كتاب الشفاء
الإلهيات
الشيخ الرئيس
موقع الفلسفة الإسلامية
نامعلوم صفحہ
المقالة الأولى وفيها ثمانية فصول
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلاته على النبي المصطفى محمد وآله الإكرمين أجمعين.
الفن الثالث عشر من كتاب الشفاء في الإلهيات.
المقالة الأولى وهي ثمانية فصول
الفصل الأول: في ابتداء طلب موضوع الفلسفة الأولى لتبيين أبنيته في العلوم.
وإذا قد وفقنا الله ولي الرحمة والتوفيق، فأوردنا ما وجب إيراده من معاني العلوم المنطقية والطبيعية والرياضية، فبالحري أن نشرع في تعريف المعاني الحكمية، ونبتدئ مستعينين بالله فنقول: إن العلوم الفلسفية، كما قد أشير إليه في مواضع أخرى من الكتب، تنقسم إلى النظرية وإلى العملية، قد أشير إلى الفرق بينهما وذكر أن النظرية هي التي نطلب فيها استكمال القوة النظرية من النفس بحصول العقل بالفعل، وذلك بحصول العلم التصوري والتصديقي بأمور ليست هي هي بأنها من أعمالنا وأحوالنا، فتكون الغاية فيها حصول رأي واعتقاد ليس رأيا واعتقادا في كيفية عمل أو كيفية مبدأ عمل من حيث هو مبدأ عمل. وأن العملية هي التي يتطلب فيها أولا استكمال القوة النظرية بحصول العلم التصوري والتصديقي بأمور هي هي بأنها أعمالنا، ليحصل منها ثانيا استكمال القوة العملية بالأخلاق. وذكر أن النظرية تنحصر في أقسام ثلاثة هي: الطبيعية، والتعليمية، والإلهية. وأن الطبيعية موضوعها الأجسام من جهة ما هي متحركة وساكنة، وبحثها عن العوارض التي تعرض لها بالذات من هذه الجهة. وأن التعليمية موضوعها إما ما هو كم مجرد عن المادة بالذات، وإما هو ذو كم. والمبحوث عنه فيها أحوال تعرض للكم بما هو كم. ولا يؤخذ في حدودها نوع مادة، ولا قوة حركة. وأن الإلهية تبحث عن الأمور المفارقة للمادة بالقوام والحد. وقد سمعت أيضا أن الإلهي هو الذي يبحث في الأسباب الأولى للوجود الطبيعي والتعليمي وما يتعلق بهما، وعن مسبب الأسباب ومبدأ المبادئ وهو
صفحہ 1
الإله تعالى جده. فهذا هو قدر ما يكون قد وقفت عليه فيما سلف لك من الكتب. ولم يتبين لك من ذلك الموضوع للعلم افلهي ما هو بالحقيقة إلا إشارة جرت في كتاب البرهان من المنطق إن تذكرتها. وذلك أن في سائر العلوم قد كان يكون لك شيء هو موضوع، وأشياء هي المطلوبة، ومبادئ مسلمة منها تؤلف البراهين. والآن، فلست تحقق حق التحقيق ما الموضوع لهذا العلم، وهل هو ذات العلة الأولى حتى يكون المراد معرفة صفاته وأفعاله أو معنى آخر. وأيضا قد كنت تسمع أن ههنا فلسفة بالحقيقة، وفلسفة أولى، وأنها تفيد تصحيح مبادئ سائر العلوم، وأنها هي الحكمة بالحقيقة. وقد كنت تسمع تارة أن الحكمة هي أفضل علم بأفضل معلوم، وأخرى أن الحكمة هي المعرفة التي هي أصح معرفة واتقنها، وأخرى أنها العلم بالأسباب الأولى للكل. وكنت لا تعرف ما هذه الفلسفة الأولى، وما هذه الحكمة، وهل الحدود والصفات الثلاث لصناعة واحدة، أو لصناعات مختلفة كل واحدة منها تسمى حكمة. ونحن نبين لك الآن أن هذا العلم الذي نحن بسبيله هو الفلسفة الأولى، وأنه الحكمة المطلقة، وأن الصفات الثلاث التي رسم بها الحكمة هي صفات صناعة واحدة، وهذه هي الصناعة. وقد علم أن لكل علم موضوعا يخصه، فلنبحث الأن عن الموضوع لهذا العلم، ما هو؟ ولننظر هل الموضوع لهذا العلم هو إنية الله تعالى جده، أو ليس كذلك، بل هو شيء من مطالب هذا العلم؟ فنقول: أنه لا يجوز أن يكون ذلك هو الموضوع، وذلك لأن موضوع كل علم هو أمر مسلم الوجود في ذلك العلم، وإنما يبحث عن أحواله. وقد علم هذا في مواضع أخرى. ووجود الإله تعالى جده لا يجوز أن يكون مسلما في هذا العلم كالموضوع، بل هو مطلوب فيه. وذلك لإنه إن لم يكن كذلك لم يخل إما أن يكون مسلما في هذا العلم أو مطلوبا في علم آخر، وإما أن يكون مسلما في هذا العلم وغير مطلوب في علم آخر. وكلا الوجهين باطلان. وذلك لأنه لا يجوز أن يكون مطلوبا في علم آخر، لأن العلوم الأخرى إما خلقية أو سياسية، وإما طبيعية، ومارياضية، وإما منطقية. وليس في العلوم الحكمية علم خارج عن هذه القسمة، وليس ولا في شيء منها يبحث عن إثبات الأله تعالى جده، ولا يجوز أن يكون ذلك، وأنت تعرف هذا بأدنى تأمل لأصول كررت عليك. ولا يجوز أيضا أن يكون غير مطلوب في علم آخر لأنه يكون حينئذ غير مطلوب في علك البتة. فيكون إما بينا بنفسه، وإما مأيوسا عن بيانه بالنظر، وليس بينا بنفسه ولا مأيوسا عن بيانه، فإن عليه دليلا. ثم المأيوس عن بيانه كيف يصح تسليم وجوده؟ فبقي أن نبحث عنه إنما هو
صفحہ 2
في هذا العلم. ويكون البحث عنه على وجهين: أحدهما البحث عنه من جهة وجوده، والآخر من جهة صفاته. وإذا كان البحث عن وجوده في هذا العلم، لم يجز أن يكون موضوع هذا العلم، فإنه ليس على علم من العلوم إثبات موضوعه، وسنبين لك عن قريب أيضا، أن البحث عن وجوده لا يجوز ان يكون إلا في هذا العلم، إذ قد تبين لك من حال هذا العلم أنه بحث عن المفارقات للمادة أصلا. وقد لاح لك في الطبيعيات أن الإله غير جسم، ولا قوة جسم، بل هو واحد بريئ عن المادة، وعن مخالطة الحركة من كل جهة. فيجب أن يكون البحث عنه لهذا العلم. والذي لاح لك من ذلك في الطبيعيات كان غريبا عن الطبيعيات، ومستعملا فيها، منه ما ليس منها، إلا أنه أريد بذلك أن يعجل للإنسان وقوف على إنية المبدأ الأول فتتمكن منه الرغبة في اقتباس العلوم، والإنسياق إلى المقام الذي هناك ليتوصل إلى معرفته بالحقيقة. ولما