[مقدمة المؤلف]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رَبِّ يَسِّرْ وَلَا تُعَسِّرْ
حَدَّثَنَا الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْقَادِرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرُّهَاوِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْحَافِظُ أَبُو طَاهِرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ السِّلَفِيُّ الْأَصْبَهَانِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا شَيْخُنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ زَكَرِيَّا الطُّرَيْثِيثِيُّ بِبَغْدَادَ حَدَّثَكُمُ الشَّيْخُ أَبُو الْقَاسِمِ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مَنْصُورٍ الطَّبَرِيُّ الْحَافِظُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَظْهَرَ الْحَقَّ وَأَوْضَحَهُ، وَكَشَفَ عَنْ سَبِيلِهِ وَبَيَّنَهُ، وَهَدَى مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ إِلَى طَرِيقِهِ، وَشَرَحَ بِهِ صَدْرَهُ، وَأَنْجَاهُ مِنَ الضَّلَالَةِ حِينَ أَشْفَا عَلَيْهَا، فَحَفِظَهُ وَعَصَمَهُ مِنَ الْفِتْنَةِ فِي دِينِهِ، فَأَنْقَذَهُ مِنْ مَهَاوِي الْهَلَكَةِ، وَأَقَامَهُ عَلَى سُنَنِ الْهُدَى وَثَبَّتَهُ، وَآتَاهُ الْيَقِينَ فِي اتِّبَاعِ رَسُولِهِ وَصَحَابَتِهِ وَوَفَّقَهُ، وَحَرَسَ قَلْبَهُ مِنْ وَسَاوِسِ الْبِدْعَةِ وَأَيَّدَهُ،
1 / 5
وَأَضَلَّ مَنْ أَرَادَ مِنْهُمْ وَبَعَّدَهُ، وَجَعَلَ عَلَى قَلْبِهِ غِشَاوَةً، وَأَهْمَلَهُ فِي غَمْرَتِهِ سَاهِيًا، وَفِي ضَلَالَتِهِ لَاهِيًا، وَنَزَعَ مِنْ صَدْرِهِ الْإِيمَانَ، وَابْتَزَّ مِنْهُ الْإِسْلَامَ، وَتَيَّهَهُ فِي أَوْدِيَةِ الْحَيْرَةِ، وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ؛ لِيَبْلُغَ الْكِتَابُ فِيهِ أَجَلَهُ، وَيَتَحَقَّقَ الْقَوْلُ عَلَيْهِ بِمَا سَبَقَ مِنْ عِلْمِهِ فِيهِ مِنْ قَبْلِ خَلْقِهِ لَهُ وَتَكْوِينِهِ إِيَّاهُ؛ لِيَعْلَمَ عِبَادُهُ أَنَّ إِلَيْهِ الدَّفْعَ وَالْمَنْعَ، وَبِيَدِهِ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ، مِنْ غَيْرِ غَرَضٍ لَهُ فِيهِ، وَلَا حَاجَةٍ بِهِ إِلَيْهِ، لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، إِذْ لَمْ يُطْلِعْ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، وَلَا جَعَلَ السَّبِيلَ إِلَى عِلْمِهِ فِي خَلْقِهِ أَبَدًا، لَا الْمُحْسِنُ اسْتَحَقَّ الْجَزَاءَ مِنْهُ بِوَسِيلَةٍ سَبَقَتْ مِنْهُ إِلَيْهِ، وَلَا الْكَافِرُ كَانَ لَهُ جُرْمٌ أَوْ جَرِيرَةٌ حِينَ قَضَى وَقَدَّرَ النَّارَ عَلَيْهِ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُ لِإِحْدَى الْمَنْزِلَتَيْنِ أَلْهَمَهُ إِيَّاهَا، وَجَعَلَ مَوَارِدَهُ وَمَصَادِرَهُ نَحْوَهَا، وَمُتَقَلَّبَهُ وَمُتَصَرَّفَاتِهِ فِيهَا، وَكَدَّهُ وَجَهْدَهُ وَنَصَبَهُ عَلَيْهَا؛ لِيَتَحَقَّقَ وَعْدُهُ الْمَحْتُومُ، وَكِتَابُهُ الْمَخْتُومُ، وَغَيْبُهُ الْمَكْتُومُ، ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ﴾ [الشورى: ١٨] مِنْ رَبِّهِمْ، ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ﴾ [البقرة: ٢٥٧] .
وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ الَّذِي لَا شَرِيكَ لَهُ، الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَيُنْشِئُ وَيُقِيتُ وَيُبْدِئُ وَيُعِيدُ، شَهَادَةَ مُقِرٍّ بِعُبُودِيَّتِهِ، وَمُذْعِنٍ بِأُلُوهِيَّتِهِ، وَمُتَبَرِّئٍ عَنِ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إِلَّا بِهِ،
1 / 6
وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، بَعَثَهُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ النَّاسَ عَامَّةً؛ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ.
[أَوْجَبُ مَا عَلَى الْمَرْءِ]
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَوْجَبَ مَا عَلَى الْمَرْءِ مَعْرِفَةُ اعْتِقَادِ الدِّينِ، وَمَا كَلَّفَ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ مِنْ فَهْمِ تَوْحِيدِهِ وَصِفَاتِهِ وَتَصْدِيقِ رُسُلِهِ بِالدَّلَائِلِ وَالْيَقِينِ، وَالتَّوَصُّلِ إِلَى طُرُقِهَا وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهَا بِالْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ.
وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ مَقُولٍ، وَأَوْضَحِ حُجَّةٍ وَمَعْقُولٍ:
كِتَابُ اللَّهِ الْحَقُّ الْمُبِينُ.
ثُمَّ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَصَحَابَتِهِ الْأَخْيَارِ الْمُتَّقِينَ.
ثُمَّ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُونَ.
ثُمَّ التَّمَسُّكُ بِمَجْمُوعِهَا وَالْمُقَامُ عَلَيْهَا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
ثُمَّ الِاجْتِنَابُ عَنِ الْبِدَعِ وَالِاسْتِمَاعِ إِلَيْهَا مِمَّا أَحْدَثَهَا الْمُضِلُّونَ.
[مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ]
فَهَذِهِ الْوَصَايَا الْمَوْرُوثَةُ الْمَتْبُوعَةُ، وَالْآثَارُ الْمَحْفُوظَةُ الْمَنْقُولَةُ، وَطَرَايِقُ الْحَقِّ الْمَسْلُوكَةُ، وَالدَّلَائِلُ اللَّايِحَةُ الْمَشْهُورَةُ، وَالْحُجَجُ الْبَاهِرَةُ الْمَنْصُورَةُ الَّتِي عَمِلَتْ عَلَيْهَا: الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ. وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ خَاصَّةِ النَّاسِ وَعَامَّتِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَاعْتَقَدُوهَا حُجَّةً فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
1 / 7
ثُمَّ مَنِ اقْتَدَى بِهِمْ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمُهْتَدِينَ، وَاقْتَفَى آثَارَهُمْ مِنَ الْمُتَّبِعِينَ، وَاجْتَهَدَ فِي سُلُوكِ سَبِيلِ الْمُتَّقِينَ، وَكَانَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ.
