فلما دخلا ظل الرجل الطويل واقفا مع أصحابنا، وتقدم القصير إلينا وجعل يتفحصنا واحدا واحدا، وينتقي من يقع عليه اختياره منا، حتى إذا وصل إلي تفرس في وجهي وتكلم بلغة لا أفهمها أظنها قوطية أو عبرانية؛ لأني علمت بعد ذلك أن الرجل من تجار اليهود، فمد يده فأمسك بيدي وجذبني نحوه وأمرني أن أفتح فمي، ففحص أسناني وفمي وجس كتفي وهزهما ونظر في عيني وأذني ويدي وقدمي، ثم أشار إلي فانضممت إلى المختارين، وبعد الفراغ من الانتقاء تساوموا، فلما تمت صفقة البيع ساقنا أصاحبنا الجدد إلى زريبتهم بعد أن دفعوا الثمن وأظنه بخسا جدا، ثم أعطونا خبزا يابسا وألبسونا أكسية ثقيلة متشابهة من الخيش والجلد، وقصوا شعورنا وأصلحوا من شأننا بعض الشيء، فسررت للشبع والدفء.
وحملنا أولئك التجار بعد أيام على الدواب بالتناوب ونحن نحو المائة حتى أتو بنا بلاد الإفرنج، فأنزلونا في خان حبسونا فيه أياما، ثم انتقوا جماعة منا لصغر سنهم وجمالهم وأرسلوهم إلى مكان يخصون فيه الصبيان، وبلغني بعد ذلك أنهم أغضوا عني؛ لأني كبرت على تلك العملية.»
ولما وصلت بكلامه إلى هنا، سمعا صوت النفير يدعو الجند إلى الاجتماع فقال: «أظنني أطلت الحديث، فأقول بالاختصار إني انتقلت بالبيع إلى بعض الأعيان من الإفرنج، ثم بالمقايضة إلى الدوق أود، وكنت في أثناء إقامتي في هذه البلاد قد سمعت بقدوم العرب لفتحها، وكانت تحدثني نفسي بالفرار إليهم لأبحث عن والدي؛ لأني لم أعد أسمع عنهما شيئا منذ خطفت بالقسطنطينية، وكنت قد أزمعت إذا كان معسكرنا بقرب معسكر العرب أن أفر إليهم فلم أتمكن من ذلك لأسباب يطول شرحها فها قد قصصت عليك خبري.»
قالت: «لقد سرني صدق فراستي فيك، فأنت الآن عربي وأنا متفانية في خدمة العرب، ولا يسمح لنا الوقت الآن بالتفصيل فلنترك ذلك لفرصة أخرى، وعندي أمور تتعلق بوالديك وجديك سأقصها عليك، أما الآن فامض في عملك، واجتهد - إذا حملتموني معكم في هذا السفر - أن أكون على اتصال بك لنتفاهم بشأن النجاة.»
قال: «سمعا وطاعة.» وتحول من الغرفة وأغلق الباب وراءه، فإذا هو يكاد يعثر برجل عليه لباس مخالف لزي الجند، كان جالسا القرفصاء في الدهليز بقرب الباب، ودفن رأسه في حجره فلما رآه رودريك أجفل وخشي أن يكون قد سمع ما دار بينه وبين سالمة، فرفسه بقدمه كأنه يوقظه من النوم فلم يتحرك، فرفسه ثانية وهزه، فتظاهر بالكسل الشديد ورفع رأسه وتثاءب وتمطى وجعل يفرك عينيه ويلتفت حوله كأنه أفاق من سبات عميق فارتاح بال رودريك، إذ توهم أنه كان نائما هناك نتيجة كسل أو تعب، فانتهره وأمره أن ينصرف فتظاهر بالخوف ووقف مسرعا وخرج يهرول.
الفصل الثالث والخمسون
موكب الدوق
أما سالمة فإنها فرحت برودريك واستبشرت بالنجاة على يده لما ظهر لها من ثقة الدوق أود به، فإذا كان هو حارسها في ذلك المعسكر هانت النجاة عليهما، فتذهب إلى معسكر العرب وتخبر عبد الرحمن بما علمته من استنجاد أود لشارل (قارله) لئلا ينخدع بقلة جند الإفرنج، فيأتيه شارل على غرة فيهزمه، وإذا هزم العرب هناك في وقعة واحدة أخفقت مساعيهم كلها ثم تذكرت حسانا وكيف تركته في الدير وتمنت أن يكون في خير وعافية، وأن يبقى على قيد الحياة حتى يرى رودريك ويعرف من هو لأمر يهمه، وكانت الشمس قد مالت عن الهاجرة، فوقفت سالمة إلى النافذة تتشاغل بما يبدو من اهتمام الجند بالتقويض والتحميل ريثما يأتيها النبأ في شأنها لترى إلى أين تسير.