لك يكن بد من أن يكون لهذا العلم موضوع وتبين لك أن الذي يظن أنه هو موضوعه ليس بموضوعه، فلننظر: هل موضوعه الأسباب القصوى للموجودات كلها أربعتها إلا واحدا منها الذي لم يكن القول به. فإن هذا أيضا قد يظنه قوم. لكن النظر في الأسباب كلها أيضا لا يخلو إما أن ينظر فيها بما هي موجودات أو بما هي أسباب مطلقة، أو بما هي كل واحد من الأربعة على النحو الذي نحصه. أعني أن يكون النظر فيها من جهة أن هذا فاعل، وذلك قابل، وذلك شيء آخر؛ أو من جهة ما هي الجملة التي تجمع منها. فنقول: لا يجوز أن يكون النظر فيها بما هي أسباب مطلقة، حتى يكون الغرض من هذا العلم هو النظر في الأمور التي تعرض للأسباب بما هي أسباب مطلقة. ويظهر هذا من وجوه: أحدهما، من جهة أن هذا العلم يبحث عن معان ليست هي من الأعراض الخاصة بالأسباب بما هي أسباب، مثل الكلي والجزئي، والقوة والفعل، والإمكان والوجوب وغير ذلك. ثم من البين الواضح أن هذه الأمور في أنفسها بحيث يجب أن يبحث عنها، ثم ليست من الأعراض الخاصة بالأمور الطبيعية والأمور التعليمية. ولا هي أيضا واقعة في الأعراض الخاصة بالعلوم العملية. فيبقى أن يكون البحث عنها للعلم الباقي من الأقسام وهو هذا العلم. وايضا فأن العلم بالأسباب المطلقة حاصل بعد العلم بإثبات الأسباب للأمور ذوات الأسباب. فإنا ما لم نثبت وجود الأسباب للمسببات من الأمور بإثبات أن لوجودها تعلقا بما يتقدمها في الوجود، لم يلزم عند العقل وجود السبب المطلق، وأن ههنا سببا ما. وأما الحس فلا يؤدي إلا إلى الموافاة. وليس إذا توافى
صفحہ 3
شيئان، وجب أن يكون أحدهما سببا للآخر. والإقناع الذي يقع للنفس لكثرة ما يورده الحس والتجربة فغير متأكد، على ما علمت، إلا بمعرفة أن الأمور التي هي موجودة في الأكثر هي طبيعية واختيارية. وهذا في الحقيقة مستند إلى إثبات العلل، والإقرار بوجود العلل والأسباب. وهذا ليس بينا أوليا بل هو مشهود، وقد علمت الفرق بينهما. وليس إذا كان قريبا من العقل، من البين بنفسه أن للحادثات مبدأ ما يجب أن يكون بينا بنفسه مثل كثير من الأمور الهندسية المبرهن عليها في كتاب أوقليدس. ثم البيان البرهاني لذلك ليس في العلوم الأخرى، فإذن يجب أن يكون في هذا العلم. فكيف يمكن أن يكون الموضوع للعلم المبحوث عن أحواله في المطالب مطلوب الوجود فيه؟ وإذا كان كذلك فبين أيضا أنه ليس البحث عنها من جهة الوجود الذي يخص كل واحد منها، لأن ذلك مطلوب في هذا العلم. ولا أيضا من جهة ما هي جملة ما وكل، لست أقول جملي وكلي. فإن النظر في أجزاء الجملة أقدم من النظر في الجملة، وإن لم يكن كذلك في الجزيئيات الكلي باعتبار قد علمته، فيجب أن يكون النظر في الأجزاء إما في هذا العلم فتكون هي أولى بأن تكون موضوعه، أو يكون في علم آخر، وليس علم آخر يتضمن الكلام في الأسباب القصوى غير هذا العلم. وأما إن كان النظر في الأسباب من جهة ما هي موجودة وما يلحقها من تلك الجهة فيجب إذن أن يكون الموضوع الأول هو الموجود بما هو موجود. فقد بان أيضا بطلان هذا النظر، وهو أن هذا العلم موضوعه الأسباب القصوى، بل يجب أن يعلم أن هذا كماله ومطلوبه.
الفصل الثاني: (ب) () فصل في تحصيل موضوع هذا العلم
صفحہ 4
فيجب أن ندل على الموضوع الذي لهذا العلم لا محالة حتى يتبين لنا الغرض الذي هو في هذا العلم، فنقول: إن العلم الطبيعي قد كان موضوعه الجسم، ولم يكن من جهة ما هو موجود، ولا من جهة ما هو جوهر، ولا من جهة ما هو مؤلف من مبدئيه، أعني الهيولي والصورة، ولكن من جهة ما هو موضوع للحركة والسكون. والعلوم التي تحت العلم الطبيعي أبعد من ذلك. وكذلك الخلقيات. وأما العلم الرياضي فقد كان موضوعه إما مقدارا مجردا في الذهن عن المادة، وإما مقدارا مأخوذا في الذهن مع مادة، وإما عددا مجردا عن المادة، وإما عددا في مادة. ولم يكن أيضا ذلك البحث متجها إلى إثبات أنه مقدار مجرد أو في مادة أو عدد مجرد أو في مادة، بل كان من جهة الأحوال التي تعرض له بعد وضعه. كذلك والعلوم التي تحت الرياضيات أولى بان لا يكون نظرها إلا في العوارض التي يلحق أوضاعا أخص من هذه الأوضاع. والعلم المنطقي، كما علمت، فقد كان موضوعه المعاني المعقولة الثانية التي تستند إلى المعاني المعقولة الأولى من جهة كيفية ما يتوصل بها من معلوم إلى مجهول، لا من جهة ما هي معقولة ولها الوجود العقلي الذي لا يتعلق بمادة أصلا أو يتعلق بمادة غير جسمانية. ولم يكن غير هذه العلوم علوم أخرى. ثم البحث عن حال الجوهر بما هو موجود وجوهر، وعن الجسم بما هو جوهر، وعن المقدار والعدد بما هما موجودان، وكيف وجودهما، وعن الأمور الصورية التي ليست في مادة أو هي مادة غير مادة الأجسام، وأنها كيف تكون وأي نحو من الوجود يخصها، فما يجب أن يجرد له البحث. وليس يجوز أن يكون من جملة العلم بالمحسوسات، ولا من جملة العلم بما وجوده في المحسوسات، لكن التوهم والتحديد يجرده من المحسوسات. فهو إذن من جملة العلم بما وجوده مباين. أما الجوهر فبين أن وجوده بما هو جوهر فقط غير متعلق بالمادة وإلا لما كان جوهر إلا محسوسا. وأما العدد فقد يقع على المحسوسات وغير المحسوسات، فهو بما هو عدد غير متعلق بالمحسوسات. وأما المقدار فلفظه أسم مشترك، فيه ما يقال له مقدار، ويعنى به البعد المقوم للجسم الطبيعي، ومنه ما يقال مقدار، ويعنى به كمية متصلة تقال على الخط والسطح والجسم المحدود. وقد عرفت الفرق بينهما.
