شعر وفکر: مطالعات ادبی و فلسفی
شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة
اصناف
لنقل باختصار أن تجربة العلو هي صميم تجربة التفلسف. وإذا كان التفلسف - أي السؤال المتصل عن المعنى والكل والقيمة والمصير - هو الذي يضمن للإنسان إنسانيته ويعصمه من التدهور إلى درج الحيوان والآلة والرقم، فإن العلو يصبح ضرورة يحتمها الوقوف في وجه الأخطار التي تهدد الإنسان اليوم، الآلية والتسوية والتسطيح والغرور العلمي والمذهبي والثرثرة والضجيج والابتعاد عن سر الواقع وضياع الجانب الأبدي الخالد فينا ضحية التشتت والنهم إلى المنفعة والجشع إلى التصارع والتظاهر. لا بد إذا من العلو فوق كل شيء على الإطلاق. كيف؟ عن طريق التغلغل في كل شيء إلى الأعماق. قد تبدو هذه مفارقة، ولكنها تجربة المتصوف في كل العصور، أن تتخلى عن كل شيء لكي تجد كل شيء، أن تترك العلائق وتتمسك بالحقائق، أن ترتفع فوق العالم وكل ما يمت له بسبب؛ لكي ترجع إلى «العالم»، أن تعلو فوق الواقع الحسي الملموس؛ لكي تستطيع بعد ذلك أن تلمس سر «الواقع»، وتراه بعين الدهشة التي كانت أصل الفكر، وتتحول إلى «الآخر» المختلف عن كل ما هو شيء، وتحتمل أقصى ما يمكنك من الصبر والمشقة والجهد؛ لكي تستطيع بعد ذلك أن تحس بواقع كل شيء، لكي يعود «الأخضر أخضر» والواقع واقعا. والتجربة شاقة وطويلة، لا بد أن تكابدها بنفسك، لا يمكن أن ينوب عنك أحد في تحملها، لا تنمو إلا على أرض السكينة والتوحد، لا تثمر إلا إذا سرت على أشواك الجدية والصبر. قد تعود منها خالي اليدين، وقد ترتد عنها بلا شيء، ولا بد أن تعيد الكرة، وتعاني التحول من الباطن، وتصمد «للهجوم» عليها من جديد كما يصمد الفارس العنيد للقلعة الغامضة المنيعة. هناك بعد تجارب وتجارب، قد تلمس «الآخر» أو بالأحرى يلمسك، قد تحس بالمعنى والحرية الشخصية والواقع، قد تعيش في ماض لم يعد له وجود، ومستقبل لم يوجد بعد. وحين تجد «اللحظة» - فاكهة الأبدية - ستحس أن الماضي أصبح حاضرا كان، وأن المستقبل حاضر لم يأت، وترتفع «الأنا أو الذات» الحقيقية من تحت ركام الأنا أو الذات الغارقة في المحسوس، المشتقة بين الصغائر، الجزعة الموزعة بين الرغبات والآمال والمنافع والغايات. هناك تتعلم أنك تقدر على العلو فوق نفسك وفوق العالم؛ لكي تكتسب نفسك الحقيقية والعالم الحقيقي. هناك تعرف أن فيك شيئا أبقى من الكواكب والنجوم، وتكتشف أن الواقع الحقيقي - الذي طالما أخفته المفاهيم العقلانية المسطحة والتفسيرات العلمية أو شبه العلمية - أقرب إليك مما كنت تتصور، بل هو ماثل في كل شيء حولك، مهما صغر حجمه وضؤل شأنه. ليس معنى هذا أن تنكر «العلم» أو تلغي «المنطق» أو تزهد في «العمل» - فهي الأسس التي لا غنى عنها لحياتنا - ولكن معناه أن نرتفع إلى المستوى الذي تفترضه كل هذه المستويات كما يفترضها، والذي لم يخل منه فكر حقيقي ولن يخلو منه. وما أشد حاجتنا إلى هذا العلو في زمن يحاربه ويلغيه، زمن أصبح الكلام فيه عن السكينة، والوحدة، والمعنى، والشخصية، والحرية كلاما يثير الشبهات. والعلو هو الذي يضمن لنا - ولو للحظات - أن نطل على العصر لنرى إلى أين يسير ويجرفنا معه، ويتيح لنا أن نستوضح المفاهيم التي تشوهت من كثرة التكرار والترديد والتجريد، ويضيء أحوال وجودنا ومسائله وهمومه الكبرى، ويعيدنا إلى التفكير في المعنى والحرية والشخصية والأبدية والأصالة والتراث وغيرها من الأفكار التي نرددها صباح مساء، لا هروبا من الواقع، بل عودة إلى قلب الواقع، لا زهدا فيه، بل بهجة واندهاشا لسره المعجز المتجدد، لا تعاليا فوقه، بل علوا عن طريق التحول الباطن إليه والتغلغل في كل تفاصيله وأشيائه والانفتاح على معنى كل شيء فيه. ولن يتم هذا إلا من خلال الاتصال بالآخر المختلف عن كل شيء، أو بالأحرى من خلال التهيؤ بالصبر والسكينة للمسته النادرة الخاطفة، هناك في حضن الطبيعية العظيمة النقية، أو في آفاق المكان الباطني الذي لا يعرف حدود المكان الهندسي والفيزيائي، أو في خضم عمل جماعي وإنساني عظيم.
