خاصة عن الماركسية والفردية، فكاد يترنح وهو يردد كلام رفيقه «باربوس» الذي كتب من قبله يقول: «إنه ما من شيء أدهشه كدهشته من تلك الفردية المتدفقة في بلاد الروس، إذ نشهد فوعة الشخصية متوفزة على ريعان الشباب.»
وبعد عشر سنوات على هذه الأنشودة - البريئة - يموت «ستالين»، فيتنفسون في بلاده الصعداء، ونسمع من أعظم الشخصيات حوله أنهم عاشوا بين يديه في سجن من الكبت والرهبة، لم يصدقوا أنهم نجوا منه بعد موته واستوائهم على عرشه زهاء ثلاث سنوات. •••
قيل: إن الحرية يخدمها ما يعمل لها ويعمل لمحاربتها على السواء، وهي كلمة تصدق أبلغ من هذا الصدق إذا قيلت عن الحرية الفردية أو عن الشخصية الإنسانية، فإن الشيوعية تستهين بها في تفسير أطوار التاريخ، وتتجاهلها في دراسة الحركات الاجتماعية، ولكن لو زالت تواريخ الحركات الاجتماعية وبقيت لنا منها حركة الشيوعية؛ لكان فيها الكفاية «لفرز» مجهود الفرد في الأعمال العامة، وإبراز ما ينسب إليه في أطوار التاريخ مقدما على نسبته إلى الأمة أو البيئة أو الطبقة.
إن «ماركس» و«إنجلز» زعيمي المذهب الشيوعي ولدا في ألمانيا، وتمرسا بالحياة الاجتماعية والسياسية في فرنسا، وكونا مذهبهما في إنجلترا، ووضعت هذه المبادئ بعد موتهما موضع التنفيذ في روسيا. وليست أمامنا صفقة واحدة محققة بين هذه الأمكنة المختلفة غير صفة «ماركس الفرد» و«إنجلز الفرد» متحيزة في هذه الأشتات من الأحوال الألمانية والفرنسية والإنجليزية والروسية.
وأبرز من ذلك للصفة الفردية أن «ماركس» و«إنجلز» - كليهما - من الطبقة البرجوازية، وليس في وسعهما أن يزعما أنهما كانا يمثلان أخلاق الطبقة البرجوازية، حين تصديا لإنصاف الطبقة الأجيرة، وإلا لكان في هذا الزعم قضاء على مبادئ المذهب وقضاياه في الأخلاق والاجتماع والفلسفة والاقتصاد، فلا بد من صفة خاصة «للفرد ماركس» و«الفرد إنجلز» مستقلة عن صفات سائر الأفراد في طبقة الماليين أو طبقة الأجراء.
ولقد كان دور التنفيذ أبرز لهذه الحقيقة من دور الدعوة، فإن البارز أمامنا في تنفيذ الفلسفة الماركسية بعد الحرب العالمية الأولى هو شرذمة من الأفراد، سلطت إرادتها على بلاد لم تتهيأ للماركسية بأطوار الصناعة ولا بأطوار الاجتماع، وقد ادعى هؤلاء الأفراد لأنفسهم من الحقوق والسلطات ما لم يجرؤ على ادعائه أشد الناس غلوا في الإيمان «بالفردية» المطلقة، ثم تركزت هذه «الفرديات» في «فردية» واحدة، يستلط بها زعيم واحد بوسائله «الفردية»، التي مكنته من تسخير أعوانه وأتباعه مدى حياته، وهذا هو الواقع المجسم أمام الأعين والعقول.
أما تلك التخريجات الملتبسة التي تغوص بنا في سراديب الإرادة الخفية والإرادة العلنية، فهي أشبه بألغاز ما وراء «الطبيعة» التي يهيم فيها أصحاب المذاهب الجبرية والقدرية، حين يخوضون بغير علم في إقامة الفواصل بين إرادة الخالق وإرادة المخلوق، أو فيما سبق به القدر ولحق به القضاء.
وحسب الباحث دراسة الشيوعية بين جميع الحركات التاريخية، ليقول باللغة التي يستطيعها الإنسان: إن «الفرد» شيء من الأشياء التي لا تهمل في تطوير التاريخ، وإن إرادته وإرادة الجماعة من مصدر واحد في تكوين العوامل التي توضع في ميزان الحوادث والأقدار.
وإذا تصدى أحد لمناقشة هذا الرأي فإنه لا يقول لنا: إن الجماعات التي لا رأي لها فسرت التاريخ بما يبطل هذا الرأي أو يشككنا فيه، ولكنه يقول لنا: إن رأي ماركس عن أعمال تلك الجماعات يصورها لنا على غير هذه الصورة، ويستدل لها بغير هذا الدليل. •••
ويكاد المتكلم أو الكاتب يتعثر بالمفارقات اللفظية، التي لا تستقيم في التعبير إذا تكلم عن تطور الفرد أو تطور الجماعة في التاريخ على وجه غير هذا الوجه، مع إيمانه بالتطور فيما مضى، وبالتطور في المستقبل قياسا عليه، سواء فهم من التطور أنه نمو وتقدم أو فهم من أنه تغير توفيق بين الكائن الحي وأحواله كلما تغيرت هذه الأحوال، فإذا حدث التطور على أية صورة من الصور، فلا بد أن يتناول الكائن الفرد المسمى بالإنسان، وأن يتناول النوع الإنساني في مجموعه.
ولا توجد غير صفة واحدة تحيط بكفايات التطور أو التقدم عند النظر إلى الفرد أو الكائن الحي المسمى بالإنسان، وتلك هي زيادة التبعة وزيادة القدرة على النهوض بها.
وفي وسعنا أن نلخص هذه العبارة في كلمة واحدة وهي «استقلال» الشخصية.
فما الفرق بين القادر والعاجز؟ وما الفرق بين العالم والجاهل؟ وما الفرق بين الرئيس والمرءوس؟ وما الفرق بين الرجل والطفل؟ وما الفرق بين الرشيد والقاصر؟ وما الفرق بين صاحب الثروة والفقير، أو بين صاحب العائلة ومن يعول؟
يقول من شاء ما شاء في شرح هذه الفروق بمختلف المقاييس، فلا بد أن يئول بها إلى مقياس واحد، وهو أن الراجح أوفر نصيبا من التبعة والقدرة عليها، أو أنه بعبارة أخرى أوفر نصيبا من استقلال الشخصية.
فلا تقدم ولا تطور إذا فقد الإنسان هذه القدرة أو تعرض فيها للنقص والضمور.
وليست ملامح الشخصية الفردية مما يجهله أحد، فيجوز أن يجهله زعماء الشيوعية، فقد أشار «ماركس» و«إنجلز» إلى تعدد المواهب والملامح في معارض كثيرة من معارض البحث والدعوة، وقال «ماركس» بأصرح العبارات في رسالته عن فقر الفلسفة:
4 «إن الناس يولدون على اختلاف في الأدمغة والملكات الذهنية». وقال في انتقاده لبرنامج جوثا:
5 «إن عالما من المؤهلات المنتجة والغرائز يضحى به من أجل إتقان الأجزاء الآلية» وقال في الجزء الأول من كتاب «رأس المال»: «إن توزيع العمل ينشأ من توزيع الأخلاق، حيث يحتاج عمل إلى زيادة في القوة، وعمل آخر إلى زيادة في الذكاء، وعمل غيرهما إلى زيادة في الانتباه» ويقول «إنجلز» بمثل ذلك في مباحثه الفكرية الاقتصادية، ولا سيما الرد على «دهرنج» والاشتراكية الطوبية والعلمية،
6
ويتبعهما في هذا المعنى أقطاب المذهب من الدعاة والباحثين الغربيين أو الروسيين.
ولكنهم يحرصون على تغليب فكرة الإنتاج وقيام المجتمع بغير طبقات، فلا ينتهون بهذه الخصائص الفردية إلى النتيجة التي تقتضيها، وهي تقتضي أن يكون الأفراد هم المؤثرين في مجرى التاريخ العام مهما يكن معنى التفاعل بين المشارب والإرادات، فإن الهيدروجين يظل فعالا في تكوين الماء، ولو أطلقنا على السائل اسما آخر لا نذكر فيه الهيدروجين، ونظل نعتمد على الهيدروجين، ولا نعتمد على عنصر غيره كلما أردنا تكوين الماء أو تحليله بعد تكوينه. ومهما يكن من تغير المظهر الخارجي بعد الامتزاج والتفاعل، فنحن لا نلغي عنصرا واحدا من عناصر المزيج، ولا نمنع خاصة واحدة من خواصه حيثما أردنا ذلك التفاعل وحرصنا على كيانه الصحيح.
إن المزيج الكيمي المتفاعل يتطلب منا أن نحافظ على الصفة المستقلة لكل جزء من أجزاء ذلك المزيج، ولا يتطلب منا أن نجور على ذرة من ذراته؛ لأن المزيج هو الغرض المقصود في النهاية، بل يوجب علينا حرصا على ذلك الغرض الأخير أن نبدأ بالحرص على الأجزاء، ونعرف أنها تعمل عملها؛ لأنها أجزاء يحافظ كل منها على خصائصه وفواعله بغير انتقاض ولا تشويه.
فلا تطور بالنسبة للكائن الحي المسمى بالإنسان إلا أن يستوفي كيانه الفردي، وأن تتم له الشخصية الإنسانية بتبعاتها وحرياتها، وأن نعتبره قوة عاملة في بيئته بغير لف من هنا أو دوران من هناك لنمسح باليسار ما نقرره باليمين.
إن الجزء شيء حقيقي وبغيره لا يوجد المزيج الكيمي كيفما اختلف به التفاعل والتشكيل، وإن الفرد شيء حقيقي وبغيره لا يوجد الأثر الاجتماعي كيفما كان المجتمع على التعميم، أما نوع الإنسان فلا يكون له تطور إلا أن يكون تطورا محيطا بالنوع غير محدود باللون أو بالسلالة أو بالطبقة أو بالجماعة، ولا يكون تطورا إنسانيا وهو خاص بطبقة أو بقوم أو بسلالة أو بإقليم.
ونكاد ندخل في المفارقات اللفظية إذا تكلمنا عن ارتقاء نوع الإنسان، ولم نقصد بذلك شمول الارتقاء لكل ما تمخضت عنه جهود النوع من المزايا والملكات والقابليات والأطوار. •••
إن الكلمة نفسها تكاد توحي لنا بمعناها الذي لا تقبل معنى سواه، فكل تطور إنساني هو تطور للفرد في طريق الكيان التام والشخصية المستقلة، وكل تطور للنوع فهو إحاطة بالفضائل النوعية في أوسع نطاق يحتويها: نطاق النوع الذي لا تخفيه حواجز الألوان والسلالات والطبقات.
وإذا كان هذا هو حكم العقل وحكم الواقع بين أيدينا، فهو كذلك حكم التاريخ حيثما وضح له معنى مطرد في شعابه المتفرقة وسياقه المتلاحق دورا بعد دور ومجالا بعد مجال.
سألنا في كتابنا عن «غاندي» في فصل عن «العناية الإلهية وتاريخ الإنسان»: هل للتاريخ الإنساني وجهة معينة نستطيع أن نتبينها من جملة الحوادث الماضية ؟
ثم قلنا: إنه سؤال يتوقف جوابه على سؤال آخر وهو: ماذا عسى أن تكون وجهة التاريخ المعقولة إذا تخيلنا له اتجاها يتوخاه على نهج مرسوم؟
ثم أجملنا الجواب بما يصح أن يكون تتمة لهذا الفصل يغنينا عن جواب جديد.
قلنا في ذلك الجواب: إنه شيء يتعلق بالإنسان الفرد، وشيء يتعلق بالناس كافة أو بالإنسانية جمعاء.
فالشيء الذي يتعلق بالإنسان الفرد هو ازدياد نصيبه من الحرية والتبعة.
والشيء الذي يتعلق بالإنسانية جمعاء هو ازدياد نصيبها من التعاون والاتصال.
وزيادة نصيب الفرد من الحرية والتبعة هو المطلب الشامل الذي تنطوي فيه جميع المطالب، فهو أشمل من القول بازدياد العلم أو ازدياد القوة أو ازدياد الفضائل والملكات؛ لأن هذه الخصال كلها تتمثل في زيادة استعداده لحق الحرية وزيادة قدرته على احتمال التبعة.
وكذلك يقال عن التعاون بين عناصر الإنسانية برمتها، فهو أشمل من القول بارتقاء النظم السياسية وارتقاء المعاملات التجارية وارتقاء الأخلاق الاجتماعية؛ لأن هذه الخصال كلها تتمثل في التقارب بين الأمم والتعاون بينها على وسائل الوحدة والاتصال. «هذا وذاك هما الوجهة التي نتخيلها للفرد وحده، وللناس كافة إذا كان للتاريخ وجهة معقولة تدل عليها الحوادث الماضية.
فكان الإنسان الفرد قبل نشأة القبيلة هملا مستباحا، لا يحفظ له حق ولا يفرض عليه واجب، ولا ينال من الحرية إلا ما يغفل عنه المعتدون عليه.
ثم نشأت القبيلة فنشأ معها للفرد نوع من الضمان، ولكنه ضمان شائع لا يستقل فيه بحرية ولا تبعة، فيؤخذ بذنب غيره في الثأر والمغرم، ويقاسمه غيره فيما يغنمه ويستولي عليه، فهو رقم متكرر وليس بكم مستقل في الحساب.
ثم نشأت الأمم، فازداد نصيبه من الحرية كلما ازداد نصيبه من التبعة، وأصبح المقياس الوحيد لارتقاء الأمة هو مقدار حظ الفرد فيها من الحريات والتبعات.
فليس لارتقاء الأمة علامة أصدق من هذه العلامة، وهي حريات الفرد وتبعاته، بل ليس للارتقاء علامة غيرها يطرد بها القياس في جميع الأمور.» «تلك هي وجهة التاريخ المطردة في حالة الإنسان الفرد حيث كان.
أما وجهته في حالته الإنسانية كلها فالاتجاه إلى التقارب بينها مطرد يتعاقب في كل مرحلة من مراحل التاريخ.
ونحن الآن في عصر يلمسنا هذا التقارب في كل علاقة من علاقات العالم المعمور: في المواصلات، والمعاملات، وفي الروابط السياسية، وفي نقل المعلومات وإذاعة الأخبار، وفي هذا التضامن التام الذي يجعل الأزمة في ناحية من الأرض أزمة قريبة يحس بها أبعد الأمم من تلك الناحية، أو يجعل القوي مهتما بموقف الضعيف منه، مهما يكن من اعتزازه بالسطوة والثراء.
ولم تكن الحروب والمطامح حائلا دون هذا الاتجاه، بل لعلها كانت من دوافعه ودواعيه، فأسفرت كل حرب من حروب الرومان والفرس والعرب والصليبيين والعثمانيين عن تشابك بين ناحية وناحية في الكرة الأرضية، ومن جراء هذه الحروب تشابكت آسيا وأوربة وأفريقية، وانفتح الطريق إلى القارات المجهولة.
وإذا نظرنا إلى أثر الحروب في المخترعات وتسخير قوى الطبيعة جاز لنا أن نقول: إن وسائل المواصلات قبل غيرها مدينة للحروب بالشيء الكثير، فماذا يكون الطيران والرادار ومحركات القوى جميعا لولا ضرورات الحروب، واشتراك غريزة الدفاع عن النفس في سباق هذا المضمار؟
بل نحن نتعلم من التاريخ أن الدولة الحاكمة لا تدوم إلا بمقدار ما يكون لدوامها من رسالة عالمية.
فدولة الرومان دامت حين كانت لازمة للعالم، وأخذت في الانحلال حين بطلت رسالتها العالمية، واستلزم التحول في أطوار الأمم واتساع مجالها رسالة عالمية أخرى على غير ذلك النظام.
ولنبحث عن دلالة ذلك الاتجاه في تاريخ الإقليم الذي نتكلم في هذا الكتاب عن بطل من أبطاله، وهو الإقليم الهندي أو الأقاليم الهندية على التعبير الصحيح.
فقد كانت حروب الاستعمار الأوروبي محنة طامة على الشرق بأسره، نقم منها الشرق لما أصابه من بلواها، ورغب فيها الغرب لأمر أراده وأرادت الحوادث غيره، ولم يخطر للشرق ولا للغرب على بال.
لم تكن الهند قط وطنا واحدا في عصر من العصور؛ لأنها كانت تتألف من شتى العناصر وشتى المصالح وشتى المواقع الجغرافية.
فلم تدافع قط دفاعا واحدا، ولم تشترك قط في هجوم واحد، ولم تجتمع قط على مطلب واحد بينها وبين أبنائها، ولا بينها وبين الغرباء عنها والمغيرين عليها.
فلما ابتليت باستعمار واحد - طغى عليها من أقصاها إلى أقصاها - وجد فيها وطن واحد يواجه ذلك الاستعمار بمطلب واحد، وهو مطلب الخلاص منه، كيفما تعددت وسائله بين طلابه.
وولدت الهند مولدا جديدا في التاريخ.
وزال الاستعمار أو كاد، وبقيت الهند الجديدة، وبقيت معها علاقات يشتبك فيها الشرق والغرب، وتنتظم في الوحدة الإنسانية على نحو لم تعهده ولم تحلم به قبل محنة الاستعمار.
فإذا كان اتجاه العالم المعقول هو الاتجاه الذي تنتهي إليه الحوادث في حياة الفرد وحياة الإنسانية عامة، وكان هذا الاتجاه مما تلتقي عليه عوامل الوفاق وعوامل الشقاق، ويتوافى عنده ما يراد وما لا يراد - فمن عمل المؤرخ الباحث، لا من عمل المتدين المؤمن فحسب - أن يفهم للتاريخ معنى غير معنى المصادفة العمياء، وأن يرى للعالم مصيرا مقدورا يمضي إلى غاية هذا الاتجاه، حيث تهديه عناية الله.»
هذه النظرة إلى تطور النوع سهلة جلية لا تنأى بنا عن الواقع، ولا عن المعقول، ولكنها تضعنا أمام الواقع والمعقول وجها لوجه، ولا تجشمنا أن ندور بها حول الأحاجي والمعميات.
يتطور النوع فينتفع بمحصول النوع كله، ويزيل ما بين أجزائه من الحواجز والمسافات.
يبدأ الناس تاريخهم منعزلين متباعدين، فإذا أخذ التاريخ في التطور فهنالك تشتبك العلاقات بينهم مرحلة بعد مرحلة، فتتقارب المسافات، وتتقارب المواصلات، وتتقارب الحضارات، وتتقارب المصالح على علم أو على غير علم، فتصبح حياة النوع الواحد في العالم الواحد حقيقة يترجم عنها اضطراب سائر الأجزاء لاضطراب جزء منها في أقصى موقع من مواقع الدنيا الإنسانية، بما اشتملت عليه من الأصدقاء أو الأعداء.
وقد نرى هذا التقارب بين الطبقات على ما تقدم في الكلام عن الطبقة كما نراه في التقارب بين الأقوام وبين الحضارات.
وتؤثر هذه العلاقات الواسعة في حياة كل فرد من أفراد النوع بداهة ليصبح فردا من نوع بعد أن كان فردا من عشيرة، أو فردا من شعب، أو فردا من سلالة، أو فردا من دولة جامعة بين الشعوب والسلالات.
ولا شك أن هذا التأثير في حياة الفرد - بعد تقارب العلاقات العالمية - هو الذي يتمثل لنا كأنه تقييد لحريته أو إفناء لاستقلاله، تنفيذا للبرامج العالمية، وتحقيقا للتعاون بين الأمم ورسم الخطط التي يجري تطبيقها في كل أمة للتوفيق بين الجهود والتقابل بين المطالب والموارد في أمم كثيرة، لم تكن بينها مشاركة في المعاملات قبل ارتباط العلاقات العالمية أو العلاقات الإنسانية.
فقيام العلاقة بين الأمم الكثيرة هو الذي يوجب على هذه الأمة أن تشتغل بهذه الصناعة، ويوجب على غيرها أن تشتغل بهذه الزراعة، ويوجب على أخرى أن تجعل برنامجها موافقا لزراعة هذه وصناعة تلك في الوقت المطلوب.
هذه البرامج لا موجب لها في عصر خلا من المعاملات العالمية.
وهذه البرامج لا مفر منها مع اشتباك هذه المعاملات وتكافل الأمم طوعا أو قسرا في المنافع والأضرار.
وهذه البرامج هي التي تبدو لنا كأنها نكسة في الحرية الفردية، وهي في صميمها تهيئة للإنسان الفرد لكي يأخذ مكانه الجديد في العالم الواحد، ويتلقى بالنوع في تطوره الدائم معفى من الجهد المبدد والفوضى التي لا تكافؤ فيها بين الأعمال والحاجات.
وليس أخطر على حرية الفرد من هذه الفوضى في الحياة العالمية؛ لأنها تسومه عمل الألوف من المطالب حيث لا حاجة به إلى غير مطلب واحد، أو تسومه إهمال الألوف من المطالب، حيث يحتاج إليها في أوقاتها ولا يجدها في تلك الأوقات.
فإذا انتظمت البرامج والخطط على مقدار المطالب والموارد، فهذا هو سبيل المعيشة الحرة في العالم الكبير، الذي يتعاون كل جزء منه لإعطاء ما عنده والاستفادة مما عند الآخرين.
ولسنا هنا نفرض فروضا، أو نقتسر النظريات على موافقة الوقائع والأعمال.
فالتقارب في المسافات والمصالح مسألة من مسائل الحس والمشاهدة، والحاجة إلى اتفاق البرامج والخطط مسألة مثلها، نعمل فيها مختارين إن شئنا أو نعمل فيها مضطرين حيث لا نشاء.
إن الماديين في العصر الحاضر أدنى إلى لمس هذه الأطوار التاريخية، أو هذه المشاهدات الواقعية، من دعاة مذهبهم الأولين قبل مائة سنة، بيد أنهم لا يرونها ولا يريدون أن يروها، وليس إعراضهم عنها لأنها بعيدة من العقول فإنها أقرب إلى العقل مما يقدرونه، ويدبون وراءه في الجحور ليستخرجوه إلى النور، ولكنهم يعرضون عنها لأنها بعيدة عن طباع الشر والنقمة والشغف بالتخريب وإهدار الدماء!
أقرب إليهم من ذاك أن يتصوروا التاريخ كمينا متربصا بكمين، ولاحقين يهدمون ما بناه السابقون، وطبقة واحدة تستأصل جميع الطبقات، ولا تمهلها إلا ريثما تمكنها الفرصة منها، ونوعا إنسانيا كأنه «بنيلوب» زوج «عولس»، أو كأنه الخرقاء التي تنكث غزلها بيدها كلما أبرمته، ولماذا يستقربون هذا التصور البعيد؟ لأنهم خرجوا يبحثون عن غرض بعينه، ولم يخرجوا للبحث عن أقرب الحلول إلى المحسوس والمعقول. •••
ولا نحب أن ننسى في ختام هذا الفصل أن طائفة من المفكرين من غير الشيوعيين يعتقدون اليوم أن العصر الحاضر يعدل عن مبادئ الحرية الفردية، وينظرون إلى خطط التنظيم الاقتصادي وبرامج السنوات الخمس، أو العشر في الأمم أو الجامعات «الأممية»، أو ينظرون على الجملة إلى مشروعات التأميم والتعميم، فيحسبونها دليلا على التحول من الإيمان باستقلال الفرد إلى الإيمان بوجوب الحد من ذلك الاستقلال في شئون الاجتماع والاقتصاد، وإلى الإيمان من ثم بوجوب الحد من استقلاله في الحقوق السياسية.
وبعضهم يقول: إن الفردية مبدأ قديم قد حان الوقت لإعادة النظر فيه من الوجهة الفلسفية، وآخر ما اطلعنا عليه في هذا الموضوع - مع الإيجاز - بحث «لدافيد ريسمان» بعنوان «الفردية معادا فيها النظر» يتوسط فيه بين الفردية المطلقة والجماعة المطلقة، فلا ينكر حق الفرد ولا يرى أن عمل الجماعة التعاوني
7
يلغيه أو يفتئت عليه، بل يرى أن الجماعة - حيث لا يستطيع الفرد أن يستقل بالعمل - هي الوسيلة الصالحة لصيانة استقلال الأفراد، وأن التنافس - ككل عمل إنساني - قد يخرج عن حده فيرده إليه القانون، ولا يفتئت به على حق الفرد ما دام جميع الأفراد سواء في حكم القانون.
ولم نطلع على بحث من بحوث «إعادة النظر» في هذا الموضوع إلا أحسسنا منه أنه يقوم على أساس أخلاقي، أو شعور يمزج بين الفردية والأنانية أو بين الفردية والصراع على تنازع البقاء.
وفي الحق أن هذا الشعور لم يبدأ اليوم ولم يكن ابتداؤه بالأمس في ميدان الاقتصاد دون غيره، فقد كان الاعتراض على مذهب تنازع البقاء الذي أعلنه «داروين» أشد من الاعتراض على حرية التنافس الاقتصادي
8
الذي أعلنه آدم سميث الملقب بأبي علم الاقتصاد.
وكلا المذهبين لا يسلم من الخطأ الكثير، إلا أن الاستناد إليهما في مناقشة الحرية الفردية يوقع أصحابه في أخطاء أكبر من أخطاء المذهبين.
فما خطر ل «آدم سميث» قط أن حرية التنافس تمنع الأمم أن تلجأ إلى تنظيم المعاملات في أحوال كأحوال الحروب أو ما يشابه الحروب، وأولى من أحوال الحروب بالتنظيم هذه الحالة العالمية التي تتوقف فيها معاملات الأمم بعضها على بعض، وتذهب فيها جهود الأفراد عبثا إن لم تدبرها الأمة كلها تدبيرا يوافق المطلوب من الأمم الأخرى.
أما مذهب «داروين» فإن عنوان الكتاب الذي تضمنه وهو «أصل الأنواع»
9
خليق أن يصحح الخطأ في هذا الموضوع؛ لأن تنافس الأفراد أو تنازع البقاء إنما هو لمصلحة الأنواع، كما يفهم من عنوان الكتاب، وقد فطن زعيم الفوضوية «كروبتكين» إلى هذا المعنى فقال: «إن حرية الأفراد هي السبيل إلى تقدم الأنواع وبقاء الصالح منها للبقاء.»
على أنه لا مذهب «آدم سميث» ولا مذهب «داروين» كان أساسا للإيمان باستقلال الشخصية الإنسانية، فيجوز - من ثم - أن يقوم استقلال الشخصية عليهما، أو يزول بزوالهما، أو يعرض له الشك حين يعرض لهما.
إن استقلال الشخصية الإنسانية كان ثمرة النجاح لكل ثورة سياسية أو دينية قام بها الناس منذ عرفوا الثورة على الظلم، أو عرفوا الثورة لتحطيم قيد من القيود. وقد اشتركت الطبقات العليا والطبقات الدنيا في هذه الثورات، ولم تكن مقصورة على نظام واحد من نظم الإنتاج أو الثروة الاقتصادية، وكان نصيب الفرد من أبناء الطبقات المحرومة في تلك الثورات أعظم من نصيب الفرد من أبناء الطبقات العليا، لأن هذه الطبقات العليا في غنى عن الثورة لتحقيق الحرية الشخصية.
وإذا كان محصل تاريخ النوع الإنساني يتلخص في اتساع العلاقات العالمية، فمحصل تاريخ الفرد أن يزداد استقلاله أو تزداد الدعوة إليه على الأقل، فلا يجسر أحد على إنكاره في صورة من الصور إلا ليعود إلى تقريره في صورة أخرى. وقد أصبح استقلال الفرد في زماننا حجة لكل نظام من نظم الحكم في مقام المفاضلة والتسابق إلى الإصلاح، بل أصبح مقياسا حقيقيا لكفاية المجتمع كله في الصراع بين المجتمعات، فانقسم العالم في الحربين العالميتين إلى معسكرين: أحدهما يضيق فيه نصيب الفرد من الحرية والآخر يتسع فيه هذا النصيب، وكان المعسكر الأول أقدم استعدادا للحرب، وأوفر عدة لها عند ابتداء القتال، ولكنه انهزم ولم يصمد للفريق الآخر الذي بدأ استعداده خلال أيام القتال.
ومن علامات الزمن أن الفرد يثبت وجوده أمام طغيان الجماعات كما يثبته أمام طغيان الآحاد.
فالوجودية على تعدد مناهجها دعوة ذات دلالة، ولا دلالة لها إلا أن الفرد يثور على طغيان العدد، ولا يرضيه أن يغرق سماته بين طوفان من العدد المتكرر ليس له سمات.
وليقل من شاء ما شاء عن دور الفرد العظيم في قيادة الحركات الاجتماعية.
ليقل: إنه يخلق حين تخلقه الجماعة لقيادة حركة من حركاتها العامة، فإن الثابت أمامنا أن الحركة الاجتماعية تحتاج إلى قيادة فرد عظيم، وأما ما عدا ذلك من الألغاز والتخمينات، فهو معلق «بلو كان ولو لم يكن» مما يجوز فيه قولان، أو تجوز فيه عدة أقوال.
وليس من فرق بين ظهور الفرد العظيم بالاسم الذي ظهر به، وبين ظهوره باسم آخر مختلف الهجاء، إلا أن يكون غرض التاريخ أن نروغ من الوفاء له بحقه، وأن نتمثل الذرائع للمغالطة في حسابه، وهو غرض معقول ممن يبنون التاريخ كله على حساب الأجور وحساب الأثمان وفواضل الأثمان. ولكنه غير معقول من بني الإنسان.
الشيوعية والآداب والفنون
الأخلاق
مذهب الشيوعيين في الأخلاق أن المجتمع ينشئ الأخلاق لخدمة مصالح الطبقة التي تملك زمام الثروة فيه، وتسيطر على وسائل الإنتاج، وأن أبناء المجتمع لا يعيبون هذه الأخلاق ما دامت وسائل الإنتاج ناجحة منتظمة، ولو كانوا من ضحاياها، فلا يعاب الرق حيث تقوم وسائل الإنتاج على تسخير العبيد، ولا يقول العبيد في إبانه: إنه ظلم وخبث، بل يقولون: إنه من سوء الحظ أو من ضربات القدر التي لا محيص عنها، وليس في أصل الطبيعة البشرية ما يوصف بالخير أو بالشر إلا حين يرتبط بمصلحة الطبقة الغالبة، أو بما يدابر مصلحتها، فليس لطبقة الأجراء الصعاليك إذن أن تستحسن شيئا غير ما يوافق مقاصدها، ولا أن تستهجن شيئا غير ما يعوق تلك المقاصد، وما عدا ذلك من عرف شائع فإنما هو من بقايا المجتمعات التي كانت تقوم على تسخير الطبقة الأجيرة واستغلال جهودها، ثم لم يبطل التسخير كل البطلان، ولم يقض على بقايا ذلك العرف وعقابيله، ولم يخلفه عرف جديد.
وقد ألم «ماركس» بقواعد هذا المذهب، وشرحه «إنجلز» بعض الشرح في الكلام على أصل الأسرة بصفة خاصة، وفي ردوده المتفرقة على المعارضين من أطراف متعددة. وكلاهما «ماركس، وإنجلز» يرى أن الدعوة المادية وصف لما هو واقع وما سيقع أو سوف يقع لا محالة، وليست تبشيرا بالأخلاق الصالحة والمناقب المأثورة التي يثني عليها المثاليون من الدينيين والحكماء، فما يحمدانه من الأخلاق هو الواقع الذي يجب على المجتمع الموعود أن يدين به؛ لأنه لا يقدر على ابتداع دين سواه.
ثم قام متجمع الطبقة كما تخيل أتباع «كارل ماركس» بعد الحرب العالمية الأولى، فأعلن «لينين» هذا المذهب في مواقف كثيرة أصرحها موقفه - التعليمي - في مؤتمر الشباب الشيوعيين الذي انعقد في سنة 1920 وخطب فيه فقال:
إنني سأعرض هنا قبل كل شيء لمسألة الأخلاق الشيوعية.
فالواجب عليكم أن تدربوا أنفسكم على الشيوعية، ومهمة عصبة الشباب أن تنظم نشاطها العملي، بحيث تصبح بالتعليم والتنظيم والتعاون والنضال هي ومن ينظر إليها نظرة القدرة والمثال - جماعة شيوعية. وكل عمل من أعمال التدريب والإرشاد لتعليم شباب اليوم فالغاية الوحيدة منه أن يصبحوا شيوعيين.
ويسأل السائل: أهناك شيء يسمى آدابا شيوعية؟ أهناك شيء يسمى دستورا أخلاقيا للشيوعية؟ والجواب: نعم ولا ريب. وربما حاول بعضهم أن يصورنا كأننا قوم لا نعرف لنا دستورا معلوما للأخلاق والآداب، وكثيرا ما يقول البرجوازيون: إننا معشر الشيوعيين أناس نخرج على جميع الأخلاق والآداب، وهو أسلوب من أساليب الإدراك المتبلبل، ووسيلة من وسائل إثارة الغبار على أعين العمال والفلاحين.
فبأي معنى يقال: إننا نخرج على جميع الأخلاق والآداب؟ بمعنى واحد، وهو المعنى الذي يدين به البرجوازيون، إذ يستمدون الأخلاق والآداب من أوامر الإله.
فنحن نخرج على جميع الأخلاق والآداب التي تنفصل من المجتمع البشري وطبقاته. ونحن نرى أنها خداع وتزييف وتضليل لعقول العمال والفلاحين من قبل الملاك وأصحاب الأموال.
نحن نرى أن دستورنا الأخلاقي تابع لمصالح الحرب الطبقية التي يخوضها الأجراء، ومستمد من الصراع في سبيلها.
ولقد كان المجتمع القديم قائما على ظلم الملاك وأصحاب الأموال للعمال والفلاحين، فيجب علينا أن نتلفه وأن نسقطهم، ولا بد من الاتحاد لتحقيق هذه الأهداف. إلا أنه اتحاد لا يتم في غير المصانع والمعامل وعلى أيدي طبقة البرولتارية بعد تدريبها وإيقاظها من سباتها الطويل، ونحن نقول الآن عن تجربة واقعة: إن البرولتارية دون غيرها هي التي تخلق تلك الوحدة التي يقتدي بها الفلاحون المتفرقون المبعثرون على الرغم من عراقيل المستغلين. فلا طبقة غير هذه الطبقة يرجى أن تعمل على توحيد الصفوف بين الكادحين، وأن تحمي دائما، وتدعم دائما، وتشيد دائما مجتمع الشيوعية.
ولهذا نقول: إنه لا يوجد شيء يسمى الأخلاق بمعزل عن المجتمع البشري، وإن تلك الأخلاق تزييف وتزوير، ولا أخلاق عندنا إلا الأخلاق التي تستمد من صراع طبقة الصعاليك.
وإذا تحدث الناس إلينا عن الأخلاق قلنا: إن الأخلاق عند الشيوعيين تجتمع كلها في هذه الوحدة الوثيقة المنظمة الواعية أمام المشتغلين.
ذاك مصدر الأخلاق الإنسانية في مذهب الشيوعيين من يوم تأسيسه إلى يوم قيام الدولة الشيوعية، تفسيره بعلة من علل الظواهر النفسية المريضة قريب متناسق محيط منه بالسر والعلانية، وتفسيره بغير ذلك من العلل الفكرية والعلمية يلتوي بنا خطوات كلما مضينا به خطوة في طريق.
تفسيره بعلة الحقد والكراهية أنه يقطع الصلة الإنسانية بين الطبقة الموعودة وسائر الطبقات، ويجعل بينها وبين المجتمعات القائمة فجوة أبدية، لا ينفتح فيها باب من أبواب التفاهم أو المصالحة أو البقيا.
وتفسيره بالعلل الفكرية أو العلمية لا يسمح لأصحاب المذهب قبل غيرهم بالاسترسال فيه إلى نتيجة على مدى تلك النتيجة أو إلى نتيجة أقرب منها؛ لأنه يستند إلى علل تتنافر وتتضارب، ولا تصطحب خطوة إلا افترقت بعد ذلك خطوات.
لا أخلاق في الإنسان إلا من وسائل الإنتاج.
ووسائل الإنتاج في المجتمعات البدائية الأولى تخلق لنا إنسانا بريئا براءة الطفل، يكاد مقال «إنجلز» عنه في أصل الأسرة أن يحسب من أغاني القصيد لا من بحوث الآراء والأسانيد، و«إنجلز» هو الذي تكفل هنا بشرح المذهب المتفق عليه بينه وبين أستاذه وصفيه «كارل ماركس» المصدق في المشهد والمغيب.
يقول «إنجلز» في وصف تلك الحالة: «لقد كانت نظاما عجبا تلك الحالة التي درج عليها الرفقة في بساطة الطفولة: لا جنود، لا حرس، لا شرطة، لا نبلاء، لا ملوك، لا أوصياء، لا محافظين، لا قضاة، لا سجون، لا محاكم ولا محاكمات، ويجري كل شيء في مجراه على وتيرة ونظام، فتشترك الجماعة كلها في تسوية المنازعات والخصومات برأي الشيوخ في القبيلة أو برأي أبنائها فيما بينهم وبين أنفسهم، ولا يحدث إلا في الندرة أن يقع النذير بالثأر أو بالنقمة الدموية، إذ ليست عقوبة الإعدام بيننا اليوم إلا بقية متمدنة من بقايا النقمة الدموية بما لحقها من مزايا المدنية وآفاتها. ولقد كانت الشئون التي تتطلب التسوية أكثر عددا من مثيلاتها في يومنا هذا، ولكن تدبير الشئون المنزلية كان مشتركا بين طائفة من الأسر على اتفاق وعلى قواعد المشاع، والأرض في حوزة القبيلة بأسرها، والبساتين على حسب الحاجة في أيدي الموكلين بالشئون المنزلية، ولا ضرورة لشيء من هذه الإدارة المشتبكة وما يتخللها من الحواجز في المدنية الحاضرة، ويتقرر الأمر على أيدي أصحاب الأمر بعد قرون يكرر فيها القرار بحكم العادة والقدوة، وليس من الممكن في هذه الحالة أن يوجد الفقير أو المعوز، إذ يعرف أبناء القبيلة واجبهم نحو الكبار في السن والمرضى والمصابين في الحروب، وكلهم متساوون في الحرية ومنهم النساء.»
ثم يفرغ «إنجلز» من هذا النشيد لينتقل إلى وصف أحوال القبيلة بعد امتياز بعض الأفراد باقتناء القطعان الكثيرة من الأنعام والماشية، فيقول:
ذلك جانب واحد من جوانب المسألة، ولا ينبغي أن يفوتنا أن هذا النظام مقضي عليه، لأنه نظام لا يتخطى حدود القبيلة، والاتحاد بين القبائل أول علامة من علامات الانحلال كما سنرى، وكما سيظهر من محاولة قبائل «أروكيز»
1
الأمريكية أن تخضع غيرها، فكل ما تخطى حدود القبيلة فهو خارج من الزمرة. وحيث لا ينعقد الصلح بين القبائل فهنالك الحرب القائمة بين كل قبيلة وقبيلة، تجري بتلك القسوة التي اختص بها الإنسان بين سائر الحيوان وعملت المصلحة الذاتية فيما بعد على تهذيبها.
