وكان بلاء خالد في العراق خليقا أن يدفع إلى العجب والتيه؛ فهو قد استطاع أن يقهر عرب العراق في غير موطن، وأن يقهر من جاء من جموع الفرس لإنجاد العرب من أهله واسترداد العراق، ورد خالد وأصحابه إلى بلادهم، فكان خالد يلقى هذه الجموع فلا يلبث أن يظفر بها، وكان اتصال الحرب في العراق، واشتداد الفرس في الاحتفاظ به، وطول مقاومتهم وإلحاحهم في هذه المقاومة.
كان هذا كله يحفظ خالدا ويثير غضبه حتى حلف في إحدى المواقع لئن أظفره الله على عدوه ليجدن في قتلهم حتى يجري نهرهم بدمائهم، فلما انهزم العدو أمامه أمر المنادين، فنادوا في الجيش أن تتبعوا الأسرى ولا تقتلوا منهم إلا من امتنع عليكم، فمضى المسلمون في تتبع المنهزمين حتى أخذوا منهم عددا ضخما، وأراد خالد أن يبر يمينه؛ فصد الماء عن النهر وجعل يقدم الأسرى فيضرب أعناقهم في مجرى النهر.
وزعم الرواة أنه أقام على ذلك يوما وليلة، حتى قال له القعقاع بن عمرو - وهو من أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم - وآخرون معه، وقد راعهم ما رأوا من الإسراف في قتل الأسرى: إن الدماء لا تجري، وإن الأرض لا تنشف الدماء، فأجر الماء تبر يمينك. فلما أجرى الماء إلى النهر جرى ذلك النهر دما؛ فسمي نهر الدم.
وقد يكون الرواة قد أسرفوا في المبالغة، ولكن المحقق أن خالدا أمعن في القتل حتى ضاق بذلك القعقاع وأصحابه، فصرفوه عن ذلك بإجراء الماء.
وهذه صورة أخرى من صور العنف في أخلاق خالد رحمه الله، والشيء الذي ليس فيه شك هو أنه استطاع أن يستخلص العراق العربي من الفرس، وكان يود لو أذن له أبو بكر في مهاجمة الفرس في عقر دارهم، ولكن أبا بكر لم يأذن له اصطناعا للأناة، فكان خالد يضيق بمقامه في العراق على غير حرب، حتى كان يسمي سنته تلك سنة النساء، فلما أمر بالسير إلى الشام ضاق بهذا الأمر؛ لأنه فوت عليه فرصة كان يريد انتهازها، وهي المضي في غزو الفرس حتى ينزل المدائن عاصمة ملكهم، ولكنه لم يجد بدا من السمع والطاعة لخليفة رسول الله، فسار بنصف جيشه إلى الشام مددا للمسلمين هناك، وكان سيره إلى الشام وإسراعه في نجدة المسلمين عجبا من العجب.
وكان عصر أبي بكر، والظروف التي أحاطت بخلافته القصيرة، كان كل ذلك مثيرا للغضب، مخرجا لأولي الأحلام عن أطوارهم، مزعجا لذوي القلوب المطمئنة والنفوس الرضية، والطبائع السمحة، عما كانوا يألفون من اللين والدعة، ويؤثرون من الرفق والإسماح.
فقد كان أبو بكر ومن حوله من أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم
مطمئنين إلى أن العرب قد دانوا للإسلام طائعين أو كارهين، وإلى أنهم قد فرغوا من أهل الجزيرة العربية وأوشكوا أن يأخذوا في تحرير العرب المتفرقين خارج الجزيرة في ملك فارس والروم، يرون ذلك تأمينا لحدود الجزيرة العربية أولا، واستنقاذا للعرب من حكم الأجنبي، وكانوا يرون أن اهتمام النبي
نامعلوم صفحہ