وهذه الشدة التي فرضها عمر على نفسه منذ استخلف، هي التي تفسر لنا موقفه عام الرمادة حين أصاب العرب في الجزيرة ما أصابهم من الجدب حتى اضطروا إلى أن يأكلوا الميتة، ويستخرجوا الجرذان والضباب من جحورها فيأكلوها.
وقد اتصل هذا الجدب تسعة أشهر، ووقف عمر أثناء هذه الأشهر موقفا لا يعرف التاريخ له نظيرا، فما أكثر ما أصاب الجوع بعض البلاد! وما أكثر ما شقي الناس بهذا الجوع واجتهد ملوكهم وولاتهم في أن يخففوا عنهم هذا الجهد! ولكنا لا نعرف أحدا من هؤلاء الملوك والولاة شارك الناس في الجوع، وفيما كانوا يجدون من الجهد، كما شارك عمر أهل الحجاز ونجد وتهامة في كل ما أصابهم من الجهد والعناء، وما نعرف أحدا من الملوك والولاة واسى الناس بنفسه على ما أصابهم، كما كان عمر يواسي العرب بنفسه أثناء هذه الأشهر التسعة.
فقد جاع عمر كما جاع الناس، وحرم على نفسه لين العيش كله، حتى عاش على الزيت، وحتى تغير لونه لكثرة ما أكل الزيت نيئا ومطبوخا، ثم كان يحمل إلى الأعراب داخل المدينة وخارجها طعامهم على ظهره، ويأبى أن يكفيه ذاك أحد غيره، وكان لا يترك من يحمل إليهم الطعام حتى يراهم قد أكلوا وأصابوا من الطعام حاجتهم.
وكان الأعراب حين اشتد عليهم الجهد قد نزح منهم كثير عن بلادهم وآووا إلى المدينة يلتمسون فيها ما يقيم الأود، فكان عمر ينزلهم المنازل من حول المدينة حتى لا يضيقوا على أهلها، وكان يقوم على أن يوفر لهم ما يحتاجون إليه من الطعام والكسوة، يجد في ذلك بنفسه ما استطاع الجد، ثم لا يشغله ذلك عن غير هؤلاء من الأعراب الذين لم ينزحوا عن أوطانهم، وإنما أقاموا فيها أشقياء بالجدب صابرين عليه.
وقد كتب عمر إلى ولاته على الأقاليم فأرسلوا إليه الطعام، فكان يوجه الرجال إلى منافذ الأقاليم، ويأمرهم أن يتلقوا ما يأتي منها، وأن يطعموا الناس ويكسوهم ويخلفوا فيهم ما يعينهم على احتمال البلاء.
وكذلك أنفق هذه الأشهر التسعة معنيا أشد العناية بالناس، من قرب منه ومن بعد عنه، حتى خيف عليه من شدة ما كان يتكلف في ذلك من المشقة والعناء. ويقول الرواة: إنه حرم على نفسه في هذه الأشهر التسعة كل لذة، وكل راحة، وكل طمأنينة، ولم يكن اشتغاله بأمر الناس وحده هو الذي يشقيه ويضنيه، وإنما كان ضميره الحي اليقظ دائما يزيده شقاء إلى شقاء، وهما إلى هم؛ فكان لا يذوق النوم إلا غرارا، وكان يشفق أشد الإشفاق أن يجعل الله هلاك أمة محمد
صلى الله عليه وسلم
على يديه وأثناء خلافته.
وكان عمر يحب الصلاة إذا تقدم الليل في جميع أيامه، فلما امتحن العرب بهذا الجدب أكثر من هذه الصلاة حين كان يتاح له الفراغ من أمر الناس.
وقد حرم على نفسه - كما قلت آنفا - ما كان يتاح لأوساط الناس من الطعام في تلك الأيام؛ فحرم على نفسه اللحم إلا حين كان ينحر الجزر ليطعم الناس، فكان يشاركهم في طعامهم، وحرم على نفسه السمن فعاش على الزيت، فلما آذاه الإدمان عليه ظن أن طبخه يكسر من حدته، فأمر أن يطبخ له الزيت، فلما أكل منه مطبوخا كان أشد عليه.
نامعلوم صفحہ