[نَجَاةُ الْمُتَّبِعِينَ وَهَلَاكُ الْمُعْرِضِينَ]
فَمَنْ أَخَذَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَحَجَّةِ، وَدَاوَمَ بِهَذِهِ الْحُجَجِ عَلَى مِنْهَاجِ الشَّرِيعَةِ؛ أَمِنَ فِي دِينِهِ التَّبِعَةَ فِي الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ، وَتَمَسَّكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى الَّتِي لَا انْفِصَامَ لَهَا، وَاتَّقَى بِالْجُنَّةِ الَّتِي يُتَّقَى بِمِثْلِهَا؛ لِيَتَحَصَّنَ بِجِملتِهَا، وَيَسْتَعْجِلَ بَرَكَتَهَا، وَيَحْمَدَ عَاقِبَتَهَا فِي الْمَعَادِ وَالْمَآبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْهَا وَابْتَغَى الْحَقَّ فِي غَيْرِهَا مِمَّا يَهْوَاهُ، أَوْ يَرُومُ سِوَاهَا مِمَّا تَعَدَّاهُ؛ أَخْطَأَ فِي اخْتِيَارِ بُغْيَتِهِ وَأَغْوَاهُ، وَسَلَكَهُ سَبِيلَ الضَّلَالَةِ، وَأَرَدْاهُ فِي مَهَاوِي الْهَلَكَةِ فِيمَا يَعْتَرِضُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ بِضَرْبِ الْأَمْثَالِ وَدَفْعِهِمَا بِأَنْوَاعِ الْمِحَالِ وَالْحَيْدَةِ عَنْهُمَا بِالْقِيلِ وَالْقَالِ، مِمَّا لَمْ يُنَزِّلِ اللَّهُ بِهِ مِنْ سُلْطَانٍ، وَلَا عَرَفَهُ أَهْلُ التَّأْوِيلِ وَاللِّسَانِ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ عَاقِلٍ بِمَا يَقْتَضِيهِ مِنْ بُرْهَانٍ، وَلَا انْشَرَحَ لَهُ صَدْرُ مُوَحِّدٍ عَنْ فِكْرٍ أَوْ عِيَانٍ، فَقَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ، وَأَحَاطَ بِهِ الْخِذْلَانُ، وَأَغْوَاهُ بِعِصْيَانِ
1 / 8
الرَّحْمَنِ، حَتَّى كَابَرَ نَفْسَهُ بِالزُّورِ وَالْبُهْتَانِ.
[نَتَائِجُ تَحْكِيمِ الْعَقْلِ فِي أُمُورِ الشَّرِيعَةِ]
فَهُوَ دَائِبُ الْفِكْرِ فِي تَدْبِيرِ مَمْلَكَةِ اللَّهِ بِعَقْلِهِ الْمَغْلُوبِ، وَفَهْمِهِ الْمَقْلُوبِ، بِتَقْبِيحِ الْقَبِيحِ مِنْ حَيْثُ وَهِمَهُ، أَوْ بِتَحْسِينِ الْحَسَنِ بِظَنِّهِ، أَوْ بِانْتِسَابِ الظُّلْمِ وَالسَّفَهِ مِنْ غَيْرِ بَصِيرَةٍ إِلَيْهِ، أَوْ بِتَعْدِيلِهِ تَارَةً كَمَا يَخْطِرُ بِبَالِهِ، أَوْ بِتَجْوِيرِهِ أُخْرَى كَمَا يُوَسْوِسُهُ شَيْطَانُهُ، أَوْ بِتَعْجِيزِهِ عَنْ خَلْقِ أَفْعَالِ عِبَادِهِ، أَوْ بِأَنْ يُوجِبَ حُقُوقًا لِعَبِيدِهِ عَلَيْهِ قَدْ أَلْزَمَهُ إِيَّاهُ بِحُكْمِهِ لِجَهْلِهِ بِعَظِيمِ قَدْرِهِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى لَا تَلْزَمُهُ الْحُقُوقُ، بَلْ لَهُ الْحُقُوقُ اللَّازِمَةُ وَالْفُرُوضُ الْوَاجِبَةُ عَلَى عَبِيدِهِ، وَأَنَّهُ الْمُتَفَضِّلُ عَلَيْهِمْ بِكَرَمِهِ وَإِحْسَانِهِ.
وَلَوْ رَدَّ الْأُمُورَ إِلَيْهِ وَرَأَى تَقْدِيرَهَا مِنْهُ وَجَعَلَ لَهُ الْمَشِيئَةَ فِي مُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَلَمْ يَجْعَلْ خَالِقًا غَيْرَهُ مَعَهُ، وَأَذْعَنَ لَهُ؛ كَانَ قَدْ سَلِمَ مِنَ الشِّرْكِ وَالِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ.
1 / 9