إلى أن يقول:
فالقبيلة وأنظمتها مقدسة خلقتها الطبيعة، والفرد وعواطفه وأفكاره وأعماله تظل بغير قيد ولا شرط خاضعة لتلك الأنظمة. وهم كما يبدون لنا لا تمييز بينهم، بل يظلون كما قال «ماركس» مرتبطين بالحبل السري برباط الجماعة البدائية: ولا مناص من كسر قوة هذه الجماعة الطبيعية اللدنية وقد كسرت، إلا أن كسرها قد تم بمؤثرات كانت من البداءة تحمل علامة الانحطاط والسقوط من بساطة الأخلاق الفاخرة التي تخلقت بها الجماعات الغابرة، ونشأت نظم الطبقات الجديدة من أسوأ الدوافع والمغريات.
وهناك يجمع «إنجلز» كل ما قدر عليه من قبائح الذم في قصيدة هجاء تقابل تلك القصيدة الغنائية، التي ترنم فيها بمناقب الجماعات الهمجية الأولى، فيقول ما ترجمته بحرفه:
إنه الجشع الوبشي والمتاع البيهمي والطمع الكالح واللصوصية الأنانية.
ثم يقول:
وما كان ينقص إلا النظام الذي كان لا يكتفي بضمان الملكية الجديدة التي استأثر بها بعض الآحاد خلافا لسنة القبيلة، ولا بتقديس أرفع مطالب الجماعة البشرية، بل يزيد على ذلك أن يدفع الوسائل الجديدة التي جعلت تنمو لإحراز الملكية وتوفير الثروة برضى المجتمع كله. ولم يكن ثمة بد من نظام يكفل دوام الطبقات المستحدثة، ويكفل مع ذلك للطبقة الراجحة حق استغلال الآخرين، وكذلك وجد هذا النظام، وكذلك وجدت الحكومية.
ثم يكون الجشع الكالح - كما جاء في الكتاب نفسه - حافز الحضارة من مطلع فجرها إلى اليوم، «الثروة ثم الثروة ثم الثروة مرة ثالثة: ثروة الفرد الضئيل لا ثروة المجتمع الشامل هي غاية الغايات».
ولا يخفى أن أهم ما يهم في هذه النقلة أن نعرف كيف وجدت هذه الأنانية من تلك الحالة البريئة؟
إن ظهور الملكية الخاصة هو الذي أحدث هذا التغيير، غير أننا لا نعلم هل الملكية الخاصة جاءت في الأنانية، أو الأنانية هي التي جاءت في الملكية الخاصة.
تلك مسألة هامة لا تضارعها في خطرها مسألة من مسائل هذا الدور المزعوم، فإذا كان من السهل وجود الأنانية مع وسائل الإنتاج المشاعة، فمن السهل أن توجد الأنانية مرة أخرى في المشاعية الموعودة التي تهدر من أجلها ملايين الأرواح بغير رحمة ولا هوادة، وإذا كان ذلك ممتنعا مستحيلا فمن الواجب أن نعلم على اليقين كيف يمتنع وكيف يستحيل، قبل أن ننهض بذلك العبء الثقيل.
لقد كان المجتمع الشعري الذي تغنى به «إنجلز» محصورا في القبيلة الصغيرة، لا تشترك فيه جميع القبائل المتجاورة أو المتباعدة من مثيلاتها، وقد كانت كل قبيلة على هذا المثال من البراءة والإيثار، ثم تقاتلت القبائل، ولم تكن البراءة في كل منها مانعة لهذا القتال ولا لما يعقبه من الفتك والنكال ومن الإخضاع والإذلال، فهل يحسب هذا القتال من الأنانية البغيضة، أو يحسب من البراءة والطهارة وسلامة الصدر من الأثرة وحب الذات؟
ثم نعود إلى مشكلة الفرد وأثره في أخلاق المجتمع وأثر المجتمع في أخلاقه، فلا نزال في تردد بين الآراء المتناقضة: بين «كارل ماركس» الذي يقول غير مرة: إن المجتمع يخترع الفرد إن لم يجده. و«كارل ماركس» الذي يعيد غير مرة ما كتبه إلى صاحبه العظيم أن صاحبه «كجلمان» وعني بنشره في المجلد العشرين من صحيفة «نيوزيت»، وفيه يقرر أن التعجيل والإبطاء في الحركات الاجتماعية يرجعان كثيرا إلى عوامل المصادفة، وفي مقدمتها أخلاق القادة الآخذين بأزمة تلك الحركات. •••
والعقدة المؤرية التي أعضلت على الأخلاقيين الماديين هي الفصل بين أخلاق العهود وإسناد كل طائفة من الأخلاق إلى وسائل الإنتاج في عهدها الذي يصلح لها ولا يصلح لغيرها.
فما هي الأخلاق التي أنشأها عهد الرق لاستبقاء الإنتاج بتسخير العبيد؟ هل هي المبالغة في احتقار العبودية والتنفير من الذل الذي يقبله العبيد؟
وما هي الأخلاق التي أنشأها عهد الإقطاع لاستبقاء الإنتاج باستغلال عمل الزراع؟ هل هي المبالغة في تمجيد النسب العريق وازدراء النسب الخامل؟
وما هي الأخلاق التي أنشأها عهد رأس المال لاستبقاء الإنتاج بابتزاز حقوق الأجراء؟ هل هي المبالغة في تعظيم الترف والغنى والأنفة من ذل الحاجة والفاقة؟
لو أن السادة في كل عهد من العهود يعملون للتعجيل بزوال عهدهم لما أنشئوا أخلاقا غير هذه الأخلاق، ونحن نفهم تحقير ذل العبودية وذل الخمول وذل الحاجة حين توضع الأخلاق للإنسان، وما يليق بالإنسان في العهود، ولكننا لا نفهم أن نستبقي وسائل الإنتاج بتحقيرها والتنفير منها.
وعقدة مثل هذه العقدة تعترض الأخلاقيين الماديين فلا يملونها ويكتفون بتسجيلها كأنما التسجيل وحده كاف للتنفيذ والتصحيح، وتلك العقدة هي وجود الأخلاق بعد زوال الداعي إليها على زعمهم في كل عهد من العهود، فإن «كارل ماركس» يقول في رسالة الثامن عشر من بروميير: «إن الناس يستمدون الدوافع أحيانا من الأسماء الغابرة والأوضاع العتيقة ولا يستمدونها من الحوادث التي أنشأتها، وإن التقاليد الموروثة في الأجيال الغابرة ترين كالجبال على أدمغة الأحياء»، و«إنجلز» يقول في الاشتراكية الطوبية والاشتراكية العلمية: «إن هذه التقاليد عقبة معطلة تصد مجرى التاريخ»، ومن البديه أن الاعتراف بهذا الأمر الواقع لا يؤيد القول بصدور الأخلاق جميعا من وسائل الإنتاج، ولا يمحو العوامل الأخرى التي ترجع إلى شيء في طبيعة الإنسان غير البيئة الاقتصادية، فما هو الحد الفاصل بين فعل الطبيعة الإنسانية وفعل الوسائل الاقتصادية؟ وما هو المحك الذي نعرف به ما كان من فعل التقاليد وما كان من فعل الحياة الحاضرة؟ ولماذا تكون التقاليد جميعا ضارة ولا يكون فيها ما يفيد وهي صالحة - كما يقول «كارل ماركس» - لاستمداد الدوافع منها حين تعجز الحوادث الحاضرة عن إمدادها؟
لم تحل الأخلاق المادية هذه العقدة، وانطوى القرن ونشأ المجتمع الشيوعي من الثورة الروسية، ولم يكن لدعاته رأي بين فيما ينبغي أن تكون عليه أخلاق «الصعاليك»، أو أخلاق المجتمع من طبقة واحدة، وكاد بيانهم لهذه الأخلاق أن يكون «سلبيا» محصورا في مخالفة كل خلق من الأخلاق التي جاء تقديسها في المجتمع البرجوازي كما يزعمون، وأوشكوا أن يتخذوا «الأسرة» محكا للأخلاق التي يحمدونها من المجتمع الجديد؛ لأنها في مذهبهم سولت للناس حب الملكية والوراثة، وهما رأس الآفات والشرور، فكل ما هدم الأسرة فهو حسن، وكل ما صانها وحافظ عليها فهو سيء ذميم. وتساوى الزواج والزنا من أجل ذلك في شريعتهم، وسمحوا بالإجهاض لأنه في صورة من صوره انتهاك لحقوق الزواج، وأباحوا كل ما حرمه الناس قديما لأنه تحريم صادر - في زعمهم - من مصالح المستغلين والمستبدين، ووجب عندهم الخروج على أدب الاحترام ولو لم يكن ذا علاقة بمسائل الاقتصاد، ووسائل الإنتاج، فكان من تشبيهاتهم للشمس المحمرة أنها تحكي «بركة من بول الخيل»، وكان من آدابهم أن يجلس القضاة للحكم، وهم يدخنون ويأكلون كأنما الشعور بالفارق بين مكان الحكم ونادي السمر رذيلة موقوفة على المجتمعات البرجوازية، وكأنما الاحترام كيفما كان أدب لا يليق بالمجتمع المنشود، أو كأنه أدب لا توجد له علامة في سلوك الإنسان، ويستوي من يحترم ومن لا يحترم في هذا السلوك؟
ودلالة الأخلاق من سلوك الأتباع الذين يقبلون على المذهب لا تقل عن دلالة هذه الآراء التي يروجها الدعاة المؤسسون لقواعده والمقررون لمبادئه من مباحثهم التي يسمونها بالمباحث العلمية، فهؤلاء الأتباع لا يفهمون من الأخلاق المطلوبة، إلا أنها الخروج على الأخلاق المحترمة في المجتمعات الإنسانية، وفي إحدى القصص الواقعية التي اشتملت على الكثير من «الشخصيات» الشيوعية حديث صريح، يحكي ما يجري على ألسنة هذه الشخصيات في المجتمعات المعدة للدعوة، لا نسمي القصة؛ لأننا لا نحب أن نلفت الأنظار إليها، ولكننا ننقل كلام المؤلف في الصفحة ال (256)، بعد عتاب سمعه المجتمعون من شاب خانه أحدهم، واحتال عليه جزاء له على وفائه ومودته.
قال المؤلف: «قد يكون الحق ما يقول، ولكن صاحبكم لم يستعمل حيلته مع أبي أو أخي ولكنه استعملها معي أنا، أنا الذي كنت نصيره الوحيد، أنا الذي تركت أبي وهجرت أسرتي من أجله، فهل أفهم من هذا أنه تجرد من كرامته بحيث ...
ولم يتم خالد حديثه إذ قاطعته ضحكة ساخرة صدرت من فم نصيف.
أسمعك تقول: الكرامة، هذا لفظ لا نعرفه هنا أيها السيد العزيز، فالفتيان الذين يحيطون بك الآن أناس اختاروا لأنفسهم لقب الرفقاء الأنذال، الكرامة! إن لنا معجما خاصا يا سيد خالد. هذا المعجم هو معجم الفقراء، وهو لذلك خلو من كثير من الكلمات التي تعرفها أمثال الكرامة والشرف والأمانة، ونحو ذلك من الحلي الغالية التي يستطيع الأغنياء ابتياعها ولكن لا يقدر عليها الفقراء!
وجاء دور خالد لكي يطلق ضحكة ساخرة فأطلقها وقال: شيء عجيب، لقد كنت أظن أن الكرامة والشرف جواهر لا يتحلى بها سوى الفقراء، ولكنك تحدثني بأن الفقراء لا يعلمون من أمر هذه الصفات شيئا، فهل لك أن تخبرني أين أجدها إذن؟
وبعد حوار على هذا المنوال يتقدم أحدهم إلى الأستاذ خالد ويسأله: هل أنت جزري يا أستاذ خالد؟
فيرفع خالد بصره إلى محدثه ويقول: «لست بفاهم.»
فيقال له: أنصت إلي يا سيد خالد، افترض أنك قمت برحلة مع أسرتك، وبينما أنتم في وسط المحيط إذ قامت عاصفة هوجاء أغرقت السفينة فلم ينج من ركابها سواك وأخت لك. فتعلقتما ببعض حطام الباخرة وظللتما على هذه الحال إلى أن ألقت بكما الريح إلى جزيرة صغيرة، ولما استقر بكما المقام في هذه الجزيرة رحت ترتاد مجاهلها مع أختك، فظهر لكما أن ليس من البشر سواكما، ومرت بكما الأيام والليالي دون أن تجوز بكما سفينة حتى تأكد لديكما أنكما لن تغادرا هذه الجزيرة حياتكما، والآن أخبرني يا أستاذ خالد: «أتسمح نفسك بأن تعاشر أختك معاشرة الأزواج أم تراك تمتنع من ذلك؟»»
وليس في مقدور أحد من ألد أعداء الأخلاق الشيوعية أن يفندها بكلام أبلغ في تفنيدها من كلام أتباعها هؤلاء؛ لأن أبلغ ما يقال في تفنيد مذهب أنه يجرد الإنسان من مزيته على الحيوان، ومزية الإنسان بالشرف والكرامة، وليست مزيته بحشو البطون الذي يتساوى فيه وأحقر الحيوان!
إننا نصل بعد لأي إلى المجتمع الموعود الذي حطمنا من أجله المجتمعات، ونطمع في نعيم شعري كذلك النعيم الذي ترنم به «إنجلز»، فلا نجد في المجتمع الموعود إلا مفسدة للأخلاق والعقول إذا صدقنا «كارل ماركس»؛ لأنه مجتمع رخاء وسخاء، يجد كل ذي حاجة فيه حاجته بين يديه، وذلك أضر المجتمعات بطبائع الأفراد، كما يقرر «كارل ماركس» في كتابه رأس المال، وكما يقرر هو و«إنجلز» في كتاب «العقلية الألمانية»، ولم يرد هذا المعنى عرضا في موضع واحد من كتاباته؛ بل كرره حيث يقول: «إن الوفر في خيرات الطبيعة يترك الإنسان كالطفل ولا يضطره إلى تربية ملكاته واستيفاء نموها.
ولكن الطبيعة التي تضن بخيراتها عليه تنبهه وتوقظه، وتدعوه إلى إعداد ملكاته للعمل الدائم والاجتهاد في استنهاض قواه.»
فالمجتمع المثالي الموعود شر المجتمعات على الإنسان وأسوؤها أثرا في ملكاته وأخلاقه، وهو أسوأ ما يكون إذا صدقت فيه جميع الظنون، وامتنع فيه القلق واستقرت فيه الطمأنينة، وزالت فيه جميع التكاليف التي تشغل المرء بغير الساعة الحاضرة التي بين يديه، فلا تفكير في الغد أيام الحياة ولا بعد أيام الحياة، إذ لا تبعة على الآباء نحو البنين ولا نحو الأقربين، ولا فرق بين الوليد الذي تقر به العينان والوليد الذي لا يعرفه أبواه.
وقد تخيل الشيوعيون كثيرا في شئون لا سند لها من الواقع، وخاضوا بالخيال في مجاهل التاريخ وما قبل التاريخ، فنحن لا نعتسف الخيال إذا تمثل لنا المجتمع الذي يسخو للعامل والكسلان، ويسقط عنهما معا تبعات الأسرة والأبناء، فرأيناه يعود مضطرا إلى الأسرة التي قضى عليها قبل أن يقضي عليه الخلو منها، ولا ينمو فيه الشعور بالتبعات والتكاليف - وهي أصل الأصول في الأخلاق - إلا من حيث نمت وتفرعت وأينعت في التاريخ القديم، أو التاريخ الحديث. •••
إن فضل الأسرة في تكوين الأخلاق الاجتماعية أو الفردية ليس من الأمور التي تجدي في إنكارها أو بخسها نظريات أصحاب الآراء، ولو لم تكن التي يضرب بعضها بعضا كهذه النظريات.
ولا يقول أحد: إن الأسرة أفادت النوع الإنساني بالنفع الخاص الذي لا شائبة فيه من سوء أو ضرر. فلا الأسرة ولا غير الأسرة من أطوار الإنسان تسلم من النقص الملازم لكل عمل إنساني، لا يخطر على البال أنه يأتي كاملا مبرأ من العيوب في أدوار التجربة والتطور على الخصوص، غير أن السيئات التي جاءت بها الأسرة خليقة أن تحصل بها وبغيرها؛ لأنها جاءت في غريزة الأثرة وتنازع البقاء، وهي الغريزة التي كمنت في طبيعة الحيوان الأعجم قبل أن تكمن في طبيعة الإنسان، أما حسنات الأسرة فلم تكن لتأتي بغيرها سواء منها حسنات الأخلاق وحسنات المرافق والأعمال والصناعات، وما من خلق كريم نبحث عن مصدره الأول إلا استطعنا أن نرده إلى الأسرة الصغيرة من الأب والأم والبنين والأقربين، وأن نترسم علاقته بالأسرة من اشتقاق لفظه في اللغات المتباعدة كاللغات السامية واللغات الآرية.
فالرحمة أجمل الفضائل الإنسانية مشتقة من مودة ذوي الأرحام، وتقابلها في اللغات الجرامانية كلمة «كايند»
2
بمعنى بلد أو بمعنى القرابة، ومنها كلمة الطفل في تلك اللغات.
والكرم - وهو فضيلة البر بالإنسانية - مأخوذ من صفاء النسب وخلوصه من الهجنة والاختلاط، وتقابله في اللغات الجرمانية كلمة «جنروستي»
3
وهي مأخوذة من الأصل النبيل، وتشبهها كلمة «اللطف»
4
وكلمة «الجنتلمان»
5
وهو الرجل المهذب الرقيق في معاملة الناس وتصريف الأمور.
والحرية تلاقي الكرم في هذا المعنى، وتقابلها في اللغات الجرمانية كلمة «فريدم»
6
من الألفة ورفع التكليف وكلمة «فرانك»
7
بمعنى الطليق من القيود.
ولا تتفق اللغات المتباعدة هذا الاتفاق إلا لأنها تعبر عن حقيقة عامة وشعور عميق في بديهة الإنسان. وليس مما يغض من هذه الفضائل أن يقال: إنها من فضائل القلة أو النخبة أو الصفوة بين الآدميين، فإن المزايا لم تزل ندرة في كل خليقة جسدية أو نفسية يحسها الناس بالأعين أو يحسونها بالضمائر والأذواق، وجمال الوجوه ندرة يمتاز بها الوجه الواحد بين المئات والألوف، ومثله قوة البدن واعتدال المزاج مما لا شأن فيه لمذاهب الاقتصاديين أو الماديين، فما عرف الناس مزية قط في خلق أو خليقة إلا كان الممتازون بها أقل من غير الممتازين، ولا يغض من فضل الأسرة في تكوين صفات الرحمة والكرم والحرية أنها صفات عزيزة، لا تبذل بذل الشيوع والجزاف، ولكن هذه العزة هي التي تعطيها القيمة النفيسة حتى بمعيار «الاقتصاد».
ومتى ذكرنا القيم الاقتصادية، فنحن نذكر فضل الأسرة في القيم التي تدور عليها مذاهب الاقتصاد وتواريخ الصناعات، فلولا حفظ الأسرة للصناعات الموروثة لما بقيت إلى اليوم صناعة واحدة ينتفع بها الغني أو الفقير، ولولا تعليم الأسرة قبل أن يوجد في التاريخ نظام التعليم العام لماتت كل صناعة في مهدها، ولم تنتقل إلينا كما انتقلت بالوراثة من الآباء إلى الأبناء.
وإنه لمن الحذلقة الرخيصة أن يقال: إن الطبيعة الإنسانية لا توصف بالخير والشر إلا بالنسبة إلى العلاقات الاجتماعية أو إلى المعاملات في البيئة المشتركة، فهكذا يقال عن جميع الخصائص والأحوال في الإنسان وفي الحيوان وفي الجماد.
بماذا نقدر صلابة الحديد؟ وبماذا نقدر متانة الخشب؟ وبماذا نقدر مرونة الخيط أو النسيج؟ إن تقدير هذه الخصائص بالنسبة إلى غيرها في حالة التركيب لا يزيل تلك الخصائص، ولا يمنع استعداد كل مادة لتركيب من التركيب التي تغني فيه ولا يغني فيه سواها.
وظهور طبيعة الإنسان في المجتمع لا يمنع أن تكون تلك الطبائع متأصلة في تكوين كل فرد من أفراد البشر متعاونة بين الأفراد والجماعات، ولا يجيز لنا أن نقول: إن الخير هو الشر وإن الشر هو الخير، وإن الفرد يستعد لهذا كما يستعد لذاك.
ومهما نرجع إلى المجتمع في تكوين الأخلاق فهناك قوة في الفرد تناط بها تلك الأخلاق، وتتفاوت بها أدوات البناء في المجتمع كما تتفاوت بها أدوات البناء في كل تركيب.
تلك القوة هي ضابط الإرادة أمام الشهوات والرغبات، ولا يلزم أن تكون تلك الشهوات والرغبات من قبيل العلاقات والمعاملات ليبدو فيها ضابط الإرادة بقوته التي تناط بها الأخلاق.
فيجوز أن يكون العمل مباحا لا حرج فيه من جانب المعاملات الاجتماعية، ولكنه إذا تهافت عليه الإنسان بغير ضابط من الإرادة دل ذلك على نقص في استعداد الأخلاق، وفي استعداد الاجتماع، وفي كل استعداد تتميز به قيم الأفراد.
إن شهوة الطعام شهوة فردية لا تحاط بالقيود التي تحاط بها الشهوة الجنسية، ولكن الإنسان الذي لا يملك إرادته أمام شهوة الطعام إنسان معيب في مقاييس الأخلاق؛ لأنه معيب في الإرادة التي تناط بها جميع الواجبات.
ومن أدعياء الحرية في عصرنا هذا من يرى أن حرية المرأة التي لا زوج لها هي إباحة مطلقة لا يقيدها واجب من الواجبات، وأن القيود الجنسية التي اصطلحت عليها الأمم منذ القدم إن هي إلا اعتساف من الأديان، أو من الكهانات الطوطمية قبل الأديان، ويعنون بالطوطمية تقديس بعض الأحياء واعتبارها سلفا للقبيلة يضمها في نسب واحد ويحرم على أتباعه المزاوجة، كما تحرم الآن بين الإخوة والمحارم.
وتمادى بعض هؤلاء فاستكثروا القيود الجنسية على الحيوانات الدنيا، وزعموا أنها لا تتقيد بموسم للمزاوجة إلا لوفرة الثمرات في ذلك الموسم وامتلاء الجسم فيه بفيض من الحيوية يدعوه إلى طلب الذرية، قالوا: وإذا توافر الطعام على طول العام للدواجن من الحيوانات نسيت قيود الموسم وطلبت المزاوجة أنى تيسرت لها من أيام العام. وهذا كلام لا يعنينا أن نخوض في تفاصيله وأن نتوسع في تفنيده، ولكننا نلاحظ عليه عرضا أن السر في موسم المزاوجة أعمق جدا من الطعام وأحوج إلى الفهم جدا من هذا النظر القصير، وإلا فلماذا تتوافر الثمرات في ذلك الموسم، ولماذا يكون من خصائص ذلك الموسم أن يزيد قوة التوالد من النبات، ولا يكون من خصائصه أن يزيد قوة التوالد من باب أولى في عالم الحيوان؟ وما بال الحيوانات التي تأكل الأحياء وتجدها طوال السنة تجري على سنة الحيوانات التي تأكل النبات؟ وما بال الأسماك في البحار تقصد إلى الأنهار القصية للمزاوجة خلال فترة واحدة وهي في موسم متشابه من الأطعمة طول العام ؟
إن سر التوالد لأبعد جدا من أن يحده ذلك النظر القصير؛ لأنه هو بعينه سر الحياة. وأيا كان القول في الاختلاف بين الدواجن والأوابد في موسم المزاوجة، فالأمر الذي يتفقان فيه أن الحيوان لا يقارب الأنثى وهي حامل ولا يطلب المزاوجة للعبث والمجون.
فالحيوان نفسه لا ينطلق من جميع القيود في علاقاته الجنسية، ومن السخف أن ترد قيود الأخلاق الجنسية في الإنسان إلى اعتساف الطوطمية والكهانة، لأن الأخلاق كلها - جنسية أو غير جنسية - قائمة على ضبط النفس، أو على وجود الضوابط الأدبية في بنية الإنسان. والطعام مثلا مباح - كما تقدم - لا يتعلق به عرض ولا شرف ولا تزييف نسب ولا اختلاس ذرية، ولكن الإنسان الذي لا يضبط شهوته أمام إغراء الطعام حيثما أصابه إنسان مهين ولو كان طعامه من كسب يديه، وإنما كان ضبط النفس لازما في الشئون الجنسية لزومه في كل شهوة من الشهوات؛ لأنه قيمة أخلاقية يطلبها الرجل في المرأة، وتطلبها المرأة في الرجل، ويطلبانها معا في الذرية التي ترث منهما هذه الفضيلة، وإذا نفر الرجل من المرأة التي تنطلق مع أهوائها وتتهافت على شهواتها فهو لا ينفر منها لأنها خالفت الدين أو خالفت الطوطمية كما يزعمون، ولكنه ينفر منها فطرة؛ لأنها مخلوق معيب في تكوينه سليب من الضوابط السليمة التي تناط بها جميع الأخلاق، والدين لم يعتسف هذه الضوابط اعتسافا لغير علة ولغير مزية، ولكنه شرعها وهي في أصول الفطرة القويمة؛ لأنها مزية في أخلاق الفرد ومزية في أخلاق النوع، وما كرامة نوع يعرف الإباحة ولا يعرف ضوابط الشهوات؟!
8
ولترجع الأخلاق إذن إلى مصلحة الطبقة أو إلى مصلحة الطبقات جميعا، فهي لا تصيب الاحترام عند الفرد إلا لأنه فرد صالح التكوين مالك لزمام مشيئته بين مضطرب الأهواء والشهوات. ومن السخف أن يقال إذن: إن الشهوات الجنسية مباحة لمن لا يعترف بنظام الأسرة أو لا يدين بقداسة الزواج، فإن شهوات الطعام التي تعني الفرد وحده لا تباح - كما تقدم - إذا نمت على خلل في الإرادة، وضعفت عن ضبط النزوات والمغريات، وهكذا ينبغي أن يكون الحكم على الإباحة التي يطلقها الشيوعيون لهذه الشهوات. •••
يقول «إنجلز» وهو يشرح مذهب «ماركس» ومذهبه في قواعد الأخلاق من مقاله في الرد على «دوهرنج»:
إن واضعي القيم الأخلاقية المطلقة مجانين أو دجالون، وإنه في عصره لا يعرف مقياسا واحدا للقيم الأخلاقية؛ لأنه يرى حوله ثلاثة مقاييس: مقياس المسيحية من بقايا عصر الفرسان وعصر العقيدة الأولى، وقد تفرع إلى شعبتين: شعبة الكثلكة وشعبة البروتستانت، ومقياس البرجوازية ومقياس الطبقة الأخيرة أو البرولتارية أو الصعاليك، وإن هذه المقاييس إذا اتفقت على بعض المحامد والعيوب، فذلك من الطبيعي الذي لا غرابة فيه؛ لأنها تطورت في عصور التاريخ ومرت بأدوار متشابهة في العهود الاقتصادية.
ومثل هذا الكلام الذي يقوله الماديون عن الأخلاق يجوز أن يقال عن ذوق الجمال وذوق الطعام وسائر الأذواق، فليس بين الناس مقياس متفق عليه لذوق الجمال ولا مقياس متفق عليه لذوق الطعام، ولكننا لا نلغي من أجل ذلك وجود الكائن الإنساني، ولا نبطل وجود إنسان له شعور يتذوق الجمال، أو يتذوق الطعام إلا أن يكون عضوا في طبقة. ومن الجائز كثيرا أن يوجد أناس يسيغون ما لا يساغ، أو يشمئزون مما يسيغه غيرهم، ولا يمنع هذا أن نقول: إنهم مصيبون أو مخطئون بالقياس إلى الذوق العام كما نشعر به أو نتخيله، ومن قال بالتقدم - كما يقول الماديون - وجب أن يقول بمقياس عام للأخلاق نحتكم إليه عند المفاضلة بين أخلاق الطبقات وأخلاق العهود، وإلا فلا تقدم ولا تفاضل ولا وسيلة للخروج من حدود هذا العهد الزماني أو تلك الطبقة الاجتماعية. ولا محل لانتقاد البرجوازي، ووصفه - كما وصفه ماركس وإنجلز - بالشر وفقدان الحياة إن لم يكن للخير مقياس غير الخير الذي يرضاه البرجوازيون لخدمة مصالحهم واستبقاء وسائل الإنتاج في أيديهم.
وينكشف الدخل كله في طوايا هؤلاء الماديين حين نذكر أن مذهبهم لا يستلزم هذه النتيجة التي يذهبون إليها. فإنما اللازم من مذهبهم في الأخلاق أن الفرد لا يؤثر في الحوادث العامة بأخلاق الحسنة أو السيئة إلا إذا وافقته الظروف الاجتماعية. والمسافة بعيدة بين القول بهذا وبين القول بأن أخلاق الكائن الإنساني لا توجد عند الجميع ولا يدين بها الفرد في كل طبقة، فالقول بأن أخلاق الفرد لا تغير المجتمع معناه أن هذه الأخلاق توجد، ولكنها لا تقوى على تغيير الأحوال الاجتماعية، وهذا هو الرأي الذي يطرد مع آرائهم جميعا، ويوافق قولهم ببقاء التقاليد الموروثة من العهود الماضية، ويوافق قولهم الصريح بالتقدم على أي نحو من الأنحاء ولأية علة من العلل، سواء كانت من علل الاقتصاد أو علل الحياة، ولا مفر من التسليم في الأخلاق بالعامل النوعي الذي يعترف بوجود الكائن الإنساني في كل طبقة، ولا مفر كذلك من التسليم في الأخلاق بالعامل الفردي الذي يتمايز فيه الأفراد بضابط الإرادة والقدرة على مقاومة الشهوات، أو فقدان هذه القدرة لاختلال في التكوين يحسب من خصائص البنية أو خصائص التركيب.
ولا مفر على الحالين من التسليم بالمقياس الذي نثوب إليه عند المقارنة بين مجتمعات شتى في أزمنة متباعدة أو متقاربة، فإن مذهب الماديين في جميع آرائه وقضاياه لا يدحض هذه الحقيقة ولا يوجب إدحاضها.
فلماذا إذن هذا التشبث بمحو الشعور الإنساني وحصر الشعور كله في الطبقة؟ ولماذا هذا التشبث بطبقة واحدة هي طبقة الصعاليك أو الطبقة التي يئول إليها التاريخ مجردا من الطبقات؟
من جانب الفكر لا موجب لذلك التشبث، ولا حجة له من آراء الماديين والشيوعيين بله المعارضين والمناقضين.
وأما من جهة الظاهرة النفسية المريضة، فليس في الدنيا منفس إبرة يصرف عنه الضمائر المبتلاة بداء النقمة والبغضاء، لا منفس لهذه الضمائر غير إلغاء النوع والإيمان بالطبقة الأخيرة.
وأية طبقة؟
الطبقة التي لا تحسد ولا يحقد عليها، وما من كاشف للدخل في أطواء تلك الضمائر كهذه الظاهرة الكاشفة عما يفعله الحقد والحسد بالماديين «خدام الإنسانية!» فلو استطاع عازل الحقد والحسد هنا أن يعزل عقولهم وضمائرهم لكان موقفهم من الطبقة الأخيرة كموقفهم من غيرها، ولكنها تستثنى من الحفيظة الكامنة في تلك الضمائر المريضة؛ لأنهم لا يحسدونها ولا يحقدون عليها.
وهذا هو التفسير الأخير لكل رأي وكل تقدير، بعد كل تفسير وقبل كل تفسير.
الآداب والفنون والمعارف والعلوم
عند الماديين التاريخيين أن «الحاجة» هي مصدر الآداب والفنون والمعارف والعلوم، ولا استثناء في هذه القاعدة للرياضيات ولا للفلسفة والعلوم النظرية، فالإنسان لا يفكر في شيء، ولا يحلم بشيء، ما لم يكن مبعثه الحاجة إلى مطالب المعيشة، ولا تتطور الآداب والمعارف جميعا إلا وفاقا لحالة المجتمع في هذه المطالب المعيشية، وتحكمها كلها في النهاية وسائل الإنتاج.
وليس في المجتمع الإنساني معرفة لم تصدر من حاجة معيشته، غير أن المجتمع ينظم هذه المعرفة في تركيبين متصاحبين: أساسي
1
ويشمل الحاجات التي تأتي من علاقة الإنسان مباشرة بالطبيعة، والتركيب الآخر يسمونه «بالتركيب الأعلى»
2
ويشمل الحاجات التي تتولد من علاقة الإنسان بالإنسان في المجتمع، وهذه تحتوي فيها مطالبه الأدبية والفنية ومطالب الثقافة الإنسانية على الإجمال.
ولقد كان في مقدور هؤلاء الماديين أن يرجعوا بالآداب والفنون والمعارف إلى حاجة الإنسان، ويحسبون له حاجة عقلية إلى جانب حاجته الجسدية، ولكنهم لو فعلوا ذلك لابتعدت منهم الغاية التي يريدون تقريبها، وهي استغلال الحرمان المطبق - الموعود - للتحريض على النقمة والخراب.
فليس للإنسان إذن حاجة عقلية أو وجدانية إلى جانب حاجته الجسدية. كلا، بل حاجاته كلها مجتمعة في مطالبه الحيوانية، وما عدا هذه الحاجات فهو فروع متشعبة منها، وليست أهلا لأن تستقل بالطلب لذاتها في مطلع الحياة الاجتماعية، أو في المراحل التي تتقدم منها بعد تلك المرحلة.
لماذا يرجع الماديون التاريخيون بالآداب والفنون والمعارف والعلوم إلى ذلك المصدر: مصدر الحاجة الحيوانية؟
أما الأسباب الفكرية فسنرى أنها لا تلجئهم إلى ذلك المرجع ولا تواتيهم خطوة حتى تدبر بهم خطوتين، كدأبهم في كل علة يتعللون بها لرأي من الآراء.
وأما الأسباب التي ترجع إلى الظواهر النفسية المريضة في طباعهم، فهي على طرف الأصبع ممن يريد أن يلمسها، وهي أن غاية مذهبهم ثورة يدعون إليها المحرومين من حاجات المعيشة، فلا يجوز أن تكون هناك حاجات مثلها أو حاجات تقترن بها، بل لا يجوز أن يتأخر اليوم الموعود لاستحكام ذلك الحرمان، فإن من يخفف الحرمان أو يكذب «اليوم الموعود» به يحل بينهم وبين الأمنية المشتهاة.
وإن حيرة الماديين التاريخيين في البحث عن تلك الغاية لتتجسم بين عيني الناظر، كلما نظر إليهم، وهم يعصرون رءوسهم ليسلكوا بها من جحر إلى جحر، ومن سرداب إلى سرداب وراء تلك الغاية، التي لا يطيقون أن تبتعد ولا أن تتجه الآراء صوب غاية سواها.
وينبغي للباحث المجرد من الهوى أن يسأل نفسه كل سؤال جدي في هذا المبحث، ثم يهتدي إلى الجواب الصواب فيه قبل أن يحسبه في زمرة الحقائق المفروغ منها.
إلا أن الماديين التاريخيين يهربون من الأسئلة الجدية في هذا البحث، أو يسألونها ثم يروغون منها، ويقنعون في الإجابة عنها بتلفيقات صبيانية، لا تحتمل النظر إليها كرة أو كرتين في مقام التثبت والتحقيق.
فهل يترقى ذوق الجمال الفني - مثلا - بمقدار انغماس المرء في الحاجات الضرورية؟! وهل تترقى الآداب والفنون عند اشتداد القحط والفاقة، أو تترقى عند زوال الحاجة وتوفر البذخ والرخاء؟!
وإذا قيل مثلا: إن الطائر يغني حين يشبع، فلماذا يغني إذا كانت حاجته هي الشبع، ولم تكن له حاجة أخرى هي التعبير عن رضاه بأسلوب مركب في طبيعة البنية كتركيب المعدة والجناح.
وإذا قيل: إن الشعر يروج بين القبائل البادية؛ لأنه يحركهم للحماسة والفخر والذكرى، فليس السؤال هنا أنه نافع أو غير نافع، ولكنه سؤال آخر وهو: لماذا يحركهم؟ ولماذا يستحق عندهم أقل عناء إذا لم يكن حاجة من حاجات نفوسهم، إلى جانب حاجات النضال والغلب في القتال؟!
وكيف نفسر نبوغ الشعراء والمثالين في اليونان القديمة بنظام الإنتاج الاقتصادي، وهو نظام تسخير الرقيق؟! وكيف يتأتى لهم النبوغ، ولا يتأتى مثله لكل أمة لها نظام اقتصادي أو نظام إنتاج؟!
من الصبيانيات المضحكة حقا جواب «ماركس» عن هذا السؤال - حيث عرض له في ذيل الكلام عن نقد «الاقتصاد السياسي» فخيل إليه أنه يجيبه ويفرغ منه إذ يقول: «إن الصعوبة ليست في فهم علاقة الفن اليوناني وعصره ببعض أطوار الاجتماع، ولكن الصعوبة حيث نسأل: كيف بقي حتى اليوم يمتعنا باللذة الجمالية ويكاد أن يمثل لنا نموذجا لا ينال؟»
والجواب الوافي عن هذا السؤال - في تقدير «ماركس» أن الإنسان لا يستطيع أن يكون طفلا ولكنه يسر بأحوال الطفولة البريئة من التكلف، ويجتهد في إبراز حقيقتها على نحو أرفع وأعلى، وكذلك تمثل لنا طفولة النوع البشري سحرا مضى ولا يعود، وقد كان اليونان أطفالا طبيعيين عرضوا لنا أجمل طور من أطوار الطفولة الاجتماعية، ومن ثم هذا السحر الذي يسحرنا به فنهم.
جواب صبياني مضحك من وراء تلك اللحية العبرانية السابغة التي يضيفها عليه «ماركس»، ويظن أنه قال في هذا الموضوع قولا يستحق شيئا غير السخرية والابتسام، فلماذا تسحرنا الطفولة أولا؟ وبماذا نفسر هذا الشعور الفني من التفسيرات الاقتصادية؟ ولماذا لم توجد طفولة أخرى كهذه الطفولة؟ أو قبل هذه الطفولة، بين الجماعات البشرية الأولى؟ ولماذا يتفاوت الناس في تذوق هذا الفن وهم سواء في الشغف بالطفولة وسحرها؟ وهل كل ما في إبداع اليونان أنه لثغة صبيانية تأتي من الأطفال عفوا ولا يحسنها الكبار؟
إن سر الفنون الجميلة مسألة أعمق وأسمى من أن تلفها ترقيعة من ترقيعات الماديين التاريخيين الذين تعودوا أن يلفوا بها مسائل الاقتصاد، ولا يعسر عليهم تدارك الرقعة فيها برقعة أخرى قد تخفى على أناس قليلين أو كثيرين في بدء العهد بالدراسات الاقتصادية. لأن هذه الدراسات الاقتصادية لم يمض عليها أكثر من قرن واحد قبل أيام «كارل ماركس» إمام المادية التاريخية، ولكن الأمم قد أخرجت آيات الفنون وروائعها منذ عشرات القرون، وامتزجت هذه الآيات بعواطفها العامة وبعواطف كل إنسان على حدة، فندر بين الناس من لا يستجيب لآية من آيات الفنون الكثيرة في لحظة من لحظات الرضا والأمن أو لحظات الحزن والخوف، واستعصى على التعريفات المرقعة أن تفسر لكل إنسان متذوق للجمال حقيقة هواه للفنون، وأن نظفر منه بالارتياح الذي يظفر به الرأي المطابق لبواعث الشعور.
