شرح مختصر الشمائل المحمدية
شرح مختصر الشمائل المحمدية
ایڈیشن نمبر
الأولى
اشاعت کا سال
١٤٤١ هـ - ٢٠٢٠ م
اصناف
فاتحة الكتاب
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأصلّي وأسلّم على المبعوث رحمة للعالمين، سيد الأولين والآخرين، سيّدنا ونبيّنا محمد وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين، الذين عزروه ونصروه، وعظموه ووقروه، وكانوا رسل خير ومشاعل نور وهداية للناس أجمعين … وبعد:
فإن كتاب «الشمائل» ويقال له: «الشمائل المحمدية»، للإمام الحافظ الكبير صاحب التصانيف: أبي عيسى محمد بن عيسى بن سَوْرَة الترمذي، (٢٠٩ هـ - ٢٧٩ هـ)، يعد من أعظم كتب الشمائل وأجمعها وأجودها، كما قال العلامة علي القاري ﵀: «إن مُطالع هذا الكتاب كأنه يطالع طَلعة ذلك الجناب (^١)، ويرى محاسنه الشريفة في كل باب» (^٢).
لذلك فقد لقي هذا الكتاب عناية عظيمة من قبل أهل العلم وطلبته عبر القرون، قراءة وضبطًا، ودراسة وحفظًا، وتصدى لشرحه غير واحد، ووضعوا عليه شروحًا وحواشي مطولة ومختصرة (^٣).
_________
(^١) يقصد: جناب النبي ﷺ.
(^٢) «جمع الوسائل» للقاري ١/ ٢.
(^٣) من أشهر الشروح التي وضعها العلماء على شمائل الترمذي: شرح العلامة أحمد بن محمد بن حجر الهيتمي المكي (ت: ٩٧٤ هـ)، المسمى: «أشرف الوسائل إلى فهم الشمائل»، كما شرحه العلامة ملا علي القاري الهروي (ت: ١٠١٤ هـ)، في شرح حافل سماه: «جمع الوسائل في شرح الشمائل»، كذلك كتب عليه حاشية حافلة العلامة إبراهيم بن محمد الباجوري (ت: ١٢٧٧ هـ) سماها: «المواهب اللدنية على الشمائل المحمدية»، كما اختصره الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في كتاب سماه: «مختصر الشمائل المحمدية»، وينظر بقية شروحه في «كشف الظنون» ٢/ ١٠٥٩ لحاجي خليفة.
1 / 5
وقد أحببت أن أدخل في زمرة خَدَمَة هذا الكتاب، فوضعت عليه شرحًا متوسطًا، منتخبًا من شروحه المتقدمة وبقية شروح كتب السُنَّة، مع محاولة عرضه بطريقة جديدة، تناسب أساليب الكتابة وأذواق القراء في العصر الحديث، متجافيًا عن كثير من المباحث التي كان يشتغل بها الشراح القدماء، كالإغراق في التفصيلات المذهبية أو مسائل العربية، وبيان أوجه الإعراب والنحو والدلالات البلاغية ونحو ذلك، مما هو أجنبي عن فقه الأحاديث وما تحمله من فوائد وآداب. كما قال العلامة المناوي ﵀: «إنما الشأن في معرفة مقصوده ﷺ، وبيان ما تضمنه كلامه من الحِكَم والأسرار، بيانًا تعضده أصول الشريعة، وتشهد بصحته العقول السليمة. وما سوى ذلك ليس من الشرح في شيء» (^١).
ولأن الإمام الترمذي ﵀ قد أطال الكتاب بذكر أحاديث متحدة الألفاظ، أو ذات دلالة واحدة في الباب، فقد رأيت اختصاره أولًا قبل شرحه على النحو التالي:
١ - حذفت أسانيد الإمام الترمذي مع الإبقاء على راوي الحديث، من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم.
٢ - حذفت جميع الأحاديث الضعيفة في الكتاب، ولم أشرح إلا ما كان منها في دائرة القبول، حسب أحكام أهل العلم المعتبرين في الحديث.
٣ - حذفت الأحاديث المكررة المعنى، واقتصرت على أقواها وأتمها، وكثيرًا ما أشير إلى بقيتها أثناء الشرح كشواهد تقوي الحديث وتزيده ثبوتًا.
_________
(^١) «فيض القدير» ١/ ٢.
1 / 6
٤ - حذفت الأحاديث التي ليس لها علاقة وثيقة بترجمة الباب، وأبقيت ما كان له صلة وثيقة وواضحة به.
