فأوقفت جوادها بغتة ونظرت إليه كأنها تستطلع قصده من تلك العبارة، فلما رأته يبتسم علمت أنه يمازحها ولكنها قالت: «إذا علمت بشرف أصلي فلا فضل لي في شرف ورثته من الأجداد، وإنما الشريف من نال الشرف بحد حسامه كما ناله الأمير هانئ.» فقال وقد هاجت عواطفه وهو يمسك الجواد عن المسير والجواد لا يطيعه: «فأنت إذن صاحبة الشرف طارفا وتليدا فقد رأيت منك في وقعة دردون ما تعجز عنه أعاظم الفرسان، فسبحان من جمع فيك شجاعة الرجال ورقة النساء.»
فقطعت كلامه قائلة: «إني لم أفعل شيئا يا هانئ، وإذا ساعدتني الأقدار سأتفانى في تحقيق وصية أبي، ولو لم أكن رجلا كما قال، فإن الشجاعة ليست وقفا على الذكور دون الإناث آه يا هانئ.» وسكتت كأنها تكتم أمرا.
فنظر إليها هانئ والقمر تجاه وجهها، وقد وقعت أشعته على محياها وحول النقاب الأسود، ولو رآها شاعر عربي لقال: تقابل القمران، والحقيقة أن القمر ليس له ما في وجوه الملاح من المعاني الجاذبة والخالبة، وبخاصة فتاتنا العربية سلالة الملكيين، فقد كان في وجهها فضلا عن الجمال ملامح الهيبة والذكاء، وجاءهما الحب فزادهما رونقا وزاد المحب افتتانا، فنظر هانئ إلى وجهها وقد أطرقت، كأنها تكتم أمرا يمنعها الحياء من إفشائه، وتشاغلت بإصلاح الشعر على عنق جوادها، والجواد مستأنس بمرور أناملها على عنقه، وأراد هانئ أن يسألها عما تكتمه فإذا هو بفارس قادم عليهما من جهة دير مرتين ينهب الأرض نهبا، فأمسك هانئ جواده وتفرس في القادم فما لبث أن عرف من زيه أنه إفرنجي، ورأى معه علما أبيض فتحقق أنه رسول من شارل، ولم يكن هانئ يعرف الإفرنجية، فلما دنا الفارس منهما أمسك شكيمة جواده ومشى الهوينا فخاطبته مريم بالإفرنجية قائلة: «من الرجل؟»
فقال: «إني رسول من الدوق شارل إلى الأمير عبد الرحمن فأين هي خيمته.»
فأفهمت هانئا ما قاله فقال: «إنها رسالة ذات بال والأحسن أن نسير به لنرى ما سيكون.»
فقالت مريم للرسول: «نحن ذاهبان إليه فتعال في أثرنا.» ومشيا وقد انصرف خاطرهما إلى ما يهدد هذا الجند من الأمر العظيم، وتذكرت مريم حسانا؛ لأنها كثيرا ما كانت تراه قادما بمثل هذه المهمة، فما تمالكت أن قالت «مسكين يا حسان!» وكان هانئ كله آذان لسماع أية كلمة تخرج من فم مريم ، فلما سمعها تذكر حسانا تذكر عبارة قالتها سالمة في ذلك النهار عندما سمعت بمقتل حسان، فقال هانئ: «سمعت والدتك تقول لما علمت بمقتل حسان أنه مات ولم ير حفيده فمن هو حفيده؟»
قالت: «علمت من بعض ما كان يدور قديما بين حسان ووالدتي أنه كان له ابن سار في حرب لا أدري ما هي، وكان لابنه غلام فقده في تلك الحرب ضياعا - وهو حفيده - وكان حسان كثيرا ما يتحسر لضياع ذلك الغلام ولأنه لا يعرف مقره، فلما قالت والدتي تلك العبارة ظلت في خاطري وسألتها تفسيرها بعدئذ، فقالت إنها عثرت على الغلام المذكور في معسكر أود وقد صار شابا والإفرنج يحسبونه منهم ويسمونه رودريك، وإنها تركته في معسكر أود عند فرارها ولم تعلم بمقره.» وكان هانئ قد أراد مباسطتها للتلذذ بألفاظها ولثغتها، ولم يكن يهمه أمر حسان كثيرا لكنه عندما سمع حكايته أسف لفقده.
فلما اقتربوا من المعسكر، أمسك هانئ شكيمة جواده ونظر إلى مريم، فأدركت أنه يريد أن تنصرف إلى الأخبية حيث تقيم النساء فقالت: «هل أذهب إلى الخباء؟»
قال: «نعم يا حبيبتي لتكوني هناك في مأمن حتى يقضي لنا الله بالنصر ونذهب معا إلى نهر لوار، وأرجو أن يكون ذلك قريبا.»
قالت: «أما إذا خيرتني فإني أفضل البقاء هنا لأمر أراني مسئولة عنه مثل مسئوليتك، أو مسئولية الأمير الكبير، ولكن الطاعة واجبة، فالآن لا ينبغي أن ننسى السر الذي عهد إلينا بحفظه ولا بد من كتمانه إلى حينه.» قالت ذلك وافتقدت المحفظة فوجدتها.
نامعلوم صفحہ