شرح زاد المستقنع - حمد الحمد
شرح زاد المستقنع - حمد الحمد
اصناف
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
[شرح زاد المستقنع]
لفضيلة الشيخ/ حمد بن عبد الله الحمد
كتاب الطهارة
كانت البداية في هذا الدرس المبارك يوم الأحد بعد صلاة المغرب الموافق ٨/١٠/١٤١٤هـ وكانت الدروس كل ليلة ما عدا ليلتيّ الجمعة والسبت*.
نسأل الله الإعانة على ما بدأنا به، كما نسأله التوفيق والسداد إنه ولي ذلك والقادر عليه ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهو حسبنا ونعم الوكيل. والحمد لله.
كتبه: أبو حافظ عبد العزيز الغسلان غفر الله له.
_________
* هذا في البداية لكن تغيّر هذا - كما ستلاحظه في تاريخ الدروس ووقتها - وهذا التغيير هو أنّ الدروس أصبحت كل ليلة سوى ليلتي الخميس والجمعة.
وهذا الدفتر الأول، ويشتمل على شيء من كتاب الطهارة من أول الكتاب إلى: (باب: المسح على الخفين) الدرس الأول (الأحد: ٨ / ١٠ / ١٤١٤ هـ) المقدمة: إن الحمدَ للهِ نحمَدُهُ وَنستَعينُهُ ونَتُوبُ إَلَيهِ، ونعوذُ باللهِ من شُرورِ أنفُسِنَا ومن سيئاتِ أعمالِنَا من يهدِهِ اللهُ، فلا مُضِلَّ لَه، وَمَن يُضلِلْ، فَلا هَادِيَ لَه. وأشهدُ أَن لا إِلهَ إِلاَّ الله وحدهُ لا شريكَ له وأشهدُ أنَّ مُحمَّدًا عبدهُ ورسولُه. «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إَلا وَأَنتُم مُّسْلِمُون» آل عمران آية (١٠٢) . «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَّاحِدَةٍ وَّخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مَنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَّنِسَاءًا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَام إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُم رقِيبَا» النساء آية (١) .
وهذا الدفتر الأول، ويشتمل على شيء من كتاب الطهارة من أول الكتاب إلى: (باب: المسح على الخفين) الدرس الأول (الأحد: ٨ / ١٠ / ١٤١٤ هـ) المقدمة: إن الحمدَ للهِ نحمَدُهُ وَنستَعينُهُ ونَتُوبُ إَلَيهِ، ونعوذُ باللهِ من شُرورِ أنفُسِنَا ومن سيئاتِ أعمالِنَا من يهدِهِ اللهُ، فلا مُضِلَّ لَه، وَمَن يُضلِلْ، فَلا هَادِيَ لَه. وأشهدُ أَن لا إِلهَ إِلاَّ الله وحدهُ لا شريكَ له وأشهدُ أنَّ مُحمَّدًا عبدهُ ورسولُه. «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إَلا وَأَنتُم مُّسْلِمُون» آل عمران آية (١٠٢) . «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَّاحِدَةٍ وَّخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مَنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَّنِسَاءًا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَام إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُم رقِيبَا» النساء آية (١) .
1 / 1
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَولًا سَدِيدًا، يُصْلِح لَكُم أَعْمَالَكُم وَيَغْفِر لَكُمْ ذُنُوبَكُم وَمَن يُّطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا» الأحزاب آية (٧٠، ٧١) .
أما بعد:
فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وخير الهدي، هدي محمدٍ ﷺ، وشرَّ الأمورِ مُحدَثاتُهَا، وَكُلَّ مُحدثةٍ بِدْعَة، وكُلَّ بدعةٍ ضلالة، وَكُلَّ ضَلالَةٍ في النَّار.
هذه المجالس نتدارس فيها الفقه وهو من أعظم العلوم ومن أفضلها، فإن هذا العلم يتعرف به المسلم على كيفية عبادته لربه سبحانه، ويعبد الله على بصيرة من أمره. إذ العمل لا يتقبل مع الإخلاص إلاّ بأن يكون على السنة صوابًا فوجب على المسلم أن يعبد الله على بصيرة من أمره بالتفقه في دين الله تعالى، وبه يعرف المسلم ما أحله الله وما حرمه من البيوع والأنكحة وغير ذلك، وبه يتعلم الحدود والجنايات، ونحو ذلك من الأحكام الشرعية التكليفية التي كلف الله بها عباده وقننها لهم ﷾.
فعلم الفقه من أهم العلوم الشرعية فليس يفضل عنه إلا علم التوحيد الذي هو متعلق بالله ﷾ في أسمائه وصفاته ﷿.
وإن من الطرق التي يتدارس بها الفقه أن يتعلم من خلال أحد الكتب الفقهية المذهبية فإن ذلك من الطرق الصحيحة السليمة في تعلم الفقه، وليس المقصود من ذلك أن يتلقى ما فيها من صواب وخطأ. بل أن يتدارس وأن يتحاكم إلى كتاب الله وسنة نبيه ﵊ فيما وقع بين أهل العلم من الخلاف. فإن ما يذكره صاحب المؤلَّف الذي نتدارسه أو غيره من المؤلفين بالفقه ليس كله صوابًا، وليس كله مجمعًا عليه. بل قد وقع كثير من الخلاف بين أهل العلم.
إلا أن هذه الطريقة في التدارس وهي التلقي عن بعض الكتب الفقهية المذهبية أن هذا في الحقيقة فيه فوائد كثيرة: من ذلك:
1 / 2
ـ أنه أسهل ترتيبًا من التلقي عن طريق الكتب التي جمع فيها مؤلفها الأحاديث النبوية المشتملة على المسائل الشرعية، فإن هذا بلا شك أسهل ترتيبًا وأوضح. بل إن أصحاب الكتب المؤلفة الحديثية، كصاحب بلوغ المرام، والمنتقى من أخبار المصطفى وغير ذلك من الكتب إنما استفادوا ذلك الترتيب من هذه الكتب الفقهية.