٥ - أبقيت عناوين تراجم الأبواب كما وضعها الإمام الترمذي، لم أغيّر منها شيئًا، مع التزام طريقة ترتيبه وسرده للأحاديث والأبواب.
وقد خلص لي من أحاديث الكتاب بعد اختصاره «تسعون حديثًا» من أصل أربع مئة هي عدد أحاديث الكتاب كله.
وهذا يعني أنني قد يسرت كتاب الشمائل، واختصرته في أقل من ربعه بقليل.
ثم إنني شرعت بعد ذلك في شرح الأحاديث، فعرَّفت برواتها من الصحابة الكرام باختصار، وخرجتها من مصادرها الأصلية (^١) مع الالتزام ببيان درجة كل حديث، من حيث الصحة أو الضعف، ثم شرحت معانيها، وأبنت عما تشتمل عليه من دلالات فقهية، وأحكام شرعية وآداب مرعية، وهذا هو مقصود الشرح ولبّه وجوهره.
وقد بذلت في سبيل ذلك جهدي وتفكيري وتأملي، ولم أكن مجرد ناقل أو ناسخ من كتب الشروح والحواشي المتقدمة.
• معنى كلمة «الشمائل المحمدية»:
وقبل مغادرة هذه التقدمة أحب أن أشرح معنى كلمة الشمائل، أو
_________
(^١) إذا كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما فإني أقتصر على ذلك في التخريج ولا أتعداه غالبًا، كذلك إذا كان الحديث في الكتب الستة أو بعضها فإني لا أتجاوز ذلك إلا لفائدة إسنادية فأخرجه من مصادر أخرى.
1 / 7
شمائل النبي ﷺ التي هي عنوان كتاب الترمذي ﵀؛ فأقول: معنى كلمة الشمائل: الطباع والخصال والأخلاق والخلال والصفات والسجايا. وعندما يقال شمائل النبي ﷺ فهذا يعني: خصاله الكريمة، وطباعه النبيلة، وأخلاقه العالية، وصفاته الطاهرة، وسجاياه الباهرة .. كجوده ﷺ وحلمه، وأناته وصبره، وتواضعه وشجاعته ..
على أن الترمذي ﵀ لم يقتصر في هذا الكتاب على موضوع الشمائل فحسب، بل وسّع دائرة بحثه فأضاف أبوابًا تحدث فيها عن أمور أخرى، تخص النبي ﷺ، فتحدث عن صفاته الخَلْقية البدنية الظاهرة، وطلعته البهية، ومحياه الوضاء.
وتحدث عن عبادته، وعن صفة صيامه وقيامه وقراءته للقرآن ونحو ذلك.
وتحدث عن كثير من أمتعته وحاجياته الخاصة، كخفّه ونعله، وإزاره وردائه، وخاتمه وعمامته، وسيفه ودِرْعه، ومِغفره وقَدَحه.
وتحدث عن طعامه وشرابه، وخبزه وإدامه، وفاكهته، وغير ذلك مما اشتمل عليه هذا الكتاب الشريف.
ثم ختم الكتاب بأبواب في أسمائه الشريفة ﷺ، وسِنّه عند وفاته، وحادثة وفاته، وميراثه، ورؤيته في المنام.
وما من شك أن دراسة هذه الأبواب وتفهمها على الوجه الصحيح مما يزيد المسلم معرفة بنبيه ﷺ ومحبة له، وتعلقًا به وتصديقًا برسالته.
أضف أن هذه الأبواب مشتملة على كثير من المسائل الفقهية، والآداب
1 / 8
السلوكية، والفوائد الأخلاقية، التي يحتاج إلى معرفتها والتأسي بها كل مؤمن.
هذا والله أسال الله أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن يكتب لنا ذخره وأجره، ويجعله شفيعًا يوم القيامة، وينفع به من قرأه وطالعه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وكتبه
أ. د. هاني أحمد فقيه
أستاذ الحديث وعلومه، بكلية الحديث الشريف،
الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة
١٤٤١ هـ
1 / 9
١ - بَابُ مَا جَاءَ فِي خَلْق رسول الله ﷺ-
ذكر الإمام الترمذي تحت هذا الباب جملة من الأحاديث الشريفة المتعلقة بصورة النبي ﷺ الظاهرة، وصفاته البدنية الباهرة، وطلعته البهية، ومحياه الوضاء. وما من شك في أن الله ﵎ قد حبا نبيه ﷺ من حسن الصورة وكمال الخِلقة وجمال الهيئة وبهاء الطلعة ما سوف يأتي بيانه والحديث عنه إن شاء الله.
١ - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ﵁ قال: «كَانَ رسول الله ﷺ لَيْسَ بِالطَّوِيلِ البَائِنِ وَلَا بِالقَصِيرِ، وَلَا بِالأَبْيَضِ الأَمْهَقِ وَلَا بِالآدَمِ، وَلَا بِالجَعْدِ القَطَطِ وَلَا بِالسَّبِطِ، بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَأسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَأَقَامَ بِمَكةَ عَشْرَ سِنِينَ، وَبِالمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ، وَتَوَفَّاهُ اللَّهُ عَلَى رَأْسِ سِتِّينَ سَنَةً، وَلَيْسَ فِي رَأسِهِ وَلِحيَتِهِ عِشْرُونَ شَعْرَةً بَيْضَاءَ».
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
أنس بن مالك هو: ابن النضر بن ضمضم النَّجاري الخزرجي الأنصاري، صاحب رسول الله ﷺ وخادمه منذ أن قدم ﷺ إلى المدينة مهاجرًا إلى أن لحق بالرفيق الأعلى، وهو من المكثرين من رواية الحديث، وفضائله كثيرة،
1 / 11
وقد توفي سنة: ٩٣ هـ، وهو المراد عند الإطلاق، وإن كان هناك جماعة من الصحابة يسمى كل منهم أنسًا.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه (^١)، والترمذي في سننه (^٢) وقال: حديث حسن صحيح.
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
(الطويل البائن): الظاهر الطول أو المفرط في الطول.
(الأبيض الأمهق): الشديد البياض.
(الآدم): الأسمر، وهي منزلة بين البياض والسواد.
(الجعد القطط): الشعر يكون فيه التواء وانقباض.
(السَّبِط): بفتح فكسر: الشعر الناعم المسترسل.
* الوجه الرابع: ذكر أنس ﵁ في هذا الحديث بعض الصفات الجسدية للنبي ﷺ، وليعلم قبل الخوض في شرح الحديث أن الله ﷿ قد ركب خلقة نبيه محمد ﷺ في أجمل صورة وأحسن هيئة، فكان كما وصفه الصحابة: بهيّ الطلعة، حسن الخِلْقة، متناسب الأعضاء، لم تر العيون شيئًا أجمل ولا أحسن منه، لا قبله ولا بعد.
وقد ذكر أنس ﵁ في هذا الحديث بعض صفاته الجسدية ﷺ ومن جملتها أنه «لم يكن بالطويل البائن ولا بالقصير»، أي أنه كان متوسط القامة،
_________
(^١) «صحيح البخاري» (٣٥٤٨).
(^٢) «سنن الترمذي» (٣٦٢٣).
1 / 12
لم يكن طويلًا شديد الطول، كما أنه لم يكن قصيرًا، وإنما بين هذا وهذا.
لكنه ﵊ كان إلى الطول أقرب وأميل، بدليل أن أنسًا لم ينف عنه أصل الطول، وإنما نفى عنه الطول الزائد، وهذا ما وقع مصرحًا به في بعض الأحاديث الأخرى، كقول أبي هريرة ﵁: «كان ﷺ ربعةً (^١) إلى الطول أقرب» (^٢).
* الوجه الخامس: بين الحديث صفة لون النبي ﷺ بقوله: «ولم يكن بالأبيض الأمهق ولا بالآدم»، ومعناه: أن النبي ﷺ لم يكن شديد البياض كالأبرص، فإنه لون مستكره، كما أنه لم يكن أسمر اللون، وإنما كان أبيض بياضًا مستنيرًا مخلوطًا بحمرة كما وقع التصريح به في أحاديث عديدة.
وفي صحيح البخاري (^٣) عن أنس بن مالك: «كان أزهر اللون»، والأزهر هو: الأبيض المستنير، كما أفاده أهل اللغة والغريب (^٤).
* الوجه السادس: وقع في مسند أحمد من حديث حميد الطويل عن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ كان أسمر اللون (^٥)، لكن أعل هذه الرواية بعض العلماء بأن حميدًا تفرد بها عن أنس، ورواها بقية تلامذة أنس بلفظ أزهر اللون. كما أن كل من ذكر صفته ﷺ غير أنس فقد وصفه بالبياض دون
_________
(^١) الربعة: المتوسط بين الطول والقصر.