بهذه التجربة زارنا الضيف الغريب، ومن خلالها نظر إلى أهرامنا ومسلاتنا ومعابدنا وآثار فننا وحضارتنا. كان هذا - إن لم تخني الذاكرة - في سنتي 1960 و1966م. لقد وجدها جميعا تتحرك حركة واحدة إلى أعلى، حركة مهينة رزينة ساكنة، كأنها تحاول أن تنفذ إلى أسرار السماء، أو تحاول أن تشدها إلى الأرض، هنا لمس الحقيقة العالية، ورآها تتحقق في صورتها الخالصة لأول مرة على هذه الأرض: «أين وجد على هذه الأرض شعب تحرك هذا الاتجاه الحاسم نحو الآخر كما فعل شعب مصر عندما شيد الأهرام في قلب الصحراء؟» هنا وجد الطبيعة العظيمة والفن العظيم. وجد العري والنقاء والانفتاح والتحرر الذي لا يأتي إلا من باطن الإنسان حين يسلم نفسه لما يعلو فوق الإنسان.
وتسأل نفسك اليوم - وبعد انقضاء ما يزيد على خمسة وعشرين قرنا على انهيار الحضارة القديمة، وبعد أن فقدنا كل صلة حية بها - هل لا تزال لدينا القدرة أو الرغبة في الاتصال بالحقيقة العالية أو التحرك - النابع من أعمق أعماق الباطن - نحوها؟ لا شك أننا أمة متدينة بالفطرة. شهد بهذا أبو التاريخ في كتابه عندما قال إننا أشد الناس ورعا. وشهد به غيره حين قال إننا تعلمنا الصلاة قبل أن نتعلم الكلام، وتعلمنا السجود قبل أن نتعلم المشي على الأقدام. ولا شك أن إيماننا بالدين السماوي يختلف عن إيمان أجدادنا الأقدمين. مع هذا يبقى السؤال: هل نحن مؤمنون حقا؟ هل نحاول - بكل عذاب المؤمن وعاطفته وجذور فرديته وأعماق شخصيته الصميمة الحميمة - أن نتجه لمن لا يصح أن نتجه إلى سواه، أم تحول بيننا وبينه العادة والتقليد، وتحجبنا عن نوره سحب الكهنوت التي تراكمت منذ عصور التدهور والانهيار، فأصبحت تتدخل في علاقتنا به؟
إن محاولات التجديد وربط الدين بالحياة لم تنته ولن تنتهي. فمتى تتجه إلى إحياء «الذات المؤمنة» التي أشارت بها الآيات الكريمة، وطالبتها بالتفكير والتدبر، وعرضت عليها - وحدها - الأمانة؟
ومتى نوجه جهودنا إلى الذات المؤمنة وعذابها وفرحها وعلاقتها الحميمة الصميمة بالله بمثل ما نوجهها إلى «المظهر» و«التشريع» و«القانون» والتطبيق؟
إن الفكر المعاصر يضع الإنسان في موضع القلب من اهتمامه. فهل آن الأوان لكي نهتم بالإنسان، بكيانه العيني الحي الدافئ، بدلا من الاختناق في قبضة المجردات الهابطة علينا من أعلى؟
إلى متى نبقى على تجاهلنا للفرد والشخص والذات - وهو منبع كل مبادرة وأصل كل حياة - ونظل نحاول «تركيبه» بالمجردات والتصورات؟
