فوقف هانئ إلى جانبها، وأخذت تقرأ في ضوء القمر:
إلى الأمير عبد الرحمن سلام - أما بعد - فإني أكتب هذا الكتاب إليك عند الفجر والناس نيام، وقد بت بالأمس قريرة العين بما شاهدته من شجاعة العرب وتجددت آمالي بالنصر، ثم بلغني تدبير دبرته تلك المرأة المسماة ميمونة إذا وفقت إلى إتمامه كانت العاقبة وخيمة - لا سمح الله - وذلك أنها اجتمعت في هذا الليل بوالدها وأخبرته بما عليه رجال البربر من ضعف الإسلام والتعلق بالغنائم، وأشارت عليه إذا نشبت الحرب في هذا اليوم وخشي تقهقر الإفرنج أن يبعث بشرذمة من رجاله يسطون على مستودعات الغنائم في معسكركم، وأن يبعث أناسا عليهم ملابس العرب يصيحون في جندكم، أن الغنائم قد أخذت، وسيتولى ذلك عدلان البربري الأحول؛ لأنه يستطيع التنكر في مظهر عربي، وتكفل - قبحه الله - بقتل أدهم الأمير هانئ لتضعف الفرسان وهم أقوى جنودكم علمت بهذا التدبير من الشاب رودريك وسأرسل هذا الكتاب معه، ولكني أتوجس خيفة عليه من عدلان لئلا يفعل به كما فعل بجده، أو ربما أصابه نبل في أثناء ذهابه، ولا حيلة لي في تلافي ذلك إذ لا بد من إبلاغ هذا التدبير إليكم بالوسائل الممكنة فإذا أدرككم كتابي هذا في حينه ونفعكم ما فيه فإني ضامنة لكم النصر بإذن الله، وإلا فإني أخاف عليكم العاقبة، وإذا أخفق هذا المسعى - لا سمح الله - وقدر النصر للإفرنج فلن تقوم للعرب قائمة في هذه البلاد، أما أنا فقد أتممت المهمة التي انتدبت لها، ولا حاجة لأن أوصيك بمريم فإنها في رعايتك وإن كنت لا أرضى لها البقاء إذا انكسر العرب، ولا هي ترضاه لنفسها، وإذا فشل العرب ولم يقطعوا نهر لوار فلا قيمة للحياة، ولذلك فلا تطلبوني فإنكم لن تجدوني في أي مكان والملتقى في الدار الآخرة فإنها تجمع شتات المحبين والسلام.
وما أتت مريم على آخر الكتاب حتى وقف شعرها وارتعشت أناملها وغشى الدمع عينيها والتفتت إلى هانئ، فإذا هو مطرق يفكر، ثم رفع بصره إليها وقال: «قد علمت الآن سر الانقلاب الذي أصاب جندنا بعد أن كدنا نهزم الأعداء.»
فقالت: «لعن الله لمباجة وعدلان خادمها إذ لولاهما لكنا الآن في معسكر شارل وفي الصباح نقطع ذلك النهر.»
فقال: «العيب يا مريم مرجعه إلى جندنا فإنه متفرق الكلمة متباين الأغراض، وخصوصا أولئك البربر فإنهم لا يفهمون من الحرب غير السلب والنهب، ولولا دراية الأمير عبد الرحمن - رحمه الله - وحسن أسلوبه وسعة صدره ما استطعنا الوصول إلى هنا، وقد مات عبد الرحمن الآن ولا نعلم ما يصير إليه أمرنا بعد.»
فقالت: «نعم إن مقتل هذا الأمير خسارة كبرى، ولكننا لا ينبغي أن ننوء تحت هذا العبء، وإني أقدم نفسي لما تنتدبني إليه في هذه الحرب.»
قال: «يكفي منك تحريض الأمراء على الاتحاد والصبر، فقد رأيت من تأثير أقوالك في وقعة اليوم ما أدهشني.»
قالت: «لك علي ذلك؛ لأني إن لم يفز هذا الجند فلن يكون لي بقاء تلك هي وصية والدتي في هذا الكتاب.»
فقال: «وأنا هل أبقى وحدي؟ ولكني أرجو ألا نتعرض لهذه الأخطار، هلم بنا إلى المعسكر.» قال ذلك ومشى، فمشت مريم وهي لا تزال حاسرة الرأس مسترسلة الشعر لا تنتبه لنفسها حتى إذا اقتربا من المعسكر، لم يسمعا جعير الجمال ولا صهيل الخيل، ولا رأيا نارا ولا حركة ولا شيئا يدل على الجند مع أن الخيام كانت لا تزال باقية كما هي، فأسرع إلى فسطاط الأمير الكبير فإذا هو خال خاو، فخرجا منه إلى ما يجاوره وطلبا خيمة الأمير هانئ فوجداها خالية، وبالجملة فقد كان معسكر العرب كأنه خيام منصوبة في الصحراء لا إنسان فيها ولا دابة حتى ولا حشرة.
فقضيا برهة يتمشيان وهما صامتان من الدهشة والاستغراب ثم تكلم هانئ قائلا: «ما الذي أراه؟ أين ذهب الجند؟ أين الخدم؟ أتظنينهم ذهبوا نحو الأخبية ليجعلوا هذا النهر الصغير ترسا لهم في الدفاع؟»
نامعلوم صفحہ