ونظرت إلى السيارات الممنوعة عن السير حينئذ - وكنت قد خرجت من توي من حيث أقيم، مكروب النفس محزون الفؤاد - فإذا ضحكة تنطلق من صدري نقية خالصة لوجه الله؛ ذلك أني رأيت جملا واقفا في حركة المرور.
وقفت السيارات متزاحمة في أحجام مختلفة وألوان متباينة، فهذه سيارة نقل كبيرة تحمل أكداسا من القش المحزوم، وهذه سيارة أنيقة مزخرفة لامعة فيها سيدتان جميلتان، كانتا تطفحان بالزينة، ثم هذه وهذه وتلك ... وقفت كل هذه السيارات متزاحمة متحفزة للجري، كأنها جماعة من كلاب الصيد، قد تأهبت على أطرافها مرهفة الأذان محدقة العيون تنتظر من سيدها إشارة خفيفة، لتنطلق مع الريح إلى حيث قناص الصيد.
وأما الجمل، فقد وقف بينها شاخصا ببصره إلى الأفق البعيد. ونظرت إلى عينيه فرأيت فيهما ازدراء وامتعاضا. وقف الجمل في حركة المرور هادئ الأعصاب، قد أرخى أعضاءه عن طمأنينة ودعة؛ فشتان ما كان بين هدوئه هذا وتحفز السيارات التي حوله تأهبا للوثوب! هو في اطمئنانه لا يكاد يفرق بين حركة ومسير. أما هي فقد وقفت تمغص بأمعائها، كأنها لا تريد للحركة الدائبة أن تقف، فلما وقفت لحظة، هاجت أحشاؤها حتى لتوشك أن تتميز من الغيظ.
الفرق بين الجمل في استرخائه ذاك، وبين جاراته اللائي وقفن مختلجات الأعصاب، مضطربات الأبدان، هو بذاته الفرق بين مدنية ومدنية! هو الفرق بين مدنية ذهب زمانها وانقضى، ومدنية لها اليوم سيادة وسلطان، هو فرق بين مدنية قديمة لم تعرف للزمن قيمة، فآثرت أن تسير الهوينا على غير عجل، ومدنية حديثة تستقطر الزمن كل لحظة فيه؛ لكي يجيء عمر الفرد مترعا مليئا، وتجيء حياة الأمة منتجة خصيبة، هو فرق بين عهد الرماية بالقوس في الحروب، فتصرع العدو رجلا رجلا، وبين عهد القنبلة الذرية فتسحق الأعداء بلدا بلدا، هو فرق بين عصر كان الإنسان يغزل فيه نسجه بيديه، وقد ينسج الثوب الواحد في عام كامل! وبين عصر تخرج فيه الآلات نسجها أثوابا كل يوم ... هذا هو الفرق بين الجمل الذي وقف هادئا في حركة المرور وبين جاراته المتوثبات المتحفزات ... والعجيب أن الجمل لم يدرك تخلفه عن زميلاته، فراح يشخص إلى الأفق بنظرات ناعسة مسترخية، فيها ازدراء وامتعاض!
وسارت حركة المرور بسياراتها وجملها، ومضيت في طريقي، فما كدت أستقر في مكان قريب حتى سألت نفسي: ما الذي أضحكك لما رأيت الجمل واقفا في حركة المرور؟
أيكون ذلك؛ لأن الجمل كائن حي والسيارات من حوله آلات جامدة، وخضوع الأحياء لما تخضع له الجوامد يثير الضحك، كما ترى رجلا انزلق على الطين فوقع على الأرض، فتضحك لأنه قد تصرف كما يتصرف الجماد الأصم؛ إذ خضع للجاذبية، وسقط كما تسقط قطعة الحجر.
لكني سرعان ما عدت إلى نفسي قائلا: فيم هذا الإغراب في التحليل والتعليل؟! إن مبعث الضحك حين رأيت الجمل بين السيارات في حركة المرور، هو رؤيتك منظرا لم تكن تتوقع أن تراه. إن سر الفكاهة كلها هو في وضع الشيء في غير موضعه المنتظر، فإذا رفع ستار المسرح - مثلا - عن قرد، وكنت تتوقع إنسانا، انطلقت منك الضحكات لا تملك حبسها، وإذا رأيت القرد يتحرك حركات آدمية، وكنت تتوقعها منه حيوانية كالتي تعهدها في سائر الحيوان، انطلقت ضاحكا، وهذا هو نفسه ما يضحك حين يتصرف الأطفال تصرف الرجال.
فالذي أضحكني في الجمل حين وقف المسكين بين بنات عصر غير عصره هو بعينه ما يضحكني لو رأيت رجلا شيخا متهدما يلعب الكرة مع فئة من الشباب القوي الفتي، الوثاب السريع! أو هو ما يضحكني لو رأيت سلحفاة ثقيلة متحجرة، وقفت إلى جانب صف من الجياد في حلبة السباق!
يا ويح نفسي لو نظرت فرأيتنا بين بلاد العالم المتحضرة بمثابة الجمل الذي وقف مع السيارات في حركة المرور!
أليس من حقي أن أضحك ملء شدقي إذا ما رأيت الشادوف في القرن العشرين لا يزال يئن تحت أصابع الفلاح، ورأيت المحراث لا يزال يشق الأرض إصبعا إصبعا، ورأيت النقل لا تزال أداته الحمار! والعجيب - بل إنه لأعجب العجب - أننا ننظر إلى الأفق كما كان ينظر الجمل، بنظرات ناعسة مسترخية، فيها امتعاض من مدنية عصرنا، وفيها ازدراء!
نامعلوم صفحہ