(^٢) رواه البخاري في «الأدب المفرد» (١١٥٥)، وحسنه الألباني في صحيح الأدب المفرد، وعزاه ابن حجر للذهلي في الزهريات، وحسن إسناده في «فتح الباري» ٦/ ٥٦٩.
(^٣) «صحيح البخاري» (٣٥٤٧).
(^٤) «مشارق الأنوار» ١/ ٣١٢، «النهاية في غريب الحديث» ٢/ ٣٢١.
(^٥) «مسند أحمد» (١٣٧١٥).
1 / 13
السمرة، وهم خمسة عشر صحابيًا كما قاله الحافظ العراقي (^١)، فلا شك أن روايتهم أصح وأرجح.
وتأول بعضهم كلمة «أسمر» هنا بأن المراد بها نفي البياض الشديد كما تقدم، وعلى هذا التوجيه فلا منافاة بين هذه الرواية وبين بقية الروايات التي وصفته بالبياض.
وقال بعضهم: بأن السمرة كانت في أعضائه ﷺ البارزة للشمس، والبياض فيما تحت الثياب، وكل هذه تأويلات متكلفة.
* الوجه السابع: بين الحديث صفة شعر النبي ﷺ بأنه: «ليس بالجعد القطط، ولا بالسبط»، ومعناه أن شعره ﷺ كان وسطًا بين الجعودة والنعومة، وهي أحسن صفات الشعر، وقد جاء في رواية أبي هريرة: أنه كان «رَجِل الشعر» (^٢)، وهو الذي كأنه رُجّل وسُرّح بالمشط، وفسره بعضهم بما فيه تثنٍ قليل.
* الوجه الثامن: وردت صفات أخرى لخِلْقة النبي ﷺ في أحاديث أخر كثيرة، ومنها على سبيل المثال:
أنه كان «بعيد ما بين المنكبين»، كما في حديث البراء بن عازب (^٣)، والمعنى أنه كان عريض أعلى الظهر.
_________
(^١) «تحفة الأحوذي» ١٠/ ٦٨.
(^٢) «الشمائل» (١٢)، وصححه الألباني في «مختصر الشمائل».
(^٣) رواه البخاري في «صحيحه» (٣٥٥١)، ومسلم في «صحيحه» (٢٣٣٧).
1 / 14
وأنه كان (شَثْن القدمين والكفين)، كما في حديث أنس بن مالك (^١)، ومعناه: غليظ الأصابع وراحة اليد، لكن من غير خشونة، كما في حديث أنس ابن مالك ﵁ قال: «ما مسست حريرًا ولا ديباجًا ألين من كف النبي ﷺ» (^٢).
وأنه كان (كَثَّ اللحية)، كما صح ذلك في أحاديث عدة، منها حديث علي بن أبي طالب (^٣)، ومعناه: كثير شعر اللحية، كما جاء مصرحًا به في حديث جابر بن سمرة في صحيح مسلم (^٤).
وأنه كان (ضخم الرأس) أي عظيمه في اعتدال، وفيه دليل على كمال قواه ﷺ العقلية والدماغية، وذكائه وفطنته.
وأنه كان (ضخم الكراديس)، ومعناه: عظيم رؤوس العظام والمفاصل التي تلتقي فيها العظام، والمراد أن بنيته ﷺ كانت قوية شديدة.
وأنه كان (طويل المَسْربة)، ومعناه: أن له شعرًا دقيقًا يمتد من صدره إلى سرته.
وهذه الصفات الثلاث الأخيرة: (ضخم الرأس، ضخم الكراديس، طويل المسربة) وردت في حديث علي بن أبي طالب ﵁ (^٥).
وأنه كان (ضليع الفم)، ومعناه: أن فمه ﷺ لم يكن صغيرًا ضيقًا.
_________
(^١) رواه البخاري في «صحيحه» (٥٩١٠).
(^٢) «صحيح البخاري» (٣٥٦١).
(^٣) «مسند أحمد» (٦٨٤)، وحسن إسناده شعيب الأرناؤوط.
(^٤) «صحيح مسلم» (٢٣٤٤).
(^٥) رواه الترمذي في «الشمائل» (٤)، وفي «السنن» (٣٦٣٧)، وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني.
1 / 15
وأنه كان (أشكل العينين)، ومعناه على القول الراجح: أن بياض عينيه ﷺ كان يخالطهما شيء من الحمرة.