صفحہ 5
وليس ولا واحد منهما مفارقا للمادة، ولكن المقدار بالمعنى الأول وإن كان لا يفارق المادة فإنه أيضا مبدأ لوجود الأجسام الطبيعية. فإذا كان مبدأ لوجودها لم يجز أن يكون متعلق القوام بها، بمعنى أنه يستفيد القوام من المحسوسات، بل المحسوسات تستفيد منه القوام. فهو إذا أيضا متقدم بالذات على المحسوسات. وليس الشكل كذلك، فإن الشكل عارض لازم للمادة بعد تجوهرها جسما متناهيا موجودا وحملها سطحا متناهيا. فإن الحدود تجب للمقدار من جهة استكمال المادة به وتلزمه من بعد. فإذا كان كذلك لم يكن الشكل موجودا إلا في المادة ولا علة أولية لخروج المادة إلى الفعل. وأما المقدار بالمعنى الآخر فإن فيه نظرا من جهة وجوده، ونظرا من جهة عوارضه. فأما النظر في أن وجود أي أنحاء الوجود هو، ومن أي أقسام الموجود، فليس هو بحثا أيضا عن معنى متعلق بالمادة. فأما موضوع المنطق من جهة ذاته فظاهر أنه خارج عن المحسوسات. فبين أن هذه كلها تقع في العلم الذي يتعاطى ما لا يتعلق قوامه بالمحسوسات، ولا يجوز أن يوضع لها موضوع مشترك تكون هي كلها حالاته وعوارضه إلا الموجود. فإن بعضها جواهر، وبعضها كميات، وبعضها مقولات أخرى؛ وليس يمكن أن يعمهما معنى محقق إلا حقيقة معنى الوجود. وكذلك قد يوجد أيضا أمور يجب أن تتحدد وتتحقق في النفس، وهي مشتركة في العلوم. وليس ولا واحد من العلوم يتولى الكلام فيها مثل الواحد بما هو واحد، والكثير بما هو كثير، والموافق والمخالف، والضد وغير ذلك، فبعضها يستعملها استعمالا فقط، وبعضها إنما يأخذ حدودها، ولا يتكلم في نحو وجودها. وليست عوارض خاصة لشيء من موضوعات هذه العلوم الجزئية. وليست من الأمور التي يكون وجودها إلا وجود الصفات للذوات ولا أيضا هي من الصفات التي تكون لكل شيء. فيكون كل واحد منها مشتركا لكل شيء ولا يجوز ان يختص أيضا بمقولة ولا يمكن أن يكون من عوارض شيء إلا الموجود بما هو موجود. فظاهر لك من هذه الجملة أن الموجود بما هو موجود أمر مشترك لجميع هذه، وأنه يجب أن يجعل الموضوع لهذه الصناعة لما قلنا. ولأنه غني عن تعليم ماهيته وعن إثباته، حتى يحتاج إلى أن يتكفل علم غير هذا العلن بإيضاح الحال فيه لإستحالة أن يكون إثبات الموضوع وتحقيق ماهيته في العلم الذي هو موضوعه بل تسليم إنيته وماهيته فقط. فالموضوع الأول لهذا العلم هو الموجود بما هو موجود؛ ومطالبه الأمور التي تلحقه بما هو موجود من غير شرط. وبعض هذه الأمور هي له كالأنواع: كالجوهر والكم والكيف؛ فإنه ليس يحتاج الموجود في أن ينقسم
صفحہ 6
إليها، إلى إنقسام قبلها، حاجة الجوهر إلى انقسامات، حتى يلزمه الإنقسام إلى الإنسان وغير الإنسان. وبعض هذه كالعوارض الخاصة، مثل الواحد والكثير، والقوة والفعل، والكلي والجزئي، والممكن والواجب؛ فإنه ليس يحتاج الموجود في قبول هذه الأعراض والاستعداد لها إلى أن يتخصص طبيعيا أو تعليميا أو خلقيا أو غير ذلك. ولقائل أن يقول، إنه إذا جعل الموجود هو الموضوع لهذا العلم لم يجز أن يكون إثبات مبادئ الموجودات فيه، لأن البحث في كل علم هو عن لواحق موضوعه لا عن مبادئه. فالجواب عن هذا أن النظر في المبادئ أيضا هو بحث عن عوارض هذا الموضوع، لأن الموجود كونه مبدأ غير مقوم له ولا ممتنع فيه؛ بل هو بالقياس إلى طبيعة الموجود أمر عارض له، ومن العوارض الخاصة به. لأنه ليس شيء أعم من الموجود، فيلحق غيره لحوقا أوليا. ولا أيضا يحتاج الموجود إلى أن يصير طبيعيا أو تعليميا أو شيئا آخر حتى يعرض له أن يكون مبدأ. ثم المبدأ ليس المبدأ للموجود كله، ولو كان المبدأ للموجود كله لكان مبدأ لنفسه؛ بل الموجود كله لا مبدأ له، إنما المبدأ للموجود المعلول. فالمبدأ هو مبدأ لبعض الموجود. فلا يكون هذا العلم يبحث عن مبادئ الموجود مطلقا، بل إنما يبحث عن مبادئ بعض ما فيه كسائر العلوم الجزئية؛ فإنها وإن كانت لا تبرهن على وجود مبادئها المشتركة، إذ لها مبادئ يشترك فيها جميع ما ينحوه كل واحد منها، فإنها تبرهن على وجود ما هو مبدأ لما بعدها من الأمور التي فيها. ويلزم هذا العلم أن ينقسم ضرورة إلى أجزاء منها: ما يبحث عن الأسباب القصوى، فإنها الأسباب لكل موجود معلول من جهة وجوده، ويبحث عن السبب الأول الذي يفيض عنه كل موجود معلول بما هو موجود معلول لا بل ما هو. وجود متحرك فقط أو متكمم فقط. ومنها ما يبحث عن العوارض للموجود. ومنها مايبحث عن مبادئ العلوم الجزئية. ولأن مبادئ كل علم أخص هي مسائل العلم في الأعلى، مثل مبادئ الطب في الطبيعي، والمساحة في الهندسة، فيعرض إذن في هذا العلم أن يتضح فيه مبادئ العلوم الجزئية التي تبحث عن أحوال الجزئيات الموجودة. فهذا العلم يبحث عن أحوال الموجود، والأمور التي هي له كالأقسام والأنواع ، حتى يبلغ إلى تخصيص يحدث معه موضوع العلم الطبيعي فيسلمه إليه، وتخصيص يحدث معه موضوع الرياضي فيسلمه إليه، وكذلك في غير ذلك. وما قبل ذلك التخصيص كالمبدأ فنبحث عنه ونقرر حاله.فتكون إذن مسائل هذا العلم في أسباب الموجود المعلول بما هو موجود معلول، وبعضها في عوارض الموجود، وبعضها في مبدئ العلوم الجزئية.