ـ الأمر الثاني: أنه أبعد عن تشتت ذهن الطالب، فإنه من المعلوم أن الكتب التي جمعت الأحاديث النبوية في الأحكام ليست جامعة للأحكام كلها، إذ الأحكام الشرعية مستفادة من الأحاديث النبوية ومن غيرها؛ فإنها تستفاد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والإجماعات، والقياسات الصحيحة وأقوال الصحابة.
وكتب الحديث الفقهية إنما تجمع الأحاديث التي قالها النبي ﷺ في مسائل الأحكام التكليفية فلا شك أنه - حينئذ - يكون أبعد للتشتيت فإن الطالب عندما يقرأ الكتاب الفقهي يجد فيه جميع المسائل العلمية التي استفادها العلماء من القرآن والسنة والإجماع والقياس وغيرها من الأحكام الشرعية.
فيكون أبعد لأَنْ يتشتت ذهنه بأن تجمع له المسائل من مصادر أخرى، بل يجد هذه المسائل موجودة في الكتاب الذي يتدارسه.
فإن التدارس من الكتب الفقهية ليس منكرًا - كما ينكره بعض طلبة العلم - هذا أمر ليس بصحيح، بل تدارس ذلك من الطرق السليمة التي مازال يبينها أهل العلم، فإن شيخ الإسلام ابن تيمية وكذلك ابن القيم وغيرهم من أهل العلم قد تلقوا الفقه من مثل هذه الطريقة.
لكنهم لم يكتفوا - كما اكتفى كثير من الناس المقلدين، اكتفوا بها فتلقوا العلم من هذه الكتب ثم اكتفوا بذلك ولم يحرروا ولم يبحثوا عن الحق، بل اكتفوا بما فيها، فهذا أمر ليس بصحيح، وليس مشروعًا وهذا هو التقليد المذموم.
1 / 3
لكن كون المسلم يتعلم منها ويتفقه ويتفهم ثم يبحث عن الحق بدليله؛ فإن هذا أمر سائغ جائز، مازال عليه أهل العلم، والذّم إنما يقع في الصورة المتقدمة بأن يتلقى منها تلقي العلم مجردًا عن دليله، فيأخذ المسائل مقلدًا هؤلاء من غير أن يبحث عن الحق بدليله، بل لو عرض له الحق بدليله أباه ورفضه.
أو هو قادر على أن يجد الحق بدليله لكنه يعرض عن ذلك، ويكتفي بما تقدم.
بخلاف العاجز عن البحث والنظر فإنه يجوز له التقليد، فإن العاجز الذي لا نظر له في المسائل العلمية يسوغ له أن يقلد أحدًا من أهل العلم من غير أن يحدد ذلك بصاحب مذهب ولا غيره، بل كل أهل العلم يقلدون كما قال تعالى:
﴿فاسْأَلُوا أهلَ الذّكرِ إنْ كنتُم لا تعلَمُون﴾ (١) .
* قوله: «بسم الله الرحمن الرحيم»:
ومؤلف الكتاب هو شرف الدين أبو النجا موسى بن أحمد المقدسي، المتوفى سنة ٩٦٠هـ، وهو حنبلي المذهب، وله مؤلفات نافعة في المذهب الحنبلي منها هذا الكتاب (زاد المستقنع)، ومنها كذلك كتاب: (الإقناع) .
وقام بشرحهما البهوتي، المتوفى سنة ١٠٤٦هـ شرح (زاد المستقنع) بكتاب أسماه: (الروضُ المُرْبِع)، وشرح الإقناع بكتاب أسماه: (كشاف القناع عن متن الإقناع) .
وهما كتابان نافعان.
والمؤلف مشهور من مشايخ المذهب الحنبلي، وقد شرع المؤلف بالبسملة اقتداءً بالكتاب العزيز.
_________
(١) سورة النحل (٤٣)
1 / 4
واقتداء بالنبي ﷺ في رسائله وكتبه فإنه كان يفتتحها بالبسملة، كما ثبت ذلك في الصحيحين من كتاب رسول الله ﵊ إلى هرقل عظيم الروم، فإنه كتب فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم: من مُحمَّد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم) (١)، فشرع النبي ﷺ بالبسملة فيه.
وقد قال تعالى عن ملكة سبأ: ﴿قالت يا أيها الملأُ إني أُلقي إلى كتاب كريم، إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم﴾ (٢) . فهي من سنن أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام.
وأما ما رواه الخطيب، والحافظ الرهاوي في أربعينه: أن النبي ﷺ قال: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع) (٣) فهذا الحديث فيه ابن الجندي، وهو متهم، فالحديث، ضعيف جدًا، لا يثبت عن النبي ﷺ.
(بسم الله) هنا الباء للاستعانة، و(اسم) مجرور بحرف الجر و(الله) مضاف إليه، مضاف إلى اسم، وهما متعلقان بمحذوف فعلي متأخر مناسب، تقديره هنا: (بسم الله أُؤَلِّف)، وعندما نتوضأ تقديره: (بسم الله أَتَوَضَّأ)، وعندما نقرأ تقديره: (بسم الله أقرأ)؛ فهو فعل متأخر عن الجار والمجرور يناسب المقام.
(بسم الله): أي أستعين بالله في قراءتي وأستعين به في وضوئي، وأتبرك بالبداءة باسمه ﷾ في تأليفي وفي وضوئي أو في قراءتي ونحو ذلك.
_________
(١) أخرجه البخاري: في كتاب بدء الوحي، رقم ٧، وأخرجه كذلك برقم ٥١، ٢٦٨١، ٢٨٠٤، ٢٩٤٠، ٢٩٧٨، ٣١٧٤، ٤٥٥٣، ٥٩٨٠، ٦٢٦٠، ٧١٩٦. وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير باب كتاب النبي ﷺ إلى هرقل (١٧٧٣) .
(٢) سورة النمل (٣٠) .