قضت ساعة وهي في تلك الحال حتى رأت موكب الدوق أود وحوله الفرسان على أفراس سروجها مفضضة وعليهم الملابس البراقة بالألوان الباهرة: كالأزرق، والأرجواني، والدوق أود في الوسط على فرس من جياد الخيل، وعلى رأسه قبعة مرصعة تتلألأ حجارتها في أشعة الشمس كأنها مصابيح، وعلى كتفيه طيلسان أو رداء سنجابي اللون كالطيلسان مزركش بالقصب إلى أردانه، وفي عنقه قلادة من الذهب يتدلى منها على صدره صليب من الذهب مرصع بالحجارة الكريمة من الماس والياقوت، ونظرت سالمة إلى سرج الجواد ولجامه فإذا هما أيضا مرصعان والجواد تحته يتلاعب كأنه يرقص تيها، وهو أكثر زهوا من فارسه الدوق، وكان الدوق قد أصلح من شأنه، ولكن الاضطراب ظل باديا من خلال تلك العظمة، وربما كان السبب في ذلك ندمه على استنجاده بعدوه شارل، على العرب ولعلك لو اطلعت على أعماق نفسه لرأيته يفضل ألا يجيب شارل دعوته أو أن يحدث ما يثنيه عن عزمه فيبقى هو وحده أمام العرب، فإما أن يغلبهم فيبقى سيد أكيتانيا وحده، أو إذا خشي أن يهزموه صالحهم فيملكوه أرضه تحت حمايتهم، وأما شارل فإذا تم النصر على يده فلا يقنعه غير السيادة على الإفرنج كافة ويصبح هو نسيا منسيا، هذا إذا لم يقتله بعض المتزلفين لشارل، ونظن أنه لو تأكد أن الإفرنج سيعاملونه مثلما يعامله العرب لفضل العرب على الإفرنج، لما في فطرة البشر من التحاسد بين الأقرباء أكثر مما بين الغرباء، فالإنسان إذا خير بين أن يذل نفسه لبعض ذوي قرابته أو لأحد الغرباء لفضل الخضوع للغريب، ولهذا السبب ترى الشعوب التي يحكمها الفاتحون من الغرباء أسهل انقيادا وأقرب خضوعا لقوانين الدولة ممن يحكمهم أناس من أبناء جلدتهم، وذلك لذهاب الهيبة بين أبناء الأب الواحد؛ لأنهم يتعارفون وهم صغار ومن يعرفك صغيرا لا يحترمك كبيرا، وبهذه القاعدة نستدل على كثير من غوامض التاريخ المختلف في حقيقتها كأصل الفراعنة الأولين مثلا، فالمؤرخون مختلفون في: هل هم مصريون أو دخلاء؟ ونظرا لما نعلمه من خضوع أهل البلاد الأصليين لهم نرجح أنهم غرباء فاتحون للأسباب التي قدمناها، ناهيك بالتحاسد بين الرئيس والمرءوس في أبناء الوطن الواحد، ويشتد الحسد بين اثنين على نعمة كلما تقاربت قدرتهما على نيلها، أو تشابهت أسبابهما إليها، ولذلك كان التحاسد على أشده بين أصحاب المهنة الواحدة.
فلا غرو بعد ذلك إذا تخيلنا في أود الندم على استنجاد شارل، على أنه حينما اقترب بموكبه من نافذة سالمة التفت نحوها، فوقع نظره عليها فرنا إليها قليلا ولم يبد إشارة، ثم توارى الموكب عن سالمة، ورأت الجنود تسير على الأقدام في أثره جماعات وبينهم الأمراء والقواد يمتطون الأفراس وعليهم الدروع والخوذات وبين أيديهم حملة الأعلام، وهي كثيرة الأشكال والألوان، على بعضها رسم الصليب وعلى البعض الآخر صورة العذراء مريم تحمل طفلها، أو صور الملائكة أو طيور أو غير ذلك من الشارات المسيحية أو الرومانية، وكانت جوقة الموسيقى قد مشت بين يدي الدوق صامتة، فلما تحرك الجند سمعت سالمة قرع الطبول والصنوج والأبواق ونحوها، فتحركت عواطفها وتصورت قرب نشوب الحرب بين العرب والإفرنج بعد وصول النجدة لهؤلاء فكيف تكون العاقبة لو قدرت الغلبة للإفرنج وعاد العرب مهزومين؟ وحينما تصورت ذلك اقشعر بدنها وصعد الدم إلى وجنتيها.
نامعلوم صفحہ