إلى أن يقول أيضا: «كأن الطبيعة نفسها شعرت بما سيكون للإنسان من العجب بنفسه، فأرادت أن تجعل عقل الإنسان يتذكر عند انتصاره، كما كان يذكر العبيد في رومه الظافر بأنه ليس إلا ترابا.»
فلم يبق علينا إلا اعتراض واحد على مذهب الارتقاء أريد تفنيده، وهو وجود أصول ثابتة أو واقفة. وقد تقدم في المقالة الأولى أن مثل هذه الصور الأولية الدنيا ما زال يتولد في جميع الأدوار، حتى وإن لم يكن كذلك فوجودها لا يفيد شيئا ضد الارتقاء عموما، وإن أفاد خصوصا؛ لأنه إذا لم تتغير هذه الصور الحقيرة لشدة بساطة تكوينها ولاستواء أحوالها الخارجية البسيطة، فلا ينكر أن أحياء أخرى أعلى تكوينا، وأكثر اختلافا في أحوال حياتها ترتقي على الدوام. ولا عجب في ذلك، فإن في التاريخ أيضا شعوبا واقفين، لم يتغيروا عن خشونتهم التي كانوا فيها منذ آلاف من السنين، فيوجد في أقاصي القارات الكبيرة كما في جزائر المناطق الحارة شعوب متوحشون، قلما يفرقون عن الحيوان،
18
وآخرون لا يزالون كما كان في أوروبا الإنسان السابق العهد التاريخي؛ أي إنهم يصنعون أسلحتهم من الحجر، ويشتغلون الخشب والعظم لاحتياجات شتى، يعيشون ويموتون وهم واقفون عند حد واحد. وهذا يرينا أنه لا يوجد في طبيعة الإنسان، ولا في الطبيعة الكبرى ميل غريزي للارتقاء، بل هو نتيجة فعل بعض الأحوال الخارجية والداخلية.
على أن وقوف بعض الشعوب في الخشونة الأولى، لم يمنع تقدم البعض الآخر في التمدن طبقا لما يحصل في الطبيعة.
وكما أننا نجد صورا بالغة في التكوين في أقدم الطبقات الأرضية المعروفة هكذا نجد تمدنا بالغا أيضا في العصور القديمة للتاريخ، مثال ذلك بلاد مصر التي كانت مهد التمدن والعلم، فلا يخفى ما انتهت إليه أبحاث العلماء ونقبهم في أرض هذه البلاد القديمة، ولا سيما أبحاث ماريت الفرنسوي الحديثة؛ فإنه اكتشف نقوشا وكتابات وأصناما من عهد 4000 إلى 4500 سنة قبل المسيح، وقد وجد على جدران قبور هذه العصور رسوما وكتابات، تدل على أن مصر كانت في درجة عالية من التمدن.
19
فإذا أنكرنا الارتقاء لأجل ذلك، فإننا نسقط في نفس الخطأ الذي يتظاهر لنا في الجيولوجيا. وكل ما ينبغي أن نستنتجه من هذا التمدن، هو أنه آخر المراحل التي بلغها الإنسان في سيره الطويل، والتي لا يخبرنا التاريخ عنها بشيء. وهذا القول لا شيء من الغلو فيه؛ لأن الأبحاث في أصل الإنسان وقدمه قد صيرت الأربعة آلاف أو الخمسة آلاف سنة التي يفرضها له التاريخ، لا شيء بالنسبة إلى وجوده قبل العهد التاريخي؛ فإن وجود الإنسان على الأرض ليس من عهد الطوفان الذي يصعد إلى ما قبل دورنا في تكوين الأرض، بل من عهد أبعد جدا؛ أي من عهد الدور الثلاثي من عهد طبقاته الأخيرة أو الوسطى. وهذا كما يصح هنا يصح أيضا على الأشياء في الطبيعة.
وهكذا تنقض أيضا باقي الاعتراضات على الارتقاء في التاريخ، فالأمم أو الممالك التي بعد أن بلغت درجة عالية من التمدن، إما هلكت أو بقيت واقفة، أو تقهقرت، تشبه هذه المجاميع التي ذكرناها في تاريخ عالم الأحياء، والتي بعد أن بلغت مبلغا معلوما من الكمال وقفت، وقام مقامها فروع أخرى من جنسها أكثر فتوة وأعظم قوة. هكذا أيضا في التاريخ؛ فإن بلاد اليونان قامت على أثر مصر ورومه على أثر اليونان، والشعوب الجرمانية على أثر رومه متدرجات على سلم التقدم العظيم، ولم يصب التقدم إلا وقوف زمني فقط. وأوروبا بكل مجدها وعظمة تمدنها ستسقط يوما ما، ويقوم على أثرها فرع من البشر أكثر فتوة وأعظم قوة، فتسقط المدن العظيمة، وتنطفي الأسماء الشهيرة، وتفتقر البلاد الغنية، ويزول التمدن الرفيع:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
نامعلوم صفحہ