وقد تلقى العلم أول ما تلقاه على أيدي أساتذة خصوصيين في سراي والده بغيط العدة (القريبة من باب الخلق) والمعروفة بسراي البارودي، ولما بلغ الثانية عشرة من عمره انتظم في المدرسة الحربية، وتخرج منها سنة 1855، والتحق بخدمة الجيش المصري، وأخذ يترقى حتى بلغ رتبة أميرالاي، وخاض غمار الحروب في ثورة كريد سنة 1866؛ إذ كان ضابطا في الجيش الذي أنفذته مصر لإخماد تلك الثورة وانتصر على الثوار في مواقع عدة.
ولما شبت الحرب بين تركيا والروسيا سنة 1877 أنفذت مصر جيشا لنجدة تركيا كان البارودي من ضباطه، وأبلى في الحرب بلاء حسنا، وصقلت المعارك مواهبه الشعرية، ولما عاد إلى مصر رقي إلى رتبة اللواء، وعين مديرا للشرقية، وكان محافظا للعاصمة حين ألف شريف باشا وزارته الثانية سنة 1879 في أوائل عهد الخديو توفيق، فاختاره فيها وزيرا للمعارف والأوقاف، واشترك في حوادث الثورة العرابية، وكان من زعمائها المشار إليهم بالبنان، وتولى رئاسة وزارة الثورة سنة 1882، ثم كانت الهزيمة، ونفي مع زملائه إلى جزيرة سيلان (سرنديب)، وظل في منفاه نيفا وسبعة عشر عاما، وأسبغ عليه النفي سمات التضحية والبطولة.
1
الحنين إلى الوطن
كانت حياة زعماء الثورة العرابية في منفاهم حياة ألم وحزن؛ إذ انقطعت صلتهم بالناس، وطال اغترابهم عن أرض الوطن، وبعدت الشقة بينهم وبين أهليهم ومواطنيهم، ولم يكترث لهم أحد، ولم يعطف عليهم أحد (والناس مع الغالب)، وجادت قريحة البارودي بشعر مؤثر في الحنين إلى الوطن، والحزن على فراقه، مما يعد آية في البلاغة، وبلغت سليقته الشعرية في منفاه ذروة العظمة والجلال.
قال يصف الرحيل عن أرض الوطن:
محا البين ما أبقت عيون المها مني
فشبت ولم أقض اللبانة من سني
عناء ويأس واشتياق وغربة
ألا شد ما ألقاه في الدهر من غبن
نامعلوم صفحہ