وكان من الطبيعي عندئذ، أن ترد على خاطري قصة ديوجنيس، التي لا بد أن يكون كل قارئ قد سمع بها، ديوجنيس الذي رأوه في أثينا ممسكا بمصباح، وهو يجوب المدينة ليلا أو نهارا، حتى إذا ما سئل: عم تبحث يا ديوجنيس في ضوء مصباحك؟ أجاب: أبحث عن «الإنسان!» إذن فماذا عسى أن تكون هذه الألوف البشرية التي تملأ فجاج الأرض وشعابها إن لم تكن ناسا تتصف بصفات الإنسان الذي يبحث عنه ديوجنيس؟! ... بعبارة أقصر وأوضح: متى يكون الإنسان «إنسانا»؟
بديهي أن الطعام والشراب والنعاس واليقظة والمشي والوقوف والتنفس والتناسل وما إلى ذلك؛ يستحيل وحدها أن تجعل من الكائن الحي إنسانا؛ لأن الكلاب والخنازير لا ينقصها من ذلك شيء، بل إني لأرفض أن يكون التفكير - فاسدا كان أو سليما - هو الذي يميز الإنسان من سائر ضروب الحيوان؛ فالرجل «المفكر» قد يبهرك بتفكيره ويروعك بحدة ذكائه، لكنه لا يستميل قلبك ولا يستثير حبك ولا يحرك عطفك بتفكيره أو ذكائه. اقرأ لمؤلف في علم الرياضة أو الطبيعة أو الطب أو ما شئت من علوم، اقرأ له ألف كتاب أفعمت صفحاتها بالفكر المبتكر الجديد؛ فستعجب به، وستهولك قدرته، لكنك لن تحبه (ولن تكرهه) من أجل فكره ذاك، لكن اسمع عن ذلك المفكر المجيد خبرا واحدا ينبئك عن معاملته الناس بالحسنى؛ يقرب من قلبك الرجل، ويستثر في نفسك الحب والعطف؛ لأنه بذلك - لا بغيره - يكون إنسانا، بل ماذا أقول؟ أأقول إن الكلب الأعجم يدعوك أحيانا بفعلة خير يفعلها إلى حبه ما لا تثيره في نفسك ألف معادلة رياضية يبتكرها عالم؟
معاملة الناس بالحسنى هي أول ما تبادر إلى ذهني من صفات تجعل من الآدمي «إنسانا»، ولا فرق بعد ذلك أكان ذلك الآدمي غنيا أم فقيرا، عظيما أم حقيرا، متعلما أم جاهلا. وإن فقد الآدمي هذه الصفة اليسيرة البسيطة كان أقرب إلى الهمجية والبدائية والتوحش مهما ظن بنفسه ارتفاع الشأن وعلو المنزلة. لكن معاملة الناس بالحسنى صفة تحتاج إلى شيء من التحديد والتحليل، فما عسى أن تكون في لبها وصميمها؟
انتهيت بعد التفكير إلى جواب لا أتشبث به، بل أعرضه على القارئ اقتراحا؛ لعله يصادف عنده قبولا، أو تعديلا وتصحيحا. وله بالطبع أن يرفضه ليستبدل به ما يراه صوابا فيفيدني به، وله عند الله حسن الجزاء.
انتهيت إلى أن الإنسان يكون إنسانا بمقدار ما وهبه الله من قدرة على ألا ينظر إلى الناس نظرة التاجر إلى سلعه وزبائنه، وتسألني: كيف ذلك؟ فأجيب: إن العلاقة بين البائع وزبائنه هي بعينها العلاقة التي تربط الإنسان بالأشياء الجامدة. فأنا - مثلا - أحرص على هذا المصباح الذي أمامي بمقدار ما يهبني من ضوء أستعين به على القراءة والكتابة؛ وإلا فلن أتردد في تغييره بما هو أصلح منه. وكذلك العلاقة بيني وبين منظاري، فتراني أمسحه وأنظفه حينا بعد حين؛ لأنه يعيني على الإبصار. ولو لم يفعل؛ لكان نصيبه مني الإهمال المحقق، فلا مسح ولا تنظيف ولا عناية، وهكذا قل في كل شيء جامد مما يصادفك في مجرى حياتك: في ثيابك وأدواتك وأثاثك وما إليها، فلا يربطك بكل هذا إلا رباط المنفعة. إن نفع الشيء؛ احتفظت به وحرصت عليه، وإن لم ينفع نبذته نبذا، وهي نفسها العلاقة بين البائع وزبائنه؛ فأنت عند البائع مكرم مبجل ما دمت نافعا، حتى إذا ما انتهى عنده نفعك انفصمت كل علاقة بينك وبينه.