واستعصى هذا على «كارل ماركس» فاضطر إلى استثناء بعض الأحوال ، وإخراجها - ولو قليلا - من نطاق الإنتاج وضرورات الاقتصاد، فاضطر في مقدمة «نقد الاقتصاد السياسي» إلى الاعتراف «بأن فترات من العهود التي يرتقي فيها التطور الفني إلى ذروته العليا لا تكون على اتصال مباشر بالتطور الاجتماعي في عمومه، ولا على اتصال بالأسس المادية في المجتمع أو بهيكل نظامه.»
واضطر «إنجلز» - كما تقدم - إلى الاعتراف في رسائله بالغلو في تعظيم شأن العوامل المادية، وإهمال شأن العوامل الأدبية أثناء الاشتغال بالدفاع عن قواعد المذهب أمام خصومه ومعارضيه.
وكتب «إنجلز» في رسالة من رسائله إلى السيدة «مينا كوتسكي» بتاريخ نوفمبر سنة 1885 - يأخذ عليها أنها أذابت «شخصيات» قصتها في الدعاية للغرض الذي سخرتهم له خدمة لمبادئها الشيوعية.
ولما بدأ تطبيق المذهب في روسيا بعد الحرب العالمية الأولى كان «لينين» يعارض جماعة الأدب الصعلوكي؟
3
ويفضل «بوشكين» وليد المجتمع القيصري على «مياكوفسكي» داعية الأدب الشيوعي، وتقول زوجته «كروبسكايا» في مذكراتها عنه: إنه سأل طائفة من الشبان في سنة المجاعة ماذا يقرءون؟ هل يقرءون «بوشكين» فلما قالوا له: إنهم يفضلون عليه «مياكوفسكي»؛ لأنهم لا يحبون الشعراء البرجوازيين، تبسم وقال: أظن أن «بوشكين» أفضل، ثم تقول زوجته: إنه التفت بعد ذلك إلى منظومات «مياكوفسكي» لما رآه من أثره في تلك النفوس الفتية.
وأصرح من رأي «لينين» رأي «تروتسكي» إذ يقول في رسالته عن الأدب والثورة: «إن ترديد هذه المصطلحات - مصطلحات أدب الصعاليك وثقافة الصعاليك - خطر؛ لأنه يحصر أدب المستقبل في المجاز الضيق من أدب الزمن الحاضر.»
ولما استبد «ستالين» بالأمر خيل إليه أنه قادر على محو كل أدب لا يتشيع لمقاصده، ولا يتغنى بمجده ومجد مشروعاته، وأراد أن يزيل بقايا الأدب التي لا تواتيه على خطته، فأصبحت مشروعات السنوات الخمس للأدب تساير مشروعات السنوات الخمس للصناعة والزراعة، وذهب عهده من ولايته للحكم إلى وفاته بغير أثر يذكر في الآداب العالمية ولا الآداب القومية، التي تدفقت من روسيا في أواخر أيام الحكم القيصري؛ لأنها كانت في الواقع أوائل أيام النهضة أو أيام الحرية الفكرية، التي لا تقبل التوجيه ولا تستوحي برامج المسيطرين على الأفكار والنيات، وقد كان من أثر الجو الخانق الذي أطبق على قرائح الشعراء والأدباء أن ثلاثة من أشهرهم بخعوا أنفسهم وهم دون الخامسة والثلاثين، وهم «مياكوفسكي» و«ايسنين» و«تاجريتسكي»، الذين كانوا ينزعون ثلاثة منازع متفرقات بين الإشادة بالصناعة، والإشادة بالريف، والإشادة بمجتمع الحضارة، فأحسوا بالاختناق الميئس في هذه المنازع المتفرقات.
وما هو إلا أن زال عهد «ستالين»، وأدرك الشعراء والقصاص أنهم في حل من التمرد على البرامج القاسرة في النظم والكتابة حتى تنفسوا الصعداء، وارتفعت منهم الصيحة بانتقاد أدب الآلات والمشروعات، واجترأت الشاعرة «برجولتز»،
4
فتهكمت على الأناشيد التي كانت تنظم للصغار منذ طفولتهم وفاقا لتلك البرامج الآلية، فقالت: إن هذه الأناشيد تنظم في الأمم الأخرى لتنويم الأطفال، ولكنهم في روسيا ينظمونها لإزعاجهم وإطارة الرقاد من عيونهم، وكان على رأيها في ثورتها شاعران معروفان هما: «باستوفسكي»
5
و«فاردوسكي»،
6
ثم لحق بالأدباء المتمردين عميدهم الذي اشتهر بفن القصة في اللغات الأوربية «إيليا اهرنبرج»، فنشرت لهم الصحف الأدبية ما كتبوه، ومنها صحيفة الراية «زناميا» وصحيفة «المجلة الأدبية»، وكلتاهما كانت لسان حال لمشروعات السنوات الخمس في الأدب والفن الجميل.
وإن هذا النوع الذي عرفه الأدباء الشيوعيون بالتجربة لخليق أن يعرفوه بداهة، أو يستغنوا فيه بتجارب الأمم الإنسانية على تنوع لغاتها وآدابها وفنونها، فإنه لمن البديه أن يكون الأدب حيويا إنسانيا قبل أن يجوز في العقل أن تستخدمه طبقة لتسخير الطبقات الأخرى في تعزيز مكانتها أو خدمة مصالحها، حتى الأدب الذي هو أخص الآداب بالأفراد وأبعدها عن مشكلات الاقتصاد والاجتماع كشعر المديح والفخر والرثاء، وإلا فماذا تساوي قصيدة المديح أو الفخر أو الرثاء التي لا تعني أحدا غير من قيلت له أو قيلت فيه؟ وماذا يساوي الشعر كله في جميع العهود والدول إن لم يكن له رواة وحفاظ من الرعية والرعاة؟
والشعر العربي - على التخصيص - يأتي بالحجة القاطعة في تفنيد أثر الطبقة في الآداب والفنون والرجوع بأقوى المؤثرات وأفعلها إلى العقيدة والبواعث الوجدانية؛ لأن هذا الشعر لم تتغير أبوابه ولا مقاييس الحمد والذم فيه، مع تغير وسائل الإنتاج من أيام الجاهلية إلى أيام الدول الإسلامية، ومن قيام هذه الدول في المشرق إلى قيامها في المغرب بين الأوربيين وشعوب أفريقيا الشمالية.
فالعصر الذي نشأ فيه الشعر العربي كان على حسب تقسيم الماركسيين عصر السادة والأرقاء، كان في البادية على أيام الجاهلية قليل من الأرقاء يعملون في الصناعات وسائر الأعمال اليدوية، ثم تجمعوا في الموانئ على شواطئ العراق بعد قيام الدولة العباسية، ثم اجتمع من الموالي والمماليك ألوف مجندون في الجيش، ما برحوا يتكاثرون ويستأثرون بمناصب القيادة والرئاسة، حتى آل إليهم الملك وضعف سلطان الخلافة والوزارة بالقياس إلى سلطانهم، وهذه أطوار في نظام السادة والأرقاء لم يحدث لها نظير في الأمم الغربية، فهي أصدق المراجع لتصحيح الآراء في أمر الأدب وعلاقته بنظام الإنتاج، وهي أقوى تفنيد لرأي الماديين التاريخيين في ارتباط الأدب والفن بالطبقة والتهوين فيهما من أثر البواعث الحيوية والإنسانية؛ بل الطبيعة التي تحيط بجميع الأحياء.
فالشعر - وهو الفن العربي الأول - قد بقيت له أبواب الفخر والغزل والمديح والرثاء والهجاء من أيام الجاهلية إلى أيام الدول الإسلامية في المشرق والمغرب، وقد بقيت مقاييس الحمد والذم فيه مرعية بين أيام الأرقاء الأولى وأيامهم الأخيرة وفي أيديهم الصولة والصولجان، ولما اختلفت موضوعات الغزل كان اختلافها في دول الأندلس؛ حيث لا يوجد الرؤساء المتحكمون من المماليك والموالي كاختلافها في دول العراق وفارس ومصر حيث وجد الرؤساء من مماليكها ومواليها، ولما اضطربت أمور الدول الإسلامية، واختلت دعائم الأمن فيها وسرى الضعف إلى اللغة الفصحى من أثر الاضطراب والاختلاط كان النشاط الأكبر لتحرير اللغة وجميع مفرداتها وتصنيف موسوعاتها في دولة المماليك وعلى أيدي أناس من الأعاجم، ولم ينهض هؤلاء وهؤلاء لتحرير اللغة العربية الفصحى؛ لأنها لغة أمهاتهم وآبائهم، ولكنهم نهضوا هذه النهضة؛ لأنها لغة العقيدة التي يدينون بها ولغة الثقافة العامة التي يلتقي فيها أبناء الأمة العربية وأبناء الأمم الأعجمية.
ولقد سأل السائلون: ماذا كان أثر النظام القائم على الأرقاء في أدب اليونان وفي شعر يوربيدس وارستفان واسكايلوس وسفوكليس وغيرهم من الشعراء والحكماء؟
وسألوا هذا السؤال وعجز المسئولون عن جوابه، وأحرى من ذلك بالسؤال نظام السادة الأرقاء وأثره في موضوعات الشعر العربي ومقاييس الحمد والمذمة فيه، فإن العجز في جواب هذا السؤال على وفاق المذهب المادي لأظهر من العجز في جواب السؤال عن أدب اليونان الأقدمين؛ لأننا هنا أمام أثر الفكرة في ناحية، وجميع الآثار المزعومة في الناحية الأخرى بين شتى الأقوام والبيئات واللغات والأزمنة ووسائل الإنتاج.
ولدينا في مصر شاهد يضارع هذا الشاهد في قوته وتفنيده للسخافة المادية، وذاك هو الشاهد الذي نستمده من أدب مصر «الشعبي» خلال عصر المماليك من أواخر الدولة الفاطمية إلى أوائل القرن العشرين.
فإذا زالت من آداب الأمم جميع الشواهد التي ترجع بالأدب والفن إلى البواعث الحيوية الإنسانية، كان هذا الأدب الشعبي في مصر قائما وحده بالبرهان المكين على هذه الحقيقة، التي لم تبطلها قط تجربة من التجارب الإنسانية. «على أي موضوع كان الأدب الشعبي يدور بمصر منذ القرن السادس للهجرة؟
إنه كان يدور على ملاحم أبي زيد الهلالي والزناتي خليفة والزير سالم وسيف ابن ذي يزن وغيرهم من أبطال هذا الطراز.» «وقد اختلفت الهيئة الحاكمة خلال هذه القرون من الدولة الفاطمية إلى الأيوبية إلى دولة المماليك إلى الدولة العلوية.
واختلفت الأحوال الاقتصادية من رواج النقل في تجارة الشرق والغرب إلى انقطاع الصلة بينهما، إلى نشأة الزراعة القطنية، إلى تجدد المعاملات التجارية بين القارات الشرقية والغربية.
وفي جميع هذه القرون كانت قصة أبي زيد هي هي، وقصة الزير سالم على نسختها الأولى، وقصة الذوين والتبابعة مسموعة في القرن الثالث عشر كما كانت تسمع قبل ذلك بثلاثة قرون أو أربعة. وهذا هو رأي الشعب في الأدب الشعبي، لا سلطان عليه للطبقة الحاكمة، لأن هذه الطبقة الحاكمة كانت تجهل اللغة التي نظمت بها قصائد السيرة الهلالية وما شابهها؛ ولأن قبائل بني هلال وبني تغلب وبني من شئت من الآباء لم يكن لها سلطان على الدولة الحاكمة، ولا كانت الدولة الحاكمة معتزة بهم أو جارية في نظام المجتمع على مثالهم.
إن هذه الملاحم حقيقة واقعة، وإن غرام الشعب بها حقيقة واقعة، وإن ثباته على الافتتان بها مع اختلاف الدول والأحوال الاقتصادية والطبقات الحاكمة حقيقة واقعة.
فأين يذهب تعريفنا للأدب بأنه مسألة اجتماعية بين هذه الحقائق الواقعة؟ وأي فرق بين الأخذ بذلك التعريف وإهماله غاية الإهمال؟
أليس المقصود بالأدب الشعبي أن يكتب بلغة الشعب؟ أليس المقصود به أن يلقى القبول والإقبال عند طبقة الشعب، أليس المقصود به أن يصدر من صميم الشعب ولا يصدر من الحكام والمستغلين؟ أليس المقصود به أن يأتي طواعية من الناظم إلى المستمعين بغير تسلط ولا إكراه؟
بلى! وكل أولئك كان موفورا للملاحم الهلالية وما جرى مجراها، فلماذا كانت هذه الملاحم دائرة على البطولة والغزل ولم تكن دائرة على الرغيف والفول المدمس؟ ومن الذي أكره الشعب على طلب هذه المعاني والإعراض عما عداها؟
جواب واحد لا سبيل إلى الحيد عنه بكلمة من ألفاظ الرطانة التي يلغط بها أصحاب الأمر والنهي في تعريف الآداب، وذلك الجواب هو شعور الإنسان».
7
نعم، هو شعور الإنسان مرجع كل أدب في كل بيئة، في كل نظام اقتصادي، في كل لغة، في كل جيل.
ولهذا كانت موضوعات الحماسة والحب عامة متقاربة في جميع الآداب والفنون، فلا أدب حيث لا نخوة ولا عاطفة، ولا أدب حيث لا اشتراك بين جميع الطبقات من الرعايا والرعاة.
وإذا التفتنا من المديح الذي يمكن أن يقال: إنه خاص بالسادة الأعلياء ونسينا أن الإعجاب بشعر المديح مقصور على الممدوحين، ثم نظرنا إلى مقاييس المديح أو الحمد في تلك الأشعار، فكيف يتسنى لأحد أن يزعم أنها هي المقاييس التي تخدم الممدوحين ولا تخدم غيرهم من الرواة والحفاظ والنقاد؟
إن الممدوحين يمدحون بالكرم والشجاعة، وليس الكرم فائدة مقصورة على الممدوح، وليست الشجاعة كذلك فائدة مقصورة عليه، وبخاصة في العصور التي يتكفل فيها الفرسان بالدفاع عن الأوطان؛ لأنهم يمتازون بفنون الحرب والدربة على استخدام أنواع السلاح. •••
ومما سمعناه في هذا الصدد أن الشعر العربي تغلب عليه الصبغة الغنائية،
8
وأن الشعر الغنائي لا يدل على أطوار المجتمع دلالة الشعر التمثيلي أو شعر الملاحم. ولسنا نعلم أن هذا القول من الأقوال المسلمة في عرف النقاد الماديين أو مدارس النقد الأخرى، إذ من المعلوم أن الشعر الغنائي يتناول المديح وهو كبير الدلالة على شئون الرئاسة في الأمة، ويتناول الغزل وهو كبير الدلالة على شئون المرأة فيها، ويتناول الرثاء والهجاء، وهما معياران صادقان للمحاسن والمساوئ وآداب الناس في حالتي الحزن والغضب. أما شعر الملاحم فقد رأينا شواهده في الملاحم الشعبية التي شاعت بين المصريين، وكان في شيوعها هذا تفنيد لما يراه الماديون من وظيفة الأدب وعلاقته بالطبقة الحاكمة أو بالطبقة التي تسيطر على وسائل الإنتاج.
إلا أننا نعمد إلى الشعر التمثيلي في ديوان شاعر من أكبر شعرائه في لغات الحضارة وهو «وليام شكسبير»، وننظر إلى شخصيات ملوكه وأمرائه وملكاته وأميراته، فلا نجد فيها مسوغا للقول بخدمة الأدب لنظام الدولة القائمة، وقد نجد فيها مسوغا للقول بالسخط على أولئك الملوك والملكات؛ لأنهم مصورون في روايات الشاعر على صورة منفرة توجب الحذر والريبة، إن لم توجب التمرد والثورة.
ويأتي بعد «شكسبير» شاعر آخر يقاربه في النبوغ ويحسب بين خمسة أو ستة من شعراء الملاحم وهو «جون ملتون» صاحب الفردوس المفقود، فلا ثورة فيه على قواعد النظام الاجتماعي، ولا يجوز لنا أن نتخذ من صورة الشيطان في الملحمة أنها صورة الخلائق المحمودة أو صورة الخلائق المرذولة في زمانه، وأصدق ما يقال فيها: إنها صورة فنية تترجم عن شعور «ملتون» بخلائقه الفردية أو الاجتماعية على السواء.
وإذا كررنا بالنظر راجعين إلى أعلام الشعر التمثيلي في اليونان لم نستطع أن نعرف منه أنه مرتبط بنظام السادة والأرقاء، ولم يخطر على بال قارئه أنه منظوم لاستبقاء وسائل الإنتاج، إلا أن يكون في البال هوس ينثني به إلى ذلك الخاطر ليبحث عنه بين زوايا السطور.
وأي بديهة سلمت من ذلك الهوس يخفى عليها أن الآداب والفنون هي منافس الطبع البشري التي يلوذ بها من وطأة المعيشة، وليست ضرورة أخرى يضيفها الطبع البشري إلى تلك الضرورات؟
إن طبيعة الإنسان تتنسم من جانب الآداب والفنون نسمات الحرية التي تتفقدها في عالم الضرورات والأثقال فلا تهتدي إليها، وقد ترددت موضوعات الحماسة والحرب في آداب الأمم وفنونها؛ لأنها تجد هذه الحرية في عالم البطولة والعاطفة وتشعر شعور الإنسان الحي، لا لأنها تشعر شعور «المخلوق الاقتصادي» الذي يرسمه لنا الماديون في أسواق البيع والشراء. ومن البلاء على الطبع الإنساني أن نسلط عليه الضرورة تطارده في عالم الخيال كما تطارده في عالم السعي والدأب، وأن تتراءى أمامه في منافذ الأحلام فيسمعها مع الغناء كما يسمعها مع ضجيج الآلات، ويبصرها مع الصورة والتمثال كما يبصرها مع الأفران والقدور. وهذه صفحات الآداب الإنسانية تمتلئ بالأحلام التي وجدها الناس في آدابهم وفنونهم لأنهم لم يجدوها في أعمالهم ومساعيهم، ولم تكن هذه الأحلام عبثا خاويا ولا علالة فراغ، لأنها حوافز النفس البشرية إلى تقريب البعيد وتحقيق المحال، وما كان لها من سبيل إلى الطيارة لولا الحصان الطيار وبساط الريح، ولم يكن الحالم بالفص المسحور وقمقم المارد صاحب مصنع يبحث عن زر الكهرباء ومرجل البخار، ولكنه صاحب خيال يحلم للإنسانية، ويلقي بأحلامه إلى ذمة الغيب فتخرج في أوانها من حيز الحلم إلى حيز العيان. •••
ويحق لنا أن نقول: إن أسوأ الآداب والفنون في عرف الماديين التاريخيين أوفق للطبقة المظلومة من آدابهم وفنونهم كما يرتضونها، وكما يحبون أن يفرضوها على تلك الطبقة.
وأسوأ الآداب والفنون في عرفهم هي تلك التي يسمونها آداب «البرج العاجي» أو فنون البرج العاجي، ويريدون بها كل فن يشغل بوصف محاسن الطبيعة، أو وصف المناظر على عمومها لزينتها وجمالها دون ما يتبعها من المنفعة الاقتصادية أو من الأثر في أحوال المعيشة.
وأول ما نلاحظه على هذا التعريف للأدب المسمى بأدب «البرج العاجي» أنه لا وجود لمثل هذا الأدب، ولا وجود لفن قط يعلمنا أن ننتبه للزينة والجمال، ويتجرد على اليقين من الأثر في أحوالنا المعيشية وإن يكن أثرا غير مقصود أو غير مباشر. وليكن فن «البرج العاجي» هذا مقصورا على وصف حدائق الزهر أو جداول الماء أو ما شاكل ذلك من مناظر الطبيعة التي نراها فيما حولنا، فإن هذا لا يجعل الوصف من أدب اللغو والفضول؛ لأن حدائق الزهر لها محل في كل مجتمع نظيف متقدم، وما كان له محل في المجتمع فمن الجائز - بل من الواجب أن يكون له محل في صفحات الآداب وآيات الفنون.
والشاعر الذي ينبه النفس إلى صدق الشعور يزيد نصيب القارئ من الإحساس بالحياة، ويعطيه بذلك قيمة حيوية لا تحسب من اللغو والفضول، وهو عدا هذا يهذبه ويعوده جمال المعيشة، فلا يقنع برثاثة العيش ولا يزال متطلعا إلى حياة أرفع من حياة الضنك والكفاف، ومتى قورن هذا الأثر «النافع» بأثر الفن الذي يصبح ويمسي في حديث الضرورات أو حديث الصناعات والمصنوعات، فلا ريب في نتيجة هذه المقارنة بغير حاجة إلى التعمق في إدراك النفس البشرية، فإنما الأثر المحتوم للإصباح والإمساء في حديث الضرورات ساعة العمل وساعة الفراغ وساعة النظر إلى التمثيل وساعة الإصغاء إلى الغناء، إنما هو السآمة والتبرم بالأدب والعمل على السواء.
ولا ندري أين يضع الماركسيون تلك المحاسن التي تبذرها الطبيعة بذرا في حياة النبات والحيوان، سواء حسبوها مع الزينة أو حسبوها مع الضرورة؟ إن الطبيعة لا تنظر إلينا حين تنبت أزهار الفول والحمص والبازلاء، ولا تبالي بأسماعنا حين ترسل الأنغام من حناجر الطير في بكرة الربيع وفي بكرة الصباح من جميع الفصول، ولكننا نحن ننظر إليها ونبالي بها ونفهم من زينتها أنها لازمة لها لا تنفصل من الضرورة في مطالب الغذاء ومطالب البقاء، ومن اللغو أن نقول: إن الزينة برجوازية حين تظهر في الحياة الإنسانية، وطبيعية خالصة حين تظهر في حياة الشجر وحياة العصفور؟
ولسنا نمزح حين نسترسل من هذا السؤال إلى سؤال عن لحية «كارل ماركس» التي أضفاها حول وجهه وحملها طول حياته، ما مكانها من الزينة والضرورة؟ وما مكان هذه الزينة أو الضرورة من وسائل الإنتاج، وإذا كان هذا قسط الزينة في وجه زعيم فيلسوف ، فلماذا نلغيه ونحرمه في تعبيرات العواطف وتشبيهات الشعراء؟
لسنا نمزح بحق في هذا السؤال؛ لأن جوابه كيف كان يضطر الماديين الماركسيين إلى فهم آخر لمعنى الزينة وعلاقتها بضرورات المعيشة ووسائل الإنتاج؟
ولسنا نمزح كذلك حين نسترسل في هذا السؤال إلى السؤال عن نموذج الأدب المرتضى بعد قيام المجتمع من طبقة واحدة، هل يحرم فيه ذكر وسائل الإنتاج؛ لأنها بقية من بقايا الاستغلال ورأس المال وأحابيل البرجوازية والانتهازية والابتزازية وما إليها؟
هل يدور على حياة الإنسان بعد ذلك، ولا يدور من قريب ولا بعيد على الفلوس والأجور؟ وهل يتهجى الإنسان بعد ذلك في الذوق الإنساني الخالص، ويتعثر فيه بين الحروف والمقاطع كأنه طفل لم يشهد النور قبل ذلك آلاف السنين؟ وإذا كان الإنسان قابلا بعد ذلك الماضي السحيق أن يحتفظ بالطبيعة الإنسانية، فلماذا يقال: إن الطبقة قد استنفدته قديما، فلم يبق فيه مكان يسمح للإنسانية أن تعيش إلى جانب الطبقة بمقدار النصف أو الربع أو العشر أو أي مقدار؟
لسنا نمزح بحق في هذا السؤال أيضا، لأننا نحب أن نعرف كيف يتخيل الماديون إنسانا يولد في المجتمع الموعود، لم يكن إنسانا قط منذ بدأ أدوار التاريخ كما وصفوه. •••
ومن التقسيمات التي ضللت العقول زمنا طويلا، ولم تزل تضللها تقسيم المطالب العامة إلى ضروريات وكماليات، والاسترسال من ذلك إلى ضروب من الترتيب يعاودون بها التقديم والتأخير أو التأخير والتقديم، فيما يؤخذ وفيما يترك، وفيما هو أولى بالعناية وما هو أحق بالإهمال.
ولا خلاف على تفاوت المطالب في لزومها أو الاستغناء عنها، ولكننا إذا بنينا على ذلك أن المطالب التي لا تلزم في كل حين تهمل، ولا ينظر فيها حتى يستوفي الناس ما يلزمهم، كان العمل بهذا الرأي خطلا مضيعا للضروريات والكماليات؛ بل ربما ضيع الضروريات أو ضيع وسائلها قبل الكماليات التي يقال: إنها مما يستغنى عنه.
إن الرغيف ألزم من الكساء والدواء، ولكننا إذا قلنا: إننا نهمل الكساء والدواء حتى نستوفي الرغفان أضعناها جميعا، ولم نصنع ما نحتاج إليه ولا ما نستغني عنه.
ولا يحتمل هذا القول مغالطة أو مكابرة إلا من جماعة الدعاة الذين يخاطبون الغرائز ولا يخاطبون العقول والضمائر، فإذا قال هؤلاء لأصحاب الغرائز التي تخذلها عقولها وضمائرها: ماذا تصنع المعدة الجائعة بالفن والأدب والعلم؟ فهذا كلام قد يصلح للتدجيل والتضليل، ولكنه لا يصلح لتقرير الحقائق ولا لإشباع الجياع، ولو سمع هذا الكلام من فجر التاريخ لما وجدت الآن الآلات والمكنات التي لولاها لمات العاملون جوعا، ولم يجدوا ما يعملونه فضلا عما يكسبونه من العمل، ولو توقف صنع الفن وبناء الصروح ونسج الأكسية واستخراج المعادن والجواهر إلى أن تتم الضروريات المزعومة منذ فجر التاريخ، لذهبت هذه الصناعات الضرورية لحسبانها يومئذ من الكماليات.
وهؤلاء الدعاة يتخيلون أو يريدون من الناس أن يتخيلوا أن الإنسانية معدة واحدة، لا تعمل حتى تشبع وتروى، وينسون أن الإنسانية ملايين من المعدات والعقول والأذواق تستطيع أن تعمل معا - ولا بد أن تعمل معا - وإلا ضاع الجياع في مقدمة الضائعين، وهكذا عملت الإنسانية، وهكذا عملت الطبيعة، وهكذا عمل الكون منذ كان. وليس من الكماليات ما هو أقل لزوما من الصروح التي كانت تبنى منذ خمسين قرنا في الحضارات الأولى، ولكنها لو توقفت يومئذ لما كان لدينا اليوم صناعة بناء، ولا صناعة ملاحة، ولا صناعة معادن، ولا صناعة نقش وتجميل، ولكان أول الضائعين بذلك طلاب الضروريات! •••
كنا في لجنة المعارف بمجلس النواب، ودار البحث على الفنون الجميلة، فقال بعضهم: إنها من الكماليات، فكان جوابي للقائل: نعم لعلها كذلك، ولكننا إذا كنا نعيش بالضروريات فإنما نعيش بالكماليات.
وخرجنا من اللجنة، ووصلنا في أثناء الحديث إلى ميدان الأزهار، فلقينا رتل من مركبات النقل ليس بينها مركبة واحدة لم تزوق بالألوان، أو لم تعلق في عنق حصانها شرابة ملونة الأهداب، قلت لصاحبي: أتظن هؤلاء السائقين من المترفين الذين شبعوا من الضروريات؟ أتظن واحدا منهم في غنى عن ثمن الطلاء الذي يزوق به خشب المركبة؟ أتظن هذه «اللاسة» المزخرفة ضرورية لوقاية رأسه؟ ثم هذا الغناء في إبان الشغل: كيف تحسبه في أبواب الميزانية؟ وكيف تمنعه دون أن تمنع معه شيئا من النشاط وشيئا من الحماسة النفسية؟
هذه ملاحظة ترى في كل مكان، وليست مما نفقده في وقت من الأوقات، ويمكننا جميعا أن نراه في جميع الأوقات وجميع المناسبات.
وندع مركبات النقل، وننظر إلى السيارات، فكم نرى منها للضرورة وكم نرى منها للكماليات؟ إنها تتفاوت بالمتانة والسرعة، وتتفاوت كذلك بالشكل والقالب، وبالمنظر الذي يأخذ البصر من النظرة الأولى، وإليه يلتفت المعجب بها لأول وهلة، ولأجله قبل غيره يبذل الفرق في الثمن عشرات أو مئات من الجنيهات.
وندع الصناعة والمصنوعات، ونتجه إلى الطبيعة في مروجها وحقولها وغيطانها، ولا نقول إلى بساتينها وحدائقها، ولا إلى ما في البساتين والحدائق من الورد والنرجس والريحان، فربما قيل عن هذه الأزهار بأشجارها جميعا: إنها «كماليات» مزهود فيها.
ننظر إلى غيط الفول، وناهيك بكلمة الفول وحدها رمزا للأكل، بل للعلف الذي ينزل من طبقات الضروريات إلى قرار القرار، فأية حسناء من المترفات تتخطر برائحة أجمل من رائحة غيط الفول؟! وأي زينة لديها أنقى من زينة زهرة الفول؟! ما فائدتها؟! ما جدواها؟! ما تفسيرها بلغة الضروريات؟!
لعلها تغري الحشرات بنقل اللقاح؟! ولعلها تغري النحل بصنع الرحيق؟! ربما حدث هذا وذاك، ولا علينا من حاجة القول إلى نقل اللقاح أو استغنائه عنه، ولا علينا من عمى بعض الحشرات عن اللون وعن الرائحة؟ ولا علينا من الحشرات نفسها ما الذي ينقل لقاحها؟ وفي أي شيء ترسم لها الطبيعة ألوانها وتوشي لها أجنحتها؟ بيد أننا نقول: إننا نصف الشيوعيين - أحيانا - بوصف الحشرات ولا نمزح؛ لأنهم يرتضون لأنفسهم مرتبة من الخلق دون مرتبة الحشرة التي يستهويها الجمال، ولا تفسر كل عمل من أعمالها بوسائل الإنتاج. •••
وسواء قصدنا إلى المزح، أو لم نقصد إليه، فنحن نمزح على الرغم منا كلما عالجنا البحث في هذا الذي يسميه الماديون التاريخيون رأيا يرتئونه عن أصل العلوم، لأن رأيهم هذا وقار يشبه الهزل أو هزل يشبه بالوقار.
ماذا يقول القارئ إذا سمع أحدا يقول له بلهجة الجد والثقة: إن عينك لا تبصر شيئا إلا أن تكون لك حاجة فيه؟!
إنه قول عجيب، ولكنه أقل عجبا من قول الماديين التاريخيين في أصل العلوم، إذ يقولون: إن عقل الإنسان لا يعرف شيئا، وإن معرفته لا تصبح علما إلا أن تكون له حاجة إليها، وشرطهم الأخير هنا كشرطهم في سائر آرائهم، أن يئول الأمر في النهاية إلى وسائل الإنتاج.
وهم كدأبهم إليه يتخطون جميع العقبات؛ ليصلوا إلى الغرض الذي يرمون إليه من وراء هذه النظريات، فإن العقبات التي تعترضهم في طريقهم كثيرة، لم يذللوا واحدة منها ولم ينظروا إليها إلا على عجل واختلاج؛ ليهرولوا إلى الخاتمة المأمولة قبل فوات الأوان.
فمن العقبات التي تعترضهم أن الإنسان يعلم بإرادته وبغير إرادته، ولكنه يشعر بالحاجة، فيريدها ويطلبها ويسعى إليها، فنحن لا نعلم باختيارنا أن الشمس تطلع كل يوم من موضعها، بل نراها تطلع يوما بعد يوم، فتصبح هذه الرؤية مادة من مواد العلم، التي تحصل لدينا حيث نريد وحيث لا نريد، فإذا استخدمنا حرارة الشمس أو نورها بعد ذلك في حاجة من حاجاتنا، فنحن هنا نريدها، ونعتمد على إرادتنا كما نعتمد عليها في كل شيء.
ومن العقبات في طريق التعليل المادي للعلوم، أننا نزداد معرفة فنزداد علما بحاجاتنا، وكثيرا ما يكون العلم سابقا بذلك للحاجة مهما يكن من اضطرارنا إليها، فقد تعلمنا فعرفنا ما نحتاج إليه من الغذاء والكساء والدواء، ولم يكن أكثرها مما نعلم أننا محتاجون إليه.
ومن تلك العقبات أن الحاجة وحدها لا تحقق لنا الغاية التي نسعى إليها السعي الحثيث من أوائل تاريخنا المعلوم، فمن عشرات القرون يحتاج الناس إلى دواء الأمراض المعضلة، ولا يعرفون دواءها، وفي هذا العصر يصل الباحث بالمصادفة إلى أنفع الأدوية - كالبنسلين مثلا - فلا نلبث أن نعرف مواضع الحاجة إليه.
ومن تلك العقبات أن الناس يتفاوتون في استنباط العلوم وتحصيلها، على حسب تفاوتهم في العقول لا على حسب تفاوتهم في الحاجات، فوسائل الإنتاج متساوية أو متقاربة في المجتمعات الإنسانية إلى ما قبل عصر الصناعة الكبرى، وليست المجتمعات مع ذلك متساوية في العلم والثقافة وتمهيد طريق الاختراع، وقد كانت معادن الحديد والفحم والنفط موجودة في غير أوربة الغربية من قبل وجود الإنسان، ولكنها لم تحدث المخترعات الصناعية التي حدثت في أوربة الغربية، ولم يكن لها تمهيد غير التمهيد العلمي في عصر النهضة قبل قيام الصناعة الكبرى على سعة أو في نطاق محدود. •••
ولنتكلم بلغة الماديين التاريخيين فنقول: إن هذه العقبات محتاجة إلى التذليل قبل الوثب منها إلى النتيجة المقصودة، بيد أن الماديين التاريخيين لم يذللوها على شدة الحاجة إلى تذليلها، ووثبوا منها إلى الغاية التي لا بد أن يثبوا إليها، وهي تعليل العلوم جميعا بالحاجة إليها.
ومن تلك العلوم ما تجوز المغالطة فيه كالعلوم الطبيعية التي ترتبط بالتجربة والتطبيق، ومنها ما تتعذر المغالطة فيه؛ لأن ارتباطه بالتجربة والتطبيق قليل جدا في رأي العارفين به، كعلوم الرياضيات.
فمن المتفق عليه أن الحقائق الرياضية عقلية، لا ترتبط كثيرا بالمشاهدات الحسية، وأنها قد تمت على وجه التقريب قبل تمام العلوم التجريبية بمئات السنين.
وقد رأينا غيرنا أطفالا في الثانية عشرة يحلون من عمليات الحساب على غير الورق مسائل تحتاج إلى ضرب عشرة أرقام في عشرة، وهم أشباه أميين. وثبت أن علوم الحركة التي مهدت للمخترعات الحديثة لم تكن ميسورة بغير المعلومات الرياضية، التي اقترنت بعلوم النهضة في عصر الحرية الديمقراطية، فأسفرت عن خوارق الصناعة الحديثة.
إلا أن استثناء العلوم الرياضية يفسد الحساب الأخير على الماديين التاريخيين، فلا حقائق رياضية ولا تجريبية يدركها العقل، ويجعلها علوما مفهومة بمعزل عن وسائل الإنتاج.
ويقول «كارل ماركس» في الجزء الأول من كتاب رأس المال: إن «ضرورة التنبؤ عن موعد الفيضان» هي أصل علم الفلك عند المصريين الأقدمين. ويقول هو ومن على شاكلته: إن الحاجة إلى تقسيم المزارع بعد الفيضان هي أصل علم الهندسة؛ ولذلك سميت في اللغة اليونانية بعلم قياس الأرض.
9
وبعض ما قاله الماديون هنا يقره غيرهم من الباحثين في أصول العلوم، إلا أنهم لم يستطيعوا أن يمنعوا قدرة العقل البشري على استنباط العلم الذي لا تلجئه إليه الحاجة، وفي مقدمته علم الرياضيات بما يشتمل عليه من فلك وهندسة.
فهل من المعقول أن تصبح الشعرى اليمانية موعدا للفيضان ما لم تكن مرصودة قبل ذلك معروفة المواعيد بمعزل عن مواعيد فيضان النيل.
إن مؤرخي الرياضيات الذين تتبعوا أصولها لا تخفى عليهم هذه الحقيقة، ولا يزالون يعرفون للعقل حقه في الدهشة أمام روائع الكون والشوق إلى استطلاع أسراره، ولا يجعلونه في كل شيء، وفي كل معرفة، عبدا مغمض العينين، لا يفتحهما إلا بإذن من وسائل الإنتاج! وقد كتب الأستاذ «موريس كلين» مؤرخ الرياضة فصلا عن مولدها من كتابه عن تاريخ الثقافة الرياضية في الغرب فقال: «إن الرصد لا بد أن يكون قد تتابع سنوات عدة قبل أن يقرر اتخاذ عبور الشعرى بالفلك الأعلى موعدا للنبوءة عن فيضان النيل.»
10
ولا يلزم - بداهة - أن يكون المرء حجة في العلوم الرياضية ليفهم أن الهندسة التي شيدت الأهرام وشوامخ الآثار لم تكن ضرورة من ضرورات وسائل الإنتاج، أو وسائل الزراعة في فيضان النيل، فما الذي ارتفع بالعلوم الهندسية والفلكية إلى تلك الذروة التي ارتقت إليها بين المصريين الأقدمين؟ وماذا في زراعة الفيضان مما يوجب إقامة الهياكل بتلك الضخامة وذلك الشموخ؟ ولماذا تعلم المصريون الملاحة، وتعلموا الاهتداء بالنجوم في طريق الملاحين لجلب الأبازير والأفاوية التي يستخدمونها في تحنيط الجثث أو تحنيط الأموات؟
أي جواب يجاب به عن هذه الأسئلة يسقط القول بالعلة المحصورة في وسائل الإنتاج.
فإذا قيل: إن الهياكل المخلدة قربان يرضي الأرباب؛ لتغدق عليهم الوفر والخصب والنتاج، فليست وسائل الإنتاج فعلا هي التي علمتهم الهندسة وبناء الصروح، وإنما هي العقيدة التي صورت لهم أسباب الوفر، كما يؤمنون بها لا كما هي في الأرض الزراعية أو ماء الفيضان.
