432

Sharh Umdat al-Ahkam by Ibn Jibreen

شرح عمدة الأحكام لابن جبرين

اصناف

تعليم النبي ﷺ أمته بعض الأحكام المتعلقة بالكسوف
وبعدما انقضى من هذه الصلاة ابتدأ يعلم أمته ﵊ بعض الأحكام، فعلمهم شيئًا مما يقولونه أو يفعلونه عندما يرون مثل هذه الآيات، وكذلك أخبرهم بأنها من آيات الله ﷿، فالشمس والقمر آيتان من آيات الله، قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ﴾ [فصلت:٣٧] أي: من الآيات التي جعلها علامة يعرف بها كمال قدرته وكمال تصرفه، فهي من أعظم الآيات، والآيات يراد بها الدلالات والبراهين التي يعرف ما وراءها، فأنت تستدل بهذه الشمس وطلوعها وغروبها وسيرها سيرًا معتدلًا لا تختلف فيه بوقت من الأوقات على أن لها مدبرًا، وأن لها مصرفًا، ولها آمرًا، ولها خالقًا، لا تتأخر ولا تتقدم عن موعدها، فلا شك أن هذا تقدير العزيز العليم، وهذا كونها آية من آيات الله، وهكذا سير القمر في فلكه، وكونه على حد محدود، وكونه لا يتقدم ولا يتأخر، بل سيره منتظم، ففي كل يوم له سير، وفي كل ليلة له منزلة ينزلها تتأخر عن المنزلة التي في اليوم الذي قبله، وهكذا يسير سيرًا منتظمًا، كما في قول الله تعالى: ﴿لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ﴾ [يس:٤٠] يعني: أن تستولي على القمر وتذهب آياته.
وعلى كال حال فهي آية من آيات الله، وقد ذكر الله ﷿ أنها من آياته في قوله تعالى: ﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ﴾ [الرحمن:٥] يعني: كل منهما يمشي بحساب محدد مقدر لا يتقدم ولا يتأخر، فذلك آية من آيات الله.
وذكرنا فيما سبق أن الكسوف الذي كان في عهد النبي ﷺ -كسوف الشمس- وافق يوم موت إبراهيم بن النبي ﷺ، وكانوا يعتقدون أن الشمس تكسف لموت عظيم أو نحوه، فقالوا: كسفت لموت إبراهيم.
فأخبر النبي ﷺ أن هذا اعتقاد خاطئ، وأنها لا تكسف لموت أحد ولا لحياته، ولكنها من آيات الله التي يخوف الله بها عباده كالآيات التي تحدث في هذا الكون، فيحدث في هذا الكون آيات كزلازل وصواعق وقحط وجدب وغرق أحيانًا وفيضانات، ويحصل -أيضًا- في الأفلاك العلوية تغيرات ورياح شديدة وخفيفة، ونحو ذلك، وكل هذه من آيات الله التي يتعرف بها إلى عباده، ويعرفهم كمال قدرته وكمال تصرفه.
فهكذا -أيضًا- سير الشمس وسير هذا القمر، وما يجري عليهما من انمحاء وكسوف وخسوف، كل ذلك من آيات الله التي يخوف بها عباده، يقول الله تعالى: ﴿وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا﴾ [الإسراء:٥٩]، فإذا رأى عباد الله هذه الآيات فعليهم أن يحدثوا لله عبادة، وعليهم أن يظهروا أثر الخوف، وأن يظهروا المخافة الشديدة من الله، وأن يأتوا بما يستطيعونه من العبادات، ومن جملة ذلك هذه الصلاة الخاصة التي تصلى في هذه المناسبة، ومن ذلك -أيضًا- كثرة الأذكار، أن يكثروا من ذكر الله سبحانه، وكثرة الصدقات التي تدفع العذاب، والتي تكون سببًا لنزول رحمة الله تعالى واندفاع أسباب سخطه، وعليهم -أيضًا- أن يكثروا من ذكر الله ومن دعائه حتى ينكشف ما بهم، وذلك لأن هذه الآيات تسبب لهم مخافة، فتسبب لهم أنهم يخافون من هذه الأشياء التي نزلت بهم، فيحدث لهم هذا الخوف عبادة جديدة يكون من آثارها صلاة وصدقات ونحو ذلك رجاء أن يدفع الله عنهم ذلك العذاب.
