فلما سار الجند، وكان يتوارى عن بصرها ولم يبق في ذلك المعسكر إلا شراذم قليلة من الخدم والأعوان، ورأت نفسها لا تزال وحيدة ولم يأت رودريك إليها بطعام ولا كلام، انشغل بالها وأوجست من تأخره شرا، فتحولت عن النافذة نحو الباب لعلها ترى أحدا قادما فإذا هي تسمع وقع أقدام بلا خفق نعال ومشية غير مشية رودريك، فقالت في نفسها: «من عساه أن يكون القادم؟» وما لبث أن فتح الباب ودخل منه رجل بملابس أشبه بملابس العرب، وحالما وقع بصرها عليه رأت فيه شبيها بالرسول الذي جاء بالكتاب إلى أود وهي عنده فاستعاذت بالله وخافت، ولكنها تجلدت وثبتت جأشها وابتدرت الرجل قائلة: «ما الذي تريده؟»
الفصل الرابع والخمسون
الأحول
فنظر إليها وعيناه تتباعدان من شدة الحول وتتراقصان وقال: «لا أريد شيئا، ولكن حضرة الدوق أمرني أن أكون في خدمتك.» قال ذلك وهو يصلح رداءه على كتفيه وقد بان السيف من تحته.
فلما رأت سالمة حوله عرفته، فانقبضت نفسها وخشيت سوء العاقبة لعلمها أنه من أكبر جواسيس ميمونة، واعتقدت أن كل ما نالها من الشر إنما كان على يده، ولكنها لم تكن تجسر على التصريح بذلك، فلم تر خيرا من التجاهل والتجلد، فقالت: «بورك فيك لعلك من أهل هذا المعسكر؟»
فابتسم كأنه يهزأ من جهلها وقال: «لا ولكني من معسكر آخر.» وضحك ثم قال: «هل تحتاجين إلى خدمة أقدمها لك؟»
فظلت سالمة على تجاهلها ولم تكترث بما بدا منه فقالت: «لا غنى لي عن خدمتك، ولكن أين هو الشاب الذي كان يخدمني قبلك؟»
قال وهو يقلب شفته السفلى استخفافا: «لا أدري ولعله سار في مهمة إلى طليطلة أو بلغاريا أو ربما اشتد حنينه إلى أجداده فطار إليهم.»
فلما سمعت تعريضه بما دار بينها وبين رودريك سرا خفق قلبها وكادت تظهر البغتة في وجهها، فبالغت في التجاهل وقالت: «إني أشكرك لا أحتاج إلى شيء الآن.» وأرادت أن ينصرف فتخلو بنفسها وتفكر في أمرها.
فقال لها: «ألا تحتاجين إلى شيء أبدا مطلقا؟ ألا تتوق نفسك إلى أحد في بوردو أو نهر لوار؟»
نامعلوم صفحہ