لا، إنه لن يعود إلى حمله ذاك، وسيحتفظ بحريته التي ظفر بها بمصادفة قد لا تعود، هكذا اعتزم أطلس، ودنا من «هرقل»، وقال له: ابق حيث أنت حاملا السماء على كتفيك، وسآخذ أنا هذه التفاحات الذهبية إلى حيث أردت أنت أخذها. فتظاهر «هرقل» بالرضى والقبول! أليست هي السماء بأنجمها اللوامع الزواهر فليحملها راضيا على كتفيه، لكنه طلب من «أطلس» أن يتفضل عليه بصنيع واحد صغير، وهو أن يحمل الحمل لحظة واحدة حتى يضع الوسائد على كتفيه؛ لأن ضغط الحمل شديد على كاهله، فأخذت الشهامة من «أطلس» مأخذها، وفعل ما طلب إليه هرقل أن يفعل وكيف يتردد في قبول العناء لحظة أخرى قصيرة، لقاء حرية يظفر بها من هذا العبء الثقيل إلى الأبد؟!
ألقى «أطلس» التفاحات على الأرض، وحمل السماء عن هرقل حتى يضع هرقل على كتفيه الوسائد والحشايا التي تهون عليه أداء هذا الواجب الجديد الذي ألقي عليه، لكن «هرقل» لم يكد يزيح عن كاهله حمل السماء، حتى أخذ التفاحات ومضى ... تاركا أطلس في مكانه القديم، ينعم بأداء واجبه، واجب الوجود.
قلت: ماذا تعني؟
قال: أعني ما قلته، أعني أن عبء الحياة ثقيل، حتى إن بلغت من المجد عنان السماء، وأن الروابط التي تشدنا إلى عبئها إن هي إلا أنفاس من هواء، لكن كتم الأنفاس يتطلب الفيلسوف.
قلت: يا صاحبي إن الحياة التي تؤرق صاحبها هي الحياة المريضة، فأنت لا تشعر بوجود أي جزء من أجزائك إلا إذا اعتل، إنك لا تشعر بوجود عينك أو أذنك أو معدتك أو قلبك؛ إلا إذا أصابتها العلة. أما إذا كانت هذه الأجزاء سليمة فيستحيل أن تشعر بوجودها فضلا عن أن تحس الألم من حملها ... إن حياتك - فيما أرى - قد أصابتها العلة، فأحسست بوجودها وحملها ... ولا عجب أن تبرز حياتك في صورة قتب كبير فوق ظهرك؛ لأنها حياة عليلة.
قال: قل ما شئت فيها؛ فهي حياتي التي لا أملك سواها، وقد ضقت ذرعا بثقلها.
صومعة خاوية
شغلني «أحدب الحياة» طوال الليل - ذلك الرجل العجيب المكتئب العابس الذي يحمل عبء حياته قتبا بارزا على ظهره - شغلني طوال الليل، يملأ أحلامي إذا ما غفوت، وتمثل صورته أمام عيني إذا ما صحوت، وما زلت طوال ليلي بين غفوة وصحو حتى كان الصباح.
ترى، لماذا يحمل هذا المسكين حياته كالدمل الكبير فوق ظهره؟ أيكون ذلك لأنه ركز انتباهه فيها، فوضحت له علتها وبرز سخفها. ولو قد تغافل عنها كما يفعل سائر الناس لسرت في دمه ، وخفيت عن بصره؟ يجوز، كما تكرر لفظة وتركز سمعك في جرسها ، فسرعان ما تعجب لصوتها السخيف يكون بين الناس ذا دلالة ومعنى، كرر - مثلا - كلمة إمبراطور عدة مرات: إمبراطور، إمبراطور، إمبراطورمبرا، طورمبرا، طورمبرا، طورمبراطور ... صوت عجيب منكر، ظهر نكره وشذوذه بتركيز السمع فيه، وكان يمكن ألا نقف عنده هذه الوقفة الفاحصة، فيظل له في النفس جلال وهيبة.
كذلك صاحبنا «أحدب الحياة» ربما كان الفرق بينه وبين سائر الناس أنه قد أنعم النظر في معنى الحياة، فانتهى به النظر إلى أنها أنفاس فاترة واهية من هواء، تتردد في صدره شهيقا وزفيرا. لا شيء أ كثر من ذلك، وهو لذلك في عجب كيف يمكن أن يشد وثاقه إلى الأرض بخيوط هي أوهى من خيوط العنكبوت؟!
نامعلوم صفحہ