ولعل أبشع جوانب هذه النظرية «السوقية» (نسبة إلى السوق التي يتم فيها البيع والشراء) هو ما يبدو منها حين تنشأ هذه العلاقة نفسها بين المرء ونفسه! إي والله، إن الإنسان قد يهوي إلى هذه الهاوية السحيقة؛ فيجعل من نفسه لنفسه بائعا. وعندئذ يقيس قيمة نفسه في نظر نفسه بمقدار ما يراها سلعة صالحة للرواج في أهل عصره. ولا عبرة بعد ذلك أكانت لها قيمة حقيقية ذاتية أم لم تكن! نعم؛ فقد يشق الإنسان نفسه شطرين: بائعا وسلعة! فكما يبيع البائع سلعته لمن يدفع فيها أغلى ثمن، فكذلك هو يبيع نفسه لمن يشتريها من الرؤساء أو الحكام أو من شئت من صنوف البشر! ليس على العامل الذي يبيع صناعته وثمرة مجهوده لوم ولا تثريب، لكن ماذا أنت قائل فيمن يصنع نفسه صناعة أعني أنه يشكلها تشكيلا على النحو المطلوب ليرغب فيها الراغبون؟! فإن كان المطلوب أن يكون مضحكا أو بهلوانا؛ فما أسرع ما يجعل من نفسه مضحكا أو بهلوانا ليقبل عليه الشارون من ذوي السلطان، وإن كان المطلوب أن يكون ذا نفس خانعة خاشعة ذليلة، فما أهون أن يشيع في نفسه الخنوع والخشوع والذل؛ حتى تروج في السوق!
وأعود إلى سؤالي من جديد؛ لألخص الجواب الذي أتقدم به اقتراحا: متى يكون الإنسان «إنسانا» بالمعنى الصحيح؟
يكون كذلك بمقدار ما يبعد عن وزنه لنفسه ولسائر الناس بميزان الجزارين والبقالين، يكون الإنسان إنسانا، حين يعرف للإنسانية حقها بغض النظر عن نفعها. انظر إلى الجسد البشري - كائنا ما كان صاحبه - نظرك إلى الشيء المقدس المهيب. يكفي أن يكون الكائن الذي أمامك واحدا من البشر ليستوجب احترامك، بل إجلالك وإكبارك لهذا الذي خلقه الله، فسواه وكرمه. إننا لو قدسنا البشرية في كل فرد من أفرادها؛ وضعنا بذلك أرسخ أساس للحرية والإخاء والمساواة بين الناس. ألا من يبلغ عني كل مترفع متغطرس أننا جميعا - أعلانا وأسفلنا - على بعد واحد من الشمس! ألا من يبلغ عني كل متجبر متكبر أنه إذا ظن نفسه واقفا على قمة جبل بالنسبة إلى سائر الناس، ينظر إليهم فيراهم في عينيه صغارا ضئالا؛ فهؤلاء الناس كذلك ينظرون إليه من بطن واديهم، فإذا هو أيضا في أعينهم صغير ضئيل؛ لأن المسافة بينهم وبينه كالمسافة بينه وبينهم.
يكون الإنسان «إنسانا» بمقدار ما يرى في كل فرد من الناس غاية مقصودة لذاتها، لا وسيلة تخدم غاياته وأغراضه. أما إذا سارت العلاقات بين الناس وفق القواعد التي تتحكم في عمليات البيع والشراء ، أما إذا نظر الناس بعضهم إلى بعض نظرتهم إلى الأدوات التي تستغل ثم تنبذ وترمى بعد الفراغ من نفعها ووجه استغلالها؛ فلن يجد ديوجنيس «الإنسان» الذي ينشده، ولو بحث عنه بألف مصباح، وسيظل المتعجلون مثلي في قراءة الصحف، يخطئون فيقرءون في إعلاناتها: «مطلوب إنسان.»
التعميم في الحكم
نامعلوم صفحہ