فهذه هى المذاهب المنسوبة إلى القدماء الأقدمين فى أمر النفس، وكلها باطل، فأما الذين تعلقوا بالحركة فأول ما يلزمهم من المحال أنهم نسوا السكون، فإن كانت النفس تحرك بأن تتحرك وكان لا محالة تحركها علة للتحريك فلم يخل تسكينها إما أن يصدر عنها وهى متحركة بحالها فتكون نسبة تحركها بذاتها إلى التسكين والتحريك واحدة، فلم يمكن أن يقال إنها تحرك بأن تتحرك، وقد فرضوا ذلك، أو يصدر عنها وقد سكنت، فلا تكون متحركة بذاتها، وأيضا قد عرفت مما سلف أنه لا متحرك إلا من محرك وأنه ليس شىء متحركا من ذاته، فلا تكون النفس شيئا متحركا من ذاته، وأيضا فإن هذه الحركة لا يخلوا إما أن تكون مكانية أو كمية أو كيفية أو غير ذلك، فإن كانت مكانية فلا يخلوا إما أن تكون طبيعية أو قسرية أو نفسانية، فإن كانت طبيعية فتكون إلى جهة لا محالة فيكون تحريك النفس إلى جهة واحدة فقط، وإن كانت قسرية فلا تكون متحركة بذاتها ولا يكون أيضا تحريكها بذاتها، بل الأولى أن يكون القاسر هو المبدأ الأول وأن يكون هو النفس، وإن كانت نفسانية فالنفس قبل النفس، وتكون لا محالة بإرادة فتكون إما واحدة لا تختلف فيكون تحريكها على تلك الجهة الواحدة، أو تكون مختلفة فتكون بينها كما علمت سكونات لا محالة، فلا تكون متحركة لذاتها، وأما الحركة من جهة الكم فأبعد شىء من النفس، ثم لا يكون شىء متحركا من جهة الكم بذاته بل لدخول داخل عليه أو استحالة فى ذاته، وأما الحركة على سبيل الاستحالة فإما أن تكون حركة فى كونها نفسا، فتكون النفس إذا حركت لا تكون نفسا، وإما حركة فى عرض من أعراض كونها نفسا، فأول ذلك أن لا يكون تحركها من نحو تحريكها بل تكون ساكنة فى المكان حين تحرك فى المكان، والثانى أن الاستحالة فى الأعراض غايتها حصول ذلك العرض وإذا حصل فقد وقفت الاستحالة، وأيضا فقد تبين لك أن النفس لا ينبغى أن تكون جسما، والمحرك الذى يحرك فى المكان بأن يتحرك نحو ما يحرك فهو جسم لا محالة، ولو كان للنفس الحركة والانتقال لكان يجوز أن تفارق بدنا ثم تعود إليه وهؤلاء يجعلون مثل النفس مثل زيبق يجعل فى بعض الأجسام فإذا ترجرج تحرك ذلك الجسم، ويدفعون أن تكون الحركة حركة اختيار، وأيضا فقد علمت أن القول بالهباآت هذر باطل، وعلمت أيضا أن القول بوحدة المبدأ الأسطقسى جزاف، ثم من المحال ما قالوه من أن الشىء يجب أن يكون مبدأ حتى يعلم ما وراءه، فإنا نعلم وندرك بأنفسنا أشياء لسنا بمبادلها، وأما بيان ذلك من طريق من ظن أن المبدأ أحد الأسطقسات فهو أنا نعلم أشياء ليست الأسطقسات بوجه من الوجوه مبدأ لها، ولا هى مبدأ للأسطقسات، وهى أن كل شىء إما أن يكون حاصلا فى الوجود وإما أن لا يكون، وأن الأشياء المساوية لشىء واحد متساوية، فهذه الأشياء لا يجوز أن يقال إن النار والماء وغير ذلك مبادلها فنعلمها بها ولا بالعكس، وأيضا إما أن تكون معرفة النفس بما هى مبدأ له إنما تتناول عين ذلك المبدأ أو تتناول الأشياء التى تحدث عن المبدأ وليست هى المبدأ أو تكون بكليهما، فإن كانت إنما تتناول المبدأ أو تتناول كليهما وكان العالم بالشىء يجب أن يكون مبدأ له فتكون النفس أيضا مبدأ للمبدأ وأيضا