محاضرات عن الشيخ عبد القادر المغربي
محاضرات عن الشيخ عبد القادر المغربي
اصناف
ثم إن الحكومة الحميدية لم تجد بدا من اعتقاله، فأوعزت «سلطات المابين» في الآستانة بذلك إلى خليل باشا البكدشلي والي بيروت، فحضر إلى طرابلس بنفسه، واعتقل المترجم في أوائل عام 1322ه/1904م ليلا، ثم ساقه إلى بيروت ليلا تحت حراسة شديدة خوفا من هياج الرأي العام وأقارب المترجم، وهم كثيرون، وقد بقي موقوفا عدة أشهر في «دائرة البوليس» بسراي البرج، ثم إن الحكومة وضعت يدها على مكتبته وأوراقه، وأخذ الوالي بنفسه يمعن فيها بحثا وتنقيبا، ولكنها في نهاية الأمر أعادت إليه بعضها بعد خروجه من المعتقل، ولما أفرج عنه بعد أشهر، واتصل ذلك بعلم الأستاذ الإمام الشيخ عبده استدعاه إلى مصر، وقدم إلى وزارة مصطفى فهمي باشا طلبا بتسميته كاتب فتوى لديه، وحين وجد المغربي أنه لم يعد في وسعه البقاء في البلاد العثمانية تحت هذه المراقبة الشديدة من رجال عبد الحميد استطاع الإفلات والسفر خلسة إلى قبرص في الباخرة الخديوية ومنها إلى مصر، فبلغها في 17 ربيع الثاني 1323ه الموافق 20 يونيو 1905م، ولكن المنية كانت قد عاجلت المفتي الشيخ محمد عبده بعد وصوله إليها بقليل، فعكف على الاشتغال بالصحافة محررا في جريدة الظاهر التي كان يصدرها المحامي المشهور إذ ذاك «محمد بك أبو شادي»، ثم دعاه الشيخ علي يوسف للمشاركة في تحرير «جريدة المؤيد» خلفا للمرحوم السيد عبد الحميد الزهراوي، فاتسع له فيها المجال لنشر فكرة الإصلاح الديني والاجتماعي، ونقد أوضاع المؤسسات الدينية ومنها الأزهر الشريف، وقد كتب عشرات المقالات في هذا الموضوع وفي البحوث الدينية واللغوية والأدبية الأخرى، وظل يحرر في «جريدة المؤيد» إلى أن أعلن الدستور العثماني سنة 1908م، فعاد إلى سورية في عام 1909م، وواصل الكتابة في «المؤيد» والصحف المصرية الكبرى كاللواء، والشعب، والعلم، ومجلة الهداية وبعض صحف بيروت، ومما نشره في المؤيد يومئذ مقال بعنوان «حجاب المرأة في الإسلام»، تناقلته عنها الصحف السورية، وكان له تأثير عميق في البلاد، وحمل عليه المحافظون من أجله حملات منكرة.
وفي عام 1911م / 1330ه أنشأ في طرابلس الشام جريدة باسم «البرهان»، وكانت مباحثها تدور حول بعض أمور سياسة الدولة الداخلية، وموضوعات الاجتماع الإسلامي، والدعوة إلى وحدة الكلمة، والعمل على تكوين كتلة إسلامية قوية تستطيع أن تقف في وجه مطامع أوروبا. وكان يمدها بالمقالات بعض كبار الكتاب كالأمير شكيب أرسلان المؤرخ المصلح المشهور، والأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي - أديب فلسطين الكبير - وغيرهما من كبار كتاب العصر، ولكنه اضطر إلى وقفها عند اشتراك الدولة العثمانية في الحرب العامة أواخر عام 1914م؛ لأن أكثر مشتركيها في مصر والهند، وقد دعته الحكومة العثمانية في تلك السنة إلى الانضمام إلى الشيخ عبد العزيز جاويش والأمير شكيب أرسلان، والسفر إلى المدينة المنورة؛ لتأسيس كلية إسلامية فيها، أطلقت عليها الحكومة اسم «معهد دار الفنون»، فأسسوها باحتفال حافل إلا أن نشوب الحرب العامة قضى على ذاك المعهد. ثم أنشأت وزارة الأوقاف العثمانية في القدس عام 1915م كلية دعتها «الكلية الصلاحية»، وكان الغرض منها تخرج علماء ومبشرين بالدين الإسلامي، يجمعون بين العلوم الدينية والعلوم العصرية، فاشترك المغربي في تأسيسها وتنظيم شئونها مع الشيخ عبد العزيز جاويش والأمير شكيب أرسلان، وأخذ يدرس فيها الآداب العربية وفنون البلاغة والسيرة النبوية إلى أن أسست الحكومة العثمانية في دمشق عام 1916م «جريدة الشرق»، وسمته مديرا لهيئتها التحريرية، فانتقل إلى دمشق وأخذ ينشر في الجريدة مقالات في الأدب والتاريخ والإصلاح الإسلامي، ومما نشره فيها عام 1916م مقال بعنوان «النهضة الدينية في الأمة الإسلامية»، دعا المسلمين فيه إلى التجدد ونبذ الخرافات، وقد أحدث دويا في البلاد بين الشيوخ وأرباب التقليد، وأعيد طبع المقال فيما بعد في الجزء الثاني من «كتاب البينات»، ولما رزحت سورية تحت الاحتلال الإنكليزية - الفرنسي في أواخر عام 1918م لزم الشيخ داره وعكف على التأليف، ومن تآليفه التي أتمها في تلك الحقبة تفسيره لجزء «تبارك»، وقد حذا فيه حذو الأستاذ الشيخ محمد عبده في تفسيره لجزء «عم».