(٣) قال في الإرواء [١ / ٢٩] رقم (١): " ضعيف جدًا، وقد رواه السبكي في طبقات الشافعية الكبرى (١ / ٦) " وقال: " وهذا سند ضعيف جدًا آفته ابن عمران هذا، ويعرف بابن الجندي ".
1 / 5
و(الله): هو العَلَم الأعظم لله ﷿؛ فهو اسم الله ﷾ الذي هو عَلَم من أعلامِهِ.
وأصله من الإله: وهو المعبود، وهو يطلق على المعبود سواء كانت عبادته حقًا أو كانت باطلًا، كما قال تعالى: ﴿أنه لا إله إلا أنا﴾ (١)، وقوله ﴿واتخذوا من دونه آلهة﴾ (٢): فهي آلهة لكنها باطلة. لذا يقال: لا إله إلا الله أي لا معبود بحق إلا الله ﷾.
فإذًا (الله): مشتق من الإله: وهو المعبود، والله هو الاسم الأعظم لله، وهو علمٌ له.
(الرحمن): أيضا اسم من أسمائه وتعالى متضمن لصفته الرحمة التي هي صفة من صفاته تعالى.
و(الرحيم) كذلك اسم من أسمائه متضمن لصفة الرحمة أيضا إلا أن الرحمة في الرحمن صفة متعلقة بذاته سبحانه، أي ذو الرحمة الواسعة الشاملة.
وأما الرحيم فهي صفة متعلقة بفعله سبحانه: أي ذو الرحمة الواصلة أي إلى من يشاء من خلقه سبحانه.
والرحمن: نظرًا إلى صفتة الذاتية.
والرحيم: نظرًا إلى صفته ﷾ الفعلية.
* قوله: «الحمد لله حمدًا لا ينفد» .
هنا شرع المؤلف بالحمد لما ورد في سنن أبي داود وابن ماجه أن النبي ﵊ قال: (كل أمر ذي بال لا يبدأ بالحمد لله فهو أقطع) (٣) أي ذاهب البركة، فلا بركة فيه.
وهذا الحديث رواه الحفاظ عن الزهري مرسلًا.
_________
(١) سورة النحل (٢)، سورة الأنبياء (٢٥) .
(٢) سورة الفرقان (٣) .
(٣) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب الهدي في الكلام (٤٨٤٠) بلفظ: (كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم)، أخرجه ابن ماجه في كتاب النكاح باب خطبة النكاح (١٨٩٤) " حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن يحيى ومحمد بن خلف العسقلاني قالوا: حدثنا عبيد الله بن موسى عن الأوزاعي عن قرة عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد أقطع ".
1 / 6
ورواه قرة بن عبد الرحمن وهو ضعيف، رواه عنه موصولًا بذكر أبي هريرة، والصواب ترجيح رواية من أرسله، فهم الحفاظ ولذلك قال الدارقطني: " فالحديث الصواب أنه مرسل " وعليه فالحديث ضعيف.
وقد كان النبي ﷺ يفتتح كلامه بالحمد والثناء على الله.
وكذلك اقتداء بالكتاب العزيز، فإن فيه ﴿بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين﴾ . فالحمد يشرع للمسلم أن يفتتح كلامه به.
أما هذا الحديث الوارد فهو حديث ضعيف مرسل لا يثبت عن النبي ﷺ، وقد حسنه بعض العلماء كالنووي، وابن الصلاح وغيرهما.
والصواب أنه ضعيف مرسل من مراسيل الزهري وهي من ضعاف المراسيل.
والحمد: هو ذكر محاسن المحمود محبة له وإجلالًا.
" ذكر محاسن المحمود " أي فضائله، خيراته، ما عنده من الصفات الحميدة والأفعال الطيبة، هذا كله يسمى حمدًا.
" محبة وإجلالًا ": فليس مقابل النعمة فحسب، بخلاف الشكر، فإن الشكر أخص منه من هذه الحيثية، فإنه إنما يكون - أي الشكر - مقابل النعمة، أما الحمد فإنه سواء كان من هذا المحمود نعمة قد أسديت إليك أو لم يكن منه ذلك، فإنك تحمد فلانًا على شجاعته وقوله الحق وصلاحه ونحو ذلك، وإن كان هذا كله لا يصل إليك منه شيء.
وكذلك إن أسدى إليك معروفًا فكذلك يسمَّى حمدًا.
أما الشكر فهو أخص منه، فالشكر: لا يكون إلا مقابل النعمة، والله ﷿ يحمد على كل حال، ولا يحمد على كل حال سواه ﷾.
1 / 7
وقد ثبت في سنن ابن ماجه بإسناد صحيح أن النبي ﷺ: (كان إذا رأى ما يحب قال: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وإذا رأى ما يكره قال: الحمد لله على كل حال) (١) .
إذًا الحمد: هو ذكر محاسن المحمود سواء كان مقابل النعمة أو لم يكن مقابلها.
فالله يحمد على كل صفاته سواء التي يصل إلينا منها شيء من النعم، أو كانت الصفات اللازمة منه سبحانه كحياته سبحانه.
فالله يحمد على حياته، ويحمد على غيرها من صفاته سواء كانت الصفات اللازمة أو الصفات المتعدية.
إذن: الحمد هو ذكر محاسن المحمود تحية له وإجلالًا.
(حمدًا لا ينفد): أي نفس الحمد لا ينفد. أما قول الحامد فإنه سينفد بنفاده وموته، فإنه ينقطع حمده لكن هذه المحاسن وهذه الفضائل، هذه الصفات التي يتصف الله بها لا تنفد، فهي صفات لا تنفد، فالله ﷿ لا يزال متصفًا بصفات الكمال ولن يزال على ذلك.
كما أنه سبحانه لا يزال محمودًا من خلقه: ﴿وإن من شيء إلا يسبح بحمده﴾ (٢) أما من حيث الأفراد فإن من مات منهم أو شغل بأمر من الأمور فإن حمده يقف وينقطع.
