٣٠- الالتفات من المخاطب إلى الغائب قبل تمام المعنى
منشأ هذه الشبهة:
هو قوله تعالى: (هو الذى يسيركم فى البر والبحر حتى إذا كنتم فى الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين) (١) .
وشاهدهم فى الآية هو قوله تعالى: " حتى إذا كنتم فى الفلك وجرين بهم ".
الرد على الشبهة:
هذه الشبهة المثارة هنا على هذه الآية، ليست لها صلة، لا من قريب، ولا من بعيد، بالنحو والصرف بل هى مسألة بلاغية صرفة، والبلاغة - عمومًا - لها عنصران كبيران، أحدهما خارجى عن شخصية البليغ، والثانى ممتزج بشخصيته.
العنصر الأول الخارجى:
هو مجموعة القواعد والأصول التى تكوِّن علوم البلاغة باعتبارها علمًا راقيًا من علوم اللسان؛ لأن لكل علم أو فن أصوله ومبادئه الخاصة به.
وهذه القواعد والأصول يمكن تَعَلُّمها وإتقانها لكل راغب صادق الرغبة فيها.
العنصر الثانى الذاتى:
الممتزج بذات البليغ، والذى يجرى فيه مجرى الروح فى الجسد هو الإحساس المرهف بالجمال الفنى، والقدرة على التذوق، والخبرة بالأساليب إنشاءً ودراسة ونقدًا وتقويمًا. وليس بلازم أن يكون العارف بالقواعد والأصول البلاغية، ليس بلازم أن يكون بليغًا.
يقول الإمام الزمخشرى البليغ الذواقة، فى الالتفات من الخطاب إلى الغيبة:
" فإن قلت ما فائدة صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة قلت: المبالغة، كأنه يذكر حالهم لغيرهم ليعجبَّهم منها، ويستدعى منهم الإنكار والتقبيح " (٢) .
هذه العبارة فى حاجة إلى إيضاح، هو الآتى:
هؤلاء الذين تحدث الله عنهم فى هذه الآية، أنعم الله عليهم بالتسيير فى البر والبحر، وامتحنهم بالريح العاصف بعد أن أقلعت بهم الفلك تمخر عباب الماء، فتوجهوا إلى الله يطلبون منه الإنجاء، واعدين الله إذا أنجاهم أن يشكروه ويعرفوا فضله. فلما أنجاهم نسوا ما وعدوا الله به، وعادوا إلى معصيته كما قال ربنا ﷿:
(فلما أنجاهم إذا هم يبغون فى الأرض بغير الحق..) (٣) .
وكانت فائدة الالتفات عن خطابهم المباشر " كنتم فى الفلك " إلى حكاية حالتهم العجيبة إلى غيرهم، لكى يستثير سخطهم عليهم، ويقبِّحوا سوء صنيعهم مع الله.
والخلاصة:
ما قاله الإمام الزمخشرى فى هذه الآية لمحة طيبة، ومعنى لطيف دل عليه هذا الالتفات من المخاطب إلى الغائب، وقد تناقله عنه المفسرون من بعده.
أما البلاغيون - بعد الزمخشرى - فقد أضافوا ملمحًا بلاغيًا آخر، يساير ما فهمه الإمام الزمخشرى ولا ينافره، فقد قالوا:
" إن السر فى الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، أن " الغيبة " تناسب الفعل " جرين " فهم كانوا على الشاطئ والفلك ترسو إلى جنبه، وأخذ الناس يركبون الفلك، حتى إذا تكاملوا على ظهره، وأقلعت آخذة فى السير السريع (الجرى) غابوا عن الأنظار، فهم ليسوا حاضرين حتى يُخاطَبُوا. ولكنهم غائبون غائبون فجرى الحديث عنهم مجرى الحديث عن الغائب ".
إن كلتا اللمحتين البلاغيتين تنبثقان من هذا التعبير " وجرين بهم " ولا تنافر واحدة منهما الأخرى.
هذا ما لم يكن مثيرو هذه الشبهات أهلًا لفهمه لبلادة حسهم، وفساد ذوقهم.
والالتفات - عامة - فن عريق من فنون البيان فى البلاغة العربية، طرقه الشعراء فى الجاهلية، وشاع فى كلامهم، ووردت منه نماذج وصور فى الذكر الحكيم، وفى أحاديث خاتم النبيين، وأسراره لا تحصر، ودلالاته لا تنضب، وكفاه فضلًا أنه يروِّح عن مشاعر السامعين وينتقل بهم من لون إلى لون، فى معرض جذاب، لا يقدره حق قدره إلا من رُزق حسن الفهم، والقدرة على التذوق لمرامى الكلام.
_________
(١) يونس: ٢٢.
(٢) الكشاف (٢/٢٣١) .
(٣) يونس: ٢٣.
1 / 77