صفحہ 7
فهذا هو العلم المطلوب في هذه الصناعة وهو الفلسفة الأولى، لأنه العلم بأول الأمور في الوجود، وهو العلة الأولى وأول الأمور في العموم، وهو الوجود والوحدة. وهو أيضا الحكمة التي هي أفضل علم بافضل معلوم؛ فإنها أفضل علم أي اليقين، بأفضل المعلوم أي الله تعالى وبالأسباب من بعده. وهو أيضا معرفة الأسباب القصوى للكل. وهو أيضا المعرفة بالله، وله حد العلم الإلهي الذي هو أنه علم بالأمور المفارقة للمادة في الحد والوجود.إذ الموجود بما هو موجود ومبادئه وعوارضه ليس شيء منها، كما اتضح، إلا متقدم الوجود على المادة وغير متعلق الوجود بوجودها. وإن البحث في هذا العلم عما لا يتقدم المادة، فإنما يبحث فيه عن معنى. ذلك المعنى غير محتاج الوجود إلى المادة، بل الأمور المبحوث عنها فيه هي أقسام أربعة: فبعضها بريئة عن المادة وعلائق المادة أصلا. وبعضها يخالط المادة، ولكن مخالطة السبب المقوم المتقدم وليست المادة بمقوم له. وبعضها قد يوجد في المادة وقد توجد لا في المادة مثل العلية والوحدة، فيكون الذي لها بالشركة بما هي هي أن لا تكون مفتقرة التحقق إلى وجود المادة، وتشترك هذه الجملة أيضا في أنها غير مادية الوجود أي غير مستفادة الوجود من المادة. وبعضها أمور مادية، كالحركة والسكون، ولكن ليس المبحوث عنه في هذا العلم حالها في المادة، بل نحو الوجود الذي لها. فإذا أخذ هذا القسم مع الأقسام الأخرى اشتركت في في أن نحو البحث عنها هو من جهة معنى غير قائم الوجود بالمادة. وكما أن العلوم الرياضية قد كان يوضع فيها ما هو متحدد بالمادة، لكن نحو النظر والبحث عنه كان من جهة معنى غير متحدد بالمادة، وكان لا يخرجه تعلق ما يبحث عنه بالمادة عن أن يكون البحث رياضيا، كذلك الحال ههنا. فقد ظهر ولاح أن الغرض في هذا العلم أي شيء هو. وهذا العلم يشارك الجدل والسفسطة من وجه، ويخالفهما من وجه، ويخالف كل واحد منهما من وجه. أما مشاركتهما فلأن ما يبحث عنه في هذا العلم لا يتكلم فيه صاحب علم جزئي، ويتكلم فيه الحدلي والسوفسطائي. وأما المخالفة فلأن الفيلسوف الأول من حيث هو فيلسوف أول لا يتكلم في مسائل العلوم الجزئية وذانك يتكلمان. وأما مخالفته للجدل خاصة فبالقوة، لأن الكلام الجدلي يفيد الظن لا اليقين كما علمت في صناعة المنطق. وأما مخالفة السوفسطائية فبالإرادة، وذلك لأن هذا يريد الحق نفسه، وذلك يريد أن يظن به انه حكيم يقول الحق وإن لم يكن حكيما.
الفصل الثالث: (ج)
صفحہ 8
فصل في منفعة هذا العلم ومرتبته واسمه
وأما منفعة هذا العلم، فيجب أن تكون قد وقفت في العلوم التي قبل هذا على أن الفرق بين النافع وبين الخير ما هو، وأن الفرق بين الضار وبين الشر ما هو، وأن النافع هو السبب الموصل بذاته إلى الخير، والمنفعة هي المعنى الذي يوصل به الشر إلى الخير. وإذ قد تقرر هذا فقد علمت أن العلوم كلها تشترك في منفعة واحدة وهي: تحصيل كمال النفس الإنسانية بالفعل مهيئة إياها للسعادة الأخروية. ولكنه إذا فتش في رؤوس الكتب عن منفعة العلوم لم يكن القصد متجها إلى هذا المعنى، بل إلى معونة بعضها في بعض، حتى تكون منفعة علم ما هي معنى يتوصل منه إلى تحقيق علم آخر غيره. وإذا كانت المنفعة بهذا المعنى فقد يقال قولا مطلقا، وقد يقال قولا متخصصا. فأما المطلق فهو أن يكون النافع موصلا إلى تحقيق علم آخر كيف كان، وأما المتخصص فأن يكون النافع موصلا إلى ما هو أجل منه، وهو الغاية له إذ هو لأجله بغير انعكاس. فإذا أخذنا المنفعة بالمعنى المطلق كان لهذا العلم منفعة. وإذا أخذنا المنفعة بالمعنى المتخصص كان هذا العلم أجل من أن ينفع في علم غيره، بل سائر العلوم تنتفع به. لكن إذا قسمنا المنفعة المطلقة إلى أقسامها كانت ثلاثة أقسام: قسم يكون الموصل منه موصلا إلى معنى أجل منه؛ وقسم يكون الموصل منه موصلا إلى معنى مساو له؛ وقسم يكون الموصل منه موصلا إلى معنى دونه، وهو أن يفيد في كمال دون ذاته. وهذا إذا طلب له أسم خاص كان الأولى به الإفاضة، والإفادة، والعناية، والرياسة، أو شيء مما يشبه هذا إذا استقريت الألفاظ الصالحة في هذا الباب عثرت عليه. والمنفعة المتخصصة قريبة من الخدمة. وأما الإفادة التي تحصل من الأشرف في الأخس فليس تشبه الخدمة. وأنت تعلم أن الخادم ينفع المخدوم، والمخدوم أيضا ينفع الخادم، أعني المنفعة إذا أخذت مطلقة ويكون نوع كل منفعة ووجه الخاص نوعا آخر، فمنفعة هذا العلم الذي بينا وحهها هي إفادة اليقين بمبادئ العلوم الجزئية، والتحقق لماهية الأمور المشترك فيها، وإن لم تكن مبادئ. فهذا إذن منفعة الرئيس للمرؤوس، والمخدوم للخادم، إذ نسبة هذا العلم إلى العلوم الجزئية نسبة الشيء الذي هو المقصود معرفته في هذا العلم إلى الأشياء المقصود معرفتها في تلك العلوم. فكما أن ذلك مبدأ لوجود تلك، فكذلك العلم به مبدأ لتحقق العلم بتلك.