لكن الله ﷿ لا يزال محمودًا من خلقه من حيث العموم.
كما أنه سبحانه لا يزال متصفًا بصفات الحمد.
(لا ينفد): أي لا ينقطع.
* قوله: «أفضل ما ينبغي أن يحمد» .
فهو أهل الثناء والمجد - سبحانه - ولا يحصى الثناء عليه، فيثنى عليه سبحانه بما ينبغي له سبحانه.
_________
(١) أخرجه ابن ماجه في كتاب الأدب، باب فضل الحامدين (٣٨٠٣) قال: " حدثنا هشام بن خالد الأزرق أبو مروان حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا زهير بن محمد عن منصور بن عبد الرحمن عن أمه صفية بنت شيبة عن عائشة قالت: كان رسول الله ﷺ إذا رأى ما يحب قال: (الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وإذا رأى ما يكره قال: (الحمد لله على كل حال) .
(٢) سورة الإسراء ٤٤.
1 / 8
* قوله: «وصلى الله وسلم على أفضل المصطفين محمد» .
(صلى الله): أي أثنى.
فالصلاة من الله ﷿ هي الثناء؛ كما قال ذلك أبو العالية.
وقيل: هي الرحمة، وهو ضعيف.
والصواب أن الصلاة من الله هي الثناء؛ لأن الله ﷿ قد عطف أحدهُما على الآخر.
﴿عليهم صلوات من ربهم ورحمة﴾ (١) فدل على أنهما متغايران إذ الأصل في التعاطف هو التغاير؛ كما أن الرحمة عامة، وأما الصلاة فهي خاصة فناسب ألا تفسر الصلاة بها.
إذن الصلاة من الله ﷿ هي الثناء فعندما تقول: " اللهم صل على محمد " أي بمعنى: اللهم اثن على محمد واثن عليه عند ملئك المقربين.
وعندما يدعو الإنسان بالصلاة؛ فالمراد من ذلك أنه يدعو له بأن يثني الله ﷿ عليه.
إذن الصلاة من الله هي: الثناء.
(وسلم): السلام من السلامة؛ وهي البراءة من النقائص والعيوب والآفات: أي يدعو الله بأن يسلمه من كل نقص وعيب لا يليق به - أي الآدمي، ومن كل آفة. فإذن النبي ﷺ مجمع له بين الصلاة والسلام.
الصلاة: بأن يثني الله عليه وهذا جلب خير.
والسلام: أن يدعي الله بأن يسلم عليه: أي يلقي عليه السلامة من الآفات والعيوب فهذا دفع ضر، فيجتمع له بين جلب الخير ودفع الضر.
* (على أفضل المصطفين): المصطفين: جمع مصطفى وهو المختار من الصفوة: وهي خلاصة الشيء. فالمصطفون هم المختارون من الله سبحانه، الذين اختارهم الله على خلقه؛ لأنهم خلاصة خلقه.
_________
(١) البقرة ١٥٧.
1 / 9
وهم الأنبياء والرسل، وهو ﵊ أفضل هؤلاء، فهو أفضل رسل الله عليهم صلاة الله وسلامه جميعًا. ويدخل في ذلك أولو العزم، كإبراهيم ﵇ وموسى وعيسى ﵈، وغيرهم من أنبياء الله فكلهم مفضولون بالنسبة إلى النبي ﷺ فهو سيدهم وأفضلهم، فهو سيد البشر ولا فخر؛ كما صح ذلك عنه في الحديث المتفق عليه (١) .
* قوله: «وعلى آله وصحبه ومن تبعهم» .
(آله): من آل يؤول إذا رجع.
وقيل بمعنى أهل وهو ضعيف، ضعّفه ابن القيم في كتابه في الصلاة [على] النبي ﷺ من عدة أوجه، ليس هذا موضع ذكرها.
فـ: (آله): أصلها من آل يؤول، إذا رجع. فآل الرجل: هم الراجعون إليه المضافون إليه المنتسبون إليه. هم آل الرجل.
وآل النبي ﷺ لهم إطلاقان:
١ـ إطلاق خاص، ٢ـ إطلاق عام.
* أما الإطلاق الخاص: فهم قرابته وزوجاته.
فزوجاته وذريته وسائر قرابته هم آله، وقد قال ﷺ كما في الصحيحين: (أما علمت أن آل محمد لا تحل لهم الصدقة) (٢): فالمراد من (آل محمد): هم أقاربه من بني هاشم، وذريته ﵊ من فاطمة ﵂ وزوجاته على قول قاله بعض أهل العلم تقدم البحث فيه.
_________
(١) قال رسول الله ﷺ: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ...) أخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي ﷺ (٢٢٧٨)، وفي لفظ: (أنا سيد الناس يوم القيامة) برقم (١٩٤) . وأخرجه البخاري (٤٧١٢)، (٣٣٤٠) .
(٢) أخرجه البخاري بلفظ (أما علمت أن آل محمد لا يأكلون الصدقة) في كتاب الزكاة، باب أخذ صدقة التمر عند صرام النخل، وأخرجه أيضًا في مواضع أخرى دون ذكر (الآل)، وأخرجه مسلم كذلك (١٠٦٩) .
1 / 10
وقوله ﵊ أيضًا: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتًا) (١): فهنا زوجاته وأهل بيته خاصة فهم آله هنا. وهذا أخص من الإطلاق السابق أيضا.
* أما الإطلاق العام: فهم أتباعه عامة من قرابته المؤمنين، ومن ذريته ومن زوجاته ومن سائر أتباعه من الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وقد قال تعالى: ﴿أدْخلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدّ العَذَاب﴾ (٢)، فهنا لا شك أن آل فرعون ليس أهله خاصة، وإنما أهله ومن اتبعه على باطِلِهِ فَهُم آلُ فِرعَوْن.
كما أنه يدخل فيه - وهذا أخص إطلاقات آل، يدخل فيه - الشخص نفسه.