وإذا قيل: إن الإنسان يؤمن، ثم يخلق له الإيمان حاجته إلى البناء والملاحة، فماذا يبقى من مذهب «الحاجة» في تعليل العقل وشله عن طلب المعرفة إلا من طريق الفم والمعدة والأمعاء؟ •••
ويلوح لنا أننا نقترب من فهم «ميزان» التهجم على الحقائق عند الماديين التاريخيين إذا تذكرنا - ونحن نطالع كتبهم الأولى والأخيرة - أنهم كتبوها بأسلوب أو في حالتين من أحوال الأمل والقنوط، فالأسلوب الغالب عليهم هو أسلوب التهجم على الحقائق كلما استطاعوا، وهو ملحوظ فيما كتبوه أيام الفتنة على أمل في نجاح الانقلابات، أو تفاقم البوادر الأولى واستفحالها في أمد قريب، والأسلوب الآخر هو أسلوبهم كلما خابت ظنونهم، وخابت ظنون الناس في نبوءاتهم، فأعرضوا عنهم، وتعسر إقناعهم بالهجوم على الوعود والتوكيد بغير برهان.
ومما كتبوه على الأكثر في بعض هذه الفترات تلك الآراء التي يفرقون فيها بين العلوم وإمكان تفسيرها بأسبابهم التي يفسرون بها كل ما في الأرض والسماء، ومن هذا القبيل نحسب تقسيمات «إنجلز» للعلوم، وما يطرأ عليها من التحول والتطور على حسب البيئة، فإنه يقسمها في رده على «دهرنج» إلى ثلاث طوائف، لا تتعادل في قابليتها للتأثر بوسائل الإنتاج، وهي طائفة العلوم الطبيعية، وطائفة العلوم البيولوجية، وطائفة العلوم الاجتماعية.
فطائفة العلوم الطبيعية تتعلق بالمادة العضوية كالفلك والرياضة والطبيعة والكيمياء. وطائفة العلوم البيولوجية تتعلق بالمادة العضوية كعلم وظائف الأعضاء وعلم الحياة، وطائفة العلوم الاجتماعية تتعلق بالأحوال التاريخية ومسائل الشريعة والفكر والدين والفلسفة.
فالعلوم الطبيعية والعلوم البيولوجية تبحث في أمور لم يصنعها الإنسان، وليست عرضة للتغير الذي تتعرض له الأحوال الاجتماعية. فلا تتغير وظائف الأعضاء ولا خصائص المواد الطبيعية بين نظام ونظام من النظم الاقتصادية، أو بين عهد وعهد من العهود السياسية، ولا شأن للحقائق المطلقة بهذه العلوم، ولا تزال معرفة الناس بها نسبية؛ أي «غير مطلقة».
أما العلوم التي تتعلق بتاريخ الإنسان كعلوم السياسة والفلسفة والدين والفنون والآداب، فهي عرضة للتغير بين العهود السياسية على حسب اختلاف وسائل الإنتاج، وهي مصطبغة على الدوام بصبغة المنفعة والغرض، متحولة على الدوام مع العلاقات الاقتصادية التي تنشئ المعلومات والمصطلحات، فلا توجد إلا حين توجد مقدماتها ونتائجها.
وللفلسفة بين هذه المعارف البشرية رخصة خاصة عند الماديين التاريخيين في الانفصال من وسائل الإنتاج الحاضرة لجملة أسباب، منها أنها تحمل بقايا الأزمنة الغابرة من قبل التاريخ، إذا كانت الحالة الاقتصادية تنطلق بالإنسان في تيه من الأوهام والخزعبلات، لا تمت إلى الواقع بعلاقة صحيحة، ومنها أنها تتوقف على العلوم الطبيعية، فلا تتقدم إلا تبعا لتقدمها، ولا تصل إلى الواقع إلا إذا كانت تلك العلوم الطبيعية قد وصلت قبلها، ومنها أنها ذات موضوعات لا ترتبط على الدوام بالموضوعات اليومية، وهي مع هذا الانفصال عن الواقع تمثل عصورها الحاضرة في مذهب فيلسوف أو أكثر من فيلسوف، إن لم تكن مذاهبها جميعا ممثلة للعصر الذي تعيش فيه.
هذه الرخصة المسموح بها للفلسفة محظورة على الرياضيات؛ لأن الرياضيات مأخوذة من المشاهدات الحسية مهما يكن من ظواهرها النظرية المجردة.
فلا بد - كما يقول «إنجلز» في الرد على «دهرنج» - من أشياء ذات شكل حتى تكون هناك صورة ورسوم هندسية. والنظريات الرياضية المجردة تبحث في صور لها محل من المكان، وفي علاقات عددية بين أجزاء العالم الواقع؛ أي في علاقات بالعالم المادي جد صحيحة بلا مراء. وإنما تتجرد هذه الصور والعلاقات من الماديات؛ ليتيسر بحثها عقليا وتفريغها من محتوياتها؛ لأنها ليست بالضرورية للوصول إلى النقطة التي لا أبعاد لها، ولا للخط الذي لا عرض له ولا كثافة، ومن ثم نصل للمرة الأولى إلى العلاقات الطليقة والتصورات العقلية والمقادير المتخيلة، واشتقاق المقادير الرياضية بعضها من بعض لا يدل على مصدر مجرد؛ بل على ارتباط بينها في التفكير، وقبل أن نستخرج صورة الأسطوانة من حركة السطح القائم الزوايا على جانب واحد لا بد أن تكون حركات كثيرة من هذا القبيل قد شوهدت في الواقع. وهكذا تكون الرياضيات - كغيرها من العلوم - صادرة من حاجات الإنسان، وهذه الحاجات هي قياس الأرض وفراغ الآنية ومسافات الوقت وإدارة الآلات. غير أنه في طور من الأطوار يحدث لهذه القواعد - التي استمدت من العالم الواقع - أن تنعزل من هذا العالم كما يحدث في كل ميدان من ميادين التفكير، فإذا هي مفروضة كأنها مستقلة عنه تأخذه بموافقتها ومطابقتها، وإنما يحدث هذا في المجتمع وفي الدولة، وتصبح الرياضيات بهذه المثابة دون غيرها صالحة للتطبيق في العالم الخارجي. •••
هذه مراجع العلوم كما بسطها «إنجلز » شارح هذه الآراء في مذهب المادية التاريخية، وهو يؤيد بها آراء أستاذه أو يشرحها؛ لأن «ماركس» لم يشرحها بهذا التفصيل.
واللازم منها بمشيئة المذهب أو بغير مشيئته:
أولا:
أن الحقيقة المجردة من عمل العقل.
ثانيا:
أن النظرية العلمية لا تصح إلا بالتجريد.
ثالثا:
أن قدرة العقل على استنباط هذه الحقائق لا تستمد من الحاجات؛ لأن أقدر العقول على استنباطها لا يكون على الدوام أشد العقول شعورا بالحاجات وتهافتا عليها، وقد يكون أشد المحتاجين إليها أعجزهم عن استنباط الحقائق وإدراك العلوم.
إذا قال قائل: إن العقل موهبة من السماء ركبت في الجسد لتهديه إلى حقائق المادة، فما الذي يلزم أن يقوله دعاة المادية بعد طول العناء؟
وننتقل من الفلسفة كما يعيبها الصاحبان إلى الفلسفة التي وضعاها؛ لتكون أول فلسفة صحيحة جاد بها ذهن الإنسان، وتكون كذلك آخر فلسفة يجود بها في تواريخه المقبلة، فلا فلسفة بعدها، ما أضاء النيران، وتعاقب الملوان!
وتقوم هذه الفلسفة الصحيحة الوحيدة في حياة النوع الإنساني على جملة أصول يجمعها أصلان أو قاعدتان: القاعدة الأولى: هي قاعدة التغير. والقاعدة الثانية: هي قاعدة الكميات والكيفيات.
ونعلم من القاعدة الأولى أن التغير سنة المادة الأبدية، وتنطوي في قاعدة التغير قاعدة «نفي النفي»
11
وقاعدة التطور المتناقض أو التطور بأضداد.
12
فنحن نعرف الشيء بذاته كما هو، ونعرفه في الوقت نفسه بنقيضه الذي يشتمل عليه؛ لأنه يحمل فيه نقيضه الذي يغيره ويتغير معه.
ونعود إلى تلخيص المذهب فنذكر أن الشيء يمر في ثلاثة أدوار: فعل يتلوه نقيض، ثم يتلوهما معا تركيب يجمع النقيضين. ونضرب لذلك مثلا بالحركة: فالحركة فعل، والمقاومة نقيضه، ومن الفعل والمقاومة يتألف التركيب الذي نسميه النظام، ونضرب المثل بالنظام، فهو فعل، يتلوه التعديل وهو نقيضه، ويتألف من الفعل والنقيض مركب هو النظام الجديد.
أما قاعدة الكميات والكيفيات، فمنها نعلم أن الصفات والمزايا والكيفيات تنشأ من الكم والعدد، فاللون الأحمر كيفية، ولكنه ينشأ من عدد الذبذبات في حركة الضوء، والماء يختلف تبعا لدرجة الحرارة من الجمود إلى الغليان، وتختلف مميزاته على حسب هذه الدرجة مثل إذابة المحلولات وتحليل بعض الأملاح.
ولا جديد في هاتين القاعدتين جاء به الصاحبان من عندهما إلا النتيجة التي ينتهيان إليها من كل رأي يبدآنه، ويمضيان به إلى غايته في مذهبهما، وهي حصر تاريخ الإنسان المقبل في مصير واحد لا يتقبل التعديل، وهو مصير النقمة والخراب.
فقديما كان «هيرقليطس» (536-470ق.م) يقول: أنت لا تستطيع أن تضع قدميك في نهر واحد؛ لأنه يتغير في كل لحظة كما يتغير كل موجود، فلا تبقى له من حقيقة دائمة إلا أنه لا يدوم.
وقديما كان أصحاب العناصر الأربعة والطبائع الأربع يقرون أنها لا تزال في تنافر وتوافق، تقوم عليها صحة الأبدان أو اعتدال الأحوال.
وقديما «الأثنينية» يقولون بالخير والشر، وإن إله الشر «أهريمان» نجم من فكرة فاسدة خطرت في بال إله الخير «آو رمزد»، فانقسم بينهما كل كائن من الأحياء والجمادات.
وقديما قال القائلون بالسعود والنحوس وبالموافقات والعكوس، وحديثا قيل بالموجب والسالب، وقال «هيجل» بالأضداد التي اقتبسها الصاحبان، وعدلا بها عن معناها عنده إلى المعنى الذي أراده.
ولم يقع في خلد أحد أن الكون كله جسم واحد متحد الصفات معدوم الأشياء أو معدوم الفروق بين الأشياء، ولن يقع في خلد أحد أنه يتركب من أشياء لا عداد لها إلا فهم من ذلك بداهة أن هذه الأشياء على اختلاف، وليست معدومة الفروق والملامح والشيات.
ومن سلامة الرأي أن تلاحظ هذه الفروق والنقائض، ولا يزاد عليها الحتم القاطع إلا في الأمور المحدودة التي يحكمها قانون مقيس بتفصيلاته، كقانون الحركة
13
تنفصل به الحقائق عن المجازات والتشبيهات.
فالأضداد كما يقول بها الماديون في مذهبهم تشبيهات مجازية، تستطيع أن تطبقها على طريقتهم، وتصل بها إلى إثبات الحياة الأخروية التي ينكرونها أشد الإنكار.
فالحياة الدنيوية - مثلا - فعل، والموت نقيضه الذي يتلوه، ويتألف من الفعل ونقيضه تركيب هو الحياة الباقية.
أو نقول مثلا: إن الشيوعية فعل، والفوضوية نقيضه، والديموقراطية التي لا هي بالشيوعية ولا بالفوضوية هي التركيب المؤتلف من الفعل والنقيض.
وانظر مثلا إلى صعوبة البت في هذه التشبيهات المجازية بين أقطاب المذهب من تلاميذ «كارل ماركس» من طبقة «بوخارين» و«لينين». فهل «الضدية» عداء بين الأضداد أو مجرد اختلاف؟
إن «بوخارين» يقول: إنها عداء، و«لينين» يقول في رده عليه: إنها ليست بالعداء، ولكنها مناقضة، ومن أجل تخطئة «بوخارين» ينسى أن المذهب كله قائم على صراع الحياة والموت بين الأضداد.
وانظر مرة أخرى إلى الخلاف على تركيب الشيء ونقيضه، هل يكون هذا التركيب اتحادا أو يكون ضربا من التوفيق؟ «لينين» يقول في رده على المنشفية: إنه اتحاد، وهم يقولون: إنه توفيق.
أفهذه هي الفروق التي يقيمونها كالصراط بين الجنة والنار وبين الناجين من أهل الصدق والهالكين من أهل البهتان؟
وأهزل من هذه الحدود الهزيلة توكيدهم بقيام الكيفيات كلها على الكميات، فقد يحدث في طفرة النباتات أن تتجمع بعض التغييرات، ثم تتحول فجأة إلى صفة جديدة، ولا مزيد على هذه الملاحظة في علم صحيح.
أما القول بأن الكيفيات والصفات جميعا كانت من قبل كميات ومقادير عددية، فليس له دليل؛ بل يقوم على نقضه أقوى دليل، هل مائة ألف شكل دميم يتألف منها شكل واحد جميل؟ هل اللون الأحمر حقا كيفية أو هو في الحقيقة صورة الذبذبات كما تراها عين الناظر إليها؟ وما هو الحد الحاسم المصحح للحكم في هذا الاختلاف بين ما هو مزية وما هو كثرة عددية؟ إن كان هناك حد حاسم فهو لا يعدو أساليب الاصطلاح على الأسماء والرموز.
ولا ندري ما هي كرامة الفكر عند إنسان يحرمون عليه أن يخرج على رأي من الآراء، بالغا ما بلغ من وضوح القواعد واستقرار الأصول والفروع، فأما تحريم الخروج على أمثال هذه الرموز أو الألغاز التي تتضارب فيها معاني الكلمات هذا التضارب، فهو إعنات للفكر أشد عليه من إهدار الكرامة والاحتقار، لأنه يسومه أن يلتزم الحدود حيث لا حدود، وأن يؤيد الرأي حيث لا يدري أحد على التحقيق - ولا على الظن - أين ينتهي التأييد بعد وأين تبدأ المخالفة.
وهذه الألغاز المتضاربة هي التي حرمت الهيئات الرسمية الشيوعية مخالفتها على العلماء يوم وجدت للمذهب هيئات رسمية تملك التحريم والتحليل.
ففي كتاب «المادية والنقد التجريبي»
14
يسرد «لينين» قواعد البحث التي ينبغي أن يجري عليها العلماء ولا يخالفوها. وفي سنة 1932 قرر مؤتمر الاتحاد العام للعلماء «أن علم الناسلات
15
وتربية النبات يجب أن يطابق المادية الماركسية».
16
وقد عوقب بالنفي والاعتقال - أو التصفية - رهط من العلماء لوحظ عليهم أن بحوثهم لا تؤدي إلى النتيجة التي يفترضها هذا القرار، ومن هؤلاء العلماء «شتفريكوف» و«فيري» و«افرويمسون» و«ليفتسكي» و«أجول».
17
وفي سنة 1948 أصدر العالم المعتمد في تجارب الناسلات «ليسنكو» تقريره الرسمي، وفيه تعهد صريح بأن يدحض الباحثون التابعون لاتحاد العلماء كل فكرة تخالف مذهب «ميشورين» الروسي صاحب القول الفصل في مسائل الوراثة.
وليس هنا مجال الخوض في شروح الخلاف بين مذهب «ميشورين» والمذاهب التي ينعتونها بالبرجوازية ويقولون: إنها من دسائس المجتمع القائم على رأس المال، فحسبنا أن نجمل هذا الخلاف بما يكفي لبيان الفارق الذي يقف فيه أناس على ضفة النجاة، ويقف فيه أناس آخرون على شفيرها من النار.
فالمذهب الحديث في الوراثة يرجع إلى تجارب «مندل» الذي يرى أن الصفات المكتسبة أو الطارئة لا تورث إلا إذا تأثرت بها البنية بعد تكرار طويل، وأن التغير قد يتتابع على البنية، ثم يظهر أثره فجأة فيما يسمى بالطفرة أو الانتقال المفاجئ، وأن تغيير النباتات ممكن بطريق اللقاح والتطعيم في أحوال معينة، لم تشمل تجاربها جميع النبات.
أما مذهب «ميشورين» الروسي فهو إنكار الخصائص الثابتة في الوراثة ورد جميع الخصائص إلى فعل الوسط والبيئة، ومن قال بغير ذلك فهو متهم في إخلاصه؛ لأنه يقرر شيئا قد يلقي الشك على قواعد المادية الماركسية التي لخصها «إنجلز» إذ يقول: «إن كل كائن عضوي في كل لحظة هو ذاته وغير ذاته في وقت واحد، إذ في كل لحظة تموت خلايا في جسمه وتتألف خلايا جديدة. وبعد فترة من الزمن تطول أو تقصر تتغير مادة جسمه كل التغير، ومن ثم يكون كل كائن عضوي في كل لحظة هو ذاته وغير ذاته. إلخ إلخ.»
وموضع الصعوبة على العقل في التقيد بهذا المذهب أنه لا ينكر الثبات في تكوين الأحياء ولا يقول: إنها تتبدل في كل لحظة كل التبدل، فإذا جاز أن يدان العالم؛ لأنه يقرر الثبات في خصائص الوراثة، فيجوز أن يدان كذلك؛ لأنه ينكر الثبات على حسب المصادفات، لأن المسألة تتعلق بالوقت الذي يطول فيه الثبات أو يقصر، ولا يوجد المقياس الذي يقدر طول زمنه تقديرا محكما في كل بنية حية، أو في النباتات التي تأتي فيها التجربة بأسرع النتائج بالنسبة إلى الحيوان.
وأنكأ ما في الأمر أن الكلمة الفاصلة في العلم على لسان رجل لا يفقه كثيرا ولا قليلا في علم الناسلات. قال الدكتور «هارلاند» العالم البيولوجي الكبير: «ذهبنا في أوديسه لمقابلة شاب يسمى «تروفيم ليسنكو» قال لنا الدكتور «فافيلوف»: إنه يجري التجارب في الحبوب لتعجيل نموها وتوفير محصولها، فحادثته ساعات ثلاثا فوجدته على جهل مطبق بأبسط مبادئ الناسلات وتشريح النبات.»
18
ولا يطعن في الدكتور «هارلاند» بعداوة الشيوعية؛ لأنه هو والأستاذ «هلدان» معدودان من علماء الإنجليز المتعاونين مع المراجع الروسية.
ولقد دامت هذه المعركة - التي لا موجب فيها للعراك - زهاء عشرين سنة، ذهب فيها من ذهب من العلماء ضحية للخلاف على معاني الألغاز والرموز، ثم ثبت أن النظريات التي يقال: إن الفرق بينها وبين العلم البرجوازي - كالفرق بين الأمانة والخيانة وبين صدق النية والتدليس - لم تأت بثمرة واحدة لا تستفاد من التجارب البرجوازية، وأن العلماء المجندين للحملة على العلم البرجوازي لم يجسروا على مخالفة قاعدة واحدة من القواعد التي يجري عليها ذلك العلم البرجوازي في الصناعات الآلية، أو صناعات البناء والملاحة والكيمياء وفنون النسيج والتعدين وما إليها؛ لأن التهريج في هذه القواعد غير مأمون العاقبة على المهرجين وغير المهرجين في حل الرموز وتفسير الألغاز.
ونرجع إلى مصدر العلوم جميعا في المذهب المادي، وهو الحاجة على حسب اختلاف المجتمعات، فنلمس الأكذوبة كأضخم ما تكون الأكاذيب الملموسة، إذ نعلم أن الحاجة في المجتمع الشيوعي لم تعطه شيئا من العلوم يناقض ما أعطت في المجتمعات البرجوازية، وأن اختلاس الأسرار العلمية من المجتمع المغضوب عليه هو السر الأكبر الذي أسفر عنه تطبيق المذهب في المجتمع المثالي ثلاثين سنة.
الأوطان والديانات
والوطنية والدين أحبولة أخرى من أحابيل الاستغلال، ولا مصدر لهما غير الوسائل الاقتصادية - أو وسائل الإنتاج - التي تستولي عليها طبقة بعد طبقة، ثم تزولان بعد زوال الطبقات، ففي البيان المشترك يقول الصاحبان: إن الشيوعيين يخالفون هيئات العمال الأخرى بما يأتي فقط:
أولا:
أنهم في المعارك الوطنية التي يشترك فيها الصعاليك - البرولتارية - بين البلاد المختلفة يبرزون علانية، وينبهون إلى مصلحة الصعاليك العامة جملة واحدة بمعزل عن القوميات جميعا.
ثانيا:
وأنهم خلال التطورات التي تمر بها حركات العمال ضد البرجوازيين يمثلون على الدوام، وفي كل مكان، تلك الحركات في مجموعها.
وفي ذلك البيان يقولان: «إن العمال لا وطن لهم، وإننا لا نستطيع أن نأخذ منهم ما ليس لهم.»
أما الدين فرأي الماديين فيه تلخصه الكلمة المشهورة في مقالة «كارل ماركس» عن «هيجل»: «إنه نفثة المخلوق المضطهد، وشعوره بالدنيا التي لا قلب لها، إنه أفيون الشعوب»، ومثلها كلمته في حرب الطبقات بفرنسا إذ يقول: «إنه الأفيون الذي يخدر الشعب لتسهل سرقته»، «وإن الدين كان وسيلة الإخضاع الروحي كما كانت الدولة وسيلة الإخضاع الاقتصادي»، وهو رأيه الذي أكده في كلامه عن حروب فرنسا الداخلية.
ويتفق «ماركس» و«إنجلز» على أن الدين كما قال «إنجلز» في الرد على «دهرنج»:
ينشأ قبل أن تنتهج الوسائل التي يكسب بها الإنسان معيشته، وإن الإنسان يواجه الطبيعة مباشرة في تلك الحالة فتقف أمامه الطبيعة قوة غلابة غامضة يعبد منها ما لا يدركه، وما الدين إلا انعكاس القوى الظاهرية التي تسيطر على معيشته اليومية.
ويقول «ماركس»: «إن المسيحية تقرظ الجبن واحتقار النفس وإذلالها، وتحبذ الخضوع والخسة وكل صفات الكلب الطريد.
وإن أصحاب المصالح قد استغلوا المسيحية كلما وجدوا لهم مصلحة في استغلالها، فجعلوها دين الدولة بعد قرنين ونصف قرن من ظهورها، وجاء البرجوازيون في ألمانيا فأبدعوا البروتستانتية، ولم يستفيدوا منها لضعفهم فاستفاد منها الملوك المطلقون؛ لأنها رفعت عنهم سلطان الكنيسة.
والدين - جملة - هو الغذاء الخادع للضعفاء؛ لأنه يدعوهم إلى احتمال المظالم ولا يزيلها.» •••
ذلك هو لباب الفكرة الماركسية عن أصل الوطن والدين، ولهم في كل فكرة من هذا القبيل تتمة يلحقونها بها مؤداها أن العقيدة الوطنية أو الدينية تنشئ لها «تركيبة عليا»
1
من الشعائر والمراسم، تعمل في الظاهر مستقلة عن وسائل الإنتاج، ولكنها مشتقة منها متوقفة عليها.
ودينهم المفهوم في تعليل جميع العقائد الوطنية أو الدينية أنهم متى وصلوا إلى وسائل الإنتاج أخذوا كل حالة اقتصادية تصادفهم، فجعلوها سببا للعقيدة التي تعاصرها. وقلما يعنيهم أن يذكروا أن النظم الاقتصادية متكررة مشتركة بين جميع الأمم منذ عصر الرق إلى عصر البرجوازية ثم الصناعة الكبرى، فكيف يشترك النظام الواحد في تعليل الوطنية التي تعلم الناس الكفاح والأنفة وتعليل الدين الذي يقولون إنه يعلمهم الجبن والضعة والاستكانة! وكيف نعلل بنظام الرق مثلا ديانة توصي بإحراق الجسد وديانة توصي بتحنيطه وتخليده في الحياة الدنيا وفيما بعدها؟ وكيف يسفر الرق في إسبرطة عن الجندية والقانون ويسفر في أثينا عن الحكمة والأدب والفن الجميل؟
وقبل الوطنية كيف نشأت العنصرية وهي تشبهها في نخوة النسب وصيانة الحوزة وقد تزيد عليها بوحدة اللغة ووحدة العرف والتراث؟ هل هي أحبولة قديمة بليت في أيدي الطبيعة فنبذتها واخترعت الوطنية لتكون أحبولة جديدة تحل في محلها؟ وهل استقام التاريخ على سنة النصب والاحتيال، فليس فيه من النظم والعلاقات إلا الشرك القديم ينبذه ويحفر بعده موضعا خفيا للشرك الجديد؟ •••
إن دعاة الشيوعية شاهد قوي على صحة قول القائلين: إن ملكة الخيال وملكة الفكاهة ضروريتان للبحث الفكري كضرورة الفهم والمنطق والدراية. فقد كان «ماركس» و«إنجلز» وأتباعهما على فقر شديد في كلتا الملكتين، ولم يكن لأحدهم نصيب من ملكة الفكاهة ولا من ملكة الخيال، ولولا ذلك لأدركا الصورة المضحكة التي يصوران بها النواميس الكونية وهي تعمل في المجتمع البشري، فكان لهما من تلك الصورة المضحكة تنبيه يدعوهما إلى المراجعة والجد في فهم مسائل الكون ومسائل الاجتماع.
أي صورة للنواميس الكونية في المجتمع البشري يتصورها من يلم بمذهب الشيوعيين في تفسير التاريخ؟
إنه يتصور أن هذه النواميس الكونية خلعت ملابس الشغل الشريف، وتسلمت التاريخ البشري في زي جديد، هو زي النصاب المحتال الذي لا يفرغ من خدعة إلا ليحتال على خدعة غيرها، ولا يزال في عملية مستمرة من الخداع والتضليل يموه الحيل والأباطيل بمظاهر التقدم والحضارة، ويسعده الحظ بالغفلة بعد الغفلة في عقول الناس حتى يخذله الحظ في سهوة من سهواته، فيظهر له الشاطر «كارل ماركس» من زاوية من الزوايا لم تكن في الحسبان، ويكشف عن زغله للعيان من الآن إلى آخر الزمان.
صورة مضحكة زرية.
وليس المطلوب من «كارل ماركس» وأتباعه أن يبنوا مذهبهم على الخيال والفكاهة وكفى، ولكن المطلوب منهم أن يدركوا الصورة المضحكة الزرية فينتهوا إلى الخطأ وينتفعوا بهذا التنبه في معاودة البحث واجتناب الهزل والزراية في تصوير النواميس الكونية، وهي أكبر ما يتناوله العقل الإنساني بالتصوير.
ولو قد تنبها لأدركا حكمة الخلق التي لا تداري نفسها عن أحد يريد أن يبصرها، فإنها أقرب من تلك اللغة الطويلة وراء عمليات النصب، وراء كل سر من أسرار تاريخ الإنسان.
إن الوطنية ليست بحيلة من حيل الإنتاج؛ لأنها خليفة العنصرية وشبيهتها في ظواهرها وبواطنها، وليست هي - أي العنصرية - من حيلة أحد يقصدها أو لا يقصدها؛ لأنها علاقة الدم والقرابة التي لا اختيار فيها لخادع أو لمخدوع، وليس أهزل من مفكر يعمد إلى شعور عام بين الناس على اختلاف أرزاقهم ومواردهم، فيزعم أنه حيلة من مخدوعين يحتالون بها على مخدوعين آخرين. وما كان شعور الوطنية أو العنصرية في أمة من الأمم وقفا على طائفة أو طبقة أو صناعة أو هيئة اجتماعية دون هيئة أخرى فيقال: إنه من أخاديع فريق للعبث بفريق.
أقرب من هذا التفتيش الدائب على عمليات النصب والاحتيال وراء كل سر من أسرار التاريخ، أن ننظر إلى حكمة الخلق في كل بنية حية وكل كيان اجتماعي أو عضوي، فنرى هنالك أن حكمة الخلق تودع في كل فرد إيمانا قويا بخدمته لمصلحته، حين يعمل في خدمة الجماعة أو البيئة التي ينتمي إليها، وأقوى ما يكون ذلك في خدمة النوع أو خدمة البيئة الحية، ولو كان خدامها من الأعضاء التي لا عقل لها ولا إرادة، من الذي يخدع اليد، فيرفعها إلى الرأس لتتلقى الضربة التي توشك أن تحطمه.
من الذي يخدع الخلايا في باطن الجسد فيدفعها إلى التجمع لوقاية البنية كلها من فتك الجراثيم؟
من الذي يخدع الفرد فيشيع في بنيته السرور بحفظ النوع، ويشيع في بنيته الصبر على مضانك الحمل والرضاعة والتربية؟
هذه هي حكمة الخلق في شعور الفرد بمصلحة الجماعة وشعور الجزء بمصلحة سائر الأجزاء، هذه هي الحكمة التي تخلق لكل بنية اجتماعية ضربا من «الأنانية» الكبرى تقترن بالأنانية الفردية لتعمل في خدمة الجماعة كما تعمل في خدمة الفرد على حدة.
فكلما وجدت جماعة من الخلق وجدت معها «شخصية» أو أنانية كبيرة تصونها وتوكلها بالحفاظ على نفسها، كما توجد «الأنانية» في كل مخلوق لحماية نفسه ومقاومة العوامل التي تنازعه البقاء من حوله.
سنة الخلق في خلايا البنية، سنة الخلق في أفراد النوع، سنة الخلق في آحاد القبيلة أو العنصر أو الوحدة الوطنية، سنة قريبة جد قريبة لمن يشاء أن يبصرها حيث استدار بنظره إليها، ولكنها بعيدة جد بعيدة عمن ينظر إلى كل وجهة، فيأبى أن يرى شيئا غير النصب والاحتيال في قواميس الكون وقوانين الاجتماع وأسرار التاريخ. •••
إن الجماعات البشرية لم تخل قط من شعور كشعور الوطنية منذ عهد القبيلة الأولى، ونحن نعرف شعور المصري الذي كان يؤمن بمقام المصري في المرتبة الأولى بين مراتب الأجناس البشرية، ونعرف شعور العربي الذي كان يفخر على الأعاجم ويصف بالأعجمية كل من لا يتكلم العربية، ونعرف شعور اليوناني الذي كان يطلق وصف البربرية على كل أمة لا تنتسب إلى القبائل اليونانية، ونعرف فخر الروماني بالمدينة الخالدة واعتباره النسبة إليها ذروة المرتقى في الشرف والكرامة. وهذا الشعور في كل جماعة من هذه الجماعات هو الحافز الذي كان ينهض بكل فرد للدفاع عن «شخصيته الكبرى» التي ركبت في طبعه إلى جانب الشخصية الفردية، وما كان هذا الشعور بدعة في طبائع الجماعات والكائنات العضوية، فإننا نرى أصوله عميقة مكينة في غريزة النوع وفي تركيب الخلايا الجسدية وتركيب الأعضاء التي تتحرك لدفع الخطر عن البنية كلها، ولو أصيبت بأخطر ما يصاب به العضو على انفراده، وما أقرب هذا التفسير لمن يبحث عن التفسير! وما أبعده عمن يبحث عن «عملية النصب والاحتيال» وراء نواميس الكون وصروف المقادير! •••
أما الدين فلو كان ل «كارل ماركس» نصيب من خيال التشبيه لما خطر له أن يشبهه بشيء من المخدرات أو المسكرات، إذ كانت الأديان جميعا تقوم على الإيمان بالجزاء والثواب والعقاب، وتعلم المتدين أن يحاسب نفسه على تبعات أعماله؛ لأنه محاسب عليها في السر وفي العلانية، وتغرس في نفسه عادة الاحترام والتقديس وتحذره القحة وسوء الأدب. وهذه العقائد كلها هي وحالة السكر نقيضان لا يجتمعان، وأول ما يسقطه السكر عن المخمور أو المخدر شعوره بالتبعة وشعوره بالاحترام، فلا يبالي عاقبة عمله ويتطاول على العظماء في نظره، وتكاد تكون الكلمة الأولى على لسان كل سكران: أنا لا يهمني شيء، أنا لا أبالي بإنسان!
ومن عجز الخيال أن يختار «ماركس» للدين تشبيها لا يصدق على عقيدة قط كما يصدق على عقيدة الشيوعية؛ لأن الشيوعية تروج بين الذين يسقطون التبعة عن أنفسهم، ويلقون أوزار الجرائم والرذائل على المجتمع، وتمهد العذر للسراق والجناة والمنافقين بما تتهم به المجتمع من الرياء والظلم وسوء التصريف والتدبير، وتعطي كل من يشتهي التطاول حجة للتطاول على المحسودين أو للتطاول على ما يشاء من الحرمات والمقدسات. وما من سبب يغري بتعاطي المخدرات والمسكرات إلا كان من المغريات بالشيوعية على حد سواء، فحيث توجد الأسباب للإقبال على السكر توجد الأسباب للإيمان بالشيوعية على السواء.
ومن عجز الشعور - لا من عجز الخيال وحسب - أن يسوي الماركسيون بين الفرائض العامة التي يدين بها المرء في حياته الاجتماعية، ولا مساواة بينها في الحس ولا في الفكر ولا فيما يقصده من معناها.
من عجز الشعور أن يسوي الماركسيون بين فرائض العرف والعادة وفرائض القانون وفرائض الأخلاق وفرائض الدين، وما من فريضة من هذه الفرائض تقع في النفس موقع الفرائض الأخرى، أو تنبعث في أعماق الضمير من حيث تنبعث الأخرى.
من عجز الشعور أن يقال: إن هذه الفرائض المتعددة تصدر من أسباب اجتماعية أو نفسية واحدة، إذ لا معنى لتكرار هذه الفرائض في كل أمة لتقوم بغرض واحد وتخرج من مصدر واحد، ولو حدث هذا اتفاقا في بيئة واحدة لأمكنت نسبته إلى المصادفات أو الفلتات التي لا يقاس عليها، ولكن فرائض العرف وفرائض القانون وفرائض الأخلاق وفرائض الدين تتكرر في كل بيئة ولا تغني إحداها عن سائرها.
فالإنسان يتبع العادة اتباعا آليا يكاد يخرج من عداد الأعمال الإرادية، ويقال عن العمل: إنه جرى بحكم العادة ليقال: إنه غير مقصود، وإنه لم يصدر عن روية وتقدير. ويصح أن ترجع العادات في جملتها إلى التقليد المرعي في البيئة الاجتماعية المحدودة، وإن ضاق نطاقها كما يلاحظ في العادات، التي تختلف بين إقليم وإقليم وبين قرية وقرية.
وفرائض القانون يتبعها الإنسان بمشيئته، ويروغ منها أحيانا إذا استطاع؛ لأنها تفرض عليه برأي «السلطة» ولا يؤمن بصحتها أو إنصافها في جميع الأحوال.
وفرائض الأخلاق يتبعها الإنسان ويخجل من مخالفتها؛ لأنها في الغالب منوطة بكرامته الإنسانية التي تعم كثيرا من الأمم والبيئات، ولا يحس أنها صادرة من السلطة أو أنها مقيدة بعشيرة واحدة، ولا نحسبها كانت على غير هذه الصفة حتى في الأزمنة الأولى، التي كان وازع الأخلاق فيها مقصورا على عشيرة واحدة غير ملزم لأبنائها في معاملتهم للعشائر الأخرى. فهذه العشائر الأولى أيضا كانت تؤمن بأن الأخلاق من كرامة الإنسانية، ولكنها كانت ترى أن الإنسانية المثلى صفة من صفاتها دون سواها، وأن العشائر الأخرى لا تستحق رعاية الأخلاق؛ لأنها لا تستحق كرامة الإنسان.
هذه الفرائض يمكن أن يقال: إنها من وحي البيئة المحدودة أو أنها من وحي الأمة والدولة أو أنها من وحي الإنسانية في بيئاتها المختلفة، وكل هذا لا يمكن أن يقال عن الدين، فيحبط به ويستغرقه، ويفسر جميع بواعثه وأسراره في المجتمع أو في الضمير.
إنما يفسره بعض التفسير أنه يقوم على علاقة الإنسان بالكون كله لا بالنوع الإنساني ولا بالأمة أو البيئة الخاصة، وأنه يلتمسه لأنه يلتمس معنى حياته ومعنى الوجود الظاهر له والمغيب عن حسه وعقله، وقد يناقض الاعتقاد الديني في بعض الملل غريزة البقاء في نوع الإنسان، وقد يثير المتدين على قومه وعلى عشيرته الأقربين، وقد يوقع في روعه أن الخلاص في الخروج على وحي العرف المحدود، ووحي القانون، ووحي الأخلاق، المصطلح عليها.
ومن الجهل بطبيعة الشعور الإنساني أن يقع في الظن أن صاحب الثروة يستغني عن هذا الشعور الديني، ويستغني عن فهم معنى حياته ومعنى الوجود المحيط به ولا يحتاج إلى الدين إلا ليضلل به المحرومين ويستعين به على الكسب والاستغلال.
وأجهل من ذلك أن يقال: إن الإنسان يتدين؛ لأنه ضعيف بين نواميس الكون وقوى الوجود، فهذا كلام من قبيل تحصيل الحاصل لأنه يمنع تفسير الدين على وضع من الأوضاع، فلن يكون الإنسان على حال من الأحوال إلا ضعيفا بين نواميس الكون وقوى الوجود. فكيف ندرك الحقيقة إذن في حقيقة الدين؟ هل نرجعها إلى اليوم الذي تنقلب فيه الآية، فيصبح الكون أضعف من الإنسان، أو يصبح الكون مهملا في نظره لا ينطوي على سر من الأسرار.
على أن الضعف الإنساني لا يصلح للإحاطة بتفسير الدين إلا إذا كان الضعف أغلب الصفات على أصحاب الضمائر الدينية، وليس هذا من الحقائق التي تؤيدها المشاهدة والتجربة؛ لأنه يناقض المشاهدة والتجربة في كثير من الأحوال، فلا يكون الدعاة الدينيون إلا من أقوى الأقوياء وأعظمهم نفوسا وأقدرهم على الإرادة والمضاء. •••
وسائل إنتاج، وسائل إنتاج، لا شيء ولا أول ولا آخر غير وسائل الإنتاج، دين، وطنية، علم، فلسفة، أدب، فن، أخلاق، أسرة، زواج، رهبانية، كل هذا تبحث عنه في وسائل الإنتاج ولا تبحث بعده عن شيء غير وسائل الإنتاج.
إن الرجل الذي يفسر جميع الأمور بإرادة الله مفهوم من الوجهة العلمية؛ لأنه يؤمن بأن الله هو السبب الأول لجميع الأسباب، ولا مناقضة للعلم في الرجوع بالأسباب طرا إلى أصلها الأصيل.