وأنه كان (منهوس العقبين)، أي أن عقب قدمه ﷺ كان قليل اللحم.
وهذه الأوصاف الثلاثة الأخيرة (ضليع الفم، أشكل العين، منهوس العقب) صحت من حديث جابر بن سمرة ﵁ (^١).
كما وصف وجهه ﷺ غير واحد من الصحابة بأنه كان كالقمر، بل أحسن من القمر، كما صح ذلك في حديث البراء بن عازب (^٢)، وكعب بن مالك (^٣)، وجابر بن سمرة (^٤) وغيرهم.
و(كأن الشمس تجري في وجهه)، كما في حديث أبي هريرة (^٥).
وسيأتي مزيد كلام - إن شاء الله - عن صفة شعره، وصفات أخرى تتعلق ببدنه الشريف ﷺ.
* الوجه التاسع: ذكر الحديث بأن بعثة النبي ﷺ كانت «على رأس أربعين سنة» من عمره، وقد اختلف في تفسير هذه اللفظة، فذهب بعضهم إلى أن المراد أول سنة أربعين من مولده، أي بعد أن أتم التاسعة والثلاثين من
_________
(^١) رواه مسلم في «صحيحه» (٢٣٣٩).
(^٢) «صحيح البخاري» (٣٥٥٢).
(^٣) «صحيح البخاري» (٤٦٧٧).
(^٤) رواه الترمذي في «الشمائل» (٨)، وفي «السنن» (٢٨١٢)، وحسنه، وصححه الحاكم في «المستدرك» (٧٣٨٣)، ووافقه الذهبي، وقال عبد القادر الأرناؤوط في تعليقه على «جامع الأصول» (٨٣٠٨): حسن.
(^٥) رواه الترمذي في «سننه» (٣٦٤٨)، وصححه ابن حبان (٦٣٠٩)، وحسنه عبد القادر الأرناؤوط.
1 / 16
عمره، وذهب بعضهم إلى أن المراد آخر الأربعين، أي بعث بعد أن أتم الأربعين، وطعن في الحادي والأربعين، وهذا قول الجمهور.
* الوجه العاشر: بين الحديث بأن النبي ﷺ أقام بمكة بعد البعثة عشر سنين، لكن المشهور في روايات الصحيحين وغيرهما عن جمع من الصحابة أن مدة مقام النبي ﷺ بمكة بعد البعثة كانت ثلاث عشرة سنة. قال ابن الجوزي (^١): «بلا خلاف». وعليه فقد اختلف في مقصود أنس بهذه الرواية، والأقرب أنها مبنية على إلغاء الكسر الزائد على العشرة، كما هي عادة العرب في الحساب.
* الوجه الحادي عشر: ذكر في الحديث بأن مدة مقام النبي ﷺ في المدينة بعد الهجرة كانت عشر سنوات، وهذا محل اتفاق بين العلماء جميعًا كما قال النووي ﵀ (^٢).
* الوجه الثاني عشر: ذكر في الحديث بأن الله ﷿ قد توفى نبيه ﷺ على رأس ستين سنة، لكن المشهور في روايات الصحيحين من حديث عائشة وابن عباس أن عمر النبي ﷺ عند وفاته كان ثلاثًا وستين سنة، بل صح ذلك حتى عن أنس بن مالك عند مسلم في صحيحه (^٣)، وعليه فقد حمل العلماء رواية الستين بأنها مبنية على حذف الكسر الزائد كما تقدم في مدة بقائه ﷺ في مكة.
_________
(^١) «كشف المشكل من حديث الصحيحين» ٣/ ٢١٤.
(^٢) «شرح صحيح مسلم» للنووي ١٥/ ٩٩.
(^٣) «صحيح مسلم» (٢٣٤٨).
1 / 17
ووردت رواية أخرى في الصحيح (^١) عن ابن عباس أن النبي ﷺ توفي عن خمس وستين سنة!! لكنها رواية شاذة أو متأولة، قال الحافظ ابن حجر: «كل من روي عنه من الصحابة ما يخالف المشهور، وهو ثلاث وستون جاء عنه المشهور» (^٢).
* الوجه الثالث عشر: ذكر في الحديث بأن النبي ﷺ عند وفاته لم يكن في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء أي أقل من ذلك، وهذا يدل على قلة شيبه ﷺ، وتمتعه بالشباب والنضارة إلى حين وفاته ﷺ، وسيأتي إن شاء الله مزيد كلام على صفة شيبه ﷺ في باب خاص عقده المؤلف لذلك.
