108

فإذا كان كذلك فقد تقرر معنى السؤال بكيف. وكيف أشهر من الكيفية؛ فإن اسم الكيفية اشتق من اسم الكيف؛ والمشتق منه أدل وأعرف من المشتق له. وهذا من قبيل ما يشتق فيه اسم الحال من اسم الشئ ذى الحال، ليس من قبيل ما يشتق فيه اسم ذى الحال من اسم الحال، كاشتقاق اسم الضارب من الضرب. وأيضا فإن الكيف نفسه لامن حيث السؤال والجواب، بل من حيث هو شئ، أشهر من الكيفية؛ إذ كان السبيل إليه الحس؛ والحس لا يميز الكيفية مفردة، بل يتناولها مع الشئ المتكيف بها ومع المقدار الذى يلحقها بسببه تناولا واحدا غير مفصل؛ ثم من بعد يحصل ما يتخيل. وعلى هذا فاعتبر الشبيه، وعلى أنه شبيه فى نفسه من غير حاجة إلى اعتبار أمر غيره. فليكن هذا قدر ما نقوله فى أمر هذا التعريف. ولنقرر الآن أن الكيفية هى كل هيئة قارة فى الموصوف بها، لاتوجب تقديره أولا تقتضيه، ويصلح تصورها من غير أن يحوج فيها إلى التفات إلى نسبة تكون إلى غير تلك الهيئة. وهذا أيضا ضرب من البيان متعلق بأن يثبت شئ، ثم يعرف بسلوب أمور عنه.

وقد قال قوم: إن الكيفية هى التى تحدث رسما فى الجوهر، وظنوا أنهم قد أتوا ببيان؛ وذهب عليهم أن استعمال لفظة الرسم ههنا يشبه أن يكون استعمالا مجازيا لا يحقق معنى؛ فإن حقق فليس بحسب التعارف فى استعمال هذا اللفظ، بل لدلالة تقترن به من خارج وهذا اللفظ محيل مغالطى أشد بعدا عن البيان من لفظة الكيفية؛ وكذلك لهم بيانات تشبه هذه.

فلنقل الآن: إن الكيفية كيف ينقسم إلى الأمور الأربعة التى جعلت أنواعا لها؛ فنقول: إن الكيفية لا تخلو إما أن تكون بحيث يصدر عنها أفعال على نحو التشبيه والإخالة أولا تكون. والذى يفعل فعله على سبيل التشبيه والإخالة فهو كالحار يجعل غيره حارا، والسواد يلقى شبحه فى العين وهو مثاله، لا كالثقل فإن فعله فى الجسم التحريك، وليس ثقلا. والذى لا يكون إما أن يكون متعلقا بالكم من حيث هو كم أولا يكون؛ والذى لا يكون متعلقا بالكم؛ فإما أن يكون للأجسام من حيث هى أجسام طبيعية فقط أو لا يكون، بل يكون لها من حيث هى ذوات النفس، أو يكون للنفوس، فالتى تلتئم ما بينها أفعال وانفعالات، هى التى تسمى كيفيات انفعالية وانفعالات؛ والتى تتعلق بالكم فهى كالأشكال وغيرها؛ والتى للأجسام من حيث هى أجسام طبيعية فهى القوى الفعلية والانفعالية؛ والتى تختص بذوات الأنفس فهى التى تسمى ملكات وحالات.

أو نقول: إن الكيفية إما أن تكون متعلقة بوجود النفس أو لا تكون ؛ والتى لا تكون فإما أن تتعلق بالكمية أو لا تتعلق؛ والتى لا تتعلق إما أن تكون هويتها أنها استعداد، وإما أن تكون هويتها أنها فعل، وإن عرض لها أن تكون استعدادا. وقد يمكننا أن نحاول فى ذلك ضروبا من القسمة تؤدى إلى هذا الغرض. ولولا أمر الكيفيات التى فى العدد لكان يحسن بنا أن نقول: وما لا يفعل على طريق التشبيه: إما متعلق بالأجسام، ثم تقسم فنقول: إما من حيث كميتها ومن حيث هى تعليمية، وإما من حيث طبيعتها ومن حيث هى طبيعية ثم تتم القسمة، ولكانت هذه القسمة أصح مأخذا. لكن الفردية والزوجية وما أشبهها تخرج عن ذلك؛ فإن لم يدخل ذلك فى كيفيات هذه المقولة، وكانت الكيفيات ما يعرض للجواهر الجسمانية، فيجب أن تقسم على نحو ما قلنا.

فأما أنواع القسمة المشهورة فمنها قولهم: إن الكيفيات إما طبيعية وإما مقتناة، ثم فسروا أن الطبيعية هى المتولدة بالطبع من داخل الموجودة دائما فى الشىء الذى توجد فيه؛ والمقتناة فهى التى تمامها من خارج ويمكن اطراحها؛ وليكن من المقتناة الملكات والأحوال. وأما الطبيعية، فمنها بالقوة ومنها بالفعل. والتى هى بالقوة فهى الكيفيات التى يقال بسببها إنا مستعدون وفينا إمكان لشىء من الأشياء. والتى هى بالفعل، فمنها ما ينفذ إلى العمق وهى الانفعالات والكيفيات الانفعالية؛ ومنها ما يظهر من خارج وهى الأشكال والصور.

وأيضا فإن لهم قسمة أخرى للكيفية؛ فإنهم يقولون: إن الكيفية إما أن تظهر فى النفس وإما فى البدن. والتى تظهر فى النفس فإما أن تظهر فى النفس الناطقة وإما فى غير النفس الناطقة. والتى فى الناطقة إما عسرة الانحلال كالملكة وإما سهلة الانحلال كالحال. والتى فى غير الناطقة إما فى القوة المنفعلة وإما فى القوة الفاعلة. والذى فى القوة الفاعلة فهو الصنف الثانى من أنواع الكيفية؛ أعنى قوة ولا قوة. والذى فى القوة المنفعلة فإنه الصنف الثالث من أنواع الكيفية؛ أعنى الانفعال والكيفية الانفعالية. وما يظهر فى البدن فإما فى عمقه وإما فى ظاهره. والذى فى عمقه فإنه الصنف الثالث من أنواع الكيفية. ثم إنها إن كانت غير ثابتة كانت انفعالا.والذى يحدث فى ظاهر البدن فإنه الشكل والخلقة. قالوا: والشكل يعم المتنفس وغير المتنفس. وأما الخلقة فإنها تخص المتنفسة؛ وقد قسموا ذلك أيضا بوجوه من القسمة تشبه هذه.

الفصل الثانى فصل (ب) فى تعقب الوجوه التى قسم قوم بها الكيفية إلى أنواعها الأربعة

صفحہ 112