أما الذي لا نفهمه من الوجهة العلمية، فهو وسائل الإنتاج التي لا تفسر لنا شيئا؛ لأنها تفسر كل شيء بلا استثناء، ولو كان من شأنها أن تفسر كل ما تدعي تفسيره لوقفت بنا في منتصف الطريق حين تقول لنا: إن وسائل الإنتاج هي التي تنشئ الطبقة، وتقول لنا مرة أخرى: إن الطبقة هي التي تنشئ وسائل الإنتاج، وتقول لنا في جميع المرات: إن علاقات الإنتاج هي المهمة، وليست هي الآلات والمخترعات والموارد والنفقات. •••
وإنه لمن المألوف قديما وحديثا أن نسمع أن الأغنياء يستمتعون بمحاسن الطبيعة، وجمال النساء، ونفائس الجوهر؛ لأنهم يملكون المال الذي يشارفون به بهجة الربيع ومناظر الأودية والبحار ويغرون به المرأة ويقتنون به ذخائر الأحجار الكريمة، إلا أنه من السخف - أهزل السخف - أن يقول قائل من أجل ذلك: إن أصحاب الثروة هم الذين خلقوا الربيع، وخلقوا جمال المرأة، وخلقوا كنوز المناجم والبحار؛ لأنهم يملكون المال أو يملكون وسائل الإنتاج، وإنه لأسخف من ذلك أن يقول قائل: إنهم خلقوا الأديان والعقائد في المجتمعات؛ لأنهم يشترون ضمائر الأدعياء من المتدينين، فإن محاسن الطبيعة والنساء لا تنكر الثروات الضخام ولا تحيطها بالريبة والوعيد، ولكن الأديان جميعا تنحي على جشع الثروة وتستريب بمن يجمع منها ما لا طاقة له بتحصيله بوسائل الربح الحلال، وهذه هي الأديان الكتابية الثلاث تسمعنا نعوتا للثروات الضخام وأحكاما على أصحابها أقل ما يقال فيها: إنها ليست من أقوال المحاباة والاستحسان.
فشريعة موسى عليه السلام قد شرعت لقوم من أحب خلق الله للمادة ومتاعها، فحرمت عليهم الربا والرهن، وجاء في سفر الخروج من العهد القديم الذي يدينون به: «إن أقرضت فضة لشعبي الفقير الذي عندك، فلا تكن له كالمرابي ولا تضعوا عليه ربا. وإن ارتهنت ثوب صاحبك فإلى غروب الشمس ترده له؛ لأنه هو وحده غطاؤه»، وتكرر هذا في سفر اللاويين حيث يقول الإصحاح الخامس والثلاثون: «وإذا افتقر أخوك وقصرت يداه عندك فأعضده غريبا أو مستوطنا فيعيش معك. لا تأخذ منه ربا ولا مرابحة بل اخش إلهك فيعيش أخوك معك.» وسبق هذا التحذير تحذير من الاستئثار بما يشتريه صاحب المال، فجاء في الإصحاح الخامس والعشرين «إن الأرض لا تباع بتة؛ لأن لي الأرض وأنتم غرباء ونزلاء عندي، بل في كل أرض ملككم تجعلون فكاكا للأرض، إذا افتقر أخوك فباع من ملكه يأتي وليه الأقرب إليه ويفك مبيع أخيه، ومن لم يكن له ولي فإن نالت يده ووجد مقدار فكاكه، يحسب سني بيعه ويرد الفاضل للإنسان الذي باع.»
وفي سفر أشعيا نذير بالويل لمن يجمعون المال والعقار «فالويل للذين يصلون بيتا ببيت وحقلا بحقل»،
2 «ومن أنفق نفسه للجائع وأشبع الذليل أشرق في الظلمة نوره وأصبح كالظهر خلا من الدامس.»
3
ويعقب المعقب على هذه الوصايا - حقا - بأن الأخلاف من قوم موسى فهموا منها أنها مشروعة لشعب إسرائيل دون غيره، أو يعقبون عليها - حقا - أنها لم تسمع ولم يعمل بها أو لم يكن العمل بها إلا على الرياء والمواربة. فلا هذا ولا ذاك يثبت شيئا مما يقوله الماركسيون عن أصل الأديان، إذ يزعمون أنها من صنع الأغنياء لمحاباتهم وتسويغ سلطانهم؛ لأن قصور العقائد الدينية كقصور الثروة في كل زمن عن بلوغ ما تصبو إليه، فلا رياء الأغنياء للدين بمبطل حقيقة المال، ولا رياء المتدينين للمال بمبطل حقيقية الدين، وليس انتفاع الغني بمداراة العقائد الدينية حجة للقائل بخلق الثروة للعقيدة، ولا انتفاع المعتقدين بمداراة المال حجة للقائلين بخلق العقيدة للثروة، وإنما يدل هذا وذاك على حقيقة واحدة: وهي أن وسائل الإنسان جميعا لا تبلغ به كل ما يصبو إليه، وأنه لا يعلن كل ما يبطن في جميع الأعمال والنيات. •••
وقد أسلفنا أن الشريعة الموسوية شرعت لقوم من أحب خلق الله للمادة ومتاعها، فلم يكن فيها ما يعزز قول القائلين: إن الأغنياء يروجون العقائد في المجتمع لتسويغ مطامعهم واستباحة ما لا يباح. ثم جاءت المسيحية على أثر الموسوية ، فكانت في صميمها حملة على الثراء أو ثورة على ملكوت الأرض من أجل ملكوت السماء، وآيتها أن دخول الجمل في سم الخياط أيسر من دخول الغني إلى ملكوت السماء، وأدبها بعد أدب السيد المسيح مشروح في وصية يعقوب من الإصحاح الثاني حيث يقول:
إن دخل إلى مجمعكم رجل بخواتم الذهب في لباس بهي ودخل معه فقير بلباس وسخ فنظرتم إلى اللابس البهي وقلتم له: اجلس أنت هنا حسنا. وقلتم للفقير: قف أنت هناك أو اجلس هنا تحت موطئ قدمي. فهل لا ترتابون في أنفسكم وتصيرون قضاة أفكار شريرة؟! اسمعوا يا أخوتي الأحباء، أما اختار الله فقراء هذا العلم أغنياء في الإيمان وورثة الملكوت الذي وعد به الذين يحبونه؟! أما أنتم فأهنتم الفقير، أليس الأغنياء يتسلطون عليكم وهم يجرونكم إلى المحاكم؟!
إن معظم ما وعته الأناجيل الباقية والكتب الملحقة بها يوافق هذه العقيدة وهذا الأدب الديني في مواجهة الفقر والغنى، فمن الهذيان ألا تعلل الديانة المسيحية في نشأتها أو في تطورها إلا بالعلة الببغاوية التي يحفظها الماركسيون، كلما عللوا الظواهر الاجتماعية، فردوها جملة واحدة إلى خدمة مصالح الأغنياء، ولو كان أمامنا مائة تعليل لنشأة دين كالدين المسيحي، لجاز أن يقبلها العقل على علاتها قبل أن يسيغ القول بأن المسيحية اختراع الأغنياء لترويض الفقراء، ولا بد أن نبتعد من هذا التعليل مراحل شاسعة، حين نعلم أن الغني المسيحي يؤمن بدينه كما يؤمن به الفقير المسيحي، ولا يشعر لمحة عين بأنه مذهب مخترع على قصد منه لخداع الفقراء وتسخيرهم في خدمة دنياه، ومن خطر له هذا الخاطر من الأغنياء فقد يماثله أناس من الفقراء، ينحرفون بهذه المظنة عن الدين كما ينحرف عنه أصحاب الأموال.
وليس مما ينقض الرأي الصواب في نشأة المسيحية أن تراد لمقاومة إغراء المال ثم يستطيع أصحاب المال أن يحتفظوا بالقدرة على الإغراء، فإن المضروب الذي لا يقتله السكين ويلويه على الضارب لا يقال عنه من أجل ذلك: إنه هو الذي صنع السكين ليضرب به ويلويه على ضاربه، وما يقوله الماركسيون بهذا المعنى فإنما هو أضحوكة، لا تقل عن هذا الضرب من الأضاحيك.
لا جرم يصطدم الهذيان الماركسي الذي يسمونه علما بالحقائق التاريخية وبالواقع من تجارب الماركسيين في دولتهم بعد الحرب العالمية، فيعاد النظر في تعليل نشأة المسيحية، ويتراجع الدعاة شيئا فشيئا عن التفسير الماركسي المحفوظ إلى تفسير آخر، يحاول أصحابه أن يوفقوا بين التاريخ - كما حدث - وبين فلسفة التاريخ على مذهبهم، ويلم بهذا الموقف الجديد «تيماشيف» صاحب كتاب «الدين في روسيا السوفيتية» إذ يقول في الفصل الذي كتبه عن السياسة الجديدة: «إن الحزب الشيوعي كان على خطأ في رأيه عن أصل المسيحية. وكانت هناك نظريتان: إحداهما نظرية الأستاذ «ويبر» الذي يقول بأن المسيحية من نشأتها ديانة استغلال ومستغلين، والأخرى نظرية الأستاذ «كوتزكي» الذي يرى أن المسيحية تخلص من الشقاء، وأنها في نشأتها ديانة أرقاء وشوق إلى الحرية، وعندهم أن المسيحية كسائر الديانات أفيون للشعوب، ولكن لا بد من بيان السبب الذي كفل لها النجاح، وهذا السبب هو أنها حركة دينية جديدة لا تسمح بالتمييز بين الأجناس والأقوام، وتهيئ الطريق لنظام جديد في الزواج وتعترف بكرامة الإنسان الخالص وبالمساواة بين الناس على تفاوت طبقاتهم، وقد كانت الثورة على الأحوال الاجتماعية هي قوام الدين بين المسيحيين الأول، وكانت جماعاتها الأولى ديمقراطية، وطرأ على المسيحية بعد ذلك طوارئ شتى ولم تزل بعدها محافظة على كرامة المثل الأعلى، ولا نكران لما قامت به المسيحية من المساعدة على التقدم بالمقابلة بينها وبين الديانات، فإنها جاءت بأفكار جديدة وقواعد يبنى عليها مجتمع جديد.
وبعد أشهر قليلة أقرت جماعة الإلحاد المجاهدة مقترحات «رانوفتش» وأذاعتها في منشور موجه إلى دعاة الإلحاد قالت فيه: «إن المسيحية لا ينبغي أن تجعل كأنها صورة موحدة مع نظام رأس المال، فإن المسيحيين الأول لم يكونوا أغنياء ولم يكن من دأبهم تعظيم الثروة.»» •••
إن بعض هذا الاجتراء على الشك في «العقيدة» الماركسية، كان في السنوات الأولى لقيام الدولة الشيوعية بمثابة جريمة للخيانة العظمى التي يعاقب عليها بالموت والتشهير، ولو أن العلماء النظريين الذين فسروا الدين هذا التفسير، قد اجترءوا على العقيدة الماركسية هذه الجرأة مبتدئين بالرأي من عند أنفسهم، لكان أسعدهم حظا من ينفى إلى مجاهل سيبريا، أو ينبذ من المجتمع ليقضي بقية حياته في عزلة الخمول، إلا أن العلماء النظريين في النظام الشيوعي لا يقدرون على مثل هذه الجرأة، ولا يكون إقدامهم عليها إلا دليلا على الإيعاز الخفي أو التحول الصريح في «تفكير» الدولة برمتها، وقد كانت هذه النظريات تنشر ورئيس الدولة «كالينين» يخطب في مؤتمر المعلمين ليقول:
إن التعليم بالروح الماركسية ينبغي ألا يفهم منذ الآن كأنه تعليم القضايا الماركسية. بل ينبغي أن يراد به بث عاطفة الحب للوطن الاشتراكي، وتنمية الصداقة والزمالة والإنسانية وفضائل الأمانة والتعاون في العمل.
وخطب في مناسبة أخرى فقال: «إن هدم الدين بغير نظر فيما يخلفه لا يجدي، وإن «لينين» كان يرى أن المسرح سوف يحل في المجتمع المقبل محل الدين.»
ولما قررت الدولة إجازة يوم رسمي في الأسبوع، كان من مقترحات «المؤمنين» أن يختار يوم الاثنين أو الأربعاء أو يوم من الأيام غير يوم الأحد فأعرضت الدولة عن هذه المقترحات، وقررت يوم الأحد دون غيره، وعهد إلى الأستاذ «نيكولسكي» أن يكتب بحثا في هذا الموضوع، ينشر في مجلة العصبة؛
4
لإقناع شبانها بصلاح هذا اليوم دون غيره لإجازة الأسبوع.
ولم يحدث هذا التحول منذ عشرين سنة إلا بعد حبوط العقيدة الماركسية في دور التعليم وفي الأندية والمعاهد والمجتمعات التي أقيمت لنشر الإلحاد وصرف الناشئة عن التربية الدينية، فحرمت الدولة في السنوات الأولى تعليم الدين للتلاميذ الصغار، وأوجبت تعليم المذهب الماركسي للطلاب المتقدمين في الدراسة، وأرسلت المبشرين إلى الأقاليم يسفهون الأديان جميعا وينعتونها بنعوت الجهل والخداع والاستغلال، وتجسم في حملات هؤلاء المبشرين غباء الغبي وجحود الجاحد مجتمعين، فإنه من المفهوم أن يلحد الملحد؛ لأنه عرف الدين الذي مرق منه وعرف الإلحاد كما تراءى لعقله، وأما الإلحاد المفروض على من لا يعرفه ولا يعرف الدين، فذلك هو غباء التقليد الأعمى في الجحود وفي الدين.
وقد كان دعاة الإلحاد ممن جمعوا الغباوتين فتدينوا وهم يجهلون، وألحدوا وهم لا يعلمون، وروت صحيفة «العصبة الملحدة» في عددها الثاني سنة 1939 أن مبشرا «إلحاديا» ألقى محاضرة على جماعة من الكيميين فخلط بين الترك والإيرانيين، وعقد المقارنة بين المسيحية والملة الكاثوليكية الرومانية كأنهما ديانتان منفصلتان، وعقبت الصحيفة على ذلك محذرة من اختيار هؤلاء المبشرين من زمرة الأميين وأشباه الأميين. وقد نشرت «صحيفة المعلمين» في عددها الثالث والعشرين من شهر أكتوبر سنة 1938 أن التلاميذ الذين أبعدوا كل الإبعاد من تعليم الكنيسة هم أشد تلاميذهم تعلقا بالتمائم والتعاويذ، وأكثرهم اقتناء للأحجية والرقى التي يتوسلون بها إلى النجاح. وقالت صحيفة «برافدا» في عددها العشرين من أغسطس سنة 1939: إن بعضهم يحسب أن الجيل الجديد يرفض الخرافات، وهو في الواقع يتعلق بها ويصدقها، وقالت صحيفة «المعلمين» التي سبقت الإشارة إليها في أعداد متفرقة في سنة 1937 إلى سنة 1939 أن الشبان يحتالون بالتمائم؛ لاستهواء قلوب معشوقاتهم، وإن عاملا كتب إلى الصحيفة يسألها أن ترشده إلى «ساحر» أمين يستشيره فيما يعنيه. •••
وعلى هذا النحو حار دليل الوحي الماركسي عند أول موضع قدم، وضلت العقيدة الراسخة الخالدة قبل أن تفارق باب المحراب، وهي هي العقيدة الراسخة الخالدة التي لا يجوز أن تتزعزع، ولا يسمح لعقيدة أو فكرة غيرها أن تفسر شيئا من أسرار الماضي وخبايا المستقبل في مسائل الدين على الخصوص، واضطر سدنة المحراب أن يخرجوا للوحي المنزل ترجمة بعد ترجمة ليصححوا خطأه لا ليهتدوا بهديه في مسالك الغيب المحجوب، ووجب عليهم أن يفسحوا الطريق للديانة التي سموها أفيون الشعوب وقالوا عنها: إنها وضعت لتخدير المساكين وترويض المتمردين، فإذا هي على الطرف الآخر ثورة جائحة من المساكين والمتمردين على طغيان أصحاب الأموال والعروش.
ومن سخرية القدر أن تبتلى العقيدة الماركسية بالتحريف والتبديل في بضع سنوات، فلا تدري كيف تعلل ما أصابها كما عللت ما أصاب جميع المبادئ التي انحرفت عن سوائها بعلتها الوحيدة التي لا تدري علة سواها، وهي أن المجتمع يسخر المبادئ ويطوعها لخدمة رءوس المال؛ كي يستديم لها الربح الفائض والسيادة الغالبة، فإذا لم يكن هناك استغلال ورءوس أموال، فلا موضع لتحريف المبادئ عن سوائها ولا متسع في العقل والضمير لغير الفلسفة الماركسية على استقامتها.
وقد منيت عقيدة العقائد بالتحريف والتزييف بين أناس يكفرون برأس المال كما يكفرون بالاستغلال، ولم ينقض من الأبد الطويل الذي سنطبق عليه فلسفة الماركسيين أكثر من عشر سنين عند ابتداء ذلك التحريف والتزييف. فإذا تواضعنا بالأبد الأبيد، فهبطنا به إلى مليون سنة، فإلى أين يا ترى ينتهي التغيير بالعقيدة الراسخة الخالدة التي لا تقبل التغيير في المدى الطويل بله المدى القصير.
وجاء الامتحان الأول للعقيدة الراسخة الخالدة أيام الحرب العالمية الثانية، فنادى الكفار بالوطنية وبالدين أنها حرب الغيرة الوطنية، وأن المجاهدين أحرار في العقيدة الدينية التي يسرونها أو يعلنونها، ولم يكن جيل القيصرية هو الذي ألجأهم إلى التمسح بالوطنية أو بالحمية الدينية فيقال: إنه قديم شبوا عليه وشابوا، فلا مندوحة عنه في إبان المحنة الداهمة، بل كان الجنود المقاتلون في الصدمة الأولى من جيل بين العشرين والأربعين، أكبرهم لم يزد على الثالثة عشرة عند قيام الدولة الشيوعية، وتسعة أعشارهم على الأقل لم يتعلموا حرفا في غير مدارسها، ولم يستمعوا كلمة من غير دعائها. ولا تفسير لاستفزازهم بنخوة الوطن وحمية الدين، إلا أنه إفلاس للمذهب المادي في تكوين المجتمع وغرس الأخلاق في نفوس لم يزاحمه عليها مزاحم من المهد إلى مقتبل الشباب. •••
وبعد هذا فصل عن تفسير الفلسفة المادية للعقائد الدينية لم نرد به تفسير الأديان ولا الموازنة بينها، ولكننا نؤدي ما أردناه به حين نتبين قصور تلك الفلسفة عن تفسير نشأة الدين في المجتمع وفي النفس البشرية، بالقياس إلى الفرائض الاجتماعية العامة كفرائض الشريعة وفرائض العرف والعادة وفرائض الأخلاق والآداب، وأوضح ما يكون القصور في هذه الفلسفة، حيث تعرض لسريرة الإنسان وعوامل الحياة الاجتماعية، التي لا تحيط بها كلمة «المال» أو كلمة الإنتاج.
وقد عرضنا في ختامه لتطبيق التفسير المادي على الأديان الكتابية، فتناولنا الكلام على اليهودية وعلى المسيحية ولم نعرض بعد للإسلام؛ لأننا سنخصه بفصل مستقل يدعونا إليه أمران، أولهما: أننا نحن مطالبون قبل غيرنا ببيان الحقيقة عن الإسلام في هذا الموضوع، والآخر: أن الإسلام يدحض الفلسفة الماركسية عن نشأة الدين في كل رأي ذهبت إليه، ولا يدحضها في معرض الكلام على رأي منها أو رأيين، ولهذا يهم الباحث المستقل بيان وجهته؛ لأنها تحتمل تفصيلا في البحث، لا يحتمله بيان الحقيقة عن سائر الأديان.
الشيوعية والإسلام
الإسلام والشيوعية
اطلع «ماركس» و«إنجلز» على بعض مراجع «الأنثروبولوجي» - علم الإنسان التي تكلم أصحابها عن عبادات القبائل الأولى؛ لأنهما يستدلان بأحوال المجتمع في تلك القبائل على سبق النظام الشيوعي البدائي - لنظام الملك الخاص والطبقة المستأثرة بوسائل الإنتاج. ولكن لا يظهر من كلامهما على الأديان الكبرى أنهما توسعا في الاطلاع عليها، ولا يظهر من كلامهما العاجل عن الإسلام والمسلمين أنهما اطلعا على قواعد الإسلام، كما يفهمها من يتصفح القرآن الكريم والأحاديث النبوية، فضلا عن أقوال الأئمة والحكماء الإسلاميين.
وقد قلنا في ختام الفصل السابق: إننا مطالبون بإفراد القول عن الإسلام في مذهب الشيوعيين؛ لأننا أحق من الكتاب الغرباء عنه بجلاء الشبهات التي يوردها عليه من يجهلونه، أو يسيئون النية في تصوره وتصويره، ونزيد على ذلك أن دراسة الشيوعية في آرائها عن الدين خاصة تستوجب دراسة الدين الإسلامي قبل غيره من الأديان العالمية الكبرى؛ لأنه يتضمن وحده معظم الشواهد التي تدحض آراء الشيوعيين في نشأة الدين؛ ولأن الإسلام نظام اجتماعي إلى جانب عقائده وشعائره الدينية، ونظرة الشيوعيين إليه في دور تطبيق المذهب الشيوعي على الخصوص كنظرتهم إلى مزاحم خطير، يخشون منه أن ينازعهم السلطان على عقول الأمم وضمائرها في مسائل الأخلاق والمعاملات، مع ما يوحيه إلى العقول والضمائر من إيمان وثيق لا طاقة به لفلسفة الحياة كما يبسطها الماديون.
فعلى صفحات وجه هذا الدين الحنيف - ولا إيغال في أعماقه بعد - حجة ناهضة لا تنهض معها حجة للذين يزعمون أن الدين خدر للشعوب يروضها على الفقر والمسكنة، ويلهيها بالآخرة عن نعيم الدنيا ؛ ليستأثر به سادة المجتمع ويغتصبوا منه علانية - أو يسرقوا منه خلسة - ما طاب لهم أن يغتصبوه أو يسرقوه.
فالإسلام يأبى للمسلم أن ينسى نصيبه من الدنيا، ويأمره أن يأخذ من طيباتها، ويعيد عليه هذا الأمر في آيات متعددة من القرآن الكريم:
وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا ،
لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ،
يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ،
يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض .
وليس من الإسلام أن يتجرد المسلم من زينة الدنيا ليقبل على الآخرة، بل هو مأمور بأن يأخذ نصيبه من الزينة وهو بين يدي الله، وأن يعد زينة القوة من نعمه التي يشكره عليها:
يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين * قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ،
والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة .
ولم يخطر لعدو من أعداء الإسلام أن يتهمه بتحسين الجبن والاستكانة لأتباعه؛ بل خطر لهم أن يصفوه بنقيض ذلك، ويبالغوا فيما وصفوه فيقولوا عنه: إنه دين السيف أو دين القتال.
ولا مبالغة في وصف الإسلام بهذه الصفة، إلا أن يكون معناها عند قائلها أن الإسلام يعرف السيف ولا يعرف غيره، أو أنه يضع السيف في غير موضعه، ويبطل الحجة والبرهان جهلا بها حيث لا موضع للغلبة والإكراه.
وليس السيف من شريعة الإسلام بهذا المعنى، فقد كان الإسلام مبتلى بسيوف أعدائه قبل أن يكون له سيف يذود به عن نفسه، ولم يأمر الإسلام قط بتجريد السيف عدوانا على أحد، ولم يجرده قط في سبيل الدعوة إلا ليحارب به قوة تقاوم الدعوة بالسيف، فحارب الدولة البيزنطية والدولة الفارسية؛ لأن الخلاف بينهما لم يكن خلافا على الحجة والإقناع، وفعل ذلك بعد إبراء الذمة من دعوة العواهل المتحكمين في بيزنطة وفارس إلى الكلمة السواء، فلما أعرضوا عنه وتوعدوه وحالوا بينه وبين أسماع الناس جرد عليهم السيف، إذ لا محيص له من تجريده، وكان الاحتكام إلى السيف هنا كأشرف ما يكون الاحتكام إليه في قضية من قضايا الدنيا أو الدين.
وأصدق ما يقال عن الإسلام في أمر السيف: إنه يأمر بالسيف؛ لأنه ينهى عن الجبن وينهى عن العدوان، ولم يأمر به ليوضع في غير موضعه أينما كان.
وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ،
فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ،
وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان .
ومقاتلة البغي واجبة على المسلم كلما أوجبتها الضرورة في صد العدوان من الأجانب عنه، أو في صد العدوان بين طائفة وطائفة مثلها من المسلمين:
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله .
والمسلم فيما دون الحرج الذي يوجب القتال لا يعفى من إصلاح السيئات التي يؤمر باجتنابها، إذ هو مطالب بتقويمها إذا استطاع بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإنه لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان. ومن الواجبات الاجتماعية المفروضة على الجماعة في الإسلام أن يكون منها آمرون بالمعروف ناهون عن المنكر، يتولون عنها هذه الفريضة التي لا تنساها جماعة إنسانية إلا بادر إليها الفناء،
ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، وما هلكت الدول كما جاء في الكتاب الكريم إلا لأنهم
كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه . وقد حق الهلاك على المستضعفين؛ لأنهم يعتذرون بالضعف، وهم قادرون على النجاة بأنفسهم من الخضوع للسادة المتحكمين فيهم:
قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها .
ومهما يتعنت صاحب الهوى في توجيه الكلمات ومعانيها، فما هو بقادر على أن يتخذ من أوامر الإسلام حجة لتسخير المجتمع في خدمة أصحاب الأموال أو القابضين على وسائل الإنتاج، كما يقول المفسرون الماديون للأديان، فقد كان السادة في الجزيرة العربية يربحون من الربا المضاعف ومن احتكار التجارة، فجاء الإسلام بتحريم هذا وذاك أشد التحريم
يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون .
وقال عليه السلام: «من احتكر طعاما أربعين يوما يريد به الغلاء، فقد برئ من الله وبرئ الله منه.»
ويمنع الإسلام الاحتيال بالمتاجرة بالأعيان سترا للربا الذي يحرمه، وفي ذلك يقول عليه السلام: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، يدا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى.»
ومن الاحتكار الممنوع أن يجتمع المال في أيدي طبقة من الأمة
كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم .
ومن المحتكرين من يكنزون الذهب والفضة والقناطير المقنطرة
والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم .
فإذا قيل عن هذه الأوامر والنواهي: إنها خدمة لأصحاب الأموال، وتيسير لاستغلالهم أرزاق الفقراء، فليس للكلام من معنى يقبله العقل أو يأباه.
ولم يكن في سنة الإسلام أن يبيح لمنكر أن يقول كما قيل كثيرا: إن الشرائع إنما توضع للفقراء ولا تسري على الأغنياء، فقد كانت التفرقة بين الناس في الحدود أشد ما حظره النبي وحذر منه قومه، وكان ممن وجب عليهم الحد في حياته عليه السلام سيدة من أسرة مخزومية، فشفع لها عنده أسامة بن زيد، فزجره وقام في الناس خطيبا فقال: «إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد. وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها.»
ولنا - بعد - أن نمتد بأطراف البيئة الاجتماعية التي نشأ فيها الإسلام إلى أقصى تخوم الجزيرة العربية، فلا نرى في هذه البيئة الكبرى حجة لمن يقول: إن الدين ينشأ في البيئة لخدمة سادتها واستبقاء سيادتهم عليها، فقد كان سادة العرب على خصلة لم يشتهروا بخصلة أشهر منها، وهي الكبرياء بالنسب والعصبية العربية.
كانوا فيما بينهم يفاخر بعضهم بعضا بعراقة الأصول والأجداد، وكانوا في جملتهم يفاخرون الأمم بالنسبة العربية ويسمونها الأعاجم، كأنها كانت عندهم خلقا من الحيوان الأعجم، وكان أميرهم يترفع عن مصاهرة الأكاسرة وهو تابع لهم في دولتهم؛ لأن عزة الملك لا ترفعه إلى مقام الكفاءة العربية، فلو صدق القائلون بأن الدين من إملاء السادة في بيئتهم لما خرج من هذه البيئة دين إنساني يخاطب الناس كافة، ويستنكر المفاخرة بالأنساب والعصبيات، ويسوي بين العرب والعجم، وبين القرشي والحبشي، بل يفضل الأعجمي على العربي والحبشي على القرشي إذا فضله بالصلاح والتقوى.
وقد كان الإسلام صريحا في هذا الأدب الإنساني منذ نشأته الأولى، ولم تأت فيه وصايا المساواة عرضا في سياق وصاياه النافلة التي تستحب ولا تكره مخالفتها، ولكنها جاءت في الكتاب الكريم والأحاديث النبوية مؤكدة مقررة على صيغة لا هوادة فيها، وكانت سنة النبي عليه السلام في توكيدها وتقريرها من السنن التي لا تخفى على أحد من أصحابه، فيما عم أو خص من قدوة حياته الشريفة، صلوات الله عليه.
فمن القرآن الكريم نعلم أن النبي - صلوات الله عليه - مرسل للناس كافة
وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ، وأن الناس أمة واحدة
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، وأن الحياة الباقية لا أنساب فيها، ولا فضل فيها لغير العمل الصالح والكفة الراجحة:
فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون * فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون .
والنبي صلوات الله عليه يقول: «لا فضل لعربي على أعجمي ولا لقرشي على حبشي إلا بالتقوى» ويتمم بلاغ الرسالة فيقول في خطبة الوداع: «أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد: كلكم لآدم وآدم من تراب. إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على عجمي ولا لأحمر على أبيض ولا أبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى.»
وكان أبو ذر الغفاري من أقرب الصحابة إليه عليه السلام، ولكنه سمعه مرة يقول لرجل أسود: يا ابن السوداء، فبلغ به الغضب غايته، وعبر عليه السلام عن ذلك بامتلاء الكيل، فقال: طف الصاع! وأعادها مرة أخرى، ثم قال: «ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل إلا بالتقوى وبعمل صالح.»
هذا الأدب الإلهي الذي لا تفاضل فيه بين الناس بغير الأعمال قد نشأ في وكر الأنساب والعصبيات، فليس في نشأته هذه ما يفسر نشوء الأديان لخدمة السادة في المجتمع واستبقاء سيادتهم عليه.
وإذا خابت الفلسفة المادية في تفسير نشأة الإسلام بإملاء البيئة أو بإملاء السادة عليها، فإنها لأخيب من ذلك في تفسير هذه النشأة بإملاء الديانات التي سبقت الإسلام، واتصل أتباعها بالجزيرة العربية، فإن اليهود كانوا يدينون بأن إسرائيل شعب «يهوا» وأن يهوا إله إسرائيل، وأن أبناء إبراهيم من سلالة إسحاق هم دون غيرهم المفضلون بموعد الرضوان، ولما ظهرت المسيحية بين أبناء إسرائيل، توجهت بالدعوة إليهم أول الأمر؛ لأنها تحمل البرهان إليهم في مواعيد الأنبياء التي يدينون بها، واتفق في أوائل الدعوة - كما جاء في إنجيل متى وإنجيل مرقس - «أن امرأة كان بابنتها روح نجس سمعت بالسيد المسيح فأتت وخرجت عند قدميه، وكانت أممية وفي جنسها فينقية سورية، فسألته أن يخرج الشيطان من ابنتها، فقال لها: دعي البنين أولا يشبعون. ليس حسنا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب. فأجابت وقالت: نعم يا سيد! والكلاب أيضا تحت المائدة تأكل من فتات البنين، فقال لها: لأجل هذه الكلمة اذهبي، قد خرج الشيطان من ابنتك.»
وأصرت إسرائيل على الإعراض عن الدعوة المسيحية، فاتجه بها السيد المسيح إلى الأمم وضرب المثل لهم بالمدعوين إلى وليمة يرفضونها، فيشهدها من حضرها بغير دعوة: «إذ أرسل الداعي عبيده في طلب ضيوفه فقال هذا: إني اشتريت حقلا وعلي أن أخرج فأنتظره، وقال ذاك: إني اشتريت أزواجا من البقر وسأمضي لأجربها، فغضب السيد وقال لعبده: اذهب عجلا إلى طرقات المدينة وأزقتها وهات إلي من تراهم من المساكين. فعاد العبد وقال لسيده فعلت كما أمرت، ولا يزال في الرحبة مكان.
قال السيد: فادع غيرهم من أعطاف الطريق وزواياه حتى يمتلئ بيتي، فلن يذوق عشائي أولئك الذين دعوت فلم يستجيبوا الدعاء.»
ثم انتشرت الدعوة في غير بني إسرائيل، وكان من استجاب لها أولى بها ممن أعرض عنها؛ لأنهم أصبحوا «أبناء إبراهيم بالروح.»
ثم جاء الإسلام من جوف الجزيرة العربية ليعم بالدعوة أبناء آدم كافة، ومنهم أبناء إبراهيم بالجسد وأبناؤه بالروح، فلم يكن في نشأته ما يفسره إملاء السوابق الدينية، أو يفسره إملاء البيئة العربية، وجاء مع دعوته الإنسانية بآدابه الاجتماعية أو الفردية، التي يكابر المتعنت في تعنته ما استطاع المكابرة، ولا يستطيع أن يفسرها بممالأة الأغنياء والمحتكرين، أو بأنها خدر للنفس يروضها على الذل والاستكانة، أو يلهيها عن الدنيا بخيال الآخرة، فإن الفجوة الواسعة بين حقائق الإسلام، وهذه التفسيرات المادية تلوح للناظر من اللمحة الأولى، ولا تجشمه أن يتعمق إلى قرارها.
وكأنما قضي على الفلسفة المادية أن تبتلى بكل حجة من قبل الإسلام على أوفاها، فلا توسط بين حقيقة الإسلام وبين فروض الفلسفة المادية: دعوة عالمية من طرف تقابلها من الطرف الآخر تبعة فردية يستقل بها الإنسان في طويته، كأنه وحده عالم قائم بنفسه.
كل نفس بما كسبت رهينة ،
ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ،
لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ،
قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل .
إن هذه التبعة تكليف لا يدين به ضمير يتعاطى من الدين خدرا يذهله عما حوله وينسيه ما هو حق له وما هو واجب عليه، وحسب الإسلام عند الشيوعية أنه يفندها هذا التفنيد الصادع في جميع مقوماته ليستحق منها عداوة شديدة، تخصه بها الأديان العالمية التي يتبعها ملايين الخلق في الزمن الحاضر، إلا أنها - على هذا - كانت تعمه وسائر الأديان بعداوتها، ولا تميزه بعداوة خاصة، وهي في دور الدعوة وترويج النظريات، وظلت كذلك حتى دخلت في دور التطبيق، وحلت محل القيصرية الروسية في علاقاتها بالعالم الآسيوي داخل بلادها وعلى تخومها، فاستجد لها من أسباب العداء له سبب أقوى لديها من كل سبب؛ لأنها وجدت فيه نظاما اجتماعيا يتعرض لكل مشكلة من مشكلاتها، ولم تجد مثل هذا النظام لملة من الملل التي تعاملها، وتجتهد في نشر الدعاية بين أبنائها.
فالنظام الاجتماعي - أو السياسي - الذي أخذت به اليهودية قبل عشرين قرنا لا يسري اليوم على بقعة من الأرض، ولا يخشى منه على الدعاية الشيوعية في المستقبل، والمسيحية قد نشأت بين مزدحم الشرائع والنظم السياسية من جانب الهيكل وجانب الدولة، فتركت معترك السياسة، وقصرت دعوتها على الأخلاق والعبادات.
أما الإسلام فقد نشأ في بيئة يتركها للفوضى والاختلال إن لم يأخذها بنظام واف من نظم الحكم والتشريع، وقد أخذها بهذا النظام، وأودعه من دواعي التوفيق ما يلائم الزمن بعد الزمن والبيئة بعد البيئة، ولا يضيق فيه باب الاجتهاد كلما وجب الرجوع إليه في أحوال غير الأحوال التي نشأت فيها الدعوة الإسلامية. وجاء القرن العشرون ولم تفارقه مرونته التي تصلح للحياة العصرية ولا تستعصي مع الزمن على التجديد، ولا يخفى أن العهد بالأديان العالمية التي يتبعها الملايين أنها تملك هذه الحيوية لتعيش بها في الأجيال المتعاقبة، أو تفقدها، فتنحل وتزول ويخلو مكانها لدعوة من الدعوات كيفما كانت، أو تتخبط في مكانها بين الإنكار والشك والبوار، فكانت للإسلام هذه الحيوية التي أعيت خصومه في حرب الاستعمار وحرب الإلحاد والإنكار.
ومن أجل هذه الحيوية، جردوا له كل ما تجرده الدولة ذات المذهب على خصوم مذهبها، وشنوا عليه حملة شعواء من أشنع حملات القمع والاضطهاد، وحملة أخرى في مثل شناعتها من حملات التشويه والتشريد مع تكميم الأفواه عن المناقشة أو الدفاع.
ونحن لا نستقصي في هذا الكتاب أخبار القمع والاضطهاد التي ترامت إلينا من أرجاء العالم الإسلامي في القارة الآسيوية؛ لأن استقصاء هذه الأخبار موكول إلى مقصد آخر غير مقصدنا من بحوث هذا الكتاب، وهو مناقشة المبادئ والآراء، والإبانة عن مواطن الضعف والخلل في أساسها الذي تقوم عليه. وقد يغنينا عن استقصاء تلك الأخبار في عرض الطريق أن نشير إلى «مصادرة» الفريضة، التي تظهر مصادرتها على البعد، ولا يجدي فيها التكذيب والتمويه، تلك هي فريضة الحج في كل عام، فإن حجاج الأمم الإسلامية كانوا يلتقون في مكة بالألوف من أبناء الأقطار الأوربية والآسيوية الذين كانوا يخفون إلى الأماكن المقدسة كل عام قبل قيام الدولة الشيوعية، فلما قامت هذه الدولة امتنع وفودهم سنوات، ثم وصل منهم من استطاع الوصول بعد ذلك، فلم يجاوز عددهم ثلاثين أو أربعين حاجا في كل مرة، كان يبدو عليهم أنهم يحسون فيما بينهم رقابة شديدة عليهم، وأنهم ربما كانوا مندوبين لغرض يحملون عليه غير أداء الفريضة.
وتلاحقت - في خلال حملة القمع والاضطهاد - تلك الحملة الأخرى من حملات التشهير والتشويه، ونمت عليها أقوال الصحف والنشرات، وبعض الكتب الموسوعة التي تقضي عليها مادتها باستيعاب موضوعاتها، ومنها موسوعة الثقافة الشيوعية، فإنها وصمت الإسلام بوصمة الرجعية ومعاونة الاستغلال، واعتبرته من عقبات التقدم وموانع الحضارة العصرية، وأفردته بالعداوة التي تستحقها كل عقيدة تصلح لمنازعة المذهب المادي على ضمير الإنسان. •••
وما كانت الخصومة الشيوعية لتتورع عن الدعاية الرخيصة، كلما أعوزتها أسانيد الدعاية المقنعة؛ لأن القناع سابق للدعاية في خطط الشيوعية، وأرخص ما تكون دعايتهم إذا آنسوا العجز عن إقناع خصومهم، ومن هذا القبيل كانت حملة التشهير والتشويه التي اصطنعوها في دعايتهم على الإسلام، فليس لها من معنى يخرج به القارئ من جملتها وتفصيلها غير معنى واحد، وهو أن الإسلام لم يتنزل في القرن العشرين.
فما كان دين من الأديان ليهاجم بدعاية أرخص من هذه الدعاية المفروغ منها؛ لأن الأديان لا توجد لتلغى وتعاد كل صباح ومساء، فإما أن توجد لتدين أمة في أجيالها المتعاقبة، أو لا توجد على الإطلاق، ولا يتصور لها وجود، وإذا كان طول الأجل مأخذا على الدين، فالإسلام لا يؤخذ بهذا المأخذ الهزيل؛ لأنه آخر الأديان الكتابية في تاريخ الظهور.