* الوجه الرابع عشر: كما دل حديث أنس ﵁ على اهتمام الصحابة البالغ بنقل أدق التفاصيل المتعلقة بنبينا ﷺ حتى إنهم نقلوا لنا عدد شعراته البيضاء في رأسه ولحيته صلوات الله وسلامه عليه، وسيأتينا أيضًا كيف وصفوا لنا نعله وخاتمه وإزاره وقميصه وطعامه وشرابه وفاكهته وغير ذلك من التفاصيل الدقيقة المتعلقة بشخصه وبحياته ﷺ.
_________
(^١) «صحيح مسلم» (٢٣٥٣).
(^٢) «فتح الباري» ٨/ ١٥١، وينظر «شرح صحيح مسلم» للنووي ١٥/ ٩٩.
1 / 18
٢ - بَابُ مَا جَاءَ فِي خَاتَمِ النُّبُوَّةِ
خاتم النبوة هو إحدى العلامات التي كانت على جسده الشريف ﷺ، الدالة على نبوته. وكانت هذه العلامة معروفة عند أهل الكتاب، مذكورة في كتبهم، وبها تعرَّف بعضهم على النبي ﷺ كبحيرى الراهب عندما التقى بالنبي ﷺ على مشارف بلاد الشام، في رحلته ﷺ الأولى إليها مع عمه أبي طالب (^١).
كذلك تعرَّف سلمان الفارسي على النبي ﷺ بهذه العلامة أول مقدمه المدينة فآمن به (^٢).
وقد أورد الترمذي ﵀ تحت هذا الباب جملة من الأحاديث الواردة في شأن هذا الخاتم وصفته.
٢ - عن السَّائِبَ بنَ يَزِيدَ ﵁ قال: «ذَهَبَتْ بِي خَالَتِي إِلَى النبي ﷺ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابنَ أُختِي وَجِعٌ، فَمَسَحَ ﷺ رَأسِي، وَدَعَا لِي بِالبَرَكَةِ، وَتَوَضَّأَ، فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ، وَقُمْتُ خَلْفَ ظَهْرِهِ فَنَظَرْتُ إِلَى الخَاتَمِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، فَإِذَا هُوَ مِثْلُ زِرّ الحَجَلَة».
_________
(^١) أخرج قصة بحيرى الترمذي في «سننه» (٣٦٢٠)، وصححها الحاكم في «المستدرك» (٤٢٢٩)، وقوى إسنادها ابن حجر في «الفتح» ٧/ ٧١٦.
(^٢) «مسند أحمد» (٢٢٩٩٧) وقوى إسناده شعيب الأرناؤوط.
1 / 19
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
السائب بن يزيد هو: ابن سعيد الكناني: صحابيّ جليل، من صغار الصحابة، وكان مع أبيه في حجة الوداع. استعمله عمر بن الخطاب على سوق المدينة، وهو آخر من توفي بها من الصحابة، بعد سنة تسعين.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين (^١).
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
(زرّ الحجلة): الحجلة طائر معروف متوسط الحجم، وزرّها: بيضها، مأخوذ من قول العرب: ارتزت الجرادة إذا أدخلت ذنبها في الأرض لتبيض. وقيل: المراد بالحجلة: بيت كالقبة له أزرار كبار وعرى، ويسمى في الحجاز بالناموسية.
* الوجه الرابع: دل الحديث على إثبات خاتم النبوة بين كتفيه ﷺ، والأحاديث الواردة في إثباته كثيرة. وهو كما قدمنا إحدى العلامات الدالة على أنه النبي الموعود في آخر الزمان.
* الوجه الخامس: وَصَفَ الحديثُ خاتم النبوة بأنه مثل زرّ الحجلة، وقد اختلف في تفسير هذه اللفظة كما تقدم، والمشهور أن المراد بها كبيضة الحجلة، والحجلة طائر معروف متوسط الحجم، ويؤكد هذا التفسير ما ثبت
_________
(^١) «صحيح البخاري» (١٩٠)، «صحيح مسلم» (٢٣٤٥).
1 / 20
من حديث جابر بن سمرة أنه قال: «رأيت الخاتم عند كتفه ﷺ مثل بيضة الحمامة يشبه جسده» (^١).
