فتمتم وهو غائب تماما: شكرا لك يا أبي.
أدرك أنه مقبل على أيام محنة وبلاء. أدرك أيضا أن الوقت غير مناسب للمواجهة. لا بأس من الانتظار ولو أنه لا توجد بارقة أمل في السماء المكفهرة.
5
بقي على الامتحان شهران ونصف. من أين له العقل الذي يستوعب به دروسه؟ حتى الموسيقى لم يعد يتذوقها، وهو كمحب ثابت، ولكن موقفه حرج. وعندما سألته أمه عما دار بينه وبين عمه أجاب إجابة عامة موجزة دون إشارة إلى ما قيل عن وداد وأمها. فعل ذلك وهو لا يشك في إحاطتها بما قيل كلمة كلمة. وإيمانه بنقاء وداد لا يمكن أن يتزعزع، والأهم من ذلك فهو يحبها حبا لا تنال منه الاتهامات فضلا عن الشكوك. في عالم النساء الساحر لا يخفق قلبه بحب سوى حبها، فهي مصدر الإشعاع والعذوبة في دنياه. ومن أجلها سيوجه الضربة الأخيرة لذلك القصر المزهو برشاقته.
وذات يوم قالت له وداد: لدي رسالة إليك، أبي يرغب في مقابلتك.
وسمت له اليوم والساعة في المسكن الجديد بشارع أبي قير. وافق بلا تردد لو تردد دقيقة لخسر وداد إلى الأبد. إذا علم عمه بالزيارة فستحدث أمور ولا شك. إن القدر يقتلع جذوره المغروسة في جنة رأس الحكمة جذرا بعد جذر، وهو يمضي نحو المأساة بكامل إرادته ووعيه. من هو حتى يحاكم جندي بك الأعور أو زوجته شريفة هانم الدهل؟ إنه رغم البراءة لا يخلو من أخطاء وعبث. ولا ينسى آراء أقرانه فيه، فهم يرونه من أولاد الذوات المدللين، لا هم له إلا أناقته وسماع الموسيقى. منطو أناني لا لون له، غير مبال بالتيارات التي يسبحون فيها ويعانون من أجلها ما يعانون. فمن هو حتى يحاكم جندي بك أو شريفة هانم؟! ووجد الرجل في انتظاره. رجل قصير قوي صغير الرأس غزير الشعر والشارب كبير الأنف جاحظ العينين. رحب به، ابتسم له كما لم يفعل من قبل، ولكنه لم يشك في أن مقته قد تضاعف. ترى ماذا يريد منه؟ أي شرك يحفره تحت قدميه؟ ليكن ما يكون ما دامت وداد له. كان الوقت صباح الجمعة. مضى أوله في احتساء القهوة وتلقى نظرات محروس المتفرسة. أخيرا قال الرجل: ستسمع في القصر حكايات مثل حكايات ألف ليلة فلا تصدق ما يقال، الرجل مجنون.
فقال يحيى بنبرة متوترة: لقد اختلط ما يصدق بما لا يصدق ودار رأسي. - إنه الحقد والجنون. - لكنه أبوك. - ما خفي عنك أنه مجنون! - سيدي، إنه رجل استثمار ورب أسرة ومحسن كبير. - لا تغرك المظاهر، إنه الإدمان والشذوذ والجنون، يوجد آخرون يعلمون بالحقائق ولكنهم يتجاهلونها لاستغلاله أسوأ استغلال.
لعله يشير إلى أمه. حقا قد طفحت القلوب بالحقد. وقال رغم امتعاضه: ليس مستحيلا أن تنتهي الأمور إلى خير. - هيهات، لقد حيكت مؤامرة بمهارة خبيثة فتهولت في خيال رجل مجنون ملئت أذناه بالأكاذيب المتواصلة مثل دقات الساعة!
إشارة أخرى إلى أمه. حتى متى يتحمل ويتصبر؟! وتساءل: ألا تستطيع أن تظهر الحق؟ - فات الوقت، كيف تطالبني بالتفاهم مع مجنون؟!
وفرقع بأصابعه ثم تساءل: من هو جندي الأعور؟!
نامعلوم صفحہ