وتساءلت وداد بمرارة: متى تنسى حكايتنا؟
فقال لها: إنه عقابه الذي لم يعلنه.
فصرخت: بل إنهم أوغاد ولا رحمة في قلوبهم.
فغمغم شطا وكأنه يهامس نفسه: استمر! استمر! ما معنى هذا؟!
24
مضت الحياة بمرها الكثير وحلوها القليل. ظل شطا يسعى خارج الحارة ويعيش فيها بلا صاحب، وقبل أن ينقضي الصيف الثقيل وقع الشبلي فتوة الدرب الأحمر في خطأ لا يغتفر. راح يتباهى بأنه اغتصب وداد خطيبة الديناري على مرأى من شطا الحجري «رجله الثاني». ترامت الأنباء إلى الحارة مصحوبة بأغان داعرة صاغت الحادثة في قالب مزاح ساخر، وإذا بالحارة تشهد تعبئة لم تشهدها من قبل. تسلح الرجال بالنبابيت والخناجر، وشحنت عربات بالزلط والقوارير وخردة الحديد. وانضم شطا الحجري إلى الرجال دون أن يدعى إلى ذلك وهو يقول لنفسه: «جاء اليوم الذي أحلم به.» وكانت غزوة مفاجئة وفي رابعة النهار. نشبت معركة حامية ما زالت ذكرياتها حية في رءوس الكهول ودوائر الأمن. وحقق شطا حلمه، فطعن الشبلي طعنة قاتلة متلقيا في الوقت ذاته عشرات الضربات القاتلة. وكان من جراء ذلك أن ثار غضب المحافظة فاتخذت قرارها الحاسم!
25
عندما درجت في مدارج الوعي كانت حكاية الديناري قد انطوت في أعطاف التاريخ، ولكنها كانت ما تزال حية في القلوب. لقد قضي على المعلم بالسجن عشرة أعوام، ولما أفرج عنه فرضت عليه رقابة دائمة، فابتاع مقهى النجف ومارس حياة مواطن كسائر المواطنين. جلس على كرسي الإدارة مجللا بالشيخوخة والمهابة والذكريات الباقية. وقد قتل شطا الحجري في مواجهة بطولية محت العار عن سمعته وكفرت عن زلته، فنشأ ابنه الوحيد رضوان محوطا بالاحترام. وقيل إن الديناري تكفل بدفنه، فأول ذلك بأنه تقدير أخير له، وبولغ في التأويل حتى قيل إنه اعتبر رجله الثاني. وقد رأيت بعيني وداد وهي امرأة تجاوز الأربعين، وكانت تبيع الخوص والريحان في مواسم زيارة المقابر. وأدركت موجود الديناري وهو يدير النجف وقد مضى عهد الفتوات والفتونة. اختفى الرجال وبطلت الشعائر، فأصبح الرجل في نظر القانون صاحب مقهى وتحت المراقبة الدائمة، ولكنه ظل في نظر العباد فتوة الحارة وحاميها، حتى الشرطي وشيخ الحارة لم ينجوا من دفقة الشعور العام، فكانا يختصانه بالاحترام وحسن المعاملة. أجل زالت عنه تقاليد الفتونة، ولكن بقي له السحر الخفي الذي لا يبالي بالقوانين والأوامر الإدارية، بقي له التاريخ والمهابة والأثر الحي.
هكذا جذبني مقهى النجف قبل أن أبلغ سن الشباب. وكنت أجلس في ركني المنعزل أسترق إليه النظر بشغف المعجبين وخيال العاشقين.
وكان يتجلى بهاؤه في الأعياد، فكأنها لم تخلق إلا له. كان يجلس على الأريكة متلفعا بعباءة جديدة، ممشطا اللحية والشارب، وتمر أمامه عربات الكارو محملة بالنساء والرجال والأطفال في أثوابهم الجديدة الملونة في هالة رائعة من الطبل والزمر والرقص:
نامعلوم صفحہ