92

شیطان یعظ

الشيطان يعظ

اصناف

هذا أول صباح ينفرد فيه بنفسه منذ زواجه. بعد أن أوصلها بالمرسيدس السوداء إلى وزارة الصحة واعدا إياها بانتظارها الساعة الثانية بعد الظهر في نفس المكان. إنه يشعر بوحشة لغيابها ولكنه يجد أيضا نوعا من الراحة. كما ألف منذ قديم معايشة المتناقضات جنبا إلى جنب. كثيرا ما يبدو نصفين يناقض أحدهما الآخر في العواطف والآراء جميعا. ما يكربه حقا فهو الوجه الآخر من حياته الذي أخفاه عن فتحية. منه جانب تافه مثل عش الهرم الذي كان يمارس فيه نزواته. لن تحاسبه على الماضي، ولن تنسى موقفه من ماضيها أيضا الذي أغدقت عليه بسببه صفة النبل والشهامة. من السخرية بعد ذلك أنه قد ارتكب ما ارتكب من آثام من أجلها هي. ها هو يخلو إلى نفسه في مكتبته كالأيام الخالية، وها هي كتب الفلك والطبيعة والأحياء الجديدة، ولكن نفسه مشتتة. حتى في شهر العسل كشفت عن جوانب نفسها دون مجاملة. إنها تذكره بأبيها الشيخ سليمان مدرس اللغة العربية بخلاف شقيقها المنتدب مهندسا بالكويت الذي شابه في الدماثة أمه فلم لم يحدث العكس؟! إنها لا تدري شيئا عن مقته ليسري أحمد عندما علم بأنه حبيبها. في تلك الأيام المتوحشة تمنى لصديقه الموت. أطلق على صورته خيالاته المدمرة المشحونة بالفناء. وشد ما سر عندما ألقي القبض على الشاب في جنازة مصطفى النحاس. لم يعرف يسري أحمد مصطفى النحاس ولكنه اشترك في جنازته إكراما لذكرى أبيه الشيخ سليمان. وكان - لبيب - يسمع عما يجري في المعتقلات فناط أمله بأيدي الطغاة تقتلع يسري من سبيله . رغم أن حبه له لم يتبخر تماما، ورغم أنه لم ينس أنه كان أستاذه في العلوم والرياضة ومرشده في أخطر مرحلة من مراحل حياته، مرحلة الإلحاد والثورة على أبيه داود الناطورجي. صرخت الرغبة السوداء في قلبه «القتل في المعتقل أو السرطان».

في غضون أسابيع أطلق سراح يسري أحمد لمرضه. وإذا بالأشعة تكشف فيه عن سرطان في المثانة. تلقى الخبر بفزع واضطراب وحزن، وشعر أيضا براحة عميقة. وكان في إلحاده يتقزز من الإنسان باعتباره كائنا قذرا ذا إفرازات كريهة لا حصر لها، فاقتنع بأن في الإنسان من النوايا والسلوك ما يفوق الإفرازات الكريهة في قذارته. وقد زاره في رقاده الأخير. رأى الغطاء يشي بانتفاخ غريب في منطقة البطن، على حين لم يبق في الوجه الجميل سوى الجلد والعظم. ولما رآه يسري ابتسم ابتسامة خفيفة كأنما يلقى عناء حتى من التبسم، وقال بصوت ضعيف: لبيب، اقترب، إني في حاجة إلى قلب محب ...

تفجرت دموعه بإخلاص في تلك اللحظة. تذكر الماضي الحي والعواطف الجياشة والذكريات المشتركة فآمن بأن يسري كان أصدق الأصدقاء جميعا. كيف هان عليه أن يقتله؟ لقد انطلق الغدر من صميم القلب الأسود إلى المثانة. كم ازدرى نفسه، كم ازدرى البشرية جميعا! وساعده ذلك الاحتقار، بالإضافة إلى الخيبة في الحب، إلى التمادي في الاستسلام للوحش. وتبدت فتحية في تلك الأيام تمثالا للجمال والحزن. رثى لها وشمت بها. ألم تكن شريكته في جريمة القتل؟ وتأمل بقسوة وحنق استقامتها الفريدة فقال إنه لها أيضا إفرازاتها الكريهة. وبكى في جنازة يسري طويلا حتى اقتنع بأنه لا خلاص إلا بتحطيم الكون.

ها هو يصمم على القراءة فيقلب صفحات «الكون ... ذلك المجهول». ويتساءل هل في وسع الحب والزواج أن ينتشلاه من الجفاف؟ ربما. ولكن فتحية تتبدى كثيرا كأنها نذير جديد بالمتاعب. وواضح - وهو الأدهى - أنها تروم خلقه من جديد.

برجوعها إلى الفيلا حوالي الثالثة مساء دبت في الفيلا حياة جديدة. ولما دخلت الحمام عاودته خواطره الساخرة، ثم جلسا يتناولان الغداء. له طاه خبير بصنع الطعام الجيد . وهما - فتحية ولبيب - يتصفان بشهية جيدة، ولكن تناول الطعام كان من الخواص التي يتقزز منها ويطالب بسببها بتحطيم الكون. جعل يختلس إليها النظر وهو يرفع الشوكة إلى فيه ويقارن بينها وبين القطط والكلاب، حقا إن الطعام أس التعاسة البشرية. قالت: يوم مرهق بالقياس إلى العطلة.

فابتسم وقال بدوره: بدأ البحث عن شقة للمكتب.

فهتفت بسرور: جميل أن أسمع ذلك.

فحنق عليها في باطنه، ولكنه أفرخ حنقه في صدر الدجاجة الرقيق. قال: قراءة العلم متعة فريدة حقا.

فقالت بثقة: بالدين والعلم تكمل صورة الوجود ويطمئن القلب.

ولما هم بتقشير تفاحة سألته: أليست مغسولة جيدا؟ - بالصابون أيضا.

نامعلوم صفحہ