إنما تؤخذ على الإسلام آدابه وفرائضه التي جاء بها يوم ظهوره، وإنما تؤخذ عليه هذه الآداب والفرائض إذا جاءت رجعية في حينها لا تصلح شيئا مما تصدت لإصلاحه، ولا تفتح في الغد طريقا للمصلحين.
ولم يكن الإسلام كذلك من وجهته العامة، ولا كان كذلك من وجهة المآخذ التي أحصاها الشيوعيون، وأهمها الرق وتعدد الزوجات وحدود العقاب وشروط المعاملات الاقتصادية، وسنرى أن الإسلام لم يأت بحكم من الأحكام في مسألة من هذه المسائل إلا كان فيه إصلاح للحالة التي كان عليها في عصر الدعوة، وحض على الإصلاح في العصور المباشرة التي تليه.
فالإسلام لم يشرع الرق الذي كان مشروعا قبله في جميع الأديان الكتابية، وكان الفيلسوف «أرسطو» يسوغه بآرائه الاجتماعية والسياسية، وقسم الجنس البشري إلى فريقين: فريق يعمل بعقله ومشيئته، وفريق يؤدي للفريق الأول أعماله كما تؤديها الآلات.
لم يشرع الإسلام الرق، بل شرع العتق وحض عليه، وجعله من وسائل القربى والتكفير عن السيئات.
وما أباحه الإسلام من الرق لا يزال مباحا إلى اليوم بين أمم الحضارة في حروبها، فإن الأسرى يعتقلون ويسخرون في العمل، ولا تفك قيودهم إلا بالمبادلة أو سداد الغرامة والتعويض، وهذا هو الرق الذي أباحه الإسلام، وأوجب معه المن بالعفو أو الفكاك أو المكاتبة:
فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها .
ولا يبيح الإسلام استرقاق الأسير في كل قتال، بل يشترط في القتال أن يعلنه الإمام مع عدو لا ذمام معه ولا معاهدة، ويأمر بمعاملة الأسرة معاملة لا يحلم بها أسير في حرب من حروب الحضارة الحديثة، وينهى أن يذكره صاحبه فيسميه «عبدي» مؤثرا على هذه التسمية الزرية أن يدعوه ب «فتاي»، كما يدعو ابنه في كثير من الأحيان.
وإذا كان الإسلام لا يسوي بين الأحرار والعبيد في جميع الحقوق، فالأسرى في العصور الحديثة لا حقوق لهم ولا مساواة بينهم وبين من يأسرونهم ما داموا على ذمة الفكاك أو الفداء، وغاية الفرق بين العصر الحديث والعصر القديم أن الدول في هذا العصر تتولى المبادلة على الفداء بعد معاهدة الصلح بين الغالب والمغلوب، وأما في العصور الغابرة فلم تكن للدول عناية بهذه المبادلة ولا بالتعاهد على الصلح في جميع الأحوال، ومن لم يفده أهله من الأسرى فلا شأن به للدولة التي كان ينتمي إليها، ولا استثناء لذلك في شرائع الحرب والسلم إلا بعد قيام الدولة الإسلامية، وتفرقتها بين الأمم المسالمة والأمم المعاهدة والأمم المقاتلة، فإن الدولة الإسلامية قد أوجبت على الإمام فكاك الأسرى من جنوده ما استطاع. •••
والنظام الاجتماعي الذي جاء به الإسلام قد صنع في مسألة تعدد الزوجات ما قد صنعه في مسألة الرق، حالة سيئة تعانيها المرأة من حرمان المجتمع والقانون أصلحها الإسلام ومهد لمسايرة التقدم الطبيعي الذي يأتي مع الزمن من ضروب الإصلاح.
وعلينا قبل الاستطراد إلى الكلام عن مركز المرأة في الإسلام أن ندفع وهما يعلق بالأذهان عن الأديان الكتابية وتعدد الزوجات، فإن الشائع بين الغربيين والمتفرنجين من الشرقيين أن الإسلام هو الدين الكتابي الوحيد الذي لم يحرم تعدد الزوجات، وذلك وهم يخالف النصوص ووقائع التاريخ، فإن تعدد الزوجات بغير قيد هو القاعدة الغالبية في زواج الآباء والأنبياء الذين ذكرت زوجاتهم في كتب العهد القديم، وليس في الأناجيل نص على تحريم ما أباحه العهد القديم، ولكن الآباء الأوائل في المسيحية كانوا يحثون على الرهبانية، ويستحسنون للأسقف أن يكتفي بزوجة واحدة إذا لم يستطع أن يترهب؛ لأن شرا واحدا أهون من شرين. وقد أفتى القديس «أوغسطين» في كتابه عن الزواج الأمثل بإباحة التسري لمن عقمت زوجته وثبت عليها العقم، وحرم مثل ذلك على المرأة التي يعقم زوجها؛ لأن الأسرة لا يكون لها غير سيد واحد، وكان لشرلمان أولاد شرعيون من عدة زوجات معترف بهن، وبحث المشرع المشهور «جورتيوس» موضوع تعدد الزوجات من الناحية الفقهية، فصوب شريعة الآباء في العهد القديم، وقال «وسترمارك» المؤرخ الحجة في شئون الزواج: إن الكنيسة والدولة كانتا تقران تعدد الزوجات إلى القرن السابع عشر، وكان يقع غير نادر في الحالات، التي لا تحفظ في سجلات الكنيسة أو الدولة.
فالإسلام لم ينفرد بين الأديان الكتابية بإباحة تعدد الزوجات، ولم يوجبه على أحد لأنه أباحه، بل أوجب على الزوج أن يعدل في المعاملة إذا بنى بأكثر من زوجة، وصرح القرآن الكريم بصعوبة العدل بين النساء
ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم .
فحكم الإسلام في تعدد الزوجات هو الحكم المطلوب من كل شريعة تقابل كل حالة محتملة، ولو وقعت في كل ألف حالة حالة واحدة، يكون فيها تعدد الزوجات خيرا من الطلاق أو من العقم، لعيب على الشريعة أن تتجاهلها ولا تحسب حسابها، وإنه لمن السخف أن يقال: إن تطليق الزوجة المريضة أو قبول العقم أفضل في جميع الأحوال من الجمع بين زوجتين، وإنه لأسخف من هذا أن يقال: إن متاجرة المرأة بعرضها عند التفاوت بين عدد الرجال والنساء أكرم من تعدد الزوجات، وإنه لمن التعاق السمج أن يقال: إن الإغضاء عن الإباحة الفعلية يجعل الشريعة صالحة لقديسين يبنون بقديسات، ويجعل الدنيا سماء للملائكة، لا يقع فيها إلا ما ينبغي أن يقع في السماوات، وأنه ما على الشريعة إلا أن تقول: إن الناس كذلك ليكونوا طائعين أو راغمين، ثم يعلموا أنهم كذلك، وهم يعلمون رجالا ونساء أن الزواج الذي يخرج عليه الزوجان معدود بعشرات الألوف.
ولقد يعذر من يرى أن الزواج علاقة لذة ومتعة جسدية، إذا أغضى عن الفارق الطبيعي بين الجنسين، ويعذر مثله من يرى أن انقطاع النسل فضيلة في حالتي الرهبانية والزواج، ولكنه لا عذر لمن يؤمن بأن الزواج للنسل، ثم يتجاهل التفرقة الطبيعية بين وظيفة الذكر ووظيفة الأنثى في الحياة النوعية، فإن هذه التفرقة لا تهمل كل الإهمال إلا تباعد ما بين الطبيعة وبين المجتمع من وشائج الحياة، وليس من المطلوب أن يلد الرجل من مئات النساء، ولكنه لا يكون في جميع الأحوال كالمرأة التي لا تلد إلا من رجل واحد في عدة شهور. •••
قلنا: إن الإسلام قد عالج تعدد الزوجات، كما عالج الرق في عصر الدعوة: حالة سيئة أصلحها، وتطور منظور مهد له وأشار إليه، ولم يضع قط عقبة في طريقه، والحالة السيئة التي أصلحها الإسلام أن تعدد الزوجات، كان مباحا مطلقا من كل قيد في البلاد العربية وفيما جاورها، وكان رأي المرأة في الزواج مهملا لا يعتد به سواء خطبت لرجل متزوج أو غير ذي زوج، فقيد الإسلام هذه الإباحة المطلقة، وجعل للمرأة رأيا مشروطا في زواجها، ونبه الرجل الذي يتزوج بأكثر من واحدة إلى وجوب العدل في المعاملة، ثم نبهه إلى صعوبة العدل وفضيلة الاكتفاء بزوجة واحدة
فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة .
ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم .
إصلاح ليس بالقليل، ولا ينبغي أن يحسب قليلا حتى في موازين المستغلين له من دعاة القرن العشرين، فإنهم لخلقاء أن يسألوا أنفسهم: هل كان من المفيد تحريم تعدد الزوجات لو أراد أحد تحريمه، ولم يقنع يومئذ بذلك الإصلاح؟ ما كان ذلك التحريم بالجد الذي يقدم عليه مشرع في شئون الاجتماع، وما كان له من وصف يوصف به، إلا أنه عبث تتنزه عنه حكمة التشريع، ولن يكون التحريم إلا عبث عابث حين تكون الإباحة حكما عالميا، قد انعقد عليه إجماع الشرائع والعادات والأديان.
وربما كان العمل المنتج في هذا الإصلاح منوطا بإسناد حق الموافقة إلى المرأة قبل البناء بمن يخطبها، سواء كانت ولية أمرها، أو كان لها ولي ينوب عنها، والنبي عليه السلام يقول: «لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا البكر حتى تستأذن»، وقال: «الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها.»
فهذا الحق ينقل أمر إنصاف المرأة إلى يديها، فإن قبلت تعدد الزوجات راضية، فهي أولى باختيار ما يرضيها، وإن قبلته لضرورة لا محيص عنها، فوجود هذه الضرورة في المجتمع رد كاف على من يتغافل عنها ولا يلتفت إليها، وما كانت المرأة لتقبلها يوما، إلا وهي توقن أن قبولها أوفق لها من رفضها. •••
على أن تعدد الزوجات على إطلاقه قبل الإسلام، لم يكن يضيم المرأة كما كان يضيمها قضاء الذلة التي رانت عليها في شعوب الحضارة وشعوب البداوة على السواء، وكانت بعض الحضارات - كالحضارات المصرية القديمة - تميل إلى إنصافها في حقوق الأسرة والمجتمع، ثم شملتها النكسة العامة التي غمرت العالم الإنساني في الحقبة التي مرت به من القرن الثاني قبل الميلاد إلى القرن السادس بعده، إذ كان هذا العالم الإنساني قد غثيت نفسه بمساوئ الترف المادي والانحلال الخلقي، فخرج منها بعقيدة احتقار الجسد، وتصوير المرأة في صورة النجاسة المحذورة؛ لأنها عنوان المتعة الجسدية والشهوات الحسية، فهبطت في معيار الأخلاق والعقائد إلى حطة النجاسة، وبقيت في معيار التشريع حيث أبقتها أم الشرائع في العصور القديمة - دولة الرومان - ولم تزد في شريعتها كثيرا عن منزلة الرقيق المملوك الذي لا يستقل عن مشيئة رب الأسرة بحق من الحقوق.
وأما في بلاد العرب فقد كانت للمرأة حالات تتراوح بين الكرامة والمهانة، أحسنها لم يرتفع عن حالة الطفل القاصر في رعاية أهله، وأسوأها تدل عليه عادة وأد البنات خشية العار أو خشية الإملاق، فهذه الحالة العامة في شعوب الحضارة والبداوة هي التي أنقذها منها الإسلام؛ لأنه رفع عن الجسد وصمة النجاسة، ورفع عن المرأة وصمة العار، ووهب لها في المعاملات حقوق الشخصية المستقلة التي تملك ما عندها، وتملك أن تنيب عنها من يديره لها، ولو لم يكن وليها أو قريبها، وفرض لها المساواة المثلى التي تستقيم مع اختلاف الجنسين، ولم يحرمها من المساواة إلا ما يعد الحرمان منه نوعا من الإعفاء عند تقسيم العمل بين الجنسين المختلفين. •••
والمساواة المثلى هي العدل الذي لا ظلم فيه على أحد، ولهذا لم يستطع فقهاء التعريفات أن يجعلوها مساواة في الواجبات؛ لأن المساواة في الواجبات مع اختلاف القدرة عليها ظلم قبيح، ولم يستطيعوا أن يجعلوها مساواة في الحقوق؛ لأن المساواة في الحقوق مع اختلاف الواجبات ظلم أقبح من ذلك؛ لأنه إجحاف يأباه العقل، وإضرار يحيق بالمصلحة العامة، كما يحيق بمصلحة كل فرد من ذوي الواجبات والحقوق.
وقوام الأمر إذن أن تكون المساواة العادلة مساواة في الفرص والوسائل، فلا يحرم إنسان فرصته لإحراز القدرة، التي تمكنه من النهوض بواجب من الواجبات، ولا يحرم وسيلته التي يتوسل بها إلى بلوغ تلك الفرصة ما استطاع من وسائل السعي المشروع.
والمساواة في الفرص مفهومة بين أبناء الجنس الواحد؛ لأنها ممكنة في حدود الوظائف الطبيعية، وأما غير المفهوم فهو المساواة في الفرص بين جنسين مختلفين في التركيب والاستعداد، وفيما ثبت من الواقع في تواريخ جميع الأمم، وفيما يتطلبه المجتمع من تقسيم العمل بين هذين الجنسين.
هذا الاختلاف واقع دائم لا حيلة فيه لأصحاب التعريفات أو أصحاب الدعايات السياسية، ولا تجدي في إلغائه وإلغاء دلالته تعلة من التعلات التي يردونه إليها، فلا ينتهون منها إلى غير السفسطة والمحال.
فكل ما يقال في تعليل ذلك راجع إلى علة واحدة، وهي تفوق الرجل على المرأة في القدرة والتأثير على العموم، فليست جهالة القرون الأولى بسبب صالح لتعليل هذه الفوارق العقلية بين الرجال والنساء في جميع الأمم؛ لأن الجهل كان حظا مشتركا بين الجنسين ولم يكن مفروضا على النساء وحدهن دون الرجال، ومن زعم أن الرجل فرض الجهل على المرأة فقبلته وأذعنت له، فقد قال: إنه أقدر من المرأة، أو إنه أحوج إلى العلم وأحرص عليه منها. وليس الاستبداد في القرون الأولى سببا صالحا لتعليل تلك الفوارق؛ لأن استبداد الحكومات كان يصيب الرجل في الحياة العامة، قبل أن يصيب المرأة في حياتها العامة أو حياتها البيتية، ولم يمنع الاستبداد طائفة من العبيد المسخرين أن ينبغ فيهم العمل الصالح والشاعر اللبق والواعظ الحكيم والأديب الظريف.
وليس عجز المرأة عن مجاراة الرجل في الأعمال العامة ناشئا من قلة المزاولة لتلك الأعمال؛ لأنها زاولت أعمال البيت ألوف السنين ولا يزال الرجل يبزها في هذه الأعمال كلما اشتغل بصناعاتها، فهو أقدر منها على الطهو وعلى التفصيل وفنون التجميل وتركيب الأثاث وكل ما يشتركان فيه من أعمال البيوت. وقد يرجع الأمر إلى الخصائص النفسية فيحتفظ فيها الرجل بتفوقه على الرغم من استعداد المرأة لتلك الخصائص من أقدم عصور التاريخ، فالنواح على الموتى عادة تفرغت لها المرأة منذ عرف الناس الحداد على الأموات، ولكن الآداب النسوية لم تخرج لنا يوما قصيدة من قصائد الرثاء تضارع ما نظمه الشعراء الرجال سواء منهم الأميون والمتعلمون، وقد كان أكثر الشعراء في العهود القديمة من الأميين. بل هناك خاصة نفسية لا تتوقف على العلم ولا على الحرية ولا نوع العمل أو الوظيفة في المجتمعات أو البيوت وهي خاصة الفكاهة وخلق الصور الهزلية والنكات التي يلجأ إليها الناس حين يحال بينهم وبين التعبير الصريح.
وربما كان الاستبداد أو الضغط الاجتماعي من دواعي تنشيط هذا السلاح النفسي في قرائح المستعبدين والمغلوبين؛ لأنه السلاح الذي ينتقم به المغلوب لضعفه والمنفذ الذي يفرج به عن ضيقه وخوفه، وقد كان ضغط الرجال على النساء خليقا أن يغريهن باستخدام هذا السلاح لتعويض القوة المفقودة والانتقام للحرية المسلوبة، ولكن الآداب والنوادر لم تسجل لنا فكاهة واحدة أطلقها النساء على الرجال، كما فعل الرجال المغلوبون في الأمم الحاكمة أو المحكومة على السواء، أو كما فعلوا في تصوير رياء المرأة واحتيالها على إخفاء رغباتها وتزويق علاقاتها بالرجال، وهذه الملكة - ملكة الفكاهة - خاصة نفسية لم يقتلعها من طبائع الرجال ظلم ولا جهل ولا فاقة ولا عجز عن العمل في سبيل الحياة، فمن اللجاجة أن يتجاهل المتجاهلون هذه الفوارق وهي أثبت من كل ما يثبته العلم والعلماء، وما كان للعلم أن يوجد شيئا لم يكن له وجود في الواقع أو في تفكير العقول، وإنما هو أبدأ في مقام التسجيل أو مقام التفسير.
1 •••
إن هذه الاعتبارات موضوعة حتما بين يدي كل تشريع يتحرى مصلحة المجتمع في حاضره ومستقبله، ومتى نظر التشريع إلى هذه الاعتبارات، فإنه لا يقيم العدل بين الجنسين على أساس المساواة في الفرص ولا على مطالبة كل منهما بواجبات كواجبات الآخر أو تخويله حقوقا كحقوقه، وليس أمامه من أعدل الجنسين غير العدل على أساس تقسيم العمل بينهما، كما يتوفر عليه كل منهما، وهذا هو العدل على سنة المساواة بين الواجبات والحقوق، وأن تكون حقوق الجنس مكافئة لواجباته، وواجباته مكافئة لحقوقه. ومن الهزل - لا من الجد في شيء - أن نعلم أن تربية البنين وتنشئة الجيل الجديد وتنظيم البيت والأسرة واجب على المرأة قبل الرجل، ثم نزعم أنها مساوية له إذ تقوم بهذا الواجب وتقوم بأعباء الرجل في الأعمال العامة على السواء.
وعدل المساواة بين الواجبات والحقوق هو عدل الإسلام في بيان حقوق المرأة وحقوقها هي على الرجل وحقوق الرجل عليها
ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة ،
الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم .
وإن تقسيم الواجبات والحقوق في الإسلام على هذا القسطاس لهو تقسيم الفطرة الذي نرجع إليه قسرا كلما شردنا عن طريقه، وما نخال أن تقسيم الفطرة مجهول بعد تقرير مكان المرأة الطبيعي في القيام على شئون البيت وتربية الجيل الجديد، ومن حقها إذن على الرجل أن يتولى الإنفاق عليها وعلى البيت، إذ كانت لا تستطيع أن تعول أبناءها وتكدح لنفسها.
نعم، إن المرأة في المجتمعات الحديثة تضطر إلى العمل لكسب معيشتها، إلا أن هذا الاضطرار خلل في المجتمع يؤسف له ولا يغتبط به ولا يبنى عليه قوام الحاضر والمستقبل، وقديما كان الطفل الصغير مضطرا إلى العمل لكسب معيشته، فلم يكن هذا فضيلة للمجتمع الذي يحدث فيه تستوجب التشجيع والإقرار، وتستقيم عليه أسس التربية والتشريع، بل كان خللا وخيم العاقبة تتضافر الجهود على سداده وتحريمه، وتحاربه الشرائع والآداب على الرغم من الاضطرار إليه في كثير من الأحوال.
وإن الخلل الذي يلجئ المرأة إلى السوق وإلى المصنع وإلى معارك الحياة العامة لحقيق بمثل هذه المحاربة، ومفروض علينا أن نجعل القضاء عليه أملا ننشده ولا نجعله إنكارا لحقوق المرأة وانتقاصا من كرامتها، وهكذا تستوي مصالح المجتمع على جادتها أو تنقلب على من ينسخونها - ويمسخونها - كما تنقلب قوانين الفطرة على كل خارج عليها.
وبعد أربعين سنة من اللغط «بالرجعية» في الإسلام والتقدم في المذهب المادي القائم على العلم ورعاية القوانين الطبيعية في زعم أصحابه، يحق للناقد المسلم أن يبتسم، وهو يرى في كل يوم ضربة من ضربات الفطرة ترتد بالسخرية على من يخرجون عليها، ونقرأ في خطب الفلاسفة الماديين كلاما عن الأسرة - الملعونة في عرف الماديين - يقيم عليها دعائم المجتمع الصناعي الذي ينبغي أن يعصف بالأسرة عصفا إذا صح ما قدره له «كارل ماركس» وأتباعه، ويقول لنا الفيلسوف «خارشيف» من خطاب للشبان الشيوعيين أذيع في الثلاثين من شهر يناير سنة 1956: «إن الأسرة السوفيتية الناشئة تخلق من أجل العمل المشترك على مصلحة الوطن، كي تزوده بأبناء وبنات مجتهدين مخلصين، وإن سعادة الأسرة لن تنفصل عن سعادة المجتمع الاشتراكي وجهوده.»
وأدعى من ذلك إلى الابتسام قول الزعيم «خروشيشف» في تقريره للمؤتمر العشرين من مؤتمرات الحزب الشيوعي كما نشرته «برافدا» في الخامس عشر من فبراير سنة 1956:
إننا لا نستطيع أن نتجاهل الحقيقة الواقعة التي تلاحظ في هيئات كثيرة من هيئات الحزب الشيوعي، وهي الحذر من ترشيح النساء للمراكز الرئيسية. فإن عدد النساء قليل جدا بين أصحاب المراكز الموجهة في الأعمال السوفيتية، ولا سيما مراكز السكرتارية في اللجان ومراكز الرئاسة في اللجان التنفيذية والمشروعات الصناعية والحقول المشتركة وحقول الدولة.
ولم يلاحظ هذا الحذر في مجتمع يدين بالرجعية الإسلامية، وتعينه حدث في مجتمع مضى عليه أربعون سنة يغتصب التسوية اغتصابا بين الرجل والمرأة وينشأ أبناء الأربعين وبنات الأربعين فيه وما سمعوا قط شيئا غير «أوامر» المساواة بين الجنسين في المدرسة والمصنع والطريق والبيت، وما اجترأ قط على التشكيك في هذه المساواة بين أبنائه وبناته أحد يريد أن يأمن على حياته من تهمة النكسة والخيانة واستعادة الآداب الغابرة التي قام عليها الاستغلال في بلاد رأس المال. •••
وستمضي أربعون سنة أخرى بعد هذه السنين الأربعين التي مضت على وضع الشريعة الماركسية في موضع التنفيذ، وسيبتعد العالم مسافة أخرى من أحكام هذه الشريعة كلما خرجت من دور النبوءات والنظريات ودخلت في دور الوقائع والمحسوسات، وسيكون ابتعاد العالم عنها في المستقبل أعجل وأسرع من ابتعاده عنها فيما مضى؛ لأن حماسة الإيمان بها كانت تصمد للحوادث حينما يطيل أجلها على غير طائل، ولن يقوى هذا الإيمان المتهافت بعد اليوم على صدمات الحوادث في الداخل والخارج إلا من قبيل تغطية الهارب لمهربه إن بقيت به حاجة إلى التغطية، بعد انكشاف الأمر وشيوع التفاهم على بطلان المذهب بين دعاته وأدعيائه.
وسيرثى غدا لمن يبقى بعد هذا الزمن متعلقا بحباله الرثة محتجا به على نظام من النظم الدينية أو الوضعية، فما من نظام سيكون غدا أبعد من النظام الماركسي عن حقائق الأمور، وسيبقى من الإسلام على التخصيص ما كان باقيا قبل ظهور المادية التاريخية وبعد احتجابها، فيزول المذهب الذي قالوا: إنه مذهب العصر والعلم والتقدم إلى المستقبل بغير نهاية، ويبقى المذهب الذي قالوا إنه قد لحق بأمس الدابر فليس له من الغد نصيب. ويتمارى غدا من يتمارى في شأن الأسرة والمرأة بعد الشوط الطويل الذي يعبره العالم اليوم مترددا مختلفا على نظام الأسرة وحقوق المرأة أو حقوق الجنسين، ولكنه لا يتمارى في جناية المذهب المادي على الأسرة وجنايته من ثم على المجتمع في حاضره ومصيره، ولن يتمارى في حقيقة النظام الذي ينقذ المرأة من براثن الاستغلال والابتذال، فلن يكون خلاصها من الاستغلال على يد النظام الذي يرسلها إلى الأسواق والمصانع ومعارك السياسة والكفاح، ولن تخلص من الاستغلال إلا إذا ملكت بيتها أما وربة أسرة وسيدة للعالم الصغير الذي ينشأ منه الغد ويسكن إليه الحاضر من وعثاء الكفاح في الأسواق والمصانع ومعارك السياسة.
والشيوعي الذي يرثى له غدا حين يحتج ببقايا مذهبه على النظام الإسلامي في شأن المرأة، سيرثى له من اليوم حين يحتج ببقايا مذهبه على النظام الإسلامي في شئون المعاملات، فكل منتقد لهذا النظام يستطيع أن يقول شيئا إلا جماعة الشيوعيين أصحاب الآراء المعروفة في رءوس الأموال واستغلالها في أيدي المرابين والمتجرين بالنقود، فإن الذين يزعمون أن الإسلام لا يصلح للمعاملات العصرية قد جمعوا أسبابهم كلها في مسألة المصارف والقروض، أو فيما سموه مسألة الربا على غير فهم لأحكام الإسلام فيه.
وهؤلاء لهم كلام يقولونه في هذا الصدد، إذ لا كلام فيه لأحد من الشيوعيين، لأن هؤلاء الشيوعيين قد تطول ألسنتهم في كل مجال ولا تستطيع أن تطول في هذا المجال، مع فلسفتهم المعلومة عن رءوس الأموال وعن الاستغلال وبيع النقد كما تباع السلع لفائدة أصحاب «الأعمال» وعلى حساب طوائف العمال!
فماذا يقول الشيوعي إذا أراد أن ينقد الإسلام في تحريمه الربا والاتجار بأعيان النقود؟ إنه يسكت السكوت الذي يستحق الرثاء، فإنه ليقف هنا موقف العاجز عن تحريك لسانه بالثناء ، وهو لا يريد الثناء، أو بالمذمة والتجريح ولا وجه عنده لمذمة أو تجريح.
لقد حرم الإسلام الاتجار بأعيان النقود، كما حرم أكل الربا أضعافا مضاعفة، وما من شريعة عصرية تبيح اليوم ما حرمه الإسلام على المرابين، وهي آمنة على سلامة المجتمع من الخراب أو من الفتنة والاضطراب، فأما المعاملات التي لا ضرر فيها على أحد ولا اتجار بالنقد في غير عمل، فليس للإسلام فيها حكم غير حكم القانون الصالح أينما كان، وأنى يكون. •••
ومسألة الحدود الجنائية أدق المسائل بعد مسألة الرق ومسألة المرأة ومسألة المعاملات، ودقتها أنها مسألة فقهية للفقهاء وولاة الأمور، وليس قصارى الأمر فيها أنها مسألة من مسائل الشعائر والمعتقدات.
وهذه المسألة الفقهية الدقيقة تتشعب فيها شروح الفقهاء من حيث تعدد الحدود والجنايات، وتتعدد الشروط والأركان، وتتعدد الأدلة والشبهات، فيقع فيها اللبس الكثير، كما يقع في عموم المسائل الفقهية، ويخطئ المسلم الجاهل دقائق الرأي فيها، كما يخطئها الجاهل بالإسلام من الأجانب عنه أحسن النية أو أساء.
والإفاضة في البحوث الفقهية ليست من أغراض هذا الكتاب، وقد نستوفي أغراضه إذا نبهنا إلى منافذ الخطأ في فهم النظام الاجتماعي الذي جاء به الإسلام، وفهم نظام العقوبات على التخصيص، وهذا ما ننبه إليه بالإيجاز في الأسطر التالية.
إننا نسمع على الدوام أن عقوبات الشريعة الإسلامية ينبغي أن تطابق أحوال القرن العشرين، ونقول: نعم، ولا نحسب أن أحدا يقول غير ذلك، ولكن الألزم من ذلك أن تكون مطابقة للبيئة التي تنزلت فيها وللزمن الذي تنزلت فيه.
وقد تنزلت الشريعة الإسلامية في الجزيرة العربية على عهد الجاهلية، يوم كانت شريعتها الغالبة بين جميع القبائل شريعة الغارات التي تستباح فيها دماء المغلوب وأمواله ونساؤه، وكل مملوك له في حوزة الفرد أو حوزة القبيلة، وكان أهل الكتاب يدينون بشريعة موسى التي لم يبطلها السيد المسيح، ولها حدود مفصلة في التوراة وقصاص تؤخذ فيه العين بالعين والسن بالسن، كما ذكرها القرآن الكريم.
فإذا جاء الإسلام بعقوبات لا تصلح لعصر الدعوة لم يعط التشريع حقه في ذلك العصر ولا في العصور التالية، ولكنه يعطي التشريع حقوقه جميعا إذا صلح لزمانه، ولم ينقطع صلاحه لما بعده، ولم يمتنع فيه باب الاجتهاد عند اختلاف الأحوال، فيشتمل جزاؤه على جنايات الحدود والقصاص، وعلى الجنايات التي تستحدثها أحوال المجتمعات، ويأخذها الشارع بما يلائمها من موجبات الجزاء.
وهذا ما صنعه الإسلام في جنايات الحدود والقصاص، وفي غيرها من الجنايات التي تدخل عند الفقهاء في باب التعزير، وعلينا أن نذكر:
أولا:
أن الحدود مقيدة بشروط وأركان، لا بد من توافرها جميعا بالبينة القاطعة، وإلا سقط الحد، أو انتقل إلى عقوبات التعزيز، إذا كان ثبوته لم يبلغ من اليقين مبلغ الثبوت الواجب لإقامة الحدود.
ثانيا:
أن القصاص مشروط فيه العمد وإرادة الأذى بعينه، فإن لم يثبت العمد فالجزاء الدية أو التعزير، وقد يجتمعان، أو يكتفى بالدية دون التعزير أو بالتعزير دون الدية.
ولنذكر أن جرائم التعزير تشمل جميع الجرائم التي يعاقب عليها بالسجن أو بالغرامة أو بالعقوبات البدنية.
ولنذكر في جميع هذه الأحوال أن الشريعة الإسلامية توجب درء الحدود بالشبهات، فإذا قامت الشبهة للشك في ركن من أركان الجناية أو ركن من أركان الشهادة، فلا يقام الحد، وينظر ولي الأمر في التأديب بعقوبة من عقوبات التعزير. •••
ولنضرب المثل بأكبر جنايات الحدود وأشيعها في الجاهلية العربية وجاهليات الأمم في عنفوانها، وهي جناية قطع الطريق والعيث في الأرض بالفساد، ففي هذه الجناية يقول القرآن الكريم:
إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم * إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم .
فهذه جناية لها عقوبات متعددة على حسب الأضرار والجرائم، ومنها القتل والصلب وقطع الأطراف والنفي، وهو بمعنى النبذ من الجماعة إما بالسجن أو بالإقصاء، ويلزم العقاب من لزمته أحكام الدين، فإذا كانت جنايته قد انتهت بالعقوبة قبل أن يلزمه قضاء الإسلام، فهذا هو الباب الذي فتحه الإسلام لابتداء عهد وانتهاء عهد غبر بأوزاره وعاداته، وانطوى حساب الجناية والعقاب فيه بانتهائه.
وأشد هذه العقوبات لم يكن شديدا في عرف أمة من الأمم، عوقب فيها من يقطعون الطريق، ويعيثون في الأرض بالفساد، مع حضور الخطر وكثرة مغرياته وقلة الزواجر الاجتماعية التي تحمي المجتمع من أضراره وجرائره، وقد كانت عقوبات القتل والتمثيل قائمة في جميع الأمم مع قيام الجريمة وقيام أسباب الحذر منها، وظلت كذلك إلى القرن السابع عشر في البلاد الأوروبية التي استقر فيها الأمن بعد الفزع، وانتظمت فيها حراسة الطريق بعد الفوضى التي طغت عليها من جراء فوضى الجوار بين الحكومات.
وتلحق بجناية قطع الطريق جناية السرقة التي لا غصب فيها، ويكون السارق عاقلا مكلفا، وأن يكون المال المسروق محرزا مملوكا لمن يحرزه بغير شبهة، بالغا نصاب السرقة كما اتفق عليه الفقهاء، وكل جريمة من قبيل السرقة لم تثبت فيها الأركان المشروطة، فلا يؤخذ فيها الجاني بحد السرقة، ويؤخذ فيها بعقوبات التعزير، وعند الضرورة القاهرة التي يقدرها الإمام يجوز العفو كما عفا عمر بن الخطاب رضوان الله عليه عن الغلامين السارقين في عام المجاعة.
ولا بد أن يمتد نظر الباحث على مدى مئات السنين قبل أن يسأل عن صلاح الشريعة لعصر من العصور، ولا محل لسؤاله إذا أراد أن يحصر هذه الشريعة في زمن واحد وبيئة واحدة، ولكنه يحسن السؤال إذا عرض أمامه أحوالا للأمم فيها القديم والحديث، وفيها الهمجي والمتحضر، وفيها المسالم المأمون والشرير المحذور، ثم سأل: هل في الشريعة قصور عن حالة من الحالات التي تعرض لتلك الأمم في جميع أطوارها؟ وهل هناك عقوبة نصت عليها الشريعة لم تكن صالحة في حالة من تلك الحالات؟
فكذا توزن الشرائع التي تحيط بالمجتمعات في مئات السنين ومئات البيئات، وبغير هذا الوزن تكثر منافذ الخطأ أو يبطل السؤال فلا محل للسؤال. •••
وننظر إلى المجتمع الإنساني الذي يقيمه الإسلام بعد هذه النظرات المجملة إلى مسألة الرق ومسألة المرأة ومسألة المعاملات ومسائل العقوبات، فنحن إذن خلقاء أن نرى فارقا بين المجتمعين - مجتمع الإسلام ومجتمع الشيوعية - لا تستوي فيه وجوه القياس؛ لأنه فارق بين وهم مفروض على التخمين، وبين حقيقة واقعة من حقائق الماضي والحاضر وحقائق المستقبل، كما يراها من يشهده رأي العين.
فالمجتمع الشيوعي فرض خيالي قوامه دعوى المدعين أنه سيأتي - إن أتى - سويا بغير طبقات، وأن الشرور الاجتماعية وشرور الطبائع كافة ستفارقه أبد الآبدين إذا فارقه شيء واحد، وهو رأس المال.
هذه هي الخرافة التي يسمونها بالمجتمع الشيوعي الذي سيحق غدا متى حقت الدعوى، أو حق الفرض والتخمين.
أما المجتمع الإسلامي فهو هذا المجتمع الإنساني المتجدد الذي يحق على سنة التقدم بما يحققه من مبادئ الإسلام، وهي مبادئ لا تنتشر وتنطوي في مدى أيام ومدى أعوام.
يقوم المجتمع الإنساني على المساواة بين الناس بغير تفرقة بين الأنساب والألوان والأجناس، ولا تمنعه المساواة أن يعطي المزايا النافعة حقها من الإنصاف لمصلحة المنتفعين بتلك المزايا في جميع الطبقات، ولا تفاضل في الحقوق بالمال أو بالوراثة، فإنما يكون التفاضل بينهم بالعلم والعمل:
هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ،
لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة .
وإذا وجدت درجات الثروة ينبغي أن لا تكون حكرا تستأثر به طبقة واحدة، ولا أن تكون «دولة بين الأغنياء، ولا بد في كل ثروة من حق معلوم للسائل والمحروم».
والإسلام لا يحل مشكلة الفقر بالصدقات المفروضة على الأغنياء لمعونة المحرومين والمعوزين، ولكنه جعل هذه الصدقات منذ ألف وأربعمائة سنة لمن جعلتها لهم دول العصر الحديث من العجزة والمرضى والشيوخ والمنقطعين، وحل مشكلة الفقر «أولا» بخلع القداسة التي كانت تجلله في كثير من الأديان، ثم حلها بإيجاب العمل على القادرين، وإيجاب تدبيره على الإمام المسئول لكل قادر عليه. •••
والمجتمع الإسلامي لا يهدم شيئا من كيان الاجتماع الذي استفاده بنو الإنسان من أطوار حياتهم الاجتماعية في الحقب الطوال؛ لأن المفهوم من سير الهداية الإلهية كما يسردها القرآن الكريم أن حياة النوع الإنساني تاريخ متصل يتمم بعضه بعضا، وتنتهي إلى التعارف بين الشعوب والقبائل في أخوة عامة، لا فضل فيها لقوم على غيرهم إلا بالعمل الصالح، ولهذا يحرص الإسلام على كيان الاجتماع في الشخصية الفردية وفي الأسرة وفي الإيمان بوحدة النوع، ولا يهدم بنية من هذه البنى الحية التي «تحققت» لتعيش بين القوى العاملة في المجتمع لا لتنهدم وتندثر في حقبة بعد حقبة، كأنها من الشرور التي تولد على الرغم منا، وتعود كلما استأصلناها كرة بعد كرة، ولا ندري من أين تعود!
وقد جاء في القرآن الكريم في وصف أهل النار أنهم
كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار .
ففي هذا الوصف «للعالم الملعون» بيان للفارق في تقدير الإسلام بين المجتمع المثالي في الشر والفساد والمجتمع المثالي في الخير والصلاح، ويصدق الوصف المثالي لعالم الشر والفساد على التاريخ الإنساني كما توهمه الشيوعيون، كلما تعاقبت أطوار التاريخ لعن الأواخر منها أوائلها، وجاء الخلف الأخير ليصب النقمة والعذاب عليهم أجمعين.
ذلك في الحق تاريخ جحيم، أو تاريخ عالم ملعون، لا خير في أوائله ولا أواخره، وشره ثابت فيما كان، وخيره لا يكون إلا في أحاجي الأوهام والظنون، بعد هدم ما كان جميعا أملا فيما سوف يكون.
كيان الاجتماع في الإسلام لا يتهدم، بل يزداد قوة على قوة، ويدعمه الإسلام ليؤسس به بنيانا مرصوصا يشد بعضه بعضا، ويتعاون على البر والتقوى، ولا يتعاون على الإثم والعدوان.
فالشخصية الإنسانية فيه حقيقة حية، والأسرة الاجتماعية فيه حقيقة حية، والنوع الإنساني الذي تنتمي شعوبه وقبائله إلى أسرة كبيرة يجمعها التعارف والتعاون هو كذلك حقيقة حية.
لا شيء ينهدم جزافا أو لانتظار مجتمع من الخلق لا رابطة بينهم إلا أنهم كانوا مأجورين يسامون بخس الأجور.
هذا المجتمع الذي ينهدم من أجله كل كيان قائم لم يكن قط إلا وهما من أوهام الخيال، أو حلما من أحلام كابوس الشر والفساد، أما الشخصية الإنسانية وروابط الأسرة ووحدة النوع الإنساني فهي أمامنا بنية حية أو بنية تحيا، ولا يجوز أن تنهدم لوهم من الأوهام.