فالشخص نفسه عندما يقال آل فلان، يدخل فيه الشخص نفسه، ما لم تكن هناك قرينة تمنع من دخوله، ومنه قول النبي ﷺ: (اللهم صل على آل أبي أوفى)، فإن هذا المتصدق المزكي، وهو أبو أوفى أحق الناس بالدخول في هذه الجملة (اللهم صل على آل أبي أوفى) (٣): أي عليه وعلى آله - كما أن قوله تعالى ﴿أدخلوا آل فرعون أشدّ العَذاب﴾ (٤)، يدخل فيهم فرعون ولا شك.
_________
(١) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، نهاية باب كيف كان عيش النبي ﷺ وأصحابه وتخليهم من الدنيا (٦٢٦٠) بلفظ (اللهم ارزق آل محمد قوتًا) . وأخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب في الكفاف والقناعة (١٠٥٥) وفي كتاب الزهد والرقاق باب ما بين بعد (٢٩٦٩) . وابن ماجه في كتاب الزهد، باب معيشة آل محمد ﷺ (٤١٣٩)
(٢) سورة غافر (٤٦) .
(٣) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة (١٤٩٧)، وأخرجه كذلك برقم (٤١٦٦)، (٦٣٣٢)، ٦٣٥٩)، وأخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب الدعاء لمن أتى بصدقة (١٠٧٧)، وأخرجه ابن ماجه في كتاب الزكاة، باب ما يقال عند إخراج الزكاة (١٧٩٦) .
(٤) سورة غافر (٤٦) .
1 / 11
إذن تبين من هذا أن (آل) يدخل فيها الشخص نفسه وتدخل فيها زوجاته وذريته، ويدخل فيها سائر قرابته، ويدخل فيها على وجه العموم أتباعه والسياق يحكم، فالسياق هو [الـ]ـحاكم.
فمثلًا: قوله ﷺ: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتًا) (١)، هنا: النبي ﷺ، إنما يدعو بهذا الدعاء لأهله خاصة بأن لا يكون عندهم غنى زائد، وإنما يكون عندهم ما يتقوتون به كفاية، ومثل هذا الدعاء اللائق أن يكون للشخص نفسه وأهله خاصة دون أن يتعدى هذا إلى سائر قرابته ممن قد لا يكون متحملًا لمثل هذه المعيشة بأن يكون قوتًا، وممن قد يكون محبًا للغنى، ونحو ذلك.
لذا كان أزواج النبي ﷺ عليهن رضوان الله، كُنَّ قد أجيبت لهنّ هذه الدعوة، فكُنَّ حتى بعد وفاة النبي ﷺ معيشتهنّ قوتًا وما فَضَلَ فإنهنّ يتصدقن به.
وأما آله من قرابته من بني هاشم فإنه كان فيهم الأغنياء وكان فيهم الفقراء.
إذن لفظة (آل): من آل يؤول، إذا رجع، ومعناها الحاكم فيه السياق، فإنه قد يراد بها العموم وقد يراد بها القرابة والذرية والزوجات، وقد يدخل فيها الشخص نفسه، وحكم ذلك كما تقدم إلى السياق.
(مُحمد): هو اسمه الذي هو أعظم أسمائه ﵊ وهو اسم مفعول على وزن: مُفَعَّل، نحو مُعَظَّم، ومُقَدّس، ومُبجَّل، ونحو ذلك.
وهذا الوزن يراد منه تكرار حدوث الفعل الذي اشتق منه هذا الاسم، فيكون المعنى: من لا يزال يحمد، فهو لا يزال يُحمَد حَمْدًا بعد حمد من الله ﷿ وملائكته: أي لا يزال يثنى عليه ويذكر بمحاسن أفعاله وفضائله ﵊ من الله والملائكة ومن المؤمنين.
بل يحمد من الناس عامة؛ كما يكون هذا يوم يكون له المقام المحمود.
_________
(١) سبق قريبًا.
1 / 12
حتى مَن كَذَّبَ بِهِ، وأنكر نُبُوَّته؛ فإنه يحمد على ما فيه ﵇ من الصفات الحميدة، فهو محمود، قد تكرر فيه الحمد فلا يزال يحمد.
وهذا الاسم " محمد ": هذا اسمه في التوراة.
ومن أسمائه (أحمد): وهو اسمه في الإنجيل، كما قال تعالى: ﴿ومبشرًا برسُولٍ يأتي من بعدي اسمُهُ أحمد﴾ (١) .
واسم " أحمد": فيه مزيد معنى على المعنى المتقدم؛ وهو أنه أحمد لله ﷿ من غيره: أي أكثر حمدًا لله ﷾.
ومنه (٢) معنى آخر؛ أنه أفضل حمدًا من غيره يعني: كما أن له الكمية في كونه محمدًا: أي حمده كثير لا يزال متكررًا من الله: أي ليس لله إنما من الله فهو كذلك أحمد أي أحمد من غيره عند الله وعند ملائكته.
فهو محمود حمدًا أفضل وأكثر، أكثر كمية، وأفضل كيفية من غيره، فهو محمد أي لا يزال يحمد وحمده ﵊ فاضل عن حمد غيره، فحمده أي ثناء الله عليه، وثناء غيره عليه، أعظم وأبجل من ثنائهم على غيره صلوات الله وسلامه عليه.
كما أنه أحمد لله سبحانه من غيره، محمد ﵊، أفضل كيفية وأكثر كمية من حمد غيره؛ فهو أكثر الناس حمدًا وأعظم الحامدين لله ﷿.
(وآله): وآله هنا: هم قرابته وزوجاته وذريته، للعطف، فإنه عطف الصحابة عليهم.
فيكون حينئذ: نقول بالمعنى الخاص لدخول أتباعه بالمعنى العام.
(وأصحابه): جمع صحب، وصحب جمع صاحب وهو من لقي النبي ﷺ مؤمنا به، ومات على ذلك، فعلى ذلك لو أن رجلًا لقي النبي ﷺ مؤمنًا ونظر إليه، لكنه ارتد ثم رجع إلى الإسلام فهو صحابي؛ لأن هذا الوصف ثابت فيه، فقد لقي النبي ﷺ وهو مؤمن به، وإن طرأ على ذلك ردة.
