كلاهما فارع سامق شامخ بأنفه في الفضاء، وكلاهما من وحي الدين يعبر عن القلب وما يختلج به، أكثر مما يعبر عن الرأس وما يضطرب فيه ... لكن المئذنة عروس في جلوتها، والهرم مارد عملاق. تذكرك المئذنة بالصائغ الذي ينقر السوار وينقشه ويزخرفه ويزركشه، وهو جالس لا يتحول عن مكانه ولا يريم. أما الهرم فيذكرك برباع يحمل الأثقال بجسمه القوي وعضله المفتول. وإن كان ذلك كذلك، فانتقالنا من هذا إلى تلك كان انتقالا من الوثوب إلى القعود، ومن الطموح إلى الخمود، ومن عزة الغالب إلى ذلة المغلوب.
وتذكرك المئذنة بمن طال فراغه؛ فأخذ يطيل الوقوف عند التفصيلات والدقائق. أما الهرم فيذكرك بمن قصر فراغه؛ فراح يركم الجلاميد في لهفة العجلان. وإن كان ذلك كذلك؛ فقد كان انتقالنا انتقالا من حياة لاهثة كادحة إلى أخرى هادئة وادعة، من المشغلة إلى الفراغ، من حمل لهموم دنيانا بأنفسنا إلى اعتماد على سوانا يحمل لنا همومنا.
المئذنة تنشد الجمال، والهرم يريد الجلال. الأولى تهدف إلى الرقة والرشاقة، وأما الثاني فهدفه الضخامة والرسوخ. الأولى أملها أن تكون زينة الناظرين، وأما الثاني فأمله أن يكون خشنا صلبا قويا فتيا. إن راعتك المئذنة فكما تروعك الزهرة الرقيقة التي تحبها وتعطف عليها، وإن راعك الهرم فكما يروعك الجبل الأشم، تهابه وتخشاه. إن أوحت إليك المئذنة فإنما توحي برقة العصفور الغرد، وإن أوحى إليك الهرم فبالصقر وقف ساكنا، لكنك تلمح في سكونه تحفزا لانقضاضه. إن حركت في نفسك المئذنة شيئا فهو الخشوع، وإن حرك في نفسك الهرم شيئا فهو الحكم والجبروت.
المئذنة صفير ناعم فيه العذوبة الحلوة، كصفير الناي تسمعه فريدا وحيدا في جوف الصحراء إبان سكتة الليل، فيميل بك إلى النعاس الهادئ. والهرم كضربات الطبول التي ينخلع لدويها قلبك فيستحيل عليك النوم والرقاد وهي ملء أذنيك. المئذنة رقيقة رقة الإناء الجميل تستحسن شكله، وتخشى عليه سرعة الزوال، وأما الهرم ففيه معاني الرسوخ والثبات والصمود لأحداث الزمان.
المئذنة شاعر والهرم فيلسوف، والشاعر انفعال والفيلسوف تفكير. الأول ثورة والثاني روية وتدبير. المئذنة شعر، والهرم نثر. جمال المئذنة في سلامة الوزن واطراد القافية، وروعة الهرم في عمق المعني وبعد النظر. الأولى إيقاع يفتن القلوب، والثاني حقيقة تأخذ بالعقول، أو قل إن المئذنة بمثابة القصيدة الغنائية الرشيقة. والهرم بمثابة الملحمة التي تحتدم فيها المعارك وتقع فيها ضخام الأحداث. فإن أشبهت المئذنة شاعرا مثل بترارك ظل يتغنى بحبيبته؛ فإن الهرم شبيه بشاعر مثل دانتي يصف الخطوب ويخوض بك مشاهد الأهوال.
المئذنة كالأديب المصنوع، والهرم كالأديب المطبوع. الأول يفكر كيف يزخرف ويزركش، والثاني لا يبالي كيف جاء التعبير عن نفسه؛ لأنه تعبير صدر عن قلب خصب عميق. المئذنة كالبستان الذي قلمت أشجاره وهذبت أطرافه حيث يصلح تحفة في قصور الأغنياء والأمراء تنظر إليها العيون ولا تدوسها الأقدام. والهرم كالغابات والأحراش إن أخطأت النظرة الأولى جماله؛ فهو قمين أن يستثير الإعجاب عند النظرة الثانية البطيئة المتمهلة.
لو كانت المئذنة سمرا خفيفا لطيفا لا تمل سماعه؛ فالهرم هو صمت الراهب في صومعته، يفكر صامتا ويتأمل صامتا. المئذنة أشبه بالضاحك لخلاء باله من الهموم، والهرم أشبه بالمتجهم لما يحمله فوق كتفيه من أثقال وأعباء. المئذنة ملهاة ، والهرم مأساة. المئذنة رجز، والهرم من البحر الطويل. المئذنة كرجل أنيق يعنى كل العناية بهندامه، يهذب شاربيه شعرة شعرة، ويمشي بحساب ويقف بحساب ويجلس بحساب؛ حتى لا يفسد وضع الثياب على جسده، وأما الهرم فشبيه برجل شغله باطنه عن ظاهره.
قف إلى جانب المئذنة ثم قف إلى جانب الهرم؛ تحس إحساسا عميقا عند الهرم أنك إزاء أثر يعبر عن أمة بأسرها، وتحس عند المئذنة أنك إزاء أثر أقامه فرد بماله. فبناء الهرم كالذي يبني بيته بيده، وبناء المئذنة مأجور على صناعته؛ لأنه كالذي يبني لغيره. فلو قيل لك: من بنى الهرم؟ أجبت: المصريون. وإن قيل لك: من أقام هذه المئذنة؟ قلت: فلان. الهرم يوحي بالمجد التليد، والمئذنة كالنعمة المستحدثة. فلو سئلت: من بنى الهرم؟ قلت: آباؤنا الأولون. أما إن قيل لك: من أقام هذه المئذنة؟ أجبت: لست أدري! •••
المئذنة مثل شروق الشمس، والهرم مثل غروبها. المئذنة كالسماء المشرقة الصافية، والهرم كاليوم العابس المتجهم. إن كانت المئذنة أقرب إلى فرحة العرس؛ فالهرم أدنى إلى كآبة المأتم. المئذنة ولادة والهرم موت. المئذنة غناء والهرم رثاء.
في المئذنة طلاقة الحرية، وفي الهرم معنى الإذلال (لا الذل). طبقات المئذنة واحدة فوق أخرى وسلمها واحد، فلكل أن يرتقي ذراها إن أسعفه جهده ونشاطه. وأما الأهرامات فمتفرقات بينها حواجز، أقصى جهد الصاعد في هرم أن يبلغ قمته دون أن ينتقل إلى الهرم الذي يليه. ففي الأولى مساواة بين الناس مع تفرقة على أساس مجهودهم. وفي الثانية تفرقة على أساس الطبقات، لا يجوز لفرد في طبقة أن يجاوزها إلى طبقة سواها. التفاوت فسيح بين قاعدة الهرم وقمته، أي بين الشعب وحاكمه، لكنه ضئيل في المئذنة، حتى ليكاد التفاوت بين الأسفل والأعلى أن يكون اختلافا في الوضع بغير تفاوت في القيمة.
نامعلوم صفحہ