صفحہ 9
وأما مرتبة هذا العلم فهي أن يتعلم بعد العلوم الطبيعية والرياضية. أما الطبيعية، فلأن كثيرا من الأمور المسلمة في هذا مما تبين في علم الطبيعي مثل: الكون، والفساد، والتغير، والمكان، والزمان وتعلق كل متحرك بمحرك، وانتهاء المتحركات إلى محرك أول، وغير ذلك. وأما الرياضية، فلأن الغرض الأقصى في هذا العلم هو تدبير الباري تعالى، ومعرفة الملائكة الروحانية وطبقاتها، ومعرفة النظام في ترتيب الأفلاك، ليس يمكن أن يتوصل إلا بعلم الهيئة، وعلم الهيئة لا يتوصل إليه إلا بعلم الحساب والهندسة. وأما الموسيقى وجزئيات الرياضيات والخلقيات والسياسة فهي نوافع غير ضرورية في هذا العلم. إلا أن لسائل أن يسأل فيقول: إنه إذا كانت المبادئ في علم الطبيعة والتعاليم إنما تبرهن في هذا العلم وكانت مسائل العلمين تبرهن بالمبادئ، وكانت مسائل ذينك العلمين تصير مبادئ لهذا العلم، كان ذلك بيانا دوريا ويصير آخر الأمر بيانا للشيء من نفسه، والذي يجب أن يقال في حل هذه الشبهة هو ما قد قيل وشرح في كتاب البرهان. وإنما نورد منه مقدار الكفاية في هذا الموضوع فنقول: إن المبدأ للعلم ليس إنما يكون مبدأ لأن جميع المسائل تستند في براهينها إليه بفعل أو بقوة، بل ربما كان المبدأ مأخوذا في براهين بعض هذه المسائل، ثم قد يجوز أن تكون في العلوم مسائل براهينها لا تستعمل وصفا البتة؛ بل إنما تستعمل المقدمات التي لا برهان عليها. على أنه إنما يكون مبدأ العلم بالحقيقة إذا كان يفيد أخذه اليقين المكتسب من العلة، وأما إذا كان ليس يفيد العلة، فإنما يقال له مبدأ العلم على نحو آخر. وبالحري أن يقال له مبدأ على حسب ما يقال للحس مبدأ، من جهة أن الحس بما هو حس يفيد الوجود فقط. فقد ارتفع إذن الشك، فإن المبدأ الطبيعي يجوز أن يكون بينا بنفسه، ويجوز أن يكون بيانه في الفلسفة الأولى بما ليس يتبين به فيما بعد، ولكن أنما تتبين به مسائل أخرى حتى يكون ما هو مقدمة في العلم الأعلى لإنتاج ذلك المبدأ لا يتعرض له في انتاجه من ذلك المبدأ، بل له مقدمة أخرى. وقد يجوز أن يكون العلم الطبيعي أو الرياضي أفادنا برهان "أن" وإن لم يفدنا فيه برهان "اللم" ثم يفيدنا هذا العلم فيه برهان "لم" خصوصا في العلل الغائية البعيدة. فقد اتضح إنه إما أن يكون ما هو مبدأ بوجه ما لهذا العلم من المسائل التي في العلوم الطبيعية ليس في بيانه من مبادئ تتبين في هذا العلم، بل من مبادئه بينة بنفسها؛ وإما أن يكون بيانه من مبادئ هي مسائل في هذا العلم، لكن ليس تعود فتصير مبادئ لتلك المسائل لعينها بل لمسائل أخرى؛ وإما أن تكون تلك
صفحہ 10
المبادئ لأمور من هذا العلم لتدل على وجود ما يراد أن نبين في هذا العلم لميته. ومعلوم أن هذا الأمر إذا كان على هذا الوجه لم يكن بيان دور البتة، حتى يكون بيانا يرجع إلى أخذ الشيء في بيان نفسه. ويجب أن تعلم أن في نفس الأمر طريقا إلى أن يكون الغرض من هذا العلم تحصيل مبدأ إلا بعد علم آخر. فإنه سيتضح لك فيما بعد إشارة إلى أن لنا سبيلا إلى إثبات المبدأ الأول لا من طريق الإستدلال من الأمور المحسوسة، بل من طريق مقدمات كلية عقلية توجب للوجود مبدأ واجب الوجود وتمنع أن يكون متغيرا أو متكثرأ في جهة، وتوجب أن يكون هو مبدأ للكل، وأن يكون الكل يجب عنه على ترتيب الكل. لكن لعجز أنفسنا لا نقوى على سلوك ذلك الطريق البرهاني الذي هو سلوك عن المبادئ إلى الثواني، وعن العلة إلى المعلول، إلا في بعض جمل مراتب الموجودات منها دون تفصيل. فإذن من حق هذا العلم في نفسه أن يكون مقدما على العلوم كلها، إلا أنه من جهتنا يتأخر عن العلوم كلها، فقد تكلمنا على مرتبة هذا العلم من جملة العلوم. وأما أسم هذا العلم فهو أنه: "ما بعد الطبيعة". ويعني بالطبيعة لا القوة التي هي مبدأ حركة وسكون، بل جملة الشيء الحادث عن المادة الجسمانية وتلك القوة والأعراض. فقد قيل أنه قد يقال: الطبيعة، للجرم الطبيعي الذي له طبيعة. والجرم الطبيعي هو الجرم المحسوس بما له من الخواص والأعراض. ومعنى "ما بعد الطبيعة" بعدية بالقياس إلينا. فإن أول ما نشاهد الوجود، ونتعرف عن أحواله نشاهد هذا الوجود الطبيعي. وأما الذي يستحق أن يسمى به هذا العلم إذا اعتبر بذاته، فهو أن يقال له علم "ما قبل الطبيعة"، لأن الأمور المبحوث عنها في هذا العلم، هي بالذات والعموم، قبل الطبيعة. ولكنه لقائل أن يقول: إن الأمور الرياضية المحضة التي ينظر فيها في الحساب والهندسة، هي أيضا "قبل الطبيعة"، وخصوصا العدد فإنه لا تعلق لوجوده بالطبيعة البتة، لأنه قد يوجد لا في الطبيعة، فيجب أن يكون علم الحساب والهندسة علم "ما قبل الطبيعة". فالذي يجب أن يقال في هذا التشكيك هو أنه: أما الهندسة فما كان النظر فيه منها إنما هو في الخطوط والسطوح والمجسمات. فمعلوم أن موضوعه غير مفارق للطبيعة في القوام، فالأعراض اللازمة له أولى بذلك. وما كان موضوعه المقدار المطلق فيؤخذ فيه المقدار المطلق على أنه مستعد لأية نسبة اتفقت، وليس ذلك للمقدار بما هو مبدأ للطبيعيات وصورة؛ بل بما هو مقدار وعرض. وقد عرف في شرحنا للمنطقيات والطبيعيات الفرق بين المقدار الذي هو يعد الهيولي مطلقا، وبين المقدار الذي هو كم،
صفحہ 11
وأن أسم المقدار يقع عليهما بالإشتراك. وإذا كان ذلك فليس موضوع الهندسة بالحقيقة هوالمقدار المعلوم المقوم للجسم الطبيعي، بل المقدار المقول على الخط والسطح والجسم. وهذا هو المستعد للنسب المختلفة. وأما العدد فالشبهة فيه آكد، ويشبه في ظاهر النظر أن يكون علم العدد هو علم "ما بعد الطبيعة". إلا أن يكون علم "ما بعد الطبيعة" إنما يعنى به شيء آخر، وهو علم "ما هو مباين" من كل الوجوه للطبيعة، فيكون قد سمي هذا العلم بأشرف ما فيه. كما يسمى هذا العلم بالعلم الإلهي أيضا، لأن المعرفة بالله تعالى هي غاية هذا العلم. وكثيرا ما تسمى الأشياء من جهة المعنى الأشرف، والجزء الأشرف، والجزء الذي هو كالغاية. فيكون كأن هذا العلم هو العلم الذي كماله، وأشرف اجزاءه، ومقصوده الأول، هو معرفة ما يفارق الطبيعة من كل وجه. وحينئذ إذا كانت التسمية موضوعا بإزاء هذا المعنى لا يكون لعلم العدد مشاركة له في معنى هذا الإسم، فهذا هذا. ولكن البيان المحقق لكون علم الحساب خارجا عن علم "ما بعد الطبيعة" هو أنه سيظهر لك أن موضوعه ليس هو العدد كل كل وجه، فإن العدد قد يوجد في الأمور المفارقة، وقد يوجد في الأمور الطبيعية، وقد يعرض له وضع في الوهم مجردا عن كل شيء وهو عارض له. وإن كان لا يمكن أن يكون العدد موجودا، إلا عارضا لشيء في الوجود.فما كان من العدد وجوده في الأمور المفارقة، امتنع أن يكون موضوعا لأية نسبة اتفقت من الزيادة والنقصان، بل إنما يثبت على ما هو عليه فقط، بل إنما يجب أن يوضع بحيث يكون قابلا لأي زيادة اتفقت، ولأي نسبة اتفقت إذا كان في هيولي الأجسام التي هي بالقوة كل نحو من المعدودات، أو كان في الوهم؛ وفي الحالين جميعا هو غير مفارق للطبيعة، فإذن علم الحساب من حيث ينظر في العدد إنما ينظر فيه وقد حصل له الإعتبار الذي إنما يكون له عند كونه في الطبيعة، ويشبه أن يكون أول نظره فيه هو في الوهم، ويكون إنما هو في الوهم بهذه الصفة، لأنه وهم له مأخوذ من أحوال طبيعية لها أن تجتمع وتفترق وتتحدد وتنقسم. فالحساب ليس نظرا في ذات العدد، ولا نظرا في عوارض العدد من حيث هو عدد مطلقا؛ بل هو في عوارضه من حيث هو يصير بحال تقبل ما أشير إليه، وهو حينئذ مادي أو وهمي إنساني يستند إلى المادة. وأما النظر في ذات العدد، وفيما يعرض له من حيث لا يتعلق بالمادة ولا يستند إليها، فهو لهذا العلم.