_________
(١) سورة الصف (٦) .
(٢) لعل الأقرب: وفيه.
1 / 13
وعليه أيضا، من لقي النبي ﷺ وجالسه لكنه لم يكن مؤمنًا به ثم آمن بعد ذلك لكنه لم يسعد برؤيته؛ فإنه لا يكون صحابيًا وإنما يكون تابعيًا.
فإذن الصحابي هو من رأى النبي ﷺ وكان في تلك الحال مؤمنًا بالله ﷿.
ومثل ذلك من منعت رؤيته مانع كأن يكون أعمى لا يبصر فهو صحابي لأن الذي منع من الرؤية إنما هو كونه أعمى وليس المقصود هو مجرد الرؤية فحسب بل اللُّقيا ثابتة له فيكون صحابيًا أيضًا.
(ومن تعبد): أي تعبد لله وتذلل له وأطاعه، والعبادة - كما قال شيخ الإسلام: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة.
* قوله: «أما بعد» .
(أمّا): أي مهما يكن من شيء، فأما هنا تنوب عن أداة الشرط وعن فعله، و(أما) بمعنى (مهما يكن من شيء) .
(بعدُ): هنا ظرف زمان، مبني على الضمة في محل نصب، لكون المضاف إليه محذوف، والأصل "بعد ذلك"، والمعنى: (مهما يكن من شيء بعد ذلك) .
* قوله: «فهذا مختصر في الفقه» .
المختصر: اسم مفعول من الاختصار.
والاختصار في الكلام: هو أن تقل الألفاظ وتكثر المعاني.
وهذا ممدوح - حقيقة ـ؛ لأنه أسهل للحفظ وأجمع للأحكام ولكن بشرط ألاّ يكون ذلك فيه غموض بحيث يحتاج إلى مشقة وتعب لتفهمه وتفهيمه، يعني تعلمه وتعليمه يحتاج إلى مشقة؛ لأن ألفاظه غامضة فهذا مذموم.
(الفقه): الفقه لغة: الفهم ومنه قوله تعالى: ﴿واحْلُل عقدة من لساني يفقَهُوا قولي﴾ (١): أي يفهموه.
اصطلاحًا: معرفة الأحكام الشرعية التكليفية العملية من أدلتها التفصيلية.
_________
(١) سورة طه (٢٨) .
1 / 14
(معرفة): سواء كان هذا علمًا يقينيًا جازمًا أو كان ظنًا غالبًا يغلب على الظن، لأن العلم لا يدرك باليقين كله، بل منه ما يكون ظنًا غالبًا ليس من الظن المذموم الظن المرجوح أو الظن السيئ، وإنما المراد به أن يغلب على ظنه، فيكون احتمال الصواب أكثر من احتمال الخطأ، فإنه ليست المسائل الشرعية كلها - بل ولا أكثرها - يدرك باليقين، بل الكثير أو الأكثر إنما يدرك بالظن الغالب، لذا يقال: " الراجح " أي من القولين المحتملين للصواب أي هذا هو القول الراجح الذي احتمال الصواب فيه أكثر من احتمال الخطأ.
(الأحكام الشرعية): ليست أحكامًا عقلية ولا عادية، وإنما هي أحكام شرعية أي منسوبة إلى الشرع.
(التكليفية): التي يكلف بها العباد.
(العملية): تخرج بذلك الاعتقادية، فهي ليست داخله فيها، فليس البحث هنا في باب التوحيد ولا الأسماء والصفات ولا اليوم الآخر.
هذا محل بحثه كتب العقائد وكتب التوحيد، إنما هنا في الأحكام العملية من صلاة وصوم وطلاق وبيوع ونحو ذلك.
(بأدلتها التفصيلية): لابد أن يكون ذلك مع الدليل وإلا لم يكن فقها، فإن الرجل إذا عرف مسألة من المسائلِ الشرعيةِ لكنه لا يعرف دليلها فليس بفقيهٍ فيها.
وكذلك لو كان عالمًا بكتاب من كتب الفقهاء مطلعًا عليهِ عارفًا بمعانيه، لكن ليس عنده أدلة شرعية تدل على هذه المسائل فهو ليس بفقيه.
فالفقيه من جمع بين فهم المسألة ومعرفة دليلها، لابد من فهم المسألة مع معرفة دليلها.
فليس بعالم من فهم المسائل وأحاط بمعانيها لكنه جاهل بأدلتها الشرعية بإجماع العلماء، لذا أجمع العلماء - كما حكى ذلك ابن عبد البر - على أن المقلد ليس بعالم.
1 / 15
و(التفصيلية): ضد الإجمالية، فالإجمالية: هي الأصول العامة كالقياس والإجماع والسنة والكتاب هذه تسمى أدلة إجمالية لكنَّ الأدلة التفصيلية هي: ما تضمنه باب القياس من القياس في مسألة معينة، والأحاديث النبوية بأفرادها، يسمى أدلة تفصيلية، لكن السنة من حيث العموم تسمى أدلة إجمالية وقد تقدم البحث في هذا في شرح الأصول.
* قوله: «من مقنع الإمام الموفق أبي محمد» .
المقنع: هو كتاب ألَّفَهُ الشيخ: موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد المقدسي ثم الدمشقي الحنبلي - رحمه الله تعالى - المتوفى سنة ٦٢٠هـ.
وهو شيخ المذهب وإمام الحنابلة - رحمهم الله تعالى - مع علمه بالسنة والعقيدة فهو من أهل العلم المشهورين.
وله هذا المُؤلف وهو المقنع، هذا المؤلف: جمع فيه المسائل الفقهية في المذهب الحنبلي لكنه لم يكتف بقول واحد في المسألة بل يذكر في المسألة روايتين أو وجهين أو احتمالين.
