وكذلك بدأت بيعة أبي بكر، وعلي والعباس مشغولان بأمر النبي
صلى الله عليه وسلم ، وكان هذا كله في اليوم نفسه الذي قبض فيه النبي.
ولست أطمئن إلى أكثر ما يرويه الرواة من نصوص الحوار الذي كان بين أبي بكر وصاحبيه من جهة، وبين الأنصار أوسهم وخزرجهم من جهة أخرى.
فهم يروون هذا الحوار رواية من شهد اجتماع القوم وسمع ما كان فيه من الأحاديث والخطب، ثم لم يكتف بالسماع وإنما سجل ما قيل حرفا حرفا، بل سجل حركات القوم وإشاراتهم، ولو قد استطاع لسجل نبرات الأصوات، مع أن هذا الحوار وأمثاله لم يدون إلا بأخرة، بعد انقضاء عصر الخلفاء الراشدين، وصدر من ملك بني أمية. ولم ينتقل هذا الحوار وأمثاله إلى القصاص والمؤرخين مكتوبا، وإنما نقل إليهم مشافهة، وصنعت فيه الذاكرة صنيعها وتعرض بعضه للنسيان وبعضه لتغيير اللفظ، وصنعت فيه الأهواء السياسية صنيعها أيضا.
فهم يزعمون مثلا أن الأوس تناجت بينها؛ فقال بعضها لبعض: والله لئن وليت الخزرج - وهم قوم سعد بن عبادة - هذا الأمر لكانت لهم عليكم الفضيلة إلى آخر الدهر، ثم تناصح القوم أن يبايعوا لأبي بكر حتى لا يتاح هذا السبق للخزرج.
والذي نعرفه من سيرة الأنصار - ومن سيرة المسلمين عامة - يدل على أن الإسلام قد ألغى ما كان في قلوبهم من التنافس والتباغض، ومحا ما كان في صدورهم من الضغائن الجاهلية، فغريب أن تعود إليهم جاهليتهم بكل ما كان فيها من الحقد والحسد والموجدة فجاءة في اليوم نفسه الذي قبض فيه النبي
صلى الله عليه وسلم .
وما ينبغي أن ننسى أن من الرواة من كانوا من الموالي الذين لم تبرأ قلوبهم من الضغن على العرب؛ لأنهم فتحوا بلادهم وأزالوا سلطانهم، ثم استأثروا من دونهم بالأمر أيام بني أمية، وإذا كان الكذب قد كثر على رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فأي غرابة في أن يكثر على المؤمنين من أصحابه.
والذي أستخلصه أنا من قصة السقيفة أيسر جدا مما صور المؤرخون، فقد أشفق الأنصار بعد وفاة النبي من أن يلي المهاجرون من قريش الخلافة، فيصير هذا سنة وتستأثر قريش بالأمر، فإذا ذهب الصالحون من أصحاب النبي لم يعرف من يأتي بعدهم من قريش حق الأنصار، فظلموهم وجاروا عليهم، فأراد الأنصار إذن أن يحتاطوا للمستقبل، وكأنهم أحسوا قبل أن يأتيهم أبو بكر وصاحباه أن قريشا لن ترضى منهم بهذا الأمر، فأزمعوا أن يعرضوا على المهاجرين أن يكون الأمر في المهاجرين والأنصار على سواء، فينهض بأعباء الحكم أميران: واحد من أولئك، وواحد من هؤلاء. ويكون بذلك توازن في التبعات، فإذا بغى أحدهما كفه الآخر.
نامعلوم صفحہ