الفصل الرابع: (د)
صفحہ 12
فصل في جملة ما يتكلم فيه في هذا العلم
فينبغي لنا في هذه الصناعة أن نعرف حال نسبة الشيء والموجودات إلى المقولات؛ وحال العدم؛ وحال الوجوب، أي الوجود الضروري وشرائطه؛ وحال الإمكان وحقيقته، وهو بعينه النظر في القوة والفعل؛ وأن ننظر في حال الذي بالذات والذي بالعرض؛ وفي الحق والباطل؛ وفي حال الجوهر، وكم أقسام هو، لأنه ليس يحتاج الموجود في ان يكون جوهرا موجودا إلى أن يصير طبيعيا أو تعليميا، فإن ههنا جواهر خارجة عنهما، فيجب أن نعرف حال الجوهر الذي هو كالهيولي، وأنه كيف هو، وهل هو مفارق أو غير مفارق، ومتفق النوع أو مختلف، وما نسبته إلى الصورة، أن الجوهر الصوري كيف هو، وهل هو أيضا مفارق أو ليس بمفارق، وما حال المركب، وكيف حال كل واحد منهما عند الحدود، وكيف مناسبة ما بين الحدود والمحدودات. ولأن مقابل الجوهر بنوع ما هو العرض، فينبغي أن نتعرف في هذا العلم طبيعة العرض، وأصنافه، وكيفية الحدود التي تحد بها الأعراض، ونتعرف حال مقولة مقولة من الأعراض، وما أمكن فيه أن يظن أنه جوهر وليس بجوهر، فنبين عرضيته، ونعرف مراتب الجواهر كلها بعضها عن بعض في الوجود بحسب التقدم والتأخر، ونعرف كذلك حال الأعراض. ويليق بهذا الموضوع أن نتعرف حال الكلي والجزئي؛ والكل والجزء؛ وكيف وجود الطبائع الكلية، وهل لهاوجود في الأعيان الجزئية؛ وكيف وجودها في النفس، وهل لها وجود مفارق للأعيان والنفس. وهناك نتعرف حال الجنس والنوع، وما يجري مجراهما، ولأن الموجود لا يحتاج في كونه علة أو معلولا إلى أن يكون طبيعيا أو تعليميا أو غير ذلك. فبالحري أن نتبع ذلك الكلام في العلل، وأجناسها، وأحوالها، وأنها كيف ينبغي أن تكون الحال بينها وبين المعلولات، وفي تعريف الفرقان بين المبدأ الفاعلي، وبين غيره. وأن نتكلم في الفعل والإنفعال. وفي تعريف الفرقان بين الصورة والغاية، واثبات كل واحد منهما، وأنهما في كل طبقة يذهب إلى علة أولى. ونبين الكلام في المبدأ والإبتداء، ثم الكلام في التقدم والتأخر والحدوث، وأصناف ذلك، وأنواعه، وخصوصية كل نوع منه، وما يكون متقدما في الطبيعة ومتقدما عند العقل، وتحقيق الأشياء المتقدمة عند العقل، ووجه مخاطبة من انكرها، فما كان فيه من هذه الأشياء رأي مشهور مخالف للحق نقضناه. فهذه وما يجري مجراها لواحق الوجود بما هو وجود، ولأن الواحد مساوق للوجود فيلزمنا أن ننظر
صفحہ 13
أيضا في الواحد، وإذا نظرنا في الواحد وجب أن ننظر في الكثير، ونعرف التقابل بينهما. وهناك يجب أن ننظر في العدد، وما نسبته إلى الموجودات، وما نسبة الكم المتصل، الذي يقابله بوجه ما، إلى الموجودات، ونعد الآراء الباطلة كلها فيه، ونعرف أنه ليس شيء من ذلك مفارقا ولا مبدأ للموجودات، ونثبت العوارض التي تعرض للأعداد، والكميات المتصلة، مثل الأشكال وغيرها، ومن توابع الواحد: الشبيه، والمساوي، والموافق، والمجانس، والمشاكل، والمماثل، والهو هو. فيجب أن نتكلم في كل واحد من هذه ومقابلاتها، وأنها مناسبة للكثرة مثل الغير الشبيه، وغير المساوي، وغير المجانس، وغير المشاكل، والغير بالجملة، والخلاف، والتقابل، وأصنافها، والتضاد بالحقيقة، وماهيته. ثم بعد ذلك ننتقل إلى مبادئ الموجودات فنثبت المبدأ الأول وأنه واحد حق في غاية الجلالة، ونعرف أنه من كم وجه "واحد"، ومن كم وجه "حق"، وأنه كيف يعلم كل شيء، وكيف هو قادر على كل شيء، وما معنى أنه يعلم وأنه يقدر، وأنه جواد، وأنه سلام أي خير محض، معشوق لذاته، وهو اللذيذ الحق، وعنده الجمال الحق، ونفسخ ما قيل وظن فيه من الآراء المضادة للحق، ثم نبين كيف نسبته إلى الموجودات عنه، وما أول الأشياء التي توجد عنه. ثم كيف تترتب عنه الموجودات مبتدئة من الجواهر الملكية العقلية، ثم الجواهر الملكية النفسانية، ثم الجواهر الفلكية السماوية، ثم هذه العناصر، ثم المكونات عنها. ثم الإنسان وكيف تعود إليه هذه الأشياء، وكيف هو مبدأ لها فاعلي، وكيف هو مبدأ لها كمالي، وماذا تكون حال النفس الإنسانية إذا انقطعت العلاقة بينها وبين الطبيعة، وأي مرتبة تكون مرتبة وجودها. وندل فيما بين ذلك على جلالة قدر النبوة، ووجوب طاعتها، وأنها واجبة من عند الله، وعلى الأخلاق والأعمال التي تحتاج إليها النفوس الإنسانية مع الحكمة في أن يكون لها السعادة الأخروية. ونعرف أصناف السعادات. فإذا بلغنا هذا المبلغ ختمنا كتابنا هذا، والله المستعان به على ذلك.