ـ والفرق بين الرواية والوجه والاحتمال:
(وهذه كلها داخله في المذهب يعني: المذهب الحنبلي فيه مسائل خلافية، وكذلك المذهب الشافعي في (١) مسائل خلافية في المذهب نفسه) .
فالرواية هي: ما قاله الإمام نفسه.
فإذا قيل: " وفي هذه المسألة عن الإمام أحمد روايتان " أي قولان منسوبان إليه نفسه.
بمعنى: أفتى بقول ثم أفتى بقول آخر لكنهم لا يعرفونه التاريخ حتى يرجحوا أو أنهم عرفوا التاريخ فرجحوا وبقيت تلك الرواية.
ومعلوم أن الإمام مهما علا قدره وكثر علمه فإنه يتغير قوله فيبدو له من الترجيحات ما لم يبدُ له سابقًا فيقول قولًا وبعد فترة من الزمن يقول قولًا آخرًا؛ لأنه تبين له أن ذاك الدليل الذي استدل به مثلًا ضعيف أو لا وجه أو نحو ذلك أو أنه منسوخ أو غير ذلك فينتقل إلى قول آخر أو يبلغه دليل لم يكن قد بلغه، فحينئذ ينتقل إلى قول آخر.
_________
(١) لعل الصواب: فيه.
1 / 16
أما ما أضيف إلى أصحابه - أي أصحاب الإمام أحمد - أي العلماء الذين تقعدوا بقواعده وتأصلوا بأصوله فخرّجوا على مذهبه وفرعوا المسائل؛ لأن ما نقل عن الإمام أحمد لا يحيط بالمسائل الفقهية كلها. لكن العلماء الذي اقتدوا به أو أخذوا هذه الأصول والقواعد فجعلوها أصولًا وفرعوا منها مسائل، فجمع لنا هذا الفقه.
فليست كل مسألة من المسائل في الفقه الحنبلي أو المالكي أو الشافعي أو الحنبلي مضافة إلى الإمام نفسه الذي ينتسب إليه، ليس كذلك.
وإنما هي مضافة إما إليه نفسه وإما إلى أصحابه الذين تقعدوا بقواعده، وهذا تخريج على نفس القواعد، فليست خارجة عن قواعد الإمام لكنهم اختلفوا فبعضهم رأى هذا القول وبعضهم رأى القول الآخر فيقال في المسألة وجهان.
ـ أما الاحتمال: فهو ما يصح أن يكون وجهًا في المذهب.
إذن ليس بوجه لكن يأتي عالم بعد ذلك فيقول: " هذا احتمال" ينفي أن يكون وجهًا فينفى أن تخرج على قواعد الإمام ﵀.
وحينئذٍ تبين لنا: أن العارف بقواعد أحمد وأصوله يمكنه أن يختار القول الراجح من هذين القولين.
لذا المذهب فيه راجح ومرجوح، فمثلًا: ألّف صاحب الإنصاف كتابه في الراجح من مسائل الخلاف أي في مذهب أحمد.
وكذلك صاحب الفروع يرجح، وكذلك الموفق وغيره.
وعندما يقال (ظاهر المذهب): أي الراجح منه.
(والمشهور في المذهب): أي الراجح في المذهب.
فالمتفقه في مذهب الحنابلة يمكنه أن يرجح الحق من مسائل الخلاف فيه.
كما أن العارف بالأدلة الشرعية والمتمرس فيها يمكنه أن يرجح فيما يختلف فيه أهل العلم عامة من الحنابلة وغيرهم.
إذن المقنع: ليس فيه قول واحد عن الإمام أحمد أو أصحابه، وإنما يذكر احتمالات.
فأتى هذا المؤلف واختار من الروايتين رواية واختار من كل وجهين وجها هو الظاهر والمذهب والمشهور فيه عنده، وإلا فقد يقع خطأ منه فيختار ما ليس بمشهور في المذهب ويكون المشهور في المذهب بخلاف ما اختاره.
1 / 17
ـ والمقنع: لم يذكر فيه الأدلة أو التعليلات للاختصار، والموفق له أربع مؤلفات في الفقه جعلها مرتبة.
١ـ كتاب العمدة وهذا المؤلف لا يذكر فيه الخلافات في المذهب وإنما يكتفي بقول واحد وربما ذكر الدليل أحيانًا ليتمرس الطالب على معرفة الأدلة الشرعية.
٢ـ ثم يترقى معه إلى كتاب المقنع وقد تقدمت صفته.
٣ـ ثم يترقى إلى كتاب الكافي: وهو على طريقة المقنع، لكن فيه زيادة أدلة وتعليلات فيضيف الأدلة والتعليلات التي تركها في كتاب المقنع.
٤ـ ثم يأتي بعد ذلك كتاب (المغني) في الفقه المقارن يذكر أقوال الحنابلة ويذكر أقوال الشافعية وغير ذلك من أقوال أهل العلم فهو في الفقه المقارن، ويذكر أدلة هؤلاء وهؤلاء ويستدل للحنابلة فهو كتاب واسع.
قال بعضهم جامعًا كتبه:
كفى الخلق بالكافي وأقنع طالبًا ... بمقنع فقه عن كتاب مطول
وأغني بمغني الفقه من كان باحثًا ... وعمدته من يعتمدها يحصل.
ولا شك أن كتبه واختياراته ومؤلفاته ﵀ من أنفع المؤلفات في الفقه الحنبلي وأكثرها بركة ونفعًا فرحمه الله تعالى.
* قوله: «وربما حذفت فيه مسائل نادرة الوقوع وزدت على ما مثله يعتمد، إذ الهمم قد قصرت ٠٠٠»:
ففيه مسائل قد حذفها من المقنع لا لشيء إلا لندرة وقوعها، فهي مسائل يقل وقوعها فلم يحتج إلى ذكرها؛ لأن الحاجة إليها ضعيفة.
(وزدت على ما مثله يعتمد): فهو قد زاد على المقنع زيادات رأى أنها مهمة فزادها.