كل منها «كيان» حق صنعته العناية الإلهية، ورصدت له رسالته وآتته قدرته عليها، ولم يخرج من بوتقة الخلق «غلطا» ليعاد تركيبه بعد تصحيح حسبة الأجور ورءوس الأموال.
وما من حجة غير حجة الشيوعية ينهدم بها كيان الشخصية الإنسانية، وينهدم بها كيان الأسرة، وينهدم بها كيان النوع الإنساني؛ ليئول ميراثه إلى طائفة مزعومة ما وجدت بعدها، وما من دليل قط على أنها وشيكة الوجود.
ما أهزل الحجة وما أكرم البناء الذي يراد له الهدم والفناء.
إن الشخصية الإنسانية - شخصية الفرد المسئول - لا ذنب لها إلا أنها لا تستطيع كل ما تريد، وأن ما يريده الأفراد يتم في المجتمع على نحو غير الذي أرادوه، ولو ثبت هذا الذنب لما أوجب مقت الحرية الفردية، ولا أوجب بطلان العمل الذي تعمله، فربما كانت منأواة المجتمع للفرد هي الشر الذي نزيله أو نتمنى له الزوال، وكما يقال: إن عمل الفرد موقوف على التجاوب بينه وبين المجتمع، يقال كذلك: إن عمل المجتمع موقوف على التجاوب بينه وبين الأفراد، فلا وجه لهدم «الشخصية الفردية» حتى لو صح أنها لا تفعل كل شيء.
والأسرة تنهدم لأنها أذنبت بتعليم الناس شريعة الميراث، وما تعلمت الأسرة الميراث إلا من طبيعة التكوين التي تجعل الولد وريثا لأبويه في خلقه وخلقه. ولا يستطيع المجتمع أن يجرده من هذا الميراث، أو ينجيه منه إن طلب النجاة، وما كان ميراث المالكين شيئا في جانب الميراث الذي تلقاه ورثة الصناعات أبناء بعد آباء بعد أجداد، وما كان في بني الإنسان من خير إذا لم يبق منهم إلا من يعمل لساعته، ولا يفكر في غده ولا فيما يكون بعد حياته، وهذه خليقة تعلمها الناس من الأسرة ومن الميراث، وتعلموا خيرا يذهب بذهابه ميراث هذا المخلوق المسمى بالإنسان حيث كان.
وأما النوع الإنساني فينهدم؛ لأنه لم يوجد قط في عرف الشيوعيين، بل كان الموجود في كل حقبة طائفة من السماسرة، وطائفة من الأجراء، وطائفة من أصحاب المال، ودنيا واسعة لك أن تسميها سوقا أو مصرفا أو مصيدة من مصائد الحيلة والخديعة، وليس لك أبدا أن تسمي هذه الدنيا في طور من أطوارها أو في جميع أطوارها عالما يسكنه بنو الإنسان!
كلما دخلت أمة لعنت أختها.
هذا هو الجحيم الشيطاني الذي زيفه الأبالسة، ولم يفرزه أحد قبل مقدم إخوانهم وأندادهم في الحيلة والخديعة دعاة الشيوعيين!
وهذا بحق هو العالم المثالي للشر والفساد.
وفي مثل هذا العالم قد يسهل العبث بكل كيان اجتماعي بناه التاريخ، ولا يزال يبنيه ويوطد بناءه على اتصال بين ماضيه وتاليه، قد يسهل العبث بهذه الأبنية الاجتماعية في دور التحريض والتخريب، ولكنها قوى اجتماعية لا يتأتى الاستغناء عنها في دور التأسيس والتنظيم، ولا بد أن تحيق غوائل الحرمان منها بالمجتمع في جملته وبكل فرد من أفراده على حدة، وقد حاقت بالمجتمع الشيوعي عواقب الحرمان من هذه القوى الحية! قوة الكرامة الإنسانية في «شخصية» الفرد، وقوة العاطفة المتأصلة في كيان الأسرة، وقوة الإيمان بوجود بني الإنسان التي تعلو على منافع الطوائف والأفراد، فأحس المجتمع الشيوعي عواقب هدمها في اليقين الخواء والعواطف النخرة، والحماسة المكذوبة من صنع الكلام في مصانع الأوهام، فثاب أعداء الوطن والدين يتمسحون بالوطن والدين، وقالوا في رثائهم للحرية الشخصية بعد موت «ستالين»: إن اختناق الضمائر والعقول في عهده إنما كان شهوة من شهوات استبداده، خرج بها على مبادئ الدعوة المقدسة، وخالف بها أناجيل «ماركس» و«لينين»، وقالوا عن الأسرة: إنها قوام المجتمع كله أو قوام الوطن كما يسمونه الآن، وقالوا عن وحيهم المعصوم - بعبارة وجيزة - أسوأ ما كان في عرفهم كفرا بواحا منذ عام أو عامين.
ونحن لا نعلم أن «ستالين» كان في استبداده مخالفا لمبدأ من مبادئ أستاذيه «ماركس» و«لينين»، والمهم هنا هو مبادئ «لينين» بعد الحرب العالمية الأولى؛ لأن «ماركس» لم يحضر عملا من أعمال التنفيذ والتنظيم في الدولة الشيوعية، ومبادئ «لينين» التي أعلنها في هذه الفترة صريحة في جواز الحكم المطلق وموافقته للمبادئ الشيوعية، فإنه يقول في الجزء الثلاثين من مجموعة أعماله الروسية: «إن اشتراكية السوفيت الديمقراطية لا تناقض بحال من الأحوال قيام الدكتاتورية والإدارة بيد فرد واحد، إذ يتم في هذه الحالة تنفيذ إرادة الطبقة على يد حاكم بأمره يعمل على تعجيلها، وقد يكون ألزم لتحقيقها.»
فليس في استبداد «ستالين» خروج على مبادئ المذهب، كما شرعها مؤسس المذهب في دور التنفيذ، فإذا كان في الأمر من جديد، فالجديد فيه أنه هزيمة جديدة للمذهب في حربه للحرية الشخصية تتلو هزائمه الأولى في حربه للأسرة وللحرية الشخصية أو للحقوق الشخصية المهضومة - قبل موت ستالين بسنوات - فجاء المذهب الذي جعل الملكية الخاصة ينبوعا لجميع الشرور يوحي بها، ويبيحها في المزارع المشتركة، وجعل من حقوق الفلاح في تلك المزارع أن يحتجز قطعة من الأرض لسكنه وتربية دواجنه يملكها في حياته، ويورثها بعده لخلفائه في المزرعة المشتركة، ولا يسمى ذلك عندهم بالملك الخاص؛ لأنهم يسمونه بالسكن المقيم.
ومما ألممنا به في هذه الأسطر عن القوى الاجتماعية التي تهدمها الشيوعية ويبنيها الإسلام نعلم أن النظامين متقابلان لا يتلاقيان، وأنهما متضادان مذهبا وخلقا ومجتمعا، ولا ينحصر التضاد بينهما في العقائد والمعقولات.
فالشخصية الإسلامية التي تهدمها الشيوعية ويوطدها الإسلام وينوط بها أوامره ونواهيه، ويعرفها مستقلة لا واسطة فيها بين الخلق والخالق من سلطة دينية أو حكومية، ولا حجاب فيها بين الأرض والسماء. «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته.»
ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى .
والأسرة التي تهدمها الشيوعية يجعلها الإسلام سكنا للزوجين وموئلا للبر والرحمة بين الآباء والأبناء.
ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ،
وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما .
والبنون من زينة الحياة الدنيا ومن نعم الله التي يحصيها على عباده.
ولقد يكون للآباء في الأمم المقاتلة، وفي غيرها هوى في ذرية البنين يغتبطون بهم، ويزهدون في الذرية من البنات، فالقرآن الكريم يؤنبهم على ذلك ، ويلهمهم شعورا غير هذا الشعور في محبة الذرية من بنين أو بنات:
وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم * يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون .
أما الشعور الإنساني الذي لا يحجبه شعور الطبقة ولا شعور العصبة، فهو الشعور بالأسرة الواحدة تجمع الشعوب والقبائل من أب واحد وأم واحدة، وهو شعور الإخاء بين جميع المؤمنين
إنما المؤمنون إخوة ،
ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين ، وذلك هو المثل الأعلى لنعيم الأبرار. •••
والقوى التي تنعقد فيها المقارنة بين النظامين الاجتماعيين هي أشياء موجودة محسوسة الأثر، يحاربها الشيوعيون؛ لأنهم يجدونها ويحسون أثرها، ثم هم يجدون منها سدودا تصدهم، وتعوق مبادئهم أن تنتشر بين الشعوب الإسلامية، ولا تصدهم بسدود من التعصب الديني وحسب كما تصورهم العقائد الدينية الأخرى، بل تلقاهم بالمبادئ التي تغنيهم عن مبادئ الشيوعية وبالنظام الذي يغنيهم عن نظامها، ويحز في نفوسهم أنهم يحاربونها بمبادئ، يرجعون بين آونة وأخرى عن مبدأ منها، ويبتعدون عنه ليقتربوا من النظام الذي شنوا الغارة عليه، وأرادوا أن يزعزعوه فما عتموا أن أيدوه وأكدوه.
وإنهم لفي عداء عنيف للإسلام من أجل هذا لا من أجل أنه دين ينسبونه إلى عمل الإنسان، ولا ينسبونه إلى الوحي الإلهي كما ينسبه المسلمون، ولو كانت قوى الإسلام الاجتماعية تطاوعهم وتجاريهم على سياستهم وعلى مطامعهم لما حاربوه ولا ضارهم أن يؤمن المسلمون بأنه من وحي الله لا من عمل الإنسان.
فليست المشكلة بين النظامين مشكلة البحث «الأكاديمي» في مصدر الإسلام، إذ يكون مصدر الإسلام ما يكون، فهم محاربوه ما دام سدا في وجوههم لا ينفذون من ورائه إلى السيادة على بلاد المسلمين.
ولغة الأشياء الموجودة هي اللغة التي يفهمها الشيوعيون ويجب أن يفهمها بين ظهرانينا نحن المسلمين تلك الشرذمة المتحذلقة التي تقيس الدين بجميع المقاييس إلا مقياسه الصحيح الذي يصلح لتقديره.
فمن عجز العقل أن يحسب أنه يفرغ من قضية الدين الكبرى كما يفرغ من شهادة شاهد في قضية على حسب الواقع والرواية، أو يفرغ من قضية الدين الكبرى كما يفرغ من حسبة رياضية بميدان الجمع والطرح ومعادلة الأرقام، فإنما يوضع حساب الدين في موضعه حين يوضع معه حساب المتدينين به في جميع أوطانهم وأزمانهم وجميع أحوالهم ومحاولاتهم، والمتدينون به ملايين من الخلق يقيمون في أرجاء واسعة من الأرض ويخلف اللاحقون منهم سابقين على دين أو على غير دين، ومنهم العارف والجاهل، والحكيم والأحمق، والطيب والخبيث، والقوي والضعيف، والمسئول عن قوم والمسئول عن نفسه لا يضطلع بتبعة غير تبعاتها، وهم يعيشون مع دينهم منفردين ومجتمعين في أعماق أعمق من أعين الرقباء وسلطان ذوي السلطان، ويرتفعون معه إلى شأو لا يضيئه العلم إذا أحاطت به الظلمات.
وإذا نظرنا إلى الدين نظرتنا إلى دواء يعالج به داء المجتمع، فمن الخطأ أن نحسبه قارورة دواء تشرب ثم تلقى بعد فراغها، فإنما هو «نظام صحة» دائم يؤتي فوائده على مدى أعمار المتدينين، وأعمار المتدينين ألوف السنين.
ولكل قائل كلمته في مدى الزمان الذي يتطلبه الدين لإصلاح شئون الأمم إلا ... إلا الشيوعيين.
نعم إلا الشيوعيين؛ فلا كلمة لهم في العمر الطبيعي المقدور للدين؛ لأنهم يفسحون لمذهبهم العمر من القرن العشرين إلى ما شاءوا من القرون السبعين والثمانين والتسعين، ولا سند لهم من إله أو نبي أو رسول، إلا أن يكون «كارل ماركس» أو «لينين» أو «ستالين».
محصول الدعوة
والمحصول من مراجعة الاشتراكية العلمية أنها اشتراكية طوبية غير علمية، وأنها أشد إمعانا في التخريف وبعدا عن العلم من الطوبيات التي قال «كارل ماركس» إنه جاء باشتراكيته العلمية ليدحضها ويمحوها.
فلا يكفي أن يصف «ماركس» مذهبه بالأوصاف التي تعجبه لتثبت هذه الأوصاف، ولا يكفي أن يملأ مذهبه بالأرقام والإحصاءات لتزول عنه صفة الطوبية وتلصق به صفة العلمية؛ لأن المعول في ذلك كله على الحصول من وعود المذهب وصوره المتخيلة، وليس في الطوبيات جميعا ما هو أشد إمعانا في التخريف والوعود الخيالية من هذه الاشتراكية المزركشة بالأرقام والإحصاءات المسماة بالعلمية أو الواقعية أو المادية، وما جرى مجراها من الأسماء. «فكارل ماركس» يعد المصدقين به مجتمعا عالميا واحدا من طبقة واحدة لا سيد فيها ولا مسود، ولا حاكم ولا محكوم، يأخذ فيه كل حقه بغير زيادة، ويعطي فيه كل حقوق الآخرين بغير بخس، وينتهي فيه طمع الطامع، وحيلة المحتال، وكسل الكسلان، كما ينتهي فيه حب الرئاسة والاستئثار، ونزاع المتنازعين على مراكز التصريف والتدبير، أو تزول فيه مراكز التصريف والتدبير ويجري التصريف بغير مصرف والتدبير بغير مدبر، فلا يخطر لأحد أنه أحق بهذه المراكز من أخيه، ويعم ذلك أقطار الأرض من مشرقها إلى مغربها، ومن شمالها إلى جنوبها، فيزرع الزارع بمقدار ما يلزم في الدنيا، وتنتظم المواصلات والمبادلات بينها بغير رقابة ولا إشراف ولا تقدير سابق ولا حاضر من الموكلين بالتقدير، وإذا خطر لإنسان أن يدع مسقط رأسه ليذهب حيث شاء ذهب حيث شاء، وإذا خطر لغيره أنه يستثقل عمله ويستبدل به عملا آخر تم هذا وذاك على ما يشاء حيث يشاء، وفيما بين ذلك ينقطع للعلم من هو أهل للعلم، وللفن من هو أهل للفن، وللاختراع من يقدر عليه، وللصناعة من يحسنها، رخاء سخاء كما يهب الهواء ويهطل المطر ويتسلسل الماء بلا قناطر ولا سدود ولا هندسة ولا بناء، ثم تطرد الأمور على هذا الحلم البديع إلى مدى يقصر عنه خيال الحالمين؛ لأنه لا يحسب بالعشرات أو المئات، بل يحسب بالملايين من السنين.
مثل هذا التخريف يخجل منه كل حالم في طوباه، ما لم يسبقه بتنبيه القارئين إلى قصة منام أو ما يشبه المنام من أوهام الأحلام.
إلا أن الاشتراكية العلمية تزعم أنها ترفض هذه الطوبيات وتزدريها، ولا تشغل الناس بأحلامها وأمانيها، فماذا وقع في ذهن الداعية إلى هذا المذهب حين تخيل أنه بعيد من الطوبيات، وهو غارق في لجتها لا يملك أن يرفع عينيه من فوقها؟
هنا - كما في كل موضع من مواضع البحث في هذه الخرافة - نفتش عن الظاهرة النفسية فتهدينا إلى السبب القريب، ولا ضرورة بعده لسبب قريب أو بعيد ، فما الذي جعل «ماركس» يباعد بين مذهبه وبين الطوبيات ووعود الطوبيين؟ الفظائع التي في الطريق.
إن الفظائع لا تلائم الطوبيات وأحلام الطوبيين، ومن كان يرسل الخيال ليتمنى أحسن الأماني فليست فظائع الفتك وسفك الدماء والوعيد بالخراب والنكال أمنية يتمناها ويرسل الخيال ليسعد بها ويسعد الناس برؤياها.
لا طوبى هنا ولا طوبيون، فماذا إذن غير الطوبى والطوبيين؟
الفظائع التي في الطريق.
ولا شيء في هذه الفظائع يناقض الواقع العلمي أو العلم الواقعي؛ لأن الناس تعودوا من الواقع أن يصدم الأحلام ويوقظ النيام، وتعودوا من العلم أن يهزأ بالخيال ولا يحجم عن تقرير الحال والمآل في أشنع الأحوال، فلا طوبى إذن في الاشتراكية الماركسية، ولا نكوص فيها عن العلم والواقعية، ولا مجافاة بينها وبين الطوبية - في الواقع - إلا هذا الوعيد بالفظائع، وهذا الجو الذي يعيش فيه «ماركس» ولا يستطيع أن يخرج منه بحسه ولا بعقله ولا بخياله ولا بمقاصده وآماله، ولا يستطيع في الوقت نفسه أن يعتذر له بعذر غير «الواقع العلمي» المزعوم، فإنه بالواقع العلمي يستطيع أن يوفق بين الاشتراكية التي يدعو إليها وبين الفظائع التي يرصدها في طريقها، وإنه لأعجز ما يكون عن التوفيق بين الطوبية وهذا المذهب المشئوم، وإن كنا نذهب إلى غايته الموعودة فإذا هي خرافة من خرافات الأحلام يكاد أن يسمع منها غطيط النيام.
علم! إي والله علم!
هكذا قال «كارل ماركس»، وهكذا ينبغي أن يقول وهو يحس الفظائع تملا فراغ وجدانه وخياله، فلا يستطيع أن يوفق بينها وبين نحلة من نحل الطوبيات، ولا يستطيع أن يرسلها بغير عذر يشفع لها عند المستمعين إليها ولا عذر إليها، إلا أنها «علم واقع» يضطره إلى مواجهة المصير الذي لا مهرب منه.
وماذا يصنع المسكين في العلم والواقع، وفي المصير الذي لا مهرب منه ولا حيلة فيه، ولا قرار دونه ولا فرار؟ •••
إذا استحق أحد سخرية الساخرين لهذا الخلط بين العلم وتلك الخرافة، فلن يكون «كارل ماركس» أحقهم بالسخرية؛ لأن دعوى العلم عنده مهرب يلجأ إليه من سبة الفظائع التي يبشر بها ولا مسوغ لها من الأعذار، إلا أنها ضرورة قاسرة، وليست بأحلام ولا بحديث من أحاديث الأسمار.
إنما السخرية في هذا الخلط حق لهوسة اللغط بالعلم في أواسط القرن التاسع عشر، فإنها هي التي جعلت تلك الخرافة أهلا للبحث فيها بمقاييس العلم وموازينه، وهي قبل أن تقاس وقبل أن توزن واضحة النسب بينها وبين الخرافة، منقطعة النسب بينها وبين العلم والمنطق، وبين الوزن والقياس.
ما الذي يوضع موضع النقد العلمي في هذه الخرافة؟ إنها تلفيقة من تلفيقات الفلسفة استعارها «ماركس» لنواميس المادة والمال، كان هيجل يقول - على ما هو معلوم - إن الفكرة تعمل ضدين، ثم يجتمع الضدان في تركيب واحد يخرج منه ضده دواليك إلى الموعد الذي تبطل فيه الأضداد وتنطوي في الفكرة المطلقة أو الفكر المطلق لأول مرة منذ أزل الآزال إلى الأبد الموعود.
وجاء «ماركس» فقال: إن هذه التلفيقة غلط في عالم الفكر يصبح صوابا لا صواب غيره إذا طبقناه على مسائل المادة والاقتصاد، ثم أرسل النواميس الكونية تعمل على هذا النهج، فلم تعمل شيئا على وفاقه إذا نظرنا إلى تركيب عناصر المادة نفسها قبل كل تركيب، فإن عناصر المادة التي نيفت على المائة في العصر الحاضر لم تتسلسل واحدا بعد الآخر على النهج المزعوم، بل ظهرت - أو ظهر أكثرها - أفقيا إذا صح هذا التعبير، ولم يتغير عنصر منها وفاقا للضدية المزعومة منذ تم تركيبه مع غيره في طبقة واحدة من طبقات الوجود، ونعني بالطبقة الواحدة أن تركيب العنصر منها لا يتوقف على التسلسل في الترتيب، بل توجد ألوف العوامل الطبيعية التي لا تستلزم خروج الضد من الضد في خط واحد، ينتظر الأخير منه الأول أو ينتظر الأول منه الأخير.
بيد أننا نتمشى مع هذه النواميس الكونية كما يزعمونها، فنرى أنها تتوقف عن العمل عند نشوء المجتمع البشري، وتسلم هذا المجتمع للخلاف على الأجور ينوب عنها في خلق الأضداد التي تريدها الفلسفة المادية، ثم يئول الأمر إلى ثلاثين أو أربعين سنة في الربع الغربي من القارة الأوربية فينجلي لنا ختام هذه النواميس على النحو القاطع المانع الذي لا يسمح بمنفذ شعرة للمراجعة أو الانتظار، فنحكم على الماضي حكما لا مرد له ونحكم على المستقبل حكما لا مخرج منه، ونعرف سر الكون كله من تلك السنين الثلاثين أو الأربعين التي قامت فيها الصناعة الكبرى، وختمت فيها قصة الخلاف على الأجور.
هذه «الجزيرة» التي استقلت بها قصة الأجور عن النواميس الكونية تعود فتستقل مرة أخرى عن قصة الأجور يوم تنشأ فيها الطبقة الواحدة الموعودة، فلا عمل فيها للنواميس الكونية الأبدية ولا لقصة الأجور، ولا أثر فيها لتلك العوامل الأبدية التي ظلت تعمل من مبدأ الكون وتظل تعمل إلى نهاية الكون في كل شيء إلا في مجتمع الإنسان. هراء وأقل من هراء.
هراء لا يعطي من الثقة ما يكفي للجزم بهدم كوخ في قرية نائية، ولكنه يكفي عند الماديين العلميين لهدم كل ما يخالفه من الماضي، وكل ما يخالفه من المستقبل، وتعطيل كل إصلاح يجيء من غير طريقه في أنحاء العالم المعمور، ولو اقتضى ذلك إهدار جيل أو جيلين من تواريخ الأمم في تلك الأنحاء، وإنه ليقتضي على التحقيق إهدار جيل أو جيلين أو أجيال كثيرة إذا أدخلنا في حسابنا تباعد الأطراف وتباعد البنيات وطوارئ الزمن التي تأتي في خلال هذا الصراع بين الساعين إلى الإصلاح والساعين إلى تعطيل كل إصلاح في انتظار المجتمع الموعود: المجتمع الذي يستقل عن نواميس الكون وعن نواميس الأجور.
أما أن هذه ثقة علمية تملي هذه النبوءات على الماضي والمستقبل إلى ما وراء المجهول، فذاك أبعد خاطر يخطر على بال العارف بحدود العلم وحدود هذه المسألة التي تتخطى حدود التفكير، وأما أنها ظاهرة من ظواهر الأمراض النفسية فهو التفسير - العلمي - الوحيد لتلك الدعوة، ولا نقول التفسير القريب، لأن الهجوم على تلك الشرور الباغية بمثل ذلك السند الواهن لن يصدر إلا عن مرض نفسي في طبيعة الأجرام.
وقد مضى القول عن عوارض الظاهرة المرضية التي كانت تحيك بنفس إمام الاشتراكية - العلمية - «كارل ماركس»، ومرض الفكرة كاف في الرجوع به إلى مفكر واحد، ولا سيما المفكر الذي أنشأها وبث من حياته في أجزائها، ولكننا واجدون أمثال هذه العوارض في كل إمام من أئمتها وكل داعية من مروجيها، ولا نريد أن نختار منهم جزافا ولا نستطيع أن نحصيهم جميعا؛ لأن إحصاءهم الذي يحيط بهم قد يستغرق المطولات، فلنتحدث عن زعيمين من أكبر المنشئين للمذهب الشيوعي مع «كارل ماركس» وعن زعيمين آخرين من أكبر المنفذين له بعد قيام الدولة الشيوعية، والزعيمان المنشئان هما «إنجلز» و«باكونين» والزعيمان المنفذان هما «لينين» و«ستالين»، وسنرى بعد إجمال عوارضهم النفسية أننا أمام شرذمة من الأشرار والمخنثين والممسوخين تجردوا للغاية التي لا يتجرد أمثالهم إلا لأمثالها، ولن تكون بالبداهة غاية خير وصلاح. ••• «إنجلز» كان مخلوقا مؤنث المزاج، يكتب إلى أخته وهو في الثالثة عشرة فيروي لها أخبار الكتاكيت التي يربيها وألوانها وشياتها، والكتكوت الأسود الذي يأكل من يده أكلا لما كل ما يضعه فيها من طعام. وكان من طبيعته أن يقع تحت تأثير كل شخصية يعاشرها فترة من الوقت، ولو كانت شخصية فتاة يعولها، فكانت «ماري بيرنز» فتاته الأيرلندية هي التي قادته إلى وكر الثوار الأيرلنديين، ولم يكن مذهبه أن تستقل الشعوب الصغيرة؛ لأنه كان ينصح الشعوب الأوربية الشرقية بالاندماج في الأقوام الكبرى التي تحدق بها، وإنما قادته الفتاة الأيرلندية إلى حيث شاءت لأنه سهل القياد. وقد نلمح في ثورته الوحيدة على «كارل ماركس» حين قصر هذا في تعزيته عن فتاته أنه أحس من صاحبه سخرية بهذه الرجولة المدعاة، التي تمثل لنفسها دور العاشق المفجوع في العشيقة، فكان جمود «ماركس» مثيرا له بما ينطوي عليه من هذه السخرية. إذ كان ذلك الجمود أمرا يعرفه ولا يصدمه في هذا الحادث للمرة الأولى.
وعقدته الأخرى أن أباه الصارم كان يشعر بخيبة الأمل من ميوعة ولده وخليفته في عمله، وكان الأب شديد التدين على مذهب «كلفن» المشهور بالتعصب والحمية، فأدخله مدرسة في رعاية أستاذ معروف بالصرامة والرياضة على الجد والعقيدة الدينية، فلم تكن له طاقة بالجد ولا بالعقيدة، وصادفته فترة من الشكوك العامة شاعت بين أقرانه في عصر «فيورباخ» داعية الفلسفة المادية و«ستراوس» صاحب القول بالشك في وجود السيد المسيح، فانتهى به الأمر إلى الفرار من العمل في مصنع أبيه ليعيش مع «كارل ماركس» في بروكسل، وكان يكتب إلى «كارل ماركس» قبل ذلك متبرما بالحاكم أو الحارس أو المحافظ
1
المسلط عليه، وهو يعني أباه.
وفي سيرة «باكونين» - إمام الشيوعية الفوضوية - إيماء خفي أو صريح إلى فجيعة في رجولته وعلاقاته بعشرائه من الفتيان المهاجرين إلى سويسرا والمقيمين فيها، وكان يقول لأحدهم أنه بحاجة إلى أم له ترعاه في هذه الغربة! وكان يتزوج وهو يعلم أنه لا مأرب له في الزواج فتفارقه زوجته بإذنه لتلحق بعشيقها في إيطاليا، ثم تعود حاملا وتفارق الزعيم الثائر مرة أخرى بصحبة فتى من فتيانه «نشاييف»
2
فلا تنقضي أسابيع حتى تكتب إليه تبلغه أنها حامل وأنها ستعود للوضع لديه، ورسائل هذه الفضائح محفوظة في سيرة ومذكرات أصحابه، يجد القراء طرفا منها في كتاب المنفيين الخياليين لصاحبه
3 «ا. ه. كار» الذي قضى أكثر من عشرين سنة بين السفارات ومكاتب المخابرات.
ولقد آل هذا التراث الملوث إلى زعيمين منفذين، هما بالإجماع أكبر من تولى تنفيذ الشيوعية بعد قيام دولتها في بلاد القياصرة، وهما «لينين» و«ستالين» وكلاهما ناقص التكوين من مولده، وكلاهما منعوت بألسنة ذوية وأعرف الناس به أو بلسانه وما يتكشف من خلائقه في عرض كلامه، وكل هذه النعوت خليقة أن تسلكهم فيما شاءوا من زمرة إنسانية إلا زمرة الصادقين في حب الخير والصلاح. «لينين» تأخر في المشي حتى ولدت أخته التي هي أصغر منه فتدرب على المشي معها، وعللت أخته الكبرى - أنا - في مذكراتها عنه هذا التأخير بكبر دماغه، وكبر - كما قالت أخته هذه - وليس له صديق حميم بين لداته وإن كان منهم من يحبه، وجاء في مذكرات «كيرنسكي» عنه وهو مولود في بلده - أنه كان مطبوعا على القسوة منذ صباه، وكان يتلذذ بإطلاق بندقيته على القطط وكسر أجنحة الغربان، وهذه كلمة خصم قد يتهم في شهادته لو لم تؤيدها كلمة «أوجين شيركوف» من لداته في المدرسة بقازان: «إنه كان دائما مخضب اليد، وبالأمس قتل ببندقيته قطة صغيرة» - وتزيد أخته - أنا - في مذكراتها على ما تقدم من وصف أخيها أنه كان لا يحضر معه إلى البيت أحدا من زملائه في المدرسة، وكان يجتنب زملاءه في خارجها، أو يقضي أوقاته في عزلة عن الصحاب. ولما انتظم في جماعات الثوار كان من الفريق الذي يستبيح الفتك والإرهاب، وكتب في سنة 1901م: «إننا لم نمنع الفتك والإرهاب قط من جهة المبدأ، وإنهما قد يكونان من ضروريات الكفاح التي لا غنى عنها.»
ولا يخفى أن التراجم التي كتبت عن «لينين»، وعرضت لسيرته من مولده إلى نهاية حياته سيل لم ينقطع منذ اشتهار اسمه بعد الثورة الروسية، تحرينا منها ما كتبه أقرباؤه وأبناء بلده؛ لأنهم أولى بمعرفته وأبعد من مطعن التحامل عليه، وراجعنا - مع هذا - غير تلك التراجم، فلم نجد فيها ما يخالف الصورة التي صورها له أقرب الناس إليه وأرغبهم في الثناء عليه، صورة مخلوق ناقص التكوين ناقص العاطفة، بينه وبين أبناء نوعه جفوة إن لم تكن قطيعة، تغري بالعداء ولا تغري بالولاء.
وفي رأينا أن كلمة منه هنا - وكلمة هناك - أحجى من كل ما قيل عنه أن تبرزه في صورة العاطفة الناقصة، وما تنم عليه من التكوين الناقص، وهو القائل فيما نقلناه عنه من غير هذا الفصل أن سياسته مع الخصم أن يمحوه من على ظهر الأرض، ويعفي على أثره، وهو القائل في حديث عابر رواه عنه: «جوركي» الكاتب الروسي المشهور: إنه يخشى مغبة التلطف مع الناس، ولم يقل ذلك في كلام عن العداوة السياسية أو المذهبية، بل قاله وهو يستمع إلى الموسيقى التي كان يحبها كما يحبها جمهرة الروسيين.
روى «جوركي» أنه استمع يوما إلى لحن من ألحان «بيتهوفن» فقال له: «إنه يود أن يسمعه صباح مساء، وإنه على حبه الموسيقى يحذر أن يصغي إليها طويلا ؛ لأنها ترقق العاطفة، وتهم بيد السامع أن يربت على رءوس من حوله. وينبغي على كل حال أن يحذر الإنسان التربيت بيده على رءوس الناس؛ لأنها قد تصادف هناك عضة تستأصلها.»
4
إنسان يحسب أنه على خطر من العطف والرحمة، وأنه لا يجد الأمان مع الناس إلا على الحذر والاتقاء. وعلى هذا الحذر والاتقاء لا نعلم من سيرته أنه حذر الفطنة واتقاء الوعي الذي يدرك به طبائع الناس ممن هم أولى بإدراكه لاشتراكهم معه في الدعوة، وملابستهم إياه فيما يعلمونه على توالي السنين جهرة وخفية، فقد كان على خبثه لا يقدر على ذلك «التعاطف» من الجانب المقابل لجانب الاشتراك في المودة والتفاهم «الشعوري» بغير كلفة، فلم يفهم نفوس أعدى أعدائه المتجسيين عليه والمرائين له بالحماسة والغيرة والمجانسة في الرأي والشعور، وكان له أربعة من أخص الخواص عنده يعملون لحساب الحكومة، ويحتلون مراكز القيادة في حزبه، ومنهم «آزيف» رئيس فرقة المقاتلين، و«مالنوفسكي» محرر «برافدا» لسان حال الحزب زعيم النواب الشيوعيين في الدوما، و«ميرون شرنيمازوف» زميله في تحريرها وأمين صندوقها بالتناوب مع الجواسيس الآخرين، و«كوكوشكين» رئيس شعبة موسكو المدخرة لتنفيذ الانقلاب في ساعة الخطر، وسيأتي أن «ستالين» - خليفته - كان واحدا من هؤلاء الجواسيس المؤتمنين على أسرار الحزب والزعامة في أحرج أوقات «الجهاد».
5
إن هذا الجهل بضمائر الناس - مع ذلك الحذر - معناه نقص العاطفة من طرفها الآخر - أو معناه انحصار العاطفة انحصارا لا مجاوبة فيه بينه وبين أبناء حواء على العداء ولا على الولاء. •••
وقد أصيب «لينين» بالعجز التام عن الحركة في أواخر أيامه، قيل: من أثر رصاصة لم تقتله، وقيل من أثر النقص الذي كمن في تكوينه، وظهر مبكرا في عجزه عن المشي قبل الرابعة، وتتواتر الشائعات بين المطلعين على أخباره ومنهم «تروتسكي» - أنه مات مسموما، ولم يمت مباشرة بفعل الفالج الذي كان يعاوده في السنة الأخيرة كلما خفت وطأته عليه، وأن «ستالين» عجل بسمه خشية على مركزه في الحزب بعد وصية «لينين» التي نصح فيها لأعضاء اللجنة العليا فيه بالتخلص من «ستالين»، وإسناد «السكرتارية» إلى غيره. •••
وإذا انتهينا إلى البحث في طبيعة «ستالين»، فنحن أمام «شخصية مفسرة» تتقارب فيها الشقة بين أقوال الشيوعيين وأعداء الشيوعية، وتتكرر من أعمالها دلائل الإجرام التي لا حاجة بها إلى أقوال الأنصار والخصوم.
وقال عنه «لينين» في رسالته إلى لجنة الحزب العليا: إنه فظ خبيث دساس لا تؤمن عاقبة كيده على الحزب والمذهب، وكان أعضاء هذه اللجنة عند الظن بأمثالهم في أمر هذه الوصية، فإنهم لم يستمعوا فيها لصوت الوفاء الواجب لزعيم على فراش الموت، ولم يستمعوا فيها لداعي الأمانة والغيرة على المذهب ومصيره، واستمعوا لصوت واحد هو صوت الرهبة والرغبة بين يدي الرجل الذي قبض على أزمة الدولة بكلتا يديه، واستطاع بعد قليل أن يطرد من البلاد الروسية زعيما في طبقة الزعيم المتوفى، وهو «تروتسكي» الذي لقي مصرعه بعد نفيه على أيدي أجراء «ستالين».
وشهادة «لينين» على صاحبه أخف محملا على سمعته من شهادة الزعماء، الذين خلفوا «ستالين» وشاركوه في الحكم مدة لا يقل أقصرها عن خمس سنوات، وقد يبلغ أطولها الثلاثين: فقد عرف العالم منهم بعد موت «ستالين» بثلاث سنوات أنه «كذاب سفاح يهدر الأرواح بالمئات ويسخر مناصب الدولة الكبرى لخدمة شهواته وإشباع شذوذه الجنسي الذي اتسم بجنون القسوة أو السادية.» وأجمعوا كلهم على أنهم كانوا يذهبون إليه ولا يكادون يصدقون بالنجاة وهم خارجون من عنده، وأنهم كانوا يعلمون جزاءهم لديه إذا خامره الشك فيهم أو الخوف منهم، فقد سامهم أن ينتزعوا من الأبرياء اعترافهم المغصوب بجرائم الخيانة والمؤامرة على الشعب والدولة، وأن يكرهوا أقاربهم على رفع العرائض المعجلة يلتمسون فيها الإسراع بإنقاذ البشرية من الأبرياء المحكوم عليهم، والمبادرة بإخماد أنفاسهم التي يتلوث بها هواء الوطن المقدس، ومن هؤلاء الأقارب أمهات وآباء وبنون وبنات.
والثابت بغير حاجة إلى الإثبات من أقوال الأقطاب الشيوعيين أن زعماء الحزب الذين قتلهم «ستالين» في محاكماته لا يقلون عن ثلاثة أضعاف الزعماء الذين قتلهم جميع القياصرة، وأن ضحايا عهده بلغوا الملايين من القتلى والسجناء والمنفيين والمفقودين.
ونقص التكوين في «ستالين» حقيقة لا حاجة بها إلى الإثبات من الأصحاب أو الخصوم، فإنه لم يقبل في الجندية لذواء ذراعه اليسرى والتحام أصابع قدمه واختلاج في نظره، وإجرامه المطبوع، كذلك من الحقائق التي لا حاجة بها إلى الإثبات من قادح أو مادح؛ لأنه ثبت من دوائر الحزب كما ثبت في دوائر الحكومة، إذ بلغ من استخفافه بالأرواح أنه ألقى على مركبة البريد تلك القذيفة الجهنمية التي اشتهرت فيما بعد «بقذيفة تفليس»، ولم يحفل بأرواح الأبرياء الذين كانوا في مركبة البريد طمعا في المال المحمول عليها لصرف «مرتبات» الموظفين، ولما شاع خبر هذه القذيفة نكب الحزب في سمعته بين سواد الشعب وخيف عليه الانحلال، فتقرر فصل «ستالين» من الحزب سترا للمظاهر وحماية للإرهابيين من مطاردة الأهلين الذين كانوا يعطفون عليهم قبل تلك الجريمة النكراء. •••
وأما الطامة الكبرى بين وصمات هذه الشخصية التي لا تفرغ وصماتها، فقد كانت مجهولة قبل انفجار السخط عليه من أتباعه وحلفائه، فلم يكن أحد من غير القلائل المعدودين يعلم أن «ستالين» كان جاسوسا قيصريا إلى ما قبل سقوط القيصرية بقليل، وأن الذين عرفوا ذلك السر الموهوب قد هلكوا جميعا في المحاكمات الملفقة حين علم بإطلاعهم عليه، ولم يفلت منهم غير فئة بقيد الحياة تعد على أصابع اليد الواحدة.
كانت أضابير الجاسوسية القيصرية تملأ المخازن والأقبية في دواوين متفرقة يتبع بعضها وزارة الخارجية، وبعضها إدارة الشحنة السياسية، وبعضها إدارة الشحنة العامة، وكل منها مقسم على حسب المتهمين المراقبين في الداخل والخارج، وعلى حسب الأماكن التي يقيمون فيها والطوائف التي ينتسبون إليها.