وقد ذكرنا أن بعض العلماء استحبوا الصلاة كصلاة الكسوف عند حدوث الآيات، فروي أن ابن عباس لما حصل زلزال في بقعة من البقاع صلى بهم صلاة الكسوف لدفع أثر ذلك الزلزال الذي حصل في تلك الأرض، وذهب بعضهم إلى أنه لو حدث -مثلًا- صواعق تنزل من السماء محرقة أو عذاب أو نحو ذلك كان مما يستحب أن يصلى له، ولكن ليس على ذلك دليل، بل الدليل جاء على كسوف الشمس والقمر، وأما الصواعق وكذلك الزلازل وكذلك الرياح الشديدة والرعود والبرق وما هو كذلك كالغرق وما أشبهه فلم يعهد لذلك صلاة، إلا صلاة الكسوف كما سيأتي، إلا أنه يصلى لأجل طلب الله ﷿ الرزق، ودفع الألم والضرر، وبذلك يُعرف أن الشريعة مشتملة على ما يذكر الإنسان بعبادة الله ﷿، وأن الله تعالى هو المعبود في كل وقت وفي كل حال، وأنه كلما حدثت آية فزع العباد إلى ربهم وخافوه، وعرفوا أنه هو الملجأ وحده، لا ملجأ ولا منجى من ألمه ومن عذابه ومن آياته ومن أسباب سخطه إلا بالفزع إليه.
والنبي ﷺ لما صلى صلاة الكسوف ذكّر العباد بهذه التذكيرات، كقوله ﷺ: (لا أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته)، وقوله ﷺ: (يا عباد الله -ينادي المسلمين-! لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا -وفي بعض الروايات: ولما تلذذتم بالنساء على الفرش-، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله)، وذلك لأنه ﵊ أطلعه الله على ما لم يطلع عليه أمته، أطلعه على أهوال الآخرة، وعلى أفزاعها وشدائدها، وعلى ما فيها من الآلام والعذاب، فالإنسان لو علم ذلك وتفاصيله، وعلم ما بعده لما تلذذ بهذه الحياة، ولما تنعم بالنعيم الذي فيها، ولما استقرت له الحياة على هذه الحال، بل لتكدر عليه صفو عيشه، وأفزعه ذلك الذي يعلمه، ولأسهر ليله بالدعاء والعبادة، ولأظمأ نهاره وأتعب جسمه وأنهكه خوفًا من العذاب، وقد ذكر مثل هذه الأحوال عن كثير من العبّاد الصالحين الذين لا يهنأ لهم المنام، كلما نام أحدهم ونعس قليلًا قام فزعًا يقول: لم أهنأ بالمنام وأنا أتذكر النار، منعني ذكر النار من أن أنام نومة كاملة أو نومة مستمرة، أو نحو ذلك، هؤلاء هم أهل المعرفة بالله الذين عرفوا أو أيقنوا، فالنبي ﵊ يقول في هذا الحديث: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا) أي: لكان بكاؤكم أكثر من ضحككم.
ومعلوم أن البكاء لا يكون إلا من الخوف، يعني: إنكم ستخافون مما أمامكم خوفًا شديدًا يحملكم على أن لا تهنئوا بالمقام، وأن يكثر بكاؤكم ونحيبكم خوفًا من سوء العاقبة، ولا تغركم زينة الدنيا، ولن تضحكوا من المضحكات ولا العجائب ولا غيرها.
وأما الغيرة التي ذكرها عن الله تعالى بقوله: (لا أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته) فالغيرة هي الأنفة والحمية التي تكون من الولي إذا زنا أحد من أهل بيته، وقد ذكر النبي ﷺ أنه يغار في قوله: (إن الله يغار، وإنني أغار)، وذلك لما ذكر له كلام سعد بن عبادة لما ذكر له أنه يقول: لو وجدت رجلًا على امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح.
فقال: (أتعجبون من غيرة سعد؟! لأنا أغير منه، والله أغير مني)، فالله تعالى يغار على عباده إذا زنا عبده أو زنت أمته، وغيرته لها آثار، هذه الغيرة يكون من آثارها أنه ينتقم من هذا العبد الزاني، ويعاقبه إما عقوبة عاجلة وإما عقوبة آجلة، ولم يذكر في هذا الحديث إلا الزنا، وذلك لأنه الذي تكون منه الغيرة، وذلك لأن الإنسان يغار إذا زنت ابنته، ويغار إذا زنت زوجته، ويغار إذا زنت أمه أو أخته، وتأخذه أنفة وحمية إلى أن يفعل بها ما يردعها، أو يفعل بذلك الزاني الذي اعتدى على حرماته، فهكذا الرب ﷾ إذا زنا عبده أو زنت أمته فإنه -ولابد- سيعاقب هذا الزاني إما عاجلًا وإما آجلًا، وعلى كل حال فهذا مثال من الأمثال التي حذر بها النبي ﷺ من أسباب العذاب، فالعذاب له أسباب كثيرة، عذاب الله تعالى في الآخرة له أسباب كثيرة، ومن أمثلتها وقوع هذه الفاحشة التي مثل بها، وهي فاحشة الزنا، وعلى المسلم أن يجتنب كل الأسباب التي تكون سببًا لنزول العذاب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

25 / 8