مبدأ لذاتها لأنها تعلم ذاتها، وإن كانت ليس تعلم المبدأ ولكن تعلم الأحوال والتغيرات التى تلحقه فمن الذى يحكم بأن الماء أو النار أو أحد هذه مبدأ، وأما الذين جعلوا الإدراك بالعددية فقالوا لأن المبدأ لكل شىء عدد بل قالوا ماهية كل شىء عدد وحده عدد وهؤلاء وإن كنا قد دللنا على بطلان رأيهم فى المبدأ فى موضع آخر وسندل فى صناعة الفلسفة الأولى أيضا على استحالة رأيهم هذا وما أشبهه فإن مذهبهم هاهنا قد يفسد من حيث النظر الخاص بالنفس، وذلك بأن ننظر ونتأمل هل النفس إنما تكون نفسا بأنها عدد معين كأربعة أو خمسة أو بأنها مثلا زوج أو قرد أو شىء أعم من عدد معين، فإن كانت النفس إنما هى ما هى بأنها عدد معين فما يقولون فى الحيوان المجزر الذى إذا قطع تحرك كل جزء منه وأحس، وإذا أحس فلا محالة هناك تخيل ما، وكذلك كل جزء منه يأخذ فى الهرب إلى جهة وتلك الحركة عن تخيل ما لا محالة، ومعلوم أن الجزئين يتحركان عن قوتين فيهما وأن كل واحد منهما أقل من العدد الذى كان فى الجملة، وإنما كانت النفس عندهم العدد الذى فى الجملة لا غير، فيكون هذان الجزءان يتحركان لا عن نفس، وهذا محال، بل فى كل واحد منهما نفس من نوع نفس الآخر، فنفس مثل هذا الحيوان واحدة بالفعل متكثرة بالقوة تكثرا إلى نفوس، وإنما تفسد فى الحيوان المجزر نفساه ولا تفسد فى النبات لأن النبات قد شاعت فيه الآلة الأولية لاستبقاء فعل النفس ولا كذلك فى الحيوان المجزر، بل بعض بدن الحيوان المجزر لا مبدأ فيه لاستبقاء المزاج الملائم للنفس، وفى بعضه الآخر ذلك المبدأ ولكنه يحتاج فى استبقاءه ذلك إلى صحبة من القسم الآخر، فيكون بدنه متعلق الأجزاء بعضها ببعض فى التعاون على حفظ المزاج، وإن لم تكن النفس عددا معينا بل كانت عددا له كيفية ما وصورة فيشبه أن تكون فى بدن واحد نفوس كثيرة، فإنك تعلم أن فى كثير من الأزواج أزواجا وفى كثير من الأفراد أفرادا وفى كثير من المربعات مربعات، وكذلك سائر الاعتبارات، وأيضا فإن الوحدات المجتمعة فى العدد إما أن يكون لها وضع أو لا يكون لها، فإن كان لها وضع فهى نقط، وإن كانت نقطا فإما أن تكون نفسا لأنها عدة تلك النقط أو لا تكون لذلك بل لأنها قوة أو كيفية أو غير ذلك، لكنهم جعلوا الطبيعة النفسية مجرد عددية، فيكون العدد الموجود للنقط طبيعة النفس، فيكون كل جسم إذا فرض فيه ذلك العدد من النقط ذا نفس، وكل جسم لك أن تفرض فيه كم نقطة شئت فيكون كل جسم من شأنه أن يصير ذا نفس لفرض النقط فيه، وإن كانت عددا لا وضع له وإنما هى آحاد متفرقة فبماذا تفرقت وليس لها مواد مختلفة ولا قرن بها صفات أخر وفصول أخرى، وإنما تتكثرالأشياء المتشابهة فى المواد المختلفة، فإن كان لها مواد مختلفة فهى ذوات وضع ولها أبدان شتى، ثم فى الحالين جميعا كيف ارتبطت هذه الوحدات أو النقط معا لأنه إن كان ارتباطها بعضها بعض والتيامها للطبيعة الوحدية والنقطية فيجب أن تكون الوحدات والنقطات مهرولة إلى الاجتماع من أى موضع كانت، وإن كان لجامع فيها جمع واحدة منها إلى الاخرى وضام ضم بعضها إلى بعض حتى ارتبطت وهو يحفظها مرتبطة فذلك الشىء أولى أن يكون نفسا،
صفحہ 24