مقدورا أصلا ، فإن دخل جنسه تحت مقدورنا ، فالقديم تعالى بأن يكون قادرا عليه أولى ، لأن قدرته على الأجناس إن لم تزد على قدرتنا لا تنقص عنها. وبعد فإن الذي يحصر القدرات في الجنس والعدد إنما هو القدرة ، والقديم تعالى قادر لذاته ، فإذا كان العلم بالله تعالى من المقدورات وجب أن يكون قادرا عليه ، وإذا ثبتت قدرته عليه صح أن يوجده فينا وإذا أوجده فينا كان ضروريا.
وإن كان خلافه في الوجوب فالكلام عليه هو أن نقول : إن أهل الآخرة لا يخلو حالهم من أمرين : إما أن يكونوا من أهل الجنة ، أو من أهل النار. فإن كانوا من أهل الجنة فلا يخلو ، إما أن يعرفوا الله تعالى ، أو لا يعرفوه. فإن لم يعرفوه لم يعرفوا استحقاق الثواب من جهته ، وجوزوا انقطاع ما هم فيه من النعيم ، وذلك يؤدي إلى التنغيص المنفي عنهم ، وإن عرفوا الله تعالى فلا يخلو ، إما أن يكونوا عرفوه اضطرارا أو استدلالا ، لا يجوز أن يعرفوه استدلالا ، لأن النظر والاستدلال يتضمن المشقة ويؤدي إلى التنغيص والتكدير وهما منفيان عنهم ، فلم يبق إلا أن يعرفوه ضرورة على ما نقوله.
ومتى قالوا : إنهم يعرفونه بتذكر النظر والاستدلال فلا يتضمن المشقة ولا يؤدي إلى التنغيص ، قلنا : لا بد من أن تكون هذه المعرفة واقعة منهم باختيارهم ، ولو كان كذلك لوجب أن يختار أحدهم من العلوم ما يبلغ ثوابه ثواب بعض الأنبياء ، والمعلوم خلافه.
** هل يكون أهل الجنة ملجئين إلى هذه المعرفة
فإن قيل : هلا جاز أن يكونوا ملجئين إلى هذه المعارف ، فلا يستحقون بذلك مدحا ولا ثوابا؟ قلنا : إن هذا سؤال لا يصح من الخصم ، لأن مذهبهم أنهم مكلفون في دار الآخرة ، والإلجاء مناف للتكليف. وهذه القسمة بعينها تعود في أهل النار ، لأنك تقول : إن حالهم لا يخلو من أحد أمرين : إما أن يعرفوا الله تعالى أو لا فإن لم يعرفوه جوزوا انقطاع ما هم فيه من العقاب وذلك يؤدي إلى الروح والراحة المنفيين عنهم ، فإن عرفوه فلا يخلو ؛ إما أن يعرفوه اضطرارا ، أو استدلالا ، لا جائز أن يعرفوه استدلالا ، لأنا إذا جعلنا العلم بالله موقوفا على اختيارهم للنظر والاستدلال جاز أن لا ينظروا أو لا يتفكروا ، فلا يحصل لهم العلم بالله تعالى فجوزوا انقطاع عقابهم ، وذلك يؤدي إلى الروح والراحة ، وذلك لا يجوز عليهم.
صفحہ 29