قال: (إذ الهمم قد قصرت والأسباب المثبطة عن نيل المراد قد كثرت): هذا تعليل للاختصار ولحذف المسائل النادرة الوقوع.
(والأسباب المثبطة عن نيل المراد): ومن أعظمها المعاصي.
* قوله: «ومع صغر حجمه حوى - جمع - ما يغني عن التطويل»:
فهو كتاب مع صغر حجمه كما قال، قد حوى مسائل كثيرة تغني عن التطويل الموجود في غيره من الكتب.
* قوله: «ولا حول ولا قوة إلا بالله»:
1 / 18
لا حول: أي لا تحول لنا من حال إلى حال لا يمكننا أن نتحول من شدة إلى خفة من فقر إلى غنى من جهل إلى علم من شرك إلى توحيد من معصية إلى طاعة لا حول لنا إلا بالله ﷾.
أي لا تحول لأحد من حال إلى حال من حال سيئة إلى حسنة إلا بالله ﷾.
(ولا قوة): كذلك لا قوة يستعان بها إلا قوة الله ﷿.
* قوله: «وهو حسبنا»:
حسبنا: أي كافينا، فالحسب هو الكافي ﴿يا أيها النبي حَسْبُكَ الله﴾ (١) أي كافيك الله.
* قوله: «ونعم الوكيل»:
أي نعم الوكيل الله ﷾.
أي نعم المتوكل عليه الذي تفوض الأمور إليه فيدفع الضر ويجلب النفع الله سبحانه، فهو المتوكل عليه ﷾.
والحمد لله رب العالمين.
الدرس الثاني
(يوم الاثنين ٩/١٠/١٤١٤هـ)
* قوله: «كتاب الطهارة»
الكتاب: مصدر كتب يكتب كتبا وكتابًا وكتابة، وهو بمعنى مكتوب.
والكتب في اللغة: الجمع، يقال: (تكتب بنو فلان) إذا اجتمعوا.
ومنه سميت الكتيبة " وهي جماعة الخيل " سميت كتيبة لاجتماعها.
فيكون المعنى هنا: الجامع لأحكام الطهارة.
فهذا المكتوب هنا قد جمع فيه المؤلف ما يحتاج إليه في مسائل الطهارة.
ـ أما الطهارة في اللغة: فهي النظافة والنزاهة عن الأقذار سواء كانت هذه الأقذار حسية أو معنوية.
فإذا أزال القذر الثابت على بدنه أو على ثوبه أو على بقعته فإن هذا طهارة.
وإذا أزال القذر المعنوي كالشرك بالله والمعاصي فهذه طهارة أيضًا.
ومنه سمي المشركون نجس؛ لكونهم قد وقع فيهم القذر المعنوي، وإن كانوا طاهرين طهارة حسية وأن الكافر إذا صوفح أو جلس على بقعة فلا تتنجس اليد ولا البقعة؛ لأن نجاسته نجاسة معنوية.
فالنجاسة الحسية والمعنوية: التنزه عنهما يسمى طهارة، هذا هو تعريف الطهارة لغة.
والذي يهمنا تعريفها اصطلاحًا، وقد عرفها المؤلف بقوله:
_________
(١) سورة الأنفال ٦٤.
1 / 19
* قوله: «وهي ارتفاع الحدث وما في معناه وزوال الخبث»:
(ارتفاع الحدث)
الحدث هو: وصف " أي معنى من المعاني فهو ليس حسيًا " يقوم بالبدن يمنع من الصلاة ونحوها مما يشترط فيه الطهارة كمس المصحف والطواف عند جمهور أهل العلم ونحوه مما تشترط فيه الطهارة.
فهو إذن - أي الحدث - ليس شيئًا محسوسًا يرى بالأبصار أو يمس بالأيدي وإنما هو شيء معنوي.
إذن الطهارة: هي ارتفاع الحدث: فلا يبقى قائمًا في الجسد بل يزول عنه ويرتفع.
فإذا توضأ المسلم الوضوء الشرعي وكان قد أحدث قبل ذلك، فإن هذا الوضوء يرفع الحدث الذي قام به، فهو طهارة.
والغسل كذلك، فالجنب مثلًا قد قام به وصف - فليس شيئًا محسوسًا قام به - يمنعه من الصلاة، وإنما هو شيء معنوي، فإذا اغتسل ذهب منه هذا الشيء المعنوي فبقي ليس بمحدث بل طاهر.
(وما في معناه):
كذلك ما في معنى ارتفاع الحدث يسمى طهارة كما أن ارتفاع الحدث بالغسل أو الوضوء يسمى طهارة فكذلك ما يكون في معنى ارتفاع الحدث يسمى طهارة.
وفي هذه الصورة إما أن يكون الحدث موجودًا أو لا يكون موجودا، وهو إن كان موجودًا فإن هذا الفعل الذي يسمى طهارة لم يزله بل هو باق، لذا قلنا (ما في معناه)؛ لأنه لو كان ارتفاعًا لما قلنا (في معنى ارتفاع الحدث) .
إذًا: يدخل في لفظة (وما في معناه) صورتان:
١ـ الصورة الأولى: أن يكون الحدث ليس بمرتفع بل هو باق، ومع ذلك يسمى طهارة.
٢ـ ألا يكون محدثًا لكنه فَعَلَ فِعْل الطهارة.
أما الصورة الأولى: فمثالها من لديه سلس بول والمرأة المستحاضة ونحو ذلك، فإنهم عندما يتوضؤون الوضوء الشرعي حدثهم باقٍ غير ذاهب؛ لأن الحدث عندهم متجدد ولكنهم قد تطهروا طهارة شرعية صحيحة، فهي على صورة الوضوء الشرعي الصحيح، ولكن مع ذلك الحدث باقٍ، فهذه تسمى طهارة شرعية لكنها ليست ارتفاعًا للحدث.
فالحدث باق وإنما هي في معنى ارتفاع الحدث.
1 / 20