ووقعت هذه الأضابير في مبدأ قيام الدولة الشيوعية في يد «ستالين» أمين سر الحزب، فوكل بها أقرب الناس إليه وأخزاهم عورات في نظره، وكان هذا غاية ما يتمناه البريء الشريف والمتهم المريب من رجال الثورة بعد زوال القيصرية، فلم يكن في مقدور أحدهم أن يتخذ لنفسه حيطة أكبر من هذه الحيطة، إذ كانت إبادة هذه الأضابير وراء الطاقة في سلطان واحد منهم لكثرة الأضابير وتعدد مواضعها واستحالة الاعتماد على فرد أو أفراد معدودين في إتمام هذه المهمة ، فضلا عن الشبهة القوية التي تتجه إلى صاحب الأمر المهيمن عليها، وقد يكون بقايا الأضابير مفيدا لصاحب الأمر هذا في تهديد خصومه وإكراههم على طاعته واستطلاع الأسرار التي تستغل في حينها برقابة أعوانه ومأمن من رقابة خصومه.
جاء دور المحاكمات أو التطهيرات، فأمر «ستالين» صنيعته «بريا» أن يستخرج من الأضابير وثائق تدين الزعماء الشيوعيين المقدمين إلى المحاكمة، فعهد بمهمة التنقيب في ملفاتهم وملفات أصحابهم إلى ثلاثة أو أربعة من مرءوسيه، وكان المطلوب أن يعثروا على أوراق تدين الزعماء المغضوب عليهم، فإن لم يعثروا على الأوراق المطلوبة فعليهم أن يستخرجوا أوراقا تدين أناسا غيرهم من الأحياء، وعلى هذه الأوراق يستند رجال «بريا» في تهديد أصحابها وإرغامهم على أداء الشهادة التي تدين الزعماء المغضوب عليهم.
وفي إحدى هذه التنقيبات، لمح الموظف المطلوب - وهو من الشيوعيين المخلصين - صورا لستالين ورسائل مكتوبة بخطه الذي يعرفه حق المعرفة، فلما لبث أن تصفحها وعرف مضامينها حتى ارتاع وخشي على نفسه مغبة الرجوع بهذه الأوراق إلى رئيس «بريا»؛ لأنه أيقن أنه هالك لساعته إذا عرف رئيسه أنه مطلع على سر كهذا السر الرهيب، ولم يجد أحدا يطمئن إلى شرفه ونزاهته غير رئيسه السابق في الجندية المارشال «توخاشفسكي» الذي ذهب - فيما بعد - ضحية لهذا السر القاتل، وذهبت معه فئة من خاصة زملائه اطلعوا على الأوراق؛ لإقناعهم بتدبير الانقلاب العسكري الذي يقضي على سيطرة الطاغية، فتسرب منهم سر المؤامرة ولم يتمهل الطاغية في النكال بهم إلا ريثما يهتدي إلى موضع الأوراق، ولم يهتد إليه قبل وفاته فيما يقال.
وقد عاش من العارفين بهذا السر في خارج روسيا اثنان: «اسكندر أورلوف» صاحب كتاب جرائم ستالين، و«اسحق ليفين» مؤلف إحدى ترجماته المتداولة، ووثائق هذا الكاتب الأخير وصلت إلى يده قبل أربعين سنة، فأودعها خزانة من خزانات المصارف بقيت فيها مختومة مجهولة المحتويات إلى شهر مارس من هذه السنة «1956».
6
أما الكاتب الآخر «أورلوف» فقد أذاع خبر وثائقه على حدة بعد انتهاء الحملة على ستالين من جانب الكرملين، وأوجز بيان القصة في مقال نشره بعدد (14 مايو سنة 1956) من مجلة «لايف» وأفشى فيه ما كان يومئ إليه في كتاب إيماء قبل سنتين، خوفا من مطاردة ستالين له حيث يقيم وإشفاقا على من بقي من ذويه في البلاد الروسية. •••
ولقد أوردنا هذا الخبر عن خدمة «ستالين» للجاسوسية القيصرية؛ لأنه بعض المعلومات المجهولة التي أضيفت إلى تاريخه، وجرت في مجرى المعلوم المتفق عليه من حوادث ذلك التاريخ. ونحن - في الحق - لا ندري ماذا يزيدنا هذا الخبر من العلم بخلائقه التي يقل الخلاف عليها بين أنصار الشيوعية وأعدائها، فإن خلائق الإجرام والغدر والخبث وتسخير المذهب في خدمة الشهوات والأهواء كلها من الوقائع المتواترة التي قلما تحتاج إلى أقوال يتقارب فيها الأصحاب والخصوم.
وإن يكن ثمة من شيء يوضحه هذا الخبر عن خدمته للجاسوسية القيصرية لم يكن واضحا من قبل هذا الوضوح، فهو سر «المهارب» الكثيرة التي نسبت إلى فرط الدهاء وبراعة الحيلة، فقد كان من الألغاز المبهمة التي فسروها بدهائه وحيلته أنه كان لا يعتقل مرة إلا تمكن من الهرب، ثم تمكن من الوصول إلى مؤتمرات الحزب التي تعقد في العواصم الأوروبية، ولم يكن من الاحتمالات المظنونة يومئذ أن حضوره تلك المؤتمرات وظيفة يؤديها للجاسوسية القيصرية، فلا ألغاز إذن في تلك «المهارب» المثالية؛ لأن سرها الخفي لم يكن من عمله بل من عمل معتقليه.
وبعد فإن هذا الاستطراد إلى الإلمام بطبائع الزعماء الشيوعيين، إنما دعانا إليه أنهم جميعا ممن يفسرون لنا دعوتهم، بما ركب فيهم من الشر والعوج وسوء الطوية، وليس هؤلاء الزعماء الخمسة ممن يختارون جزافا لإبراز هذه الظواهر المرضية فيهم وفي دعوتهم، فإنهم زعماء المذهب المفروضون على كل باحث يذكر المؤمنين من زعمائه المؤسسين. ولو أضفنا إليهم مائة سيرة من سير النابهين في المذهب لما غيروا شيئا من هذه الظواهر المرضية بين أناس مطبوعين على الشر، وأناس مشوهين ممسوخين يحز في نفوسهم ما يعتلج بها من النقص وفقد الرجولة.
ومن الواجب على الباحث العصري أن يلتفت إلى خطر هذه الإحنة التي تبين من تحقيق النفاسيين، أنها أفشى مما كان مقدورا لها وأوبل خطرا على المجتمع من سيئاتها الفردية، فإن استقامة الغاية أبعد شيء عن مخلوق لا هو بالرجل ولا هو بالمرأة، ولا يجهل أنه محتقر في مقاييس المجتمع، فلا يزال في باطنه مشغولا بتحقير كل قسطاس قويم مولعا بالكيد والمماحكة على دأب الممسوخين المحرومين من ثقة الرجولة وثقة الأنوثة على السواء، ولعل الشرير المطبوع على الشر أو التواء الفهم من أصحاب هذه الإحنة التي تلتوي بالضمائر والعقول، فلا يفهم من تخفى عليه طواياها فيم هذا الالتواء، ولا حاجة بها إلى الفهم في الواقع، إلا أنها لا بد أن تكون هكذا نقيضا لاستواء الضمائر والعقول.
والشر الذي يغلق كل باب من أبواب الإصلاح غير بابه إلى النقمة والنكال، قد يكون حلا مرضيا للمشكلات المرضية في طبائع هؤلاء الممسوخين ولكنه لن يكون حلا علميا لمشكلات العصر كائنا ما كان مبلغ العرفان الذي يستند إليه.
فلا تفسير لدعوة الشر المطبق إلا سخيمة الشر المطبق في نفوس الداعين إليه، ولا جديد في أمر هؤلاء الداعين في القرن العشرين، إنهم بلية هذا العالم في كل زمن، وإنهم الخلفاء المسبوقون بالأسلاف في كل وطن، ومنهم أسلاف في عصر كل دعوة إلى الإصلاح، ومنهم أسلاف في عصر الدعوة المحمدية يدل عليهم ما جاء في القرآن الكريم:
ولا تطع كل حلاف مهين * هماز مشاء بنميم * مناع للخير معتد أثيم * عتل بعد ذلك زنيم .
فهذا الشر المطبق هو الشر المانع للخير، الشر الذي يصدر عن طبيعة تنطلق مع الأذى وتحس بالخير كأنه حجاب يخنقها أو سور يصدها فلا تطيقه حاضرا ولا تطيقه أملا يسعى إليه من يرجوه.
وتلك كانت شنشنة الدعاة الذين قرروا أسبابهم الواهية، وقرروا أن يربطوا بها الماضي والمستقبل ولا يدعوا منها سببا واحدا يرتبط بغير ما ربطوه، وقرروا مع هذا وذاك أنها كافية للهدم والنكال، كافية لتحريم كل سعي إلى التقدم والأمان، كأنه تجديف أو تعديل في محكم التنزيل. •••
وإذا كانت الظواهر المرضية هي التفسير الحاضر القريب لبواعث الدعوة من نفوس واضعي المذهب ومنفذيه، فهي - فيما عدا المتعجلين من العابثين والمخدوعين - أقرب تفسير للإقبال على الدعوة بين الطغام الذين لا يفقهون من مجادلاتها ومباهلاتها إلا أنها تخف بهم إلى الشر فيخفون إليه بما طبعوا عليه من النقمة والحقد وكراهة الخير لكل محسود ينفسون عليه حظه من دنياه، وتأتي إليهم الشيوعية - وهم متحفزون قبلها للشر محجمون عنه إحجام الخوف والشك - فتغريهم به وتجمله في أعينهم وتسميه باسم التقدم والإصلاح، ولا تكلفهم جهدا من الأخلاق ولا جهدا من التفكير بل تعفيهم من كل جهد كانوا يستثقلونه في ظل العرف المأثور وترسلهم مع الغريزة الوحشية خفافا إلى الأذى غير محجمين عنه ولا مترددين بين مسالكه، ولا مرتابين فيما يستحقونه عند أمثالهم من الحمد والتشجيع على هذا الصنيع.
وفيما عدا المتعجلين من العابثين والمخدوعين لا تعني الشيوعية عند المقبلين عليها إلا أنها الجريمة الممنوعة تسربلت بالزينة والجمال في زي التقدم والإصلاح، وقد كانت الجريمة محرمة عليهم وهي موسومة بشناعتها وخستها وهم لا يمسكون أنفسهم عنها ولا يقدرون على مقاومتها، فإذا لاحت لهم مزوقة محبوبة مشكورة، فأحرى بهم أن يفتتنوا بها ولا يكون قصارى الأمر معها أنهم يتهيبونها ويعالجون الابتعاد عنها فيستطيعون أو لا يستطيعون.
والمتعجلون الذين يستثنون من هؤلاء الأشرار المطبوعين فريقان: فريق العابثين أصحاب الدعاوى الباطلة على المجتمع، ويكثر عديدهم بين أشباه المتعلمين، وفريق المخدوعين الذين يصيخون لوعود البر والعطف، ويكثر عديدهم بين المحرومين الذين يطلبون الإنصاف بحق، ولكنهم يصدقون كل وعد مكذوب يستغلهم به المحتالون الدجالون، أو يستغلون به لهفتهم على الإنصاف وطيب العيش باسم الشيوعية أو باسم ما شاء المحتال الدجال من فخاخ المكر والضلال.
يكثر عديد العابثين بين أشباه المتعلمين؛ لأنهم لا يفهمون من التعلم إلا أنه حجة الدعوى على المجتمع المسكين، يجيبها لهم طوعا أو يكون أهلا للشكوى والاتهام وأهلا للتحلل من قيوده والتمرد عليه، شكواهم على قدر دعواهم، ودعواهم على قدر غرورهم بما يسمونه العلم، وهم براء منه؛ لأنهم يجهلون أبسط حقائق الحياة. وأبسط حقائق الحياة أن يعمل العامل فيتعثر في طريقه مرة، ويستوي على نهجه مرة أخرى، ويظفر مع الزمن بحقه المقدور على حسب اجتهاده وكفايته، ولا يوجد في الدنيا - وهيهات أن يوجد فيها - مجتمع يقف على باب المدرسة ليلقي على إجازة التعليم نظرة عاجلة، ويلقي بين يدي صاحبها آكام الثروة ودسوت المناصب وشارات المجد والفخار ينتقي منها ما يهواه، ويرفض منها ما ليس على هواه.
ولقد سمعنا من هؤلاء من يقول: إنني أحمل الإجازة المدرسية التي يحملها رئيس الوزراء، فلماذا أتسكع أنا على أبواب الدواوين، ويتمتع هو بأكبر المناصب وأفخر الألقاب؟
وما رأينا أحدا من هؤلاء يسأل نفسه: أين هو المجتمع الذي يحاسبه بهذا الحساب، ويعترف له بالحقوق في الحياة العامة أو الحياة الخاصة على هذا الأساس.
إنهم لا يسألون أنفسهم هذا السؤال؛ لأن العبث بالمذاهب أيسر لهم من السؤال والجواب، ومن احتمال الحقائق على الخطأ أو على الصواب.
وأوضح عذرا من هؤلاء العابثين أولئك المحرومون الذين يصغون لكل «وصفة» اجتماعية إصغاء المريض الحائر لكل من يخلط له الدواء ولو عالج الداء بالداء؛ لأن الشعوذة - كيفما كانت - أمل أحب إليه من الصبر على البلاء، وأدنى إلى مستطاعه من التمييز بين دواء ودواء.
هؤلاء يقبلون على الشيوعيين، كما يقبلون على غير الشيوعيين، وينخدعون كلما انفتح أمامهم باب الخديعة فلا يتعظون بالحوادث، ولا يقدرون على المراجعة بين ماض وحاضر ولا على المقابلة بين خادع وخادع، ولعلهم لا يحبون تلك المراجعة ولا يستريحون إليها؛ لأنها عناء يشغلهم عن التعلل بالرجاء.
وقد استجابت جماعات من هؤلاء المحرومين لألوان من الدعوات في قارة واحدة هي قارة أمريكا الجنوبية، استجابوا في تلك القارة لمن ينادي بالشيوعية، ولمن يحرم الشيوعية ويعاقب عليها، ولم يمض غير قليل حتى تجلى لهم عيانا أن داعية الشيوعية يعيش في قصوره عيشة القياصرة، وأن داعية الدين يكفر به ويتبرأ منه ويفسق في مخادعه فسوق الشياطين، وفتحت أبواب هذا الداعية لعباده بالأمس، فخرجوا يقولون: «ما كان أغفلنا من حمقى.»
لماذا ؟ إنهم لم يجدوا هنالك ترفا يشتهيه العاقل أو يحمده الذوق السليم، بل وجدوا الترف الذي يختلط فيه جنون الشهوة الجامحة وبطر الذوق الممسوخ، ومن أفانينه عدة تليفونية مصنوعة من الذهب مرصعة بالجوهر، يدور منها في مكان الجرس بلبل يغرد تغريدة الدعاء كلما طلب الرقم للحديث.
في شئون الإصلاح والتعمير والإنشاء هؤلاء هم المتعجلون المخدوعون.
وأولئك هم المتعجلون العابثون
وربما استمع كلاهما لدعوة الشيوعيين وهم على فطرة قويمة سليمة، لولا داء الضرورة وداء الغرور، وليس كذلك من عداهم من الملبين لتلك الدعوة والمستجيبين لغوايتها، فمن عدا المتعجلين المخدوعين والعابثين هم في الغالب شيوعيون مولودون، موجودون في الدنيا ولو لم يوجد فيها «كارل ماركس» وأعوانه من الزعماء المؤسسين والمنفذين، وشأن الأتباع كشأن الزعماء في الولع بالشر أينما ثقفوه والمبادرة إليه كلما استطاعوه، لا ترى فيهم إلا مضطغنا ينتظر أن يضطغن عليه، أو ممسوخا يستمرئ القسوة والعداوة ولا يستمرئ الرحمة والمودة، أو مشتملا على خزي دفين يتحدى به العالم تبجحا ومروقا من الحياء، ولن يشقى زعماؤه المتصدون لإقناعهم بشقاء العنت في الإقناع كما يشقى زعماء الدعوات التي تجشم الناس جهدا في الأخلاق أو جهدا في التفكير، وإنما العناء مع هؤلاء أن تثنيهم عن غزيرة تعبت في رياضتها ألوف السنين ولم تثنهم عنها، وأن تبعدهم عن النكسة إلى ضراوة الهمجية، وقد وجدوا من يتغنى بها ويقول لهم إنها هي التقدم والوثوب إلى الأمام! •••
ومحصول الدعوة ومن يدعو إليها ومن يلبيها، أنها داء يعالج معالجة الأدواء ويحمى منه الأصحاء، وقلما يقع فيه الصحيح إلا وهو شبيه بمرضاه في عرض من الأعراض يحجب الإرادة في نفوس لا تستعصي إرادتها على الحجاب، ويضلل الفكرة في عقول لا تمتنع على التضليل، وبين هؤلاء الأصحاب الشبيهين بالمرضى جماعة المخدوعين وجماعة العابثين.
ومما يحزن العاطفين على ضحايا الخداع أنهم معذورون يشفع لهم عذر اللهفة والحرمان ولا ترحمهم الحوادث لأنهم معذورون، فما كان السقام ليرحم مريضا يؤثر الشعوذة على الطلب ويعرض عن الطبيب الأمين ليهرع باختياره إلى تجرع السموم من يد المحتال الأثيم.
ومما يحزن العاطفين على ضحايا العبث والغرور ، أنهم يهزلون بالشكوى فلا تمهلهم الشكوى الهازلة أن تعلمهم الحد في شكواهم، وأن تبتليهم بالآزفة القاصفة ولا ترثي لبلواهم، فلا يلقون لديها إلا الجد الصارم ولا تلقى لديهم إلا ندامة الهازل المغرور!
ولقد خرجنا من محصول المذهب بغنيمة الصحة منه إذا عرفنا دخيلته وأيقنا - بعد ما ابتلى من مرضاه وأشباه مرضاه - وأنه ليس بالفكرة التي ينفذها البرهان، ولا بالمطلب الذي يرضيه الإنجاز، ولكنه مرض لا نسلم منه إلا أن نتتبع مواطن جراثيمه، وأن نتتبع مع هذا أسباب سريانه وانتقال عدواه، وهان بعد ذلك كل خطر يغشيه من وحي العلم أو التفكير.
الحاضر
حاضر الشيوعية في منتصف القرن العشرين نتيجة لقرن كامل منذ منتصف القرن التاسع عشر، مضى أكثره في الدعاية والجدل، ومضت البقية منه في التطبيق أو محاولة التطبيق - بعد الحرب العالمية الأولى أي منذ أربعين سنة تزيد على تاريخ جيل كامل بحساب الأجيال البشرية، وتكفي لامتحان فلسفة الحياة التي تطبق في خلالها من المهد إلى عنفوان الشباب.
وقد أتيحت لدعاة المذهب خلال هذا الجيل فرصة لم تكن متاحة قط لمذهب اجتماعي أو عقيدة دينية؛ لأنهم ملكوا أزمة الحكم بين مائتي مليون إنسان، واجتاحوا كل عقبة أو تخيلوا أنها قائمة دون غايتهم، ولو كلفتهم ما لا يحصى من الأرواح واستباحوا من أجلها كل ما لا يستباح.
والحاضر - بعد هذه الفرصة التي دامت لهم أكثر من جيل كامل - أن مبادئ الفلسفة المادية لم تصنع شيئا غير ما يصنعه كل قابض على زمام دولة من الدول الكبار على الخصوص، لأن الاستكثار من الأسلحة والمصنوعات الضخمة سياسة تمت على أيدي النازيين في ألمانيا، والفاشيين في إيطاليا، وهم يناقضون الشيوعية في قواعدها ومقاصدها، ويدينون بالمبادئ التي قامت الفلسفة المادية لمحاربتها وإدحاضها. وهذه السياسة بعينها هي السياسة التي تمت على أيدي الرهط الاستعماري من نبلاء اليابان، فأنشئوا في بلادهم صناعة وافية بأغراض التسليح و«التصنيع» وبذر السلع المصنوعة في أسواق العالم بأيسر الأسعار.
وما أنجزته هذه السياسة في الدول الكبرى قد أنجزته سياسة مثلها في الدول الصغار، وشهدنا نماذج منه في بعض الأقطار الأوربية وما شاكلها من الأقطار البدائية أو الشبيهة بالبدائية في أمريكا الجنوبية، فليس في هذه السياسة فضل خاص للمذاهب الشيوعية أو لفلسفة «كارل ماركس» وأتباعه الروسيين.
وفيما عدا التسليح والتصنيع، يقال على الإجمال: إن التجربة في الدولة الشيوعية الكبرى قد نجحت بمقدار ما تركت من المذهب لا بمقدار ما أخذت منه؛ لأنها تبتعد سنة بعد سنة من عقائد المذهب الذي قامت عليه، ولا استثناء في ذلك لعقيدة واحدة من تلك العقائد، سواء منها ما يعم الحياة الاجتماعية وما يخص الحياة الفردية.
لا «ماركسية» إذا كان هناك دين ووطنية وأسرة وملكية خاصة وطبقة حاكمة، وتفاوت في درجات المعيشة كالتفاوت في مجتمعات رأس المال بين أغنى الأغنياء وأفقر الفقراء.
وكل ما في الدولة الشيوعية، في الوقت الحاضر بعد أربعين سنة - يدل على الاعتراف، ثم المزيد من الاعتراف بتلك المحرمات المحظورات التي قامت الماركسية لمحوها أو للابتعاد منها عاما بعد عام، فلا يكون عامها الأربعون أقرب إلى مجتمعات رأس المال من عامها العاشر أو العشرين.
فالزعماء الملحدون قد اضطروا على الرغم منهم إلى الاعتراف بالكنائس والشعائر الدينية في مجتمع تسلموه منذ أربعين سنة؛ أي في مجتمع ليس فيه أحد من العاشرة إلى الخمسين لم يتتلمذ لهم، ولم يسمع منهم في المدارس والمعاهد والأندية أو المتاحف الموقوفة على نشر الإلحاد والتشهير والزراية بالدين والمتدينين، وما اضطرهم إلى الاعتراف بالكنائس والشعائر الدينية إلا شعورهم بإفلاس الضمائر التي تعول على الفلسفة المادية في هدايتها إلى المثل العليا وآداب الإنسان في معاملته لإخوانه من الناس.
والوطنية قد اعترفوا بها لمثل هذا السبب في معمعة الحرب العالمية الثانية، وهي أول حرب خاضوا غمارها بعد قيام الدولة الشيوعية، وامتحنوا فيها قوة الشجاعة التي يستمدها المادي من عقائده المادية، وقوة المحارب الذي يذهب إلى الميدان ليدافع عن تلك العقائد، أو ليدافع عن وطن يعتقد أنه أخدوعة من أخاديع رأس المال.
وقد رأينا كلامهم في مؤتمر الفلسفة عن الأسرة وقداستها وقيام المجتمع والوطن على دعائمها، وقبل ذلك بسنوات كانوا يبيحون للأسرة في المزارع المشتركة أن تحتجز لها قطعة من الأرض تسكنها وتربي الماشية والدواجن فيها، ويورثها الآباء للأبناء على سنة «الكولاك»، الذين قتلوا منهم الملايين لغير ذنب إلا أنهم كانوا يملكون من الأرض قطعة لا تزيد على القطعة التي يستأثر بها فلاح المزرعة المشتركة في هذه الأيام.
وحكاية الطبقة أهم من مسائل الدين والوطنية والأسرة والملكية الخاصة على شدة الاهتمام بها عند أصحاب التفسير المادي للتاريخ؛ لأن الطبقة الواحدة هي غاية التاريخ الإنساني كله في رأيهم، وهي الأمل الذي يترقبونه، والعذر الذي يعتذرون به لكل موبقة يستبيحونها في سبيله، ومضت السنون الأربعون، ولم تفلس نظرية من نظرياتهم العديدة، كما أفلست هذه المسألة المحيطة بها من فواتحها إلى خواتيمها، فلم يبطل قيام الطبقة الحاكمة بعد انتهاء الاستغلال على أيدي أصحاب الأموال، وقامت طبقة جديدة تتحكم في المجتمع على نحو لم يؤثر قط في بلد من البلدان عن أصحاب رءوس الأموال، لأن أصحاب رءوس الأموال يشركون معهم في الأمر خبراء الصناعة ومهندسيها ومديري المصانع بالمعرفة الهندسية أو بالمعرفة الاقتصادية، وأما هذه الطبقة الجديدة التي نشأت في المجتمع الشيوعي، فهي طبقة الخبراء والمهندسين وعلماء الاقتصاد مستقلة عن أصحاب رءوس الأموال، أو أصحاب الأسهم في الشركات.
وتفاوتت درجات المعيشة مع تفاوت الطبقات، فعرضت في واجهات الحوانيت سلع تباع بألوف الجنيهات، وظهر الساسة والرؤساء بأزياء أغلى أو أفخر من أزياء نظرائهم في بلاد الماليين، وتناسق البذخ في المساكن والمركبات والولائم والمطاعم مع هذا البذخ في الشارة والكساء.
وتتمة الإفلاس في أمر الاستغلال وأثره في قيام الطبقة الحاكمة، أن استغلال أصحاب رءوس الأموال بطل، ولم يبطل معه قيام السيطرة الجائرة التي تغتفر إلى جانبها سيطرة القياصرة العتاة في أظلم العصور، وبدا للعارف والجاهل أن ختام الطبقات القديمة لم يختم وسائل الطامحين إلى الطغيان بالحيل السياسية أو التنظيمات الحزبية، فإن «ستالين» قد استطاع بحيلة من حيل التنظيم أن يخضع مئات الملايين من الروسيين وجيرانهم لطغيانه الساحق زهاء ثلاثين سنة، كان في خلالها يشير بإصبعه، فيقضي على عشرات الزعماء وعلى المئات والألوف ممن يلوذ بهم في الحقيقة أو الخيال، وبقي ظل الإرهاب الكثيف الذي بسطه على البلاد ثلاث سنوات بعد موته، لم يجسر أحد من القادة أن ينبس في خلالها بلفظة عابرة في انتقاده، حتى انقشع ذلك الظل الكثيف شيئا فشيئا، وخفت وطأة الرهبة التي كان يرسلها عليهم من وراء قبره، فقالوا عنه أبشع ما يقوله عدو من ألد الأعداء، وكان فيما قالوه عنه ما لم يقله أحد عن أشهر القياصرة بالظلم والفساد.
ترى فيم ذهبت أرواح الملايين من القتلى والمعذبين وضحايا المجاعة والتشريد؟ ماذا كان يصيب روسيا وجيرانها من سوء الحكم أسوأ من هذا المصاب؟
كانت على أسوأ الفروض، وفي أحلك العهود، تفقد آلافا من ضحايا المجاعة أو الاضطهاد، فإذا كان حساب الأرواح مقدما على كل حساب، فهذا هو حساب الفرق في الثمن والغنيمة بين أسوأ العصور وعصر الشيوعية الذهبي كما قدروه وفرضوه؟
هل تساوي الغنيمة ثمنها بعد هذا الحساب؟
وهل بعد هذا الحساب يؤمن المفسدون المطبوعون على الشر بفداحة الثمن، ويقلعون عن التجربة التي أغراهم بها من قبل، وثوقهم الأعمى بشخاشخ المذهب الذي لم يتماسك قط في محك النظر، ولا في محك التجربة والتطبيق؟
كلا.
بل هم يطلبون في فرصة أخرى تشمل العامل كله؛ لأن التجربة في مائتي مليون من أبناء هذا العالم لا تكفي، ولا تشبع النهم إلى الشر في نفوس الأشرار.
لا بد من تعطيل دعوات الإصلاح في جميع الأمم، وتكرير الضحايا على هذه النسبة بمئات الملايين بعد عشراتها في التجربة الروسية، عسى أن تفلح في الكرة الأرضية دفعة واحدة بعد أن خابت أربعين سنة في بلاد القياصرة وما جاورها، وماذا على الدنيا لو أمهلت هؤلاء الدعاة أربعينين أو ثلاث أربعينات يهلكون فيها من يهلكون على وعد «شرف» منهم بالنتيجة التي يضمنونها على هذا المنوال؟
إن أولئك الدعاة ليقولونها بقلة مبالاة إن لم يقولوها بإيمان ويقين.
ولكننا نحسب أن الحاضر من نتيجة التجربة أربعين سنة قد رد الشيوعية إلى قرارها في كل طبع سليم، فأكبر ما تحتويه أنها دعاية شغب تتساوى مع عشرات الدعايات من قبيلها عند من يهرعون إلى كل فتنة، ولا يفرقون بين دعاية ودعاية تغريهم بالهجوم عليها، أما إنها فلسفة تقاس بمقاييس العلم والفكر، أو نظام صالح للتطبيق، فذلك وهم لم تبق منه باقية في غير الضمائر السقيمة وبحوث النفاسيات.
المصير
من علماء الاجتماع والسياسة من يتشاءم من مصير الحرية الإنسانية، ويخيل إليه أن دور الديمقراطية قد انتهى، ووجب أن يخلفه نظام يسمح بالتدخل في حرية الفرد وحرية المعاملات على اختلافها؛ لتنظيم الثروة العامة، وتحقق البرامج التي توضع للحاضر والمستقبل في وقت واحد، ولا يتأتى تنفيذها بغير تقييد المعاملات بين الأفراد، وبغير اتباع نظم التأميم في بعض المرافق والمشروعات.
والتحول الذي يلاحظه العلماء المتشائمون حاصل متسع النطاق، ولا منازعة في وقوعه واتساع نطاقه، ولا منازعة بين بعضهم في وجوبه وصعوبة الاستغناء عنه، ولكن هذه الملاحظات الصادقة جميعا لا تستلزم الجزم بانتهاء عصر الديمقراطية وعصر الحرية الفردية؛ لأنها قد تكون من عوارض العصر الحاضر في طريق طويل، تتجدد عوارضه فترة بعد فترة، ثم تنتهي هذه العوارض، ويخلفها طور جديد من أطوار الديمقراطية يدل على النمو والامتداد، ولا يسوغ التشاؤم من الحاضر أو المصير.
ويرجح هذا الاعتقاد أمران: أحدهما: أن الحرية الإنسانية تراث التاريخ كله، كما ينجلي لنا من جملة أدواره وأطواره، وليست عرضا متقطعا تبديه لنا صفحة من التاريخ هنا وهناك، ثم تطويه صفحة تليها إلى غير رجعة.
والأمر الآخر: أن التنظيم لا ينفي الحرية ما دام حكمه ساريا بين الناس على سنة المساواة، وما دام سلطان الحاكم فيه مستمدا من إرادة الجميع منصرفا إلى تدبير شئون الجميع، فإن تنظيم مواعيد القطارات والبواخر - مثلا - لا يؤدي إلى تقييد حرية السفر أو تقييد حرية المسافرين، وقد يؤدي إلى تمكينهم من السفر الذي يحول دونه ترك «المواصلات» فوضى على غير نظام.
والذي يرجح لدينا أن القيود الحاضرة عوارض موقوتة، وأن أسبابها الموقوتة معروفة، لا تختلف عن طبيعة القيود الموقوتة التي تدعو إليها الأحوال الاستثنائية، كأحوال الحروب والانتقال من طور إلى طور في نظام الدولة أو حياة الجماعة، وقد يكون من دواعي التفاؤل أن هذه العوارض الموقوتة خلقتها حركة التقدم واتساع مجال التطبيق، ولم تخلقها نكسة من نكسات التاريخ التي تعوق الحركة إلى الأمام.
ألا يمكن أن تكون هذه العوارض جميعا راجعة إلى اتساع العلاقات العالمية، واتساع الحقوق السياسية بين جماهير المحكومين؟
بلى، يمكن ذلك، بل هو التعليل الوحيد الراجح بأسبابه المشهورة بين سائر التعليلات.
فالتنظيم والتأميم خطتان لا مناص منهما مع اتساع العلاقات العالمية، وارتباط المعاملات بين الأمم في شئون الزراعة والاقتصاد وشئون الإصدار والإيراد، ومن نتائج هذا التنظيم والتأميم أن «تتركب» الأوضاع الديمقراطية في ميدان عالمي متضامن متكافل بعد انحصارها في حدود كل أمة من الأمم، التي كانت تستغني عن التوفيق بين أحوالها والأحوال العالمية، فتستغني بذلك عن التنظيم والتأميم.
ويتمشى مع هذا الاتساع العالمي اتساع مثله في الحقوق السياسية، يقضي به اشتراك جماعات من الجماهير في الحكم، لم يكن لها من الحكم نصيب كبير ولا صغير.
هذه الجماهير لا بد لها من مفتتح في هذا المجال، تفتتح به تجاربها على نحو من الأنحاء، ولا بد أن تتعثر في هذا المفتتح إلى حين، ريثما تدرك ما حولها من العلاقات القومية والعلاقات العالمية حق إدراك، فلا تنخدع بالسهولة التي ينخدع بها من يقضي حياته - كما انقضت حياة آبائه من قبله - بمعزل عن مسائل الحكم وكفاياته وكفايات القائمين به والمتطلعين إليه، فإذا استقر بها القرار عند حدودها التي تعرفها باختيارها أو تقسرها الضرورة على عرفانها، فهذه الحالة المنظورة أدنى إلى الديمقراطية من حالة العزلة التي حجبت تلك الجماهير عن واجباتها وحقوقها، وتركتها عرضة للخداع والتضليل ممن يقصدون خداعها وتضليلها أو ممن ينقادون بها - أو معها - مخدوعين مضللين.
وسينتهي الشطط في استخدام الحقوق السياسية لا محالة، متى انتهت كل طائفة من طوائف المجتمع إلى حدودها، وعلمت أنها عاجزة عن تجاوز هذه الحدود للجور على الطوائف الأخرى؛ لأن الطوائف الأخرى تملك مثلها سلاح الدفاع عن حقوقها ومصالحها بحكم القانون الصادر من الجميع لمصلحة الجميع.
ولم تصل طوائف المجتمعات في الأمم المختلفة إلى هذا الحد الذي يمتنع فيه الجور من طائفة على أخرى، فإن الطوائف الوسطى في أكثر المجتمعات لا تزال محرومة من سلاحها الاجتماعي، الذي تذود به شطط العلية وشطط الجماهير، ولا تزال مكتوفة اليدين أمام سلاح النفوذ والجاه من جهة، وسلاح الإضراب والشغب من الجهة الأخرى، فإذا وجد في يديها سلاحها الاجتماعي - ولا بد أن يوجد مع الزمن؛ لأنه مطلب تدعو إليه مصلحة الجميع، كما تدعو إليه ضرورة الدفاع عن الذات - فهنالك تنتظم الحقوق السياسية قسرا بين أناس لا يملك بعضهم أن يجور على بعض، ولا يعجز فريق منهم عن دفع هذا الجور إذا اجترأ عليه فريق يشتط في طلب الحقوق، وتقوم الديمقراطية يومئذ بقوة الدفاع عن الذات، كما تقوم بقوة العقيدة والإيمان. •••
ولعلنا - في المجتمع المتزن المنتظم - نفرغ من غاشية الحقوق التي استفحلت في العصر الحديث حتى أصبح لها وبال لا يقل في خطره عن وبال الظلم والغشم في عصور الظلمات؛ لأن ادعاء الحقوق لا يقل عن جهل الحقوق في سوء عقباه.
وقد غبرت على الناس عصور كانوا يجهلون فيها حقوقهم، ولا يفرغون فيها من الواجبات المفروضة عليهم، كانوا مثقلين بالواجبات ممطولين في حقوقهم؛ بل ساكتين عنها يجهلونها ولا يطلبونها.
كانت هنالك واجبات الدين، وواجبات العرف، وواجبات الحاكم، وواجبات السادة على العبيد، وواجبات الآباء على الأبناء، وواجبات الكبار على الصغار، ولم تكن هنالك حقوق إلا الحق الإلهي الذي كان يدعيه مدعيه لإنكار جميع الحقوق.
فلما نهضت الأمم للمطالبة بحقوقها لم تظفر بها على هينة وهوادة، ولم تزل تجاهد فيها حتى بلغتها من غاصبيها، واستدارت إلى أنفسها تطالب بعضها بعضا بما يتخيله من حقوق مهضومة عند المجتمع المحيط بالطالبين والمطلوبين، إذ كانت بدعة المجتمع وتبعاته قد ظهرت في أوانها مع ظهور مظالم الطبقات ودعاوى الطبقات، وأوشك الأمر أن ينتقل جملة واحدة من كفة الواجبات إلى كفة الحقوق؛ لأننا لا نسمع إلا أحاديث عن حقوق كثيرة، ولم يذكر فيما بينها شيء من الواجبات.
حق الرعية، حق الجيل الجديد، حق المرأة، حق الطفل، حق العامل، حق الزارع، حق الكتابة، حق الخطابة، حق الاحتجاج، حق السخط والقلق ومركبات النقص والعقد النفسية، وظروف الحياة القاسية، وظروف الحياة التي توصف بما شاء المدعون من الصفات، إلى آخر هذا الطوفان المتدفق من الحقوق.
ومن يطالب بهذا الطوفان المتدفق من جميع هذه الحقوق؟
شبح واحد يسمى المجتمع، يتكلم الناس عنه كما كانوا يتكلمون قديما عن الدهر، وعن الحظ، وعن المقادير.
شبح مبهم لا ملامح له ولا شيات، هو المسئول عن كل أحد وعن كل حق، وعن كل شيء، وكل من عداه سائل لا واجب عليه؛ لأنه ألقى التبعة - بل التبعات جميعا - على ذلك الشبح المجهول.
فإذا زال ذلك الشبح المجهول يوما، وحل في محله كيان ذو صورة وأعضاء وحدود وأجزاء وجدوا أنهم يطالبون أنفسهم، وأنهم هم الهاضمون للحقوق، أو المقصرون فيها إذا تحدثوا بحق معروف من موئل في المجتمع معروف.
وأدركوا اضطرارا أن المطالبة بالحقوق - هي في الوقت نفسه - مطالبة بالواجبات، إذ كان المجتمع المسكين قد تحول من شبح مبهم في الظلام إلى «شخص» مرسوم تبدو فيه ملامح جماعاته وآحاده معروفة الطاقة معروفة العمل معروفة التبعات.
ولا ندري اليوم متى يتسق هذا المجتمع، ويتناسق على سوائه في كل أمة من الأمم التي تسير إلى المستقبل، ولكنها لا تسير إليه بخطوة واحدة ولا على هدى واحد، ولكننا ندري أنه يستقيم على سوائه، كلما رجحت فيه كفة «الإنسانية» على كفة الخارجين عليها.
مجتمع لبني الإنسان جميعا لا لطبقة تجور على سائر طبقاته، ومجتمع للعالم المتضامن المتكامل لا لمن يتسلط عليه ويسخره في خدمته بقوة المال والسلاح، ومجتمع تعمل فيه قوى الحياة الإنسانية من شعور عاطفة وخلق وفكر وعقيدة، وليس بالمجتمع الذي تحكمه الآلات والأدوات.
مجتمع الإنسانية وليس بمجتمع الشيوعية، وكل مصير يتحراه أو ينساق إليه بقوانين الحياة فله قسطاس واحد، يفصل بين الهداية فيه والضلال، إنه على هدى كلما كان مجتمع إنسان لبني الإنسان، في رعاية خالق هذا الإنسان وخالق جميع الأكوان.
نامعلوم صفحہ