وحاول المحتلون الفرنسيون أن يعهدوا إلى الشيخ بعض الأعمال العلمية والدينية، ومنها إفتاء طرابلس للإفادة منه، ولكنه كان يرفض بإباء إذ كان متشائما من الحالة التي آلت إليها البلاد بعد أن رأى الإنكليز والإفرنسيين يقسمون بلاد الشام إلى مناطق ودويلات صغيرة، ويغدرون بالملك حسين حليفهم وينفونه إلى قبرص وكثيرا ما كان ينشد قول أبي العطاء السندي في بني أمية:
أليس الله يعلم أن قلبي
يحب بني أمية ما استطاعا
وما بي أن يكونوا أهل عدل
ولكني رأيت الأمر ضاعا
ولما أنشأت حكومة المرحوم الملك فيصل بن الحسين في دمشق «ديوان المعارف»، الذي سمي فيما بعد «المجمع العلمي العربي» كلفته أن يكون عضوا عاملا فيه فلم يتردد في القبول؛ لأنه رآه بعيدا عن جو السياسة، ووجد أن العمل فيه يساعده على خدمة اللغة العربية ومدها بالمصطلحات العلمية الجديدة، فعكف على العمل في المجمع من وضع مصطلحات علمية وتصحيح أخطاء شائعة وإلقاء محاضرات كثيرة ممتعة في مواضيع مختلفة بلا كلل ولا ملل، وعهد إليه أيضا في عام 1933م بتدريس اللغة والآداب العربية في كلية الحقوق بالجامعة السورية، حتى إذا كان عام 1934م أصدر فؤاد ملك مصر مرسوما بتسميته عضوا عاملا في مجمع اللغة العربية الملكي بمصر، وهو الذي أطلق عليه فيما بعد اسم «مجمع اللغة العربية»، فكان لا ينقطع عن السفر إلى القاهرة في شتاء كل سنة لحضور جلسات هذا المجمع والمذاكرة مع إخوانه الأعضاء في مواضيعه، وتزويد مجلته بالكثير من المقالات والأبحاث العلمية واللغوية المختلفة.
وكان أصاب «المجمع العلمي العربي» في دمشق عام 1933م بعض الاضطراب، واضطر إلى التوقف لأزمات مالية طارئة، فانقطعت مجلته عن الصدور، إلى أن كان عام 1935م فعهدت الحكومة السورية إلى المغربي برئاسة مجمع دمشق فقام بأعبائها على غير رضى منه؛ لأنه كان يحب البعد عن الأعمال الإدارية التي تحول بينه وبين الانقطاع للعلم والتفرغ للبحث، فأعاد إصدار المجلة كسابق عهدها، ثم عادت الأزمة المالية مرة ثانية في عام 1937م، فتوقفت المجلة أيضا عن الصدور حتى أوائل عام 1941م، ثم أعيد إصدارها بعد أن وضعت لها المخصصات الكافية في الميزانية، وعاد المغربي إلى أعماله العلمية، يشغل منصب نائب رئيس المجمع بعد أن أسندت الرئاسة إلى المرحوم محمد كرد علي، فاستأنف بحوثه العلمية واللغوية وإلقاء المحاضرات الشيقة الممتعة، وفي عام 1941 انتخب عضوا في «المجمع العلمي العراقي» ببغداد، فكان يمد هذه المجامع الثلاثة بآرائه وبحوثه التاريخية والأدبية واللغوية بدون انقطاع إلى أن اختاره الله إلى جواره، بعد أن خلف للخزانة العربية عددا كبيرا من المؤلفات والمحاضرات والأبحاث.
أما مؤلفاته فنتكلم عن كل منها فيما بعد، وأما محاضراته التي تنيف عن المائة محاضرة فقد كان ألقى أكثرها في قاعة المجمع العلمي بدمشق والباقي في بعض المدن السورية واللبنانية والمصرية في غضون ثلاثين سنة، نشر شيء منها في مجلدات المحاضرات الثلاثة التي أصدرها المجموع المذكور، وأما أبحاثه العلمية المتنوعة ومقالاته التي تدور حول الإصلاح الديني والاجتماعي والتاريخ والأدب، فإنها جد كثيرة، وكان نشر معظمها في «جريدة المؤيد» كما أن أبحاثه اللغوية وآراءه في تنمية اللغة والعربية وإحياء ألفاظها وما إلى ذلك، فهي مبثوثة في مجلة مجمع اللغة العربية المصري، ومجلة المجمع العلمي في دمشق.
نامعلوم صفحہ