* الوجه السادس: ثبتت أحاديث أخرى في صفة خاتم النبوة منها: حديث أبي سعيد الخدري، أن خاتم النبوة كان «بَضعة ناشزة» (^٢)، أي قطعة لحم ظاهرة مرتفعة.
وفي حديث جابر بن سمرة أنه كان «غدَّة حمراء» (^٣) أي مثل الغدة يميل لونها إلى الحمرة، لأن لون جسده ﷺ كان أبيضَ مخلوطًا بحمرة.
وفي حديث أبي زيد عمرو بن أخطب الأنصاري قال: قال لي رسول الله ﷺ: «يا أبا زيد، ادنُ منّي فامسح ظهري»، فمسحت ظهره، فوقعت أصابعي على الخاتم. قيل: وما الخاتم؟ قال: «شعرات مجتمعات» (^٤)، وقد حمل العلماء هذا الحديث على أن أبا زيد لم ير الخاتم بعينه، وإنما أخبر عما وصلت إليه يده، وهو الشعر الذي كان حول الخاتم متراكبًا عليه.
وفي حديث عبد الله بن سرجِس قال: «نظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه، عند ناغض كتفه اليسرى، جُمعًا، عليه خيلان كأمثال الثآليل» (^٥). وهذه
_________
(^١) أخرجه مسلم في «صحيحه» (٢٣٤٤).
(^٢) أخرجه الترمذي في «الشمائل» (٢٢) عن أبي سعيد الخدري بسند جيد.
(^٣) أخرجه الترمذي في «الشمائل» (١٧) وفي «السنن» (٣٦٤٧)، وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني في «مختصر الشمائل».
(^٤) أخرجه أحمد في «المسند» (٢٢٨٨٩)، والترمذي في «الشمائل» (٢٠) واللفظ له، وابن حبان في «صحيحه» (٦٣٠٠)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح. ولفظه عند أحمد وابن حبان: «شعر مجتمع على كتفه».
(^٥) أخرجه مسلم في «صحيحه» (٢٣٤٦).
1 / 21
الرواية أفادتنا أن الخاتم كان إلى جهة الكتف الأيسر أقرب، وأن عليه خيلان سوداء، وأنه مثل الجُمع، أي جُمع اليد في الهيئة والاستدارة وليس في الحجم، حتى تتوافق مع بقية الروايات الدالة على أن الخاتم كان بحجم بيضة الحمامة أو الحجلة.
* الوجه السابع: تحصل من مجموع الروايات الثابتة في صفة خاتم النبوة أنه كان قطعة لحم ناتئة من جسد النبي ﷺ، وأنه كان بلون جسده الشريف؛ أبيض يميل إلى الحمرة، وأن محله على ظهره بين كتفيه، إلى الكتف الأيسر أقرب، وأنه في حجم وهيئة بيضة الحمامة، حوله شعر متراكب عليه، وعليه خيلان سود تشبه الثآليل.
* الوجه الثامن: ورد في بعض الروايات أن خاتم النبوة كان كالشامة السوداء أو الخضراء، وفي بضعها: مكتوب عليه محمد رسول الله، أو سر فأنت المنصور، لكن قال الحافظ ابن حجر: بأنه لم يثبت من هذه الروايات شيء، وأن ابن حبان غفل عندما صحح بعضها (^١).
* الوجه التاسع: اختلف العلماء هل كان خاتم النبوة موجودًا حين ولادة النبي ﷺ أو أنه وجد بعد ذلك؟ والأقوى أنه وجد بعد ذلك، فقد ورد في بعض الروايات في مسند أحمد (^٢) وغيره أن الملكين عندما جاءا إلى النبي ﷺ وهو صبي بالطائف شقا صدره وغسلاه ثم لأماه وختما عليه بخاتم
_________
(^١) «فتح الباري» ٦/ ٥٦٣.
(^٢) «مسند أحمد» (١٧٦٤٨)، لكن إسناده فيه ضعف، لأنه ورد من طريق بقية بن الوليد وهو يدلس تدليس التسوية وقد عنعن، ولا يقبل حديثه حتى يصرح بالسماع في جميع طبقات السند.
1 / 22
النبوة. قال الحافظ ابن حجر: «مقتضى هذه الأحاديث أن الخاتم لم يكن موجودًا حين ولادته، ففيه تعقيب على من زعم أنه ولد به» (^١)، انتهى كلامه ﵀.
