شیطان بنتور
شيطان بنتاءور: أو لبد لقمان وهدهد سليمان
اصناف
فكتمت غيظي، وغلبت النفس على غضبها، وقلت: لا سبيل يا مولاي إلى الجحود، بعدما رأيت الجنود.
قال: مثل البلاد تراها أنت بعين، وأنظرها أنا بعين، كالمريض بين العائد والطبيب: ينظر الأول إلى جسمه الناحل، وقوته الواهنة، وعينه الغائرة، وشفته الذابلة، وعرقه المتصبب، ويسمع زفراته المتصاعدة وأناته المتتابعة، فيرق له ويرثي ويتوجع، ثم يخرج من عنده وليس المرض في اعتقاده إلا ما رأى بعينه وسمع بأذنه، فإذا سأله سائل: ماذا بصاحبك؟ قال: بجسمه نحول، وبشفته ذبول ... ووصف سائر ما شاهد من الأغراض؛ ويكون الطبيب في هذه الأثناء قد نظر لسان المريض، ثم جس نبضه، ثم قعد يقرع ويتسمع، ثم انصرف يقول في نفسه: داؤه كذا، ودواؤه كذا. وقد كنا يا بني أمة تسعد يوما وتشقى يوما، وكانت لنا دولة تعلو حينا وتسفل حينا؛ حكم الأجانب فيها مرارا، فلا أذكر أنهم حكمونا يوما ونحن أمة كملت فيها أدوات الحياة، أو سلبونا دولتنا وهي في منعة وإمكان، قائمة على حقيقة الملك والسلطان؛ فعلل الأمم إذن باطنية، لا يرجى فيها الشفاء حتى تعالج في مواطنها؛ وما قام هذا العالم منذ قام إلا على هذه القاعدة: «كل ضعيف الركن مضطهد.» وهي تسري على الجماد والنبات، كما تسري على الإنسان والحيوان؛ فالجبل يجذب إليه الذر ولا يجذب هذا إليه الجبل، والسرحة تزهق الحشائش ولا تزهقها هذه، والذئب يفترس الحمل ولن يكون له فريسة؛ وكذلك الناس؛ جهلاؤهم لعقلائهم تبع، وضعفاؤهم لأقويائهم خدم؛ سنة الدهر في بنيه، وشيمة قديمة فيه؛ فالأولى بالذين يتصدون لفك الأمم المسترقة، وتحرير الشعوب المملوكة، أن يعلموها أن قيود الحديد لا تعالج إلا بمبارد الحديد؛ فالعقل لا يقاوم إلا بالعقل، والقوة لا تستدفع إلا بالقوة، والناس مذ وجدوا رأس وذنب، والدنيا مذ كانت لمن غلب.
قلت: أفدت يا مولاي وأرشدت؛ ولكن هذا كله لا ينفي وجود احتلال أجنبي في البلاد، أريتك آثاره فأنكرتها، ولم تذكر السبب في الإنكار.
قال الهدهد: فجعل الأستاذ يتثاءب ويدخل في السنة المعهودة، ثم قال كلمته المألوفة: إذا جاء الليل ذهبت الشياطين. وسألني بعد ذلك: أين الملتقى غدا؟
قلت: على الأزبكية يا مولاي.
قال: الآن لك وكر ولي وكر، فلن يجمع الليل الهدهد والنسر. ثم احتجب عيانه، وذهب شيطانه، فانثنيت فيمن انثنى من الجزيرة، وأنا أذكر ما كان، وأخشى أن يكون في البلاد احتلال ثان، من روس أو ألمان، أو صين أو يابان؛ وهي بحمد الله مذ كانت لا تضيق بنازل، ولا تبكي على راحل؛ ولكن قلت في نفسي: ليس بعد خفي الإشارة، إلا جلي العبارة، وما تجاهل النسر إلا وفي نفسه أمر؛ فقد عودني منذ انعقدت بين شيطانينا الألفة أن يجد فأحسبه يهزل، ويهزل فإخاله يجد، وأن يتوضح آونة ويتكتم آونة، ويقتضب تارة ويسترسل تارة، ويعلم حينا ويتجاهل حينا؛ وأنا إنما أتأدب بأدبه، وأذهب بالمحادثة في مذهبه، وأصبر على مرافقته وموافقته؛ لأنه عالم يصحب على علاته، وحكيم يحب في جميع حالاته، وإذا نقلت إلى الناس أحاديثه فإنما أنقلها كما هي، ليأخذوا الدر ويذروا المخشلب، ويدخلوا ظلمات المعدن على الذهب؛ على أني أنبه من تهمهم هذه المحادثات من القراء إلى أيام النسر في مصر؛ لأنها إنما تتناول الحالة الحاضرة، ولا مستقبل لقوم لا يهمهم حاضرهم.