الفصل الخامس: (ه)
صفحہ 14
فصل في الدلالة على الموجود والشيء وأقسامها
الأول، بما يكون فيه تنبيه على الغرض
أوليا، ليس ذلك الارتسام مما يحتاج إلى أن يجلب بإشياء أعرف منها. فأنه كما أن في باب التصديق مبادئ أولية، يقع التصديق لها لذاتها، ويكون التصديق بغيرها، بسببها، وإذا لم يخطر بالبال أو لم يفهم اللفظ الدال عليها، لم يمكن التوصل إلى معرفة ما يعرف بها، وإن لم يكن التعريف الذي يحاول أخطارها بالبال أو تفهيم ما يدل به عليها من الألفاظ محاولا لإفادة علم ليس في الغريزة؛ بل منبها على تفهيم ما يريده القائل ويذهب إليه. وربما كان ذلك بأشياء هي في نفسها أخفى من المراد تعريفه، لكنها لعلة ما وعبارة ما صارت أعرف. كذلك في التصورات أشياء هي مبادئ للتصور، وهي متصورة لذواتها، وإذا أريد أن يدل عليها لم يكن ذلك بالحقيقة تعريفا لمجهول؛ بل تنبيها وأخطارا بالبال، بإسم أو بعلامة، ربما كانت في نفسها أخفى منه، لكنها لعلة ما وحال ما تكون أظهر دلالة. فإذا استعملت تلك العلامة تنبهت النفس على إخطار ذلك المعنى بالبال، من حيث أنه هو المراد لا غيره، من غير أن تكون العلامة بالحقيقة معلمة إياه، ولو كان كل تصور يحتاج إلى أن يسبقه تصور قبله لذهب الأمر في ذلك إلى غير النهاية، أو لدار. وأولى الأشياء بأن تكون متصورة لأنفسها الأشياء العامة للأمور كلها، كالموجود، والشيء الواحد وغيره. ولهذا ليس يمكن أن يبين شيء منها ببيان لا دور فيه البتة، أو بيان شيء أعرف منها. ولذلك من حاول أن يقوم فيها شيئا وقع في إضطراب، كمن يقول: إن من الحقيقة الموجود أن يكون فاعلا أو منفعلا؛ وهذا إن كان ولا بد من أقسام الموجود، والموجود أعرف من الفاعل والمنفعل. وجمهور الناس يتصورون حقيقة الموجود ولا يعرفون البتة أه يجب ان يكون فاعلا أو منفعلا، وأنا إلى هذه الغاية لم يتضح لي ذلك إلا بقياس لا غير، فكيف يكون حال من يروم أن يعرف حال الشيء الظاهر بصفة له، تحتاج إلى بيان حتى يثبت وجودها له؟ وكذلك قول من قال: إن الشيء هو الذي يصح عنه الخبر، فإن "يصح" أخفى من "الشيء" و "الخبر" أخفى من "الشيء"، فكيف يكون هذا تعريفا للشيء؟ وإنما تعرف الصحة ويعرف الخبر بعد أن يستعمل في بيان كل واحد منهما أنه "شيء" أو أنه "أمر" أو أنه "ما" أو أنه "الذي"، وجميع ذلك كالمرادفات لأسم الشيء، فكيف يصح أن يعرف الشيء تعريفا حقيقيا بما لم يعرف إلا به؟ نعم ربما كان في ذلك أو أمثاله تنبيه ما. وأما بالحقيقة فإنك إذا قلت إن الشيء هو ما يصح عنه
صفحہ 15
الخبر، تكون كأنك قلت: إن الشيء هو الشيء الذي يصح الخبر عنه، لأن معنى "ما" و"الذي" و"الشيء" معنى واحد، فتكون قد أخذت الشيء في حد الشيء. على أننا لا ننكر أن يقع بهذا أو ما يشبهه، مع فساد مأخذه، تنبيه بوجه ما على الشيء، ونقول: إن معنى الوجود ومعنى الشيء متصوران في الأنفس، وهما معنيان. فالموجود والمثبت والمحصل أسماء مترادفة على معنى واحد، ولا نشك في أن معناها قد حصل في نفس من يقرأ هذا الكتاب. والشيء وما يقوم مقامه قد يدل به على معنى آخر في اللغات كلها، فإن لكل أمر حقيقة هو بها ما هو، فالمثلث حقيقة أنه مثلث، وللبياض حقيقة أنه بياض، وذلك هو الذي ربما سميناه الوجود الخاص، ولم نرد به معنى الوجود الإثباتي. فإن لفظ الوجود يدل به أيضا على معاني كثيرة، منها الحقيقة التي عليها الشيء، فكأنه ما عليه يكون الوجود الخاص للشيء. ونرجع فنقول: أنه من البين أن لكل شيء حقيقة خاصة هي ماهيته، ومعلوم أن حقيقة كل شيء الخاصة به غير الوجود الذي يرادف الإثبات، وذلك لأنك إذا قلت: حقيقة كذا موجودة إما في الأعيان، أو في الأنفس، أو مطلقا يعمها جميعا، كان لهذا معنى محصل مفهوم. ولوقلت: إن حقيقة كذا، حقيقة كذا، أو أن حقيقة كذا حقيقة، لكان حشوا من الكلام غير مفيد. ولو قلت: إن حقيقة كذا شيء، لكان أيضا قولا غير مفيد ما يجهل؛ واقل إفادة منه أن تقول: إن الحقيقة شيء، إلا أن يعنى بالشيء، الموجود، كأنك قلت: إن حقيقة كذا حقيقة موجودة. وأما إذا قلت: حقيقة أ شيء ما، و حقيقة ب شيء آخر، فإنما صح هذا وأفاد. لأنك تضمر في نفسك أنه شيء آخر مخصوص مخالف لذلك الشيء الآخر، كما لو قلنا: إن حقيقة أ وحقيقة ب حقيقة أخرى. ولولا هذا الإضمار وهذا الإقتران جميعا لم يفد، فالشيءئ يراد به هذا المعنى. ولا يفارق لزوم معنى الوجود إياه البتة، بل معنى الوجود يلزمه دائما، لأنه إما موجودا في الأعيان، أو موجودا في الوهم والعقل، فإن لم يكن كذا لم يكن شيئا. وأن ما يقال: إن الشيء هو الذي يخبر عنه، حق؛ ثم الذي قال، مع هذا، إن الشيء قد يكون معدوما على الإطلاق، أمر يجب أن ينظر فيه. فإن عنى بالمعدوم المعدوم في الأعيان، جاز أن يكون كذلك، فيجوز أن يكون الشيء ثابتا في الذهن معدوما في الأشياء الخارجة. وإن عنى غير ذلك كان باطلا، ولم يكن عنه خبر البتة، ولا كان معلوما إلا على أنه متصور في النفس فقط. فأما أن يكون متصورا في النفس صورة تشير إلى شيء خارج فكلا.
