وهو يعتبر أن التربية أعظم شيء؛ إذ يتوقف عليها كل شيء، فالأفراد كالأمم هم كما صيرهم مشترعون ومعلموهم. وقد قاوم بشدة طرق التعليم المعول عليها في عصره.
وهذا الطعن العنيف الذي تضمنه كتابه في الهيئة السياسية والدينية جلب عليه اضطهادا شديدا، وأحرق كتابه بالنار جهارا بأمر الحكومة سنة 1795، وقد اضطر أن يهرب من فرنسا. على أن كتابه طبع خمسين مرة في مدة قصيرة، وترجم إلى سائر لغات أوروبا، وقد اعتبر خطأ أصدق بيان لحالة فرنسا من انتباه الأفكار في القرن الثامن عشر. ويظهر أن بوفون وفولطير وديدرو ودلامبرت اعتصبوا ضد هذا الكتاب.
وكان كسائر ماديي ذلك العصر حليما محسنا كريما ملجأ الفقير، وملاذ ذوي العقول والاستحقاق. وقد عين رواتب كبيرة لكثير من العلماء، وسعى بتنشيط الزراعة والصناعة، وكان له مكانة عالية عند فريدريك الكبير وتوفي سنة 1771.
ولا يسعنا تعداد الفوائد التي حصلت للإنسانية قاطبة بواسطة تعاليم رجال القرن الثامن عشر لفرنسا، فمهما أطنبنا فيها فإننا لا ندرك شأوها؛ فإنها كانت سببا قويا لنهوض الهمم، وانتعاش العقول، وتغير مجرى الآراء والأفكار تغيرا شديدا ليس له نظير في التاريخ. والثورة التي حصلت بسبب ذلك في الثيولوجيا - أي علم اللاهوت - حصلت أيضا في الفلسفة، فاستردت مقامها بعد أن أصبحت نسيا منسيا. ولا يعلم عصر سادت فيه الفلسفة نظير هذا العصر، والرجال الذين اشتهروا فيه كانوا كلهم يبثون المحبة، متقدين بنار الغيرة على الإنسانية وحرية الفكر وحرية المعتقد والتعليم، معتصبين عصبة مقدسة ضد التعصب والظلم وتقييد العقل. قال هنتر ما نصه:
11
فلو كان هؤلاء الرجال مفسدين متهتكين قائمين بنصرة الرذلية كما يقول بعضهم، لما كان تأتى لهم أن يتركوا آثارهم في معتقدات الأجيال الذين جاءوا بعدهم وفي أفكارهم وسلوكهم.
وإنا لا نخطئ إذا قلنا: إن خلاصة الرأي المادي في القرن الثامن عشر محصورة في تعاليم رجال فرنسا؛ لأن فرنسا كانت في هذا القرن في مقدمة الأمم في هذا الأمر، وأما إنكلترا وألمانيا فكانتا في المقام الثاني من ذلك. وهاك طرفا مما كانتا عليه.
إنه كما كان كبار رجال إنكلترا كباكون ونيوتون ولوك وغيرهم سببا لإيقاد شعلة الأفكار في رجال فرنسا، هكذا كان رجال فرنسا سببا في رد فعل هذه الشعلة على إنكلترا.
وأشهر رجال الإنكليز في هذا العصر «دافيد هوم»، ولد سنة 1714 وقرأ العلوم في باريز سنة 1734، ثم عاد إلى «أكوسا» ونشر كتابات في مواضيع مختلفة من سنة 1739 إلى سنة 1757. ثم في سنة 1763 رجع إلى باريز بصفة كاتب أسرار السفارة، وتوفي سنة 1776.
وفلسفة دافيد هوم كفلسفة لوك، ويختلف عنه بأنه لا يعتبر النفس روحا خالدة ولا يصدق الوحي، ولا يؤمن بما وراء الطبيعة، ويقول: إنه ما من دين خال من التناقض ومنزه عن الشك. وما عدا كونه فيلسوفا كان مؤرخا ومن رجال الحكومة أيضا.
نامعلوم صفحہ