المحادثة الرابعة عشرة
قال الهدهد: لما كان الغد قصدت الأزبكية لملاقاة النسر، وإذا هي كما عهدت بهجة هذا البلد، لها المحل الأول فيه، ولا تناظر بناحية من نواحيه؛ ابتسمت أرجاؤها بالمنظر الضاحي، وانتضدت عليها الدور العالية، تحتها بيوت التجارة من الطراز الأول، تتخللها الأندية العمومية تموج بالخلق الكثير؛ وكانت قد أخذت كعادتها لليل أهبته، وبرزت لأهل ودها مرموقة بعين الرضى، كريمة الثناء في الخواطر، فبعد أن كانت دار الماجن والخليع، وقرارة المدمن الصريع، ومسلك التهم في اعتقاد الجميع؛ وكانت مراح الفاجر ومغداه، ومصبح المقامر وممساه، وسامر المنكت ومن راعاه، وبعد أن كان الخروج إليها خروجا من الحشمة والوقار، حتى مات أناس من أهل الكمال ما عرفوها، وبقيت منهم بقية لم ينظروها، أمست مسحب ذيل الوزير، ومستقر أتوموبيل الأمير، ومجلس القاضي والمدير، ومسامر الكتاب والشعراء، ومنتدى العلماء والفقهاء؛ وأصبحت مقعد المتقاعدين، ومستودع المستودعين، ومدرسة الناشئين، ورواق المجاورين، وديوان الموظفين؛ تجمع الكبير والصغير، وتخلط الرفيع والوضيع، وتحل محل «المندرة»، وتقوم مقام «السلاملك»، وتغني عن «الديوان»، وتغص الأندية العمومية فيها بالجموع من كل الطبقات، وكافة الأجناس؛ فترى عليها كبار الموظفين عند «الذوات» المتقاعدين.
يليهم ألاف الجرائد ينتهبونها كمال اليتيم، ويقرءونها عارية بالمليم، فالزاجرون الشاة الآكلون الفيل من عشاق الشطرنج، فأصحاب النارجيلة تفنيهم على الزمن كما يفنونها نفسا في نفس، وتمر هناك على أركان الغيبة والاعتراض، من أهل الفراغ والبطالة، وبجماعة المقاولين من كل ذي لقب، أو عاطل يذم الرتب، وتلوي على عصبة المحررين والمكاتبين في الجرائد اليومية، أدرك أصحابها النشب، وأدركت أصحابنا حرفة الأدب، وتعثر فيها كذلك على أعضاء الجمعية العمومية ومجلس الشورى، آتين من أقاصي البلاد لزيارة المستشارين، وبعمد الأقاليم وأعيانها، كثروا على الأزبكية في هذه السنين الأخيرة زيارة وانتيابا، وجيئة وذهابا، وكانوا إذا ظفر أهل الكسب فيها بواحد منهم أحلوه بين السمع والبصر، وأجلوه كأنه المهدي المنتظر، وبالجملة يتعاقب على هذه الناحية ما بين حاشيتي النهار وطرفي الليل - عدا هؤلاء - خلق كثير من حساة الراح، وعباد الميسر، والأغرار من أهل الثروة الموروثة، والناصبين لهم الحبائل من أهل عشرتهم، ومما يبكى منه ويضحك، ولا يرى له مثيل في مدينة من مدائن الأرض، أن هذا العالم المنصب في الأزبكية بالليل والنهار، الباذل فيها قليل المال وكثيره كل يوم إنما يلقي أساس الثروة، ويرفع عماد البيوت لهذه الأمة الصغيرة الكبيرة المجتهدة المقتصدة، أمة اليونان في مصر، لا في تجارة تحتاج إلى عظيم مهارة، ولا في صناعة تستلزم كبير براعة، لكن في تجارة للهو والطرب.
قال: وكان النسر قد سبقني إليها، فاعترضني في هيئة وزي هو فيها أشبه بسائح أمريكاني، أو إنكليزي: قامة طويلة، لكنها ضئيلة، وعارضان كثيفان، لكن لا يلتقيان، وثياب لا يشتكى منها طول ولا قصر، ولا ضيق ولا سعة، وهو يتشمخ بأنفه ويختال في مشيته، فضحكت حال رؤيته، وقلت بعد تحيته: قد كان لك غنى عن هذا الزي يا مولاي.
نامعلوم صفحہ