صفحہ 16
أما الخبر، فلأن الخبر يكون دائما عن شيء متحقق في الذهن. والمعدوم المطلق لا يخبر عنه بالإيجاب، وإذا أخبر عنه بالسلب أيضا فقد جعل له وجود بوجه ما في الذهن. لأن قولنا: "هو"، يتضمن إشارة، والإشارة إلى المعدوم - الذي لا صورة له بوجه من الوجوه في الذهن - محال. فكيف يوجب على المعدوم شيء؟ ومعنى قولنا: إن المعدوم "كذا"، معناه أن وصف "كذا" حاصل للمعدوم، ولافرق بين الحاصل والموجود. فنكون كأنا قلنا: إن هذا الوصف موجود للمعدوم. بل نقول: إنه لا يخلو أن ما يوصف به المعدوم ويحمل عليه إما أن يكون موجودا وحاصلا للمعدوم أو لا يكون موجودا حاصلا له؛ فإن كان موجودا وحاصلا للمعدوم، فلا يخلو إما أن يكون في نفسه موجودا أو معدوما، فإن كان موجودا فيكون للمعدوم صفة موجودة، وإذا كانت الصفة موجودة، فالموصوف بها موجود لا محالة، فالمعدوم موجود، وهذا محال؛ وإن كانت الصفة معدومة، فكيف يكون المعدوم في نفسه موجودا لشيء؟ فإم ما لا يكون موجودا في نفسه، يستحيل ان يكون موجودا للشيء. نعم قد يكون الشيء موجودا في نفسه ولا يكون موجودا لشيء آخر، فأما إن لم تكن الصفة موجودة للمعدوم فهي نفي الصفة عن المعدوم، فإنه إن لم يكن هذا هو النفي للصفة عن المعدوم، فإذا نفينا الصفة عن المعدوم، كان مقابل هذا، فكان وجود الصفة له؛ وهذا كله باطل. وإنما نقول: إن لنا علما بالمعدوم، فلأن المعنى إذا تحصل في النفس فقط ولم يشر فيه إلى خارج، كان المعلوم نفس ما في النفس فقط، والتصديق الواقع بين المتصور من جزئيه هو أنه جائز في طباع هذا المعلوم وقوع نسبة له معقولة إلى خارج، وأما في هذا الوقت فلا نسبة له، فلا معلوم غيره. وعند القوم الذين يرون هذا الرأي، أن في جملة ما يخبر عنه ويعلم أمورا لا شيئية لها في العدم، ومن شاء أن يقف على ذلك فليرجع غلى ما هذوا به من أقاويلهم التي لا تستحق فضل الإشتغال بها. وإنما وقع اولئك فيما وقعوا فيه بسبب جهلهم بأن الإخبار إنما يكون عن معان لها وجود في النفس، وإن كانت معدومة في الأعيان، ويكون معنى الإخبار عنها ان لها نسبة ما إلى الأعيان. مثلا إن قلت: إن القيامة "تكون" فهمت القيامة وفهمت تكون، وحملت تكون التي في النفس، على القيامة التي في النفس، بأن هذا المعنى إنما يصح في معنى آخر معقول أيضا، وهو معقول في وقت مستقبل، أن يوصف بمعنى ثالث معقول، وهو معقول الوجود. وعلى هذا القياس الأمر في الماضي. فبين أن المخبر عنه لا بد من أن يكون موجودا وجودا ما في النفس. والإخبار في الحقيقة هو عن الموجود في النفس، وبالعرض عن
صفحہ 17
الموجود في الخارج. وقد فهمت الآن أن الشيء بماذا يخالف المفهوم للموجود والحاصل، وأنهما مع ذلك متلازمان. وعلى أنه قد بلغني أن قوما يقولون: أن الحاصل يكون حاصلا، وليس بموجود، وقد تكون صفة الشيء ليس شيئا لا موجودا ولا معدوما، وأن "الذي" و"ما" يدلان على غير ما يدل عليه الشيء. فهؤلاء ليسوا من جملة المميزين. وإذا أخذا بالتمييز بين هذه الألفاظ من حيث مفهوماتها إنكشفوا. فنقول الآن: إنه وإن لم يكن الموجود، كما علمت، جنسا، ولا مقولا بالتساوي على ما تحته، فإنه معنى متفق فيه على التقديم والتأخير . وأول ما يكون، يكون للماهية التي هي الجوهر ثم يكون لما بعده. وإذ هو معنى واحد على النحو الذي أومأنا إليه فتلحقه عوارض تخصه، كما قد بينا من قبل. فلذلك يكون له علم واحد يتكفل به. كما أن لجميع ما هو صحي علما واحدا. وقد يعسر علينا أن نعرف حال الواجب والممكن والممتنع بالتعريف المحقق أيضا، بل بوجه العلامة. وجميع ما قيل في تعريف هذه مما بلغك عن الأولين قد يكاد يقتضي دورا. وذلك لأنهم، على ما مر لك في فنون المنطق، إذا أرادوا أن يحدوا الممكن، أخذوا في حده إما الضروري وإما المحال ولا وجه غير ذلك. وإذا أرادوا أن يحدوا الضروري، أخذوا في حده إما الممكن وإما المحال. وإذا أرادوا أن يحدوا المحال أخذوا في حده إما الضروري وإما الممكن. مثلا إذا حدوا الممكن قالوا مرة، إنه غير ضروري أو إنه المعدوم، في الحال الذي ليس وجوده، في أي وقت فرض من المستقبل، بمجال. ثم إذا احتاجوا إلى أن يحدوا الضروري قالوا: إما أنه الذي لا يمكن أن يفرض معدوما، أو إنه الذي إذا فرض بخلاف ما هو عليه كان محالا. فقد أخذوا الممكن تارة في حده، والمحال أخرى. وأما الممكن فقد كانوا أخذوا، قبل، في حده إما الضروري وإما المحال. ثم المحال، إذا ارادوا أن يحدوه، أخذوا في حده إما الضروري بأن يقولوا: إن المحال هو ضروري العدم؛ وإما الممكن بأن يقولوا: إنه الذي لا يمكن أن يوجد؛ أو لفظا آخر يذهب مذهب هذين. وكذلك ما يقال من أن الممتنع هو الذي لا يمكن أن يكون، أو هو الذي لا يجب أن يكون. والواجب هو الذي هو ممتنع ومحال أن لا يكون، أو ليس بممكن أن لا يكون. والممكن هوالذي ليس يمتنع أن يكون أو لا يكون، أو الذي ليس بواجب أن يكون أو لا يكون. وهذا كله كما تراه دور ظاهر. وأما الكشف الحال في ذلك فقد مر لك في أنولوطيقا. على أن أولى هذه الثلاثة في ان يتصور أولا، هو الواجب. وذلك لأن الواجب يدل على تأكد الوجود،
صفحہ 18
والوجود أعرف من العدم، لأن الوجود يعرف بذاته، والعدم يعرف، بوجه ما من الوجوه، بالوجود. ومن تفهمنا هذه الأشياء يتضح لك بطلان قول من يقول: إن المعدوم يعاد لأنه أول شيء مخبر عنه بالوجود. وذلك أن المعدوم إذا أعيد يجب أن يكون بينه وبين ما هو مثله، لو وجد بدله، فرق. فإن كان مثله إنما ليس هو لأنه ليس الذي كان عدم، وفي حال العدم كان هذا غير ذلك، فقد صار المعدوم موجودا على النحو الذي أومأنا إليه فيما سلف آنفا. وعلى أن المعدوم إذا أعيد احتيج أن تعاد جميع الخواص التي كان بها هو ما هو. ومن خواصه وقته، وإذا أعيد وقته كان المعدوم غير معاد، لأن المعاد هو الذي يوجد في وقت ثان. فإن كان المعدوم تجوز إعادته وإعادة جملة المعلومات التي كانت معه، والوقت إما شيء له حقيقة وجود قد عدم، أو موافقة موجود لعرض من الأعراض، على ما عرف من مذاهبهم، جاز أن يعود الوقت والأحوال، فلا يكون وقت ووقت، فلا يكون يعود. على أن العقل يدفع هذا دفعا لا يحتاج فيه إلى بيان، وكل ما يقال فيه فهو خروج عن طريق التعليم.
الفصل السادس: (و)
صفحہ 19