* الوجه العاشر: في شرب السائب بن يزيد من وضوء النبي ﷺ دليل على مشروعية التبرك بآثار النبي ﷺ الثابتة عنه، كالتبرك بالماء الفاضل من وضوئه ﷺ، والتبرك بريقه وشعره وعرقه ونحوه. وفي السنة والسيرة وقائع كثيرة تشهد لذلك، وهو من خصائصه ﷺ التي لا يقاس عليه فيها غيره.
* الوجه الحادي عشر: ثبت في صحيح البخاري (^٢) أن السائب بن يزيد ﵁ بلغ الرابع والتسعين سنة وهو ممتع بقواه البدنية والعقلية، وكل هذا كان ببركة مسح النبي ﷺ رأسه وشربه من وضوئه ودعائه له، ولفظ رواية البخاري: عن الجعيد بن عبدالرحمن قال: رأيت السائب بن يزيد، ابن أربع وتسعين، جلدًا معتدلًا، فقال: قد علمتُ: ما متعتُ به سمعي وبصري إلا بدعاء رسول الله ﷺ، إن خالتي ذهبت بي إليه، فقالت: يا رسول الله، إن ابن أختي شاك، فادع الله له، قال: «فدعا لي».
_________
(^١) «فتح الباري» ٦/ ٥٦٢.
(^٢) «صحيح البخاري» (٣٥٤٠).
1 / 23
٣ - بَابُ مَا جَاءَ فِي شَعْرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ-
تقدم في الباب الأول بيان صفة شعر النبي ﷺ، وفي هذا الباب ذكر المصنف جملة من الأحاديث المتعلقة بمقدار طول شعره ﷺ وطريقة ترجيله وغير ذلك من الأخبار.
٣ - عَنْ أَنَس بن مالك ﵁: «أَنَّ شَعْرَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كانَ إِلَى أَنصَافِ أُذُنَيْهِ».
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
أنس بن مالك تقدم التعريف به في الحديث رقم ١.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه مسلم في صحيحه (^١).
* الوجه الثالث: دلّ الحديث على أن شعر النبي ﷺ كان يبلغ طوله إلى أنصاف أذنيه. لكن هذه لم تكن الحال الوحيدة لشعره ﷺ، فقد وردت أحاديث أخرى تفيد بأن شعره ﷺ كان يبلغ أحيانًا منكبيه، كما في حديث
_________
(^١) «صحيح مسلم» (٢٣٣٨).
1 / 25
البراء بن عازب ﵁ قال: «ما رأيت من ذي لِمَّة (^١) أحسن في حلة حمراء من رسول الله ﷺ شعره يضرب منكبيه» (^٢).
وثبت من حديث عائشة ﵂ أن النبي ﷺ: «كان له شعر فوق الجُمَّة ودون الوَفْرة» (^٣).
والجُمّة: الشعر يسقط على المنكبين، والوَفْرة: الشعر إذا وصل شحمة الأذن، كما في النهاية لابن الأثير.
وهذه الروايات وإن كانت متعارضة في الظاهر، لكن ليس الأمر كذلك، فقد جمع العلماء بينها بأجوبة أقواها وأرجحها: أن شعره ﷺ كان يختلف طولًا وقصرًا من وقت لآخر، فكان يطول أحيانًا ويقصر أحيانًا، فكل صحابي وصف ما رأى، قال الإمام النووي ﵀: إن ذلك يرجع لاختلاف الأوقات، فإذا غفل ﷺ عن تقصيره بلغ المنكب، وإذا قصره كان إلى أنصاف الأذنين، فكان يقصر ويطول بحسب ذلك (^٤).
وبنحوه قال الإمام ابن كثير: «ولا منافاة بين الحالين، فإن الشعر تارة يطول، وتارة يقصر منه، فكل حكى بحسب ما رأى» (^٥).
وقال الحافظ ابن حجر: «كون شعره ﷺ كان إلى قرب منكبيه كان غالب
_________
(^١) (اللمة) بالكسر: الشعر الذي يجاوز شحمة الأذن، فإذا بلغ المنكبين فهي جُمة، كما في مختار الصحاح.
(^٢) «صحيح البخاري» (٣٥٥١)، «صحيح مسلم» (٢٣٣٧) واللفظ له.
(^٣) «سنن الترمذي» (١٧٥٥)، وصححه، وصححه الألباني في «مختصر الشمائل» (٢٢).
(^٤) «شرح صحيح مسلم» للنووي ١٥/ ٩١.
(^٥) «البداية والنهاية» ٨/ ٤١٢.
1 / 26