شعر وفکر: مطالعات ادبی و فلسفی

عبد الغفار مكاوي d. 1434 AH
60

شعر وفکر: مطالعات ادبی و فلسفی

شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة

اصناف

وعلى الرغم من وجود شخصيات رومانسية في الرواية تأسرنا بسحرها الخلاب وغموضها الموحي - مثل الصبية المسكينة مينون

2

وعازف القيثار الأعمى والكاهنة والراهب الذي يدلي باعترافات مفزعة عن قصة زواجه بأخته - وعلى الرغم من وجود شخصيات أخرى لا نتردد في وصفها بالنفعية والأنانية، فإن الرواية في مجموعها تهاجم الإغراق الرومانسي في الاستبطان الذاتي، كما تنفر القارئ من الفاعلية المحضة التي يمكن أن تبلغ حد الثورة العمياء، لقد وقف جوته في وجه هذين الطرفين المتناقضين، وأدان العاطفية الحالمة (التي سقط فيها فرتر من قبل) كما حذر من النزعة العملية المسرفة على حد سواء، واستطاع بحسه الواقعي المتأصل فيه أن يصور لنا المثل الإنسانية في صراعها مع الحياة، وأن يرسم صورة البطل الذي يربي نفسه شيئا فشيئا؛ ليكون إنسانا يفهم الواقع الموضوعي على حقيقته، ويشارك في حركته مشاركة فعالة مثمرة، ويواجه «نثره» المحبط المعوق بشاعرية وجوده الإنساني الجديد. لقد طالما انغمس «فيلهلم» في حنينه العاطفي إلى المسرح، في صبواته المريرة وجولاته المخفقة، ولكن لم يربه إلا مواجهة الواقع القائم والصراع معه ومحاولة تفهمه وتغييره بشخصيته الفاعلة المتكاملة ... إن رواية جوته تعبر عن المثل الإنسانية وأزمتها المأسوية في ظل البرجوازية المتخلفة في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر. وهي تجسد مثل الثورة الفرنسية في عصر الآمال العظام التي جاشت بها نفس جوته ونفوس معاصريه الكبار - على الرغم من تحفظاتهم على أساليب تلك الثورة نفسها وفظائعها الدموية - في مرحلة انتقالية لذلك المجتمع الذي صورت الرواية تناقضاته وتنبأت بحركته نحو مجتمع جديد، وإنسان جديد. •••

ونأتي للفصل الثالث من الكتاب، فنطلع على حديث المؤلف عن الرسائل المتبادلة بين جوته وشيلر في فترة امتدت من سنة 1794م حتى وفاة شيلر سنة 1805م. والواقع أن هذه الرسائل التي تنضح بالحب والدفء والحوار الودي العميق حول مشكلات الأدب والفن والحياة تعد من أهم وثائق الأدب الألماني، بل لعلها أن تكون في الأدب العالمي كله من أبدع الآثار التي حافظت على صداقة عقلية نادرة، ربطت بين أديبين كبيرين، على الرغم من اختلاف مزاجهما ونظرتهما للعالم وأسلوبهما في الفن بين الحماس والاتزان، والمثالية والواقعية، والطبيعة والصنعة. أضف إلى ذلك أن هذه الرسائل هي شهادات تلقائية حميمة عن تجارب الشاعرين الخاصة في إبداعهما، وفي صراعهما مع المواد والأشكال الفنية المختلفة، ومحاولاتهما لإيجاد أساس نظري لإنتاجهما، وكل هذا يزيد من أهميتها، بحيث لا يمكن أن يستغني عنها مؤرخ الأدب وناقده، وفيلسوف الفن والجمال. ولا ننسى أن الرسائل كتبت في ظل أوضاع تاريخية واجتماعية معينة، وأنها تعبر عند الشاعرين عن فلسفة للفن بلغت ذروتها النظرية في عصرهما «عصر المثالية الممتد من كانط إلى هيجل »، وانعكست بصورة أو أخرى على ممارستهما الأدبية؛ ولذلك فإنها تحتم علينا - شأنها في هذا شأن كل الوثائق الخاصة بحياة الفنانين العظام وتجاربهم الإبداعية - أن ندرسها من الناحيتين التاريخية والجمالية في وقت واحد.

كتبت هذه الرسائل في فترة تمت فيها نخبة من أعمال الشاعرين «الكلاسيكية» التي تميزت بالنضوج الأدبي والنظري، وكان لتعاونهما فضل كبير في إنجاز بعضها، والتوقف عند المسائل الجمالية التي تتعلق بشكلها ومضمونها. ففي هذه الفترة الزمنية كتب شيلر رسائله الفلسفية والتربوية عن الفن والجمال، كما أنشأ عددا كبيرا من أشعاره الغنائية المهمة ومسرحياته الكبرى من «ثلاثية فالنشتين» إلى مسرحية «ديمتريوس» التي تركها ناقصة. أما صديقه جوته، فقد أنجز قصيدته الملحمية «هيرمان ودورثيا» (ترجمها للعربية المرحوم محمد عوض محمد)، وكتب مسرحيته «الابنة الطبيعية» التي تمس موضوع الثورة الفرنسية، وأقبل على العمل في روايته الكبرى عن فيلهلم ميستر، وفي مشروع حياته الأكبر فاوست بتشجيع من صديقه المتفاني في حبه وإعجابه به، كما واصل جهوده العلمية وبحوثه عن النبات والضوء والألوان والمعادن.

أين تقع هذه الرسائل من الناحية التاريخية؟

إذا كان إنتاج جوته وشيلر في شبابهما يمثل آخر ذروة فنية لعهد التنوير السابق على الثورة الفرنسية، فإن أعمالهما التي أبدعاها في مرحلة النضج «الكلاسيكي» - ومن بينها هذه الرسائل نفسها - تعبر في رأي «لوكاش» عن الذروة الأولى للتطور الفني للبرجوازية فيما بعد الثورة، بينما تعبر أعمال بلزاك وستندال الروائية عن الذروة الثانية من هذا التطور الفني الذي طبع بطابع الواقعية (وامتد في مرحلتيه بين اندلاع الثورة الفرنسية الكبرى سنة 1789م، وقيام ثورات التحرر الأوروبية في سنة 1848م)، وكأن الأفكار والمشكلات التي شغلت الشاعرين الألمانيين، وقدما لها الحلول والإجابات الممكنة في خلقهما الأدبي وتنظيرهما النقدي والجمالي كانت خير جسر عبرت عليه الواقعية الأوروبية العظيمة التي اكتملت بعد ذلك في منتصف القرن التاسع عشر وأواخره.

من المعروف أن صداقة جوته وشيلر ظلت تشوبها بعض القيود والتحفظات على الرغم من التقدير المتبادل بينهما. وقد بدأت بلقاء تناقشا فيه حول «الظاهرة الأولية» التي اعتقد جوته أنها المبدأ والأصل الذي تتفرع عنه أشكال النباتات وتحولاتها حتى لقد زعم أنه رأى النبتة الأولية رأي العين في صقلية أثناء رحلته المشهورة إلى إيطاليا ... ورد عليه شيلر بأن هذه الظاهرة الأولية ليست إلا فكرة أو مثالا، وأجابه جوته بجفاء: ولكنني رأيتها بعيني! وكاد اللقاء أن يسفر عن قطيعة نهائية. وكتب شيلر إلى أحد أصدقائه في تلك الفترة قائلا: «إن هذا «الجوته» يقف في طريقي!» غير أن الأيام والاهتمامات والهموم المشتركة حول قضايا الفن والإبداع ما لبثت أن قربت بينهما، ووجد كل منهما في زميله جانبا يكمل ما يفتقر إليه الآخر، وبقي جوته على وعيه بالفوارق التي تفصل بينهما في الطبيعة والفن على السواء. فهو الشاعر المطبوع أو كما عبر شيلر إلى أحد أصدقائه في تلك الفترة قائلا: إن هذا «الجوته» يقف بالجزئي الخاص، وترى فيه الكلي العام في مقابل صديقه الذي وصف نفسه في تلك الرسالة المشار إليها بأنه عاطفي أو مثالي يبدأ من الكلي العام، وقد يصل أو لا يصل إلى الخاص. وجوته قد تخطى مرحلة الشباب والحماس التي مر بها في فترة «العصف والدفع»، بينما بقي صديقه المثالي الثائر محتفظا بالكثير من توقدها. والأول قد بلغ مرفأ الإنسانية المستنيرة الهادئة واستقر فيه، في الوقت الذي ما يزال فيه صديقه الذي يصغره بعشر سنوات مشتعلا بالثورة على استبداد الإقطاع والحكم المطلق. غير أن كل هذه الأسباب التي كانت خليقة أن تبعد بينهما، وقد سجلها شيلر كما ذكرت في رسالته عن الشعر الساذج والشعر العاطفي،

3

كما عبر عنها جوته في شيخوخته في بعض أحاديثه المشهورة مع «أكرمان» لم تستطع في النهاية أن تحول دون اللقاء الذي يحقق التكامل، ويعمر بالود والتقدير والمحبة. وقد كانت الرسائل المتبادلة بينهما هي أنضج ثمرات هذا اللقاء الذي أكد أن عوامل التقارب والتجاذب بينهما كانت أقوى بكثير من عوامل التباين والتنافر. كل هذه أمور يعرفها قراء الأدب الألماني ومؤرخوه، لكن مؤلفنا - لوكاش - يحاول أن يثبت شيئا آخر يدفعه إليه منهجه الواقعي الاجتماعي، وهو أن الأديبين الكبيرين كانا مؤمنين عن وعي أو غير وعي بالمضمون الاجتماعي والسياسي للثورة الفرنسية، وإن اتفقا على رفض أسلوبها الثوري والأساليب الثورية على وجه العموم. هذه الرابطة الاجتماعية والسياسية التي حددت نطاق التعاون بينهما هي في رأي المؤلف وراء محاولتهما خلق فن كلاسيكي برجوازي وجهودهما لتوضيح العديد من القضايا النظرية والعملية الكبرى للفن والأدب الذي «أدركا دائما أنه هو التعبير عن العصر العظيم الذي بدأ مع الثورة الفرنسية» (ص61).

نامعلوم صفحہ