وتسأل نفسك: ونحن اليوم نقيم قاعدتنا الكبرى للصناعة، ونحاول أن نوجهها إلى ضرورات الشعب، بدلا من كماليات طبقة واحدة (أو بالأحرى شريط نحيل متطفل عليها) كيف نوفق بين السر الذي ورثناه، وما يزال في دمنا وبين اللوجوس؟ كيف نناغم بين التراث والتقنية التي لا غنى عنها؟ كيف نتطور في العلم والقوة دون أن نفقد «العظمة» و«الجلال» الذي أكدته هذه الخواطر؟ كيف نتجنب آفات الروح الغربي من ضياع «الروح» والانغماس في روتين الآلة والعمل، وانكماش الضمير مع تضخم العضل، ونظل مع ذلك معاصرين ومستعدين لتحدي العصر؟ كيف نجانس بين قيمنا وآمالنا؟ وكيف نتيح لقيمنا - التي نكثر من الحديث عنها - أن تنفذ من السطح إلى الأعماق، وتصبح حقائق نحياها ونجسدها في سلوكنا اليومي، ونواجه بها قلق العصر وضجيجه الذي بدأ طوفانه يغزونا؟ إن الضيف الغريب يلوذ بالسر والعظمة والجلال والعلو الذي تصوره عندنا. فهل هو عندنا حقا؟ أليس من واجبنا أن نطرح على أنفسنا هذا السؤال؟ وإذا كان قد ضاق بالعقل وحساباته وتصوراته وآلاته، فكيف نحافظ عليه - وما عندنا منه جد قليل - دون أن نقع في أزماته؟ كيف نعتصم بقيم الإيمان والأخلاق الموروثة، فنحييها حقا، ونواجه بها أخطار العصر بدلا من التخفي وراءها هربا منه، وخوفا من مواجهته؟ وإذا كان النموذج الغربي - اللوجوس - قد أصبح ملزما للعالم كله، ولا مفر منه، فكيف ندعم صلتنا بالحقيقة العالية؛ لكي تحمينا من شروره وأخطاره وتمكننا من تمثل خيراته؟
نقول بالحرية. ونحن اليوم قد بدأنا نسير خطوات جادة على طريقها الطويل. والمناقشات التي جرت في الآونة الأخيرة شيء طيب وجميل، ولكن الكلام عن الحرية يظل تجريدا أو ثرثرة، حتى يتحرر كل منا، ويحرر نفسه بنفسه، كيف؟ بممارستها وتجربتها و«غزوها» في كل مسلك نقوم به، وكل موقع نعمل فيه. (ما زلت أذكر هذا البيت النادر من فاوست الثانية: لا يستحق الحرية والحياة إلا من يغزوهما كل يوم ...) في كل لحظة ... في كل فعل، ولكن كيف؟ بالمشاركة. فالحرية الحقيقية ليست حرية من ... بل حرية لأجل ... لأجل ماذا، ونحن أمة فقيرة مريضة متخلفة متخلفة (ولا بد أن نكون شجعان، ونعترف بهذا حتى نجد الحافز للتقدم)، بالمشاركة في عمل كبير يستوعب جهد الأمة، وتتحرك نحوه حركة رجل واحد وقلب واحد.
بهذا يتأكد القول المعروف: الحرية مسئولية. بهذا تزداد حرية من يزداد إحساسا بالمسئولية. وكلما ازدادت مسئوليتنا نحو الأغلبية العظمى ازدادت حريتنا. مرة أخرى كيف؟ بالانغماس في جهد ضخم نقتحم به أسوار التخلف، كل على قدر جهده. (تعمير سيناء، القضاء على البلهارسيا وغيرها من أمراضنا القومية، التصنيع والمزيد من وحدات التصنيع في كل قرية وكل نجع، حملة كبرى على الأمة، اتجاه حاسم وأخير بالإنتاج إلى الجموع الصابرة الصامتة في الريف والحارة والكوخ، منخفض القطارة ...) بهذا يكون للحرية معنى. بهذا لا تتحول إلى ثرثرة مترفة.
نامعلوم صفحہ