وكنت العريف، فكانت تقرأ علي، وكنت أصحبها بعد أن ينتهي الكتاب، وكانت تقرأ وكنت أمسك أنا لها اللوح، لا أنسى يوم غرقت حين كنا نمشي بجانب النهر، كانت هي بجانب النهر وكنت أنا بجانبها وزلقت قدمها فإذا هي جميعا في النهر، ولم أكن أعرف العوم، لماذا لم أكن أعرف العوم؟ لا أدري وإنما لم أتردد، ألم أكن أخاف يومذاك؟ فما لي اليوم أخاف من عتريس؟ كانت نفسي على سجيتها ولم أكن أقدر حياتي قدرها، ولم تكن لي فؤادة أخاف عليها أن أموت فلا تجد لها أبا، أتراني كنت شجاعا ثم صرت جبانا؟ أم تراني كنت جبانا ولكني لم أفكر؟ وكيف أكون جبانا ولا أفكر وهل الجبن إلا تفكير؟ رميت بنفسي في النهر وأنا لا أعوم، وفي لحظة خاطفة امتدت يدي إلى الصفصافة التي تحنو على النهر، لكم أحب هذه الصفصافة، تشبثت بشعور الصفصافة المتهدلة إلى مياه النهر ومددت رجلي بأقصى ما تستطيعان أن تمتدا وتشبثت فاطمة بقدمي ورحت أشد جسمي إلى الأرض شيئا فشيئا وفي بطء شديد وفي حرص أشد أن تفلت يدي شعور الصفصافة أو تفلت فاطمة قدمي حتى بلغت الأرض ومددت يدي إلى فاطمة وخرجت إلى الأرض استلقت عليها، كم هي حبيبة هذه الأرض! ومرت أعوام الكتاب، وختمت حفظي للقرآن وخرجت إلى الحياة.
ظل فارغا فترة طويلة بعد أن ترك الكتاب، كان يحن إلى فاطمة، ولكن كيف له أن يذهب إليها؟ ولم يكن الحنين وحده كافيا أن يشغل وقته، وفي يوم عزم على أمر، فما لاح الفجر من اليوم التالي حتى خرج إلى غيط أبيه وبدلا من أن يشرف على الرجال وهم يفلحون الأرض ربت كتف عبد الجليل أبو سعفان. - عبد الجليل . - أفندم يا سي حافظ. - هل عندك فأس أخرى؟ - لماذا؟ - هل عندك فأس أخرى؟ - نعم. - اذهب فهاتها. - وهذه ما لها؟ - سأستأجرها منك. - أنت؟ - نعم. - تفلح الأرض معنا، أنت يا سي حافظ يا ابن الحاج خالد أنت؟! - أعطني فأسك ولا تطل.
وقالوا: مجنون، ولكن ما شأنه هو أن يقولوا، واستمر عاما وبعض عام حتى جاء فايز إلى القرية، فذهب إليه وتحادثا، رأى في حديثه نورا جديدا يريد أن يروده، كان لا بد أن يعلم علم فايز، لقد ذهب فايز إلى المدرسة في المدينة فما له هو لا يذهب؟ - آبا، أريد أن أذهب إلى المدرسة. - قل ماذا تريد من مال ومع السلامة. - غدا أذهب. - غدا تذهب.
وكان هذا هو فراقه عن الفأس، ولكنه إن فارق القرية فسيفارق فاطمة أيضا، كيف يستطيع أن يفارقها؟! لم يكن يراها إلا قليلا، ولكن أنفاسها في القرية، فهو يعيش في أجوائها، فكيف يفارق القرية؟ ولكن لا بد له أن يعلم علم فايز، فكيف على الأقل يبلغ فاطمة أنه مسافر في غده آخذا طريقه إلى المدينة وإلى العلم؟
ذهب إلى عبد الصادق في بيته. - عبد الصادق. - ماذا؟ - أريد أن تأتي معي لنتمشى. - عند الصفصافة طبعا. - هل عندك مانع؟ - مللت الصفصافة، تعال نذهب إلى الناحية الأخرى من القرية هناك عند النخيل. - إلا اليوم. - ولماذا اليوم؟
وتردد قليلا ثم قال: لا أدري إلا أنني أريد أن أذهب إلى الصفصافة، لا أدري، ألا تحس أحيانا معينة أنك مشتاق إلى مكان معين؟! أنا الآن مشتاق إلى الصفصافة. - أمرك، نذهب إلى الصفصافة، نذهب إلى الصفصافة. - يقطع ال...
وقبل أن يكمل الكلمة كان حافظ قد وضع يده على فمه في خوف. - اسكت، وهيا ولا تطل الكلام.
وجلسا عند الصفصافة، وظل حافظ صامتا، ولكن عبد الصادق لم يسكت. - لقد أردت أن أجيء معك لأخبرك خبرا يفرحك.
وقال حافظ وعينه إلى طريق القرية وذهنه إلى بيت في القرية لا يريم عنه. - هه. - لا، اصح واسمع كلامي وأحسن سمعه، وإلا قمت والله وتركتك وحدك أنت والصفصافة.
وانتفض حافظ في ذعر؛ فإنه يحتمل كل شيء إلا أن يقوم عنه عبد الصادق الآن؛ فقد كان يريده بكل خلجة من مشاعره، وبكل دقة من قلبه. - لا، تقوم؟ وهل هذا يصح؟ أنا أسمعك، أسمعك تماما. - ألا تعرف أني فكرت في الزواج؟
نامعلوم صفحہ