فقال محمود ضاحكا: ولكن طعامك لذيذ.
ها هم حولها، زغلول رصين لدرجة البرودة، حتى ليوصف بأنه إنجليزي ... ذقنه مدبب وعيناه جاحظتان قليلا ورأسه كبير بشكل ملحوظ. عاقل جدا، شغال جدا، محترم جدا، مترفع عن المهاترات، ربما أخطأ أحد أخويه في حقه ولكنه لا يخطئ، حتى المزاح البريء لا يميل إليه. رمضان كبير القسمات واضحها، عملاق في حجمه، مارس الملاكمة والمصارعة، ولكنه والحق يقال مهذب، غاوي مناقشة ولكن المناقشة تهمه أكثر من الرأي نفسه، مغرم بالقراءة، يود أن يتفوق على زغلول نفسه، محمود أجمل الثلاثة وجها، ممشوق القوام، محب للأناقة والغناء، طيب القلب وحيي وذكي وصديق لزغلول. الأول طالب طب والآخران يحلمان باللحاق به وتعد قدرتهما بذلك. من منهم؟ سلوكهم آية في الاستقامة، لا تتخيلهم في صورة أخرى حتى لو كانت ظروفهم المادية أحسن. ثلاثتهم يصلون ويصومون بلا إثارة من تعصب أو هوس. متوجون بالتهذيب والاعتدال والنشاط. لا تتصور بحال أن الجاني أحدهم ولكن وساوسها لا تنام. الأب لا يدري بما يمزقها. إنه يتناول طعامه في صمت وتركيز، عملاق أيضا، شاربه الغليظ يتحرك فوق شفته تحية لأجيال خلت. عما قليل يشاركها همومها. إنه مثلها ذو ضمير، ومثلها أسهم في تربية الثلاثة. ما جدوى ذلك كله؟ متى يجود القدر بالبراءة والراحة؟! •••
لم تسنح الفرصة لإثارة الموضوع إلا عندما جمعتهما حجرة النوم للقيلولة. تبين لها أنه كان يراقبها أكثر مما قدرت فسرعان ما قال بجدية: جمالات، لست كعادتك.
فقالت بنبرة اعتراف: ملاحظتك في محلها تماما.
رنا إليها متسائلا في اهتمام وهو يشعل كليوباطرة، فقالت: زارتني اليوم أم عنايات وأخبرتني أن عنايات هربت قبل الزفاف!
ردد قولها ببطء وهو يغوص فيه بحذر وإشفاق. تبادلا نظرة طويلة مثقلة بالشك، ولكنه لم ينبس، فقالت جمالات: أنت تدري كيف يفسرون ذلك في القرية، ولعله التفسير الوحيد المقبول، وهو يعني أنها ستظل عرضة للقتل في أي وقت، وأنها في جميع الأحوال قد ضاعت ...
فتساءل كالمتهرب: لعلها أملت أن تجدها عندنا؟ - قالت ذلك ... - تفكير غير سليم. - إنها تتصرف بوحي من اليأس ولكن يوجد اعتبار آخر! - اعتبار آخر! - محمد، يضايقني تغايبك في المآزق، ثمة اتهام موجه لبيتنا ...
فتمتم بقلق: ساء ظنها.
واضح من نبرته أن الهم قد ركبه، إنها لم تعد وحدها، قالت: هذه المآسي محتملة الحدوث كما تعلم.
فقال بصوت ضعيف: الأولاد عقلاء. - وهم أيضا مراهقون. - إنهم نماذج طيبة جدا لجيلهم